كجمرةٍ نائمةٍ في ماءٍ قديم

 

أحمد حميد

 

1

أشعرُ أنني لم أعد صالحًا لشيءٍ
لم أعد صالحًا كمن تنهشُ الطيورُ طعامه
سأكتب بيدٍ مرتجفةٍ في الليلِ
ما سأمحوه حتمًا في الصباح
سأمزقُ أقفاص العتمة حول عين القصيدة ﻷطيِّر صغار الكلمات
سأفتحُ النافذة وأتحدث إلى الريحِ
كل شيءٍ أشربه ساخنًا أو باردًا سأتخيله سمًا
سأكسرُ أقلامي وأنشر الحبر كالدمِ على الجدرانِ البليدة
سأرسم وجهكِ وردةً حمراء لتتفيأ بها روحي من قيظِ الغياب
آه كم أشعر باللاجدوى والسخط
سأطفئُ هذه السجائر في عينِ القلب إذًا
سأرمِّم جرحًا في الهواء بما تبقى فيَّ
من ملحِ الرغبةِ
كلمعةِ ماءٍ قديمٍ في عينِ ذئبٍ
أداعبُ خصرَ غابةٍ غريبة.

2

ككلِّ السجونِ المعتمة
أحلم بنافذة صغيرة على اﻷقل
في إحدى جدراني السميكة والعالية
أرفع رأسي
لأنظر إلى تلك النوافذ الضيقة
والصغيرة
كحلم يصعد منه الغبار
تقطر دمعة سوداء وثقيلة من عيني
نسمةٌ باردة
باردة جدًا
كجدران عارية وسميكة
تعبر القلب.

3

خفرُ السواحلِ
الذين انتشلوا الطفلة ذات الجديلة الطويلة
انتبهوا إلى ثقلِ جثَّتها
إذ كانت تسحب بضفائرها
وطنًا غارقًا في الدم.

4

خلف نافذة مطفأة
تطلُّ على جرحٍ شائعٍ في الطريق
على شجرٍ أسودٍ ثقبته الطلقات
على مارةٍ يلتحفونَ التوابيت
تلمسُ امرأة بسبابتها اليمنى
قلب رجلٍ يبتسم في صورة قديمة
ارتجف صوته منذ قليل
في أذنها
ثم غرِق في الليل
بينما تخنقُ بيدها اليسرى
بكاءً رطبًا

كان يتسرب بين اﻷصابع.

5

سيأتي يوم
يسند فيه الجنودُ بنادقهم
على شواهدِ قلوبِ اﻷمهات
كورودِ خرابٍ
ثمَّ يرحلوا
وفي عيونهم طيور ميتة.

6

على اﻷرجح
أتذكرك وأنضحُ بكِ اﻵن
هواءٌ سحيقٌ يسيل على قلبِ مدينةٍ تختنقْ
موجٌ عالٍ يوزع ماءهُ على بحرٍ
أحجارُ كتفي تذوب في صبابة
بينما
خصلةٍ دم حزينة
تتعرج في حليب العينين.

7

من المشاجبِ الصَّدئة تتدلَّى قمصاني كألسنةٍ طويلةٍ من الملحِ. المصابيحُ مشانقٌ نصبها الضيوفُ على عجلٍ في ضبابِ الضجرِ ورحلوا، تاركين ضوءًا خافتًا من روائحهم. الكراسي المشلولةُ تزحفُ هاربةً على درجِ البيتِ المتكسِّر نحو طاولاتٍ قرب نهرٍ جافْ. اﻷبوابُ تتخلَّعُ، تتمشَّى، تتثاءب سكرى في الممراتِ المعتمة. النوافذً تجحظُ، تنظر إلى الشارع، تعدد المارة والموتى المحشوة جيوبهم بالخوفِ والاصفرار وأوراق النعواتِ، حثيثو الخطوات نحو قيامة الخريفِ. في اللوحة الوحيدة المعلقة من مسمارِ الحنينِ، ذئبٌ متأهبٌ فوق تلالٍ الرعبِ والثلجِ، بعينين نازفتين، بفمٍ يسيلُ منه الحطامُ، يلوكُ الإطارُ الخشبَ.

8

مرميٌ
كدميةٍ مهترئةٍ في الوحلِ
برأسٍ محنيٍّ
مسندٍ على جدارِ الظهيرة
ما تنزفهُ عيناك الجريحتان
وحدَه
ما يبللُ ظلكَ الممتدُّ
كغيمةٍ سُفِحتْ على العُشْب.

9

انتظركِ الشتاء طويلاً
ابيضتْ غيومُه
شاختْ أمطارُه
فأثلجَ.

10

الذي امتدتْ حياتُه
سطرًا فقيرًا من جملٍ ميتة
زرع في آخرِ السطرِ
شاهدةَ قبرٍ متكسِّرة
وتمدد تاركًا البداية مفتوحة
حالمًا بروايةٍ طويلةٍ جدًا
عن اﻷملْ.

11

الحديقةُ الخاويةُ
التي نكَّلوا بها
تنز نوافيرها وصنابيرها دمًا اﻵن
وأشجارُها التي اقتُلعت
زرعوا في مكانها على عجلٍ
جثثًا ستنمو قريبًا
لتثمرَ عصافيرَ ملونة.

12

كنهرٍ طويلٍ من العطشْ
بقلبٍ من اﻷسماكِ الصغيرةِ المالحة
بحوافٍ متهدمة
سأنتظرُ الظهيرة بين اﻷعشابِ
والشجيراتِ اليابسة
حيثُ تسبحين فيه
تحت عين الشمس الملتمعة
فيرتوي.

13

في شارعٍ يتيم
بشرفاتٍ بيوتٍ نخرها الرصاصُ
والخوفُ
بأبوابٍ مثقوبةٍ بالرحيلِ
بأرصفةٍ اختلطتْ عليها
الذكرياتُ ببقعِ الدم
يصفرُ موتٌ عند كل زاويةٍ
ويتمشَّى متأبطًا
قمرًا يضيءُ خيبته.

14

تعبرين
فيسقط الكرز من شفتيك
في ماء الحلم
فتفكُّ النوافذُ أزرارَ قمصانِها
وتتنفَّس الغابةُ
أو تكسرُ زجاجَ انتظارِها
وتلملمُ شظايا مروركِ المستحيل
كأنها
تختنقُ.

15

أستلقي مغمضًا روحي في قبرٍ
بطولِ الليلِ، لأنبتَ لصباحكِ سوسنةٍ
أحجبُ الشموسَ الشائخةَ على مدار اﻷيامِ، ﻷنيركِ بشرارةِ اﻷزهار
أوقعُ الطيورَ كلَّها في الفخاخ
ليطيرَ فمي إلى نبعٍ في عنق الغزال
أقتل الشعراء جميعهم غدرًا
ﻷستفرد بكتابة بزوغك من أصابعي شجرًا
ألملم فتات وجهي من المرايا كلها
التي نسيتك فيها أيضًا
ﻷرى عينيَّ واضحتين في عينيكِ
ولموتي المبرحِ أرفعُ روحي البيضاء
ﻷكتفي بكِ حياةً تندلعُ في أحجاري.

16

نافذة لا تطل على شيء
سريري يئن كمصاب بسكتة قلبية
في الخزانة آلام معلقة
على اﻷصابع نما عشب أسود
على الفم الفقير
شبكت العناكب ملهاتها
وجهي الهش كبكاء مؤجل
تلتهمه مرآة الوحدة كتفاحة الحيرة
في كأس الدم المكسورِ
وردة.

17

لا تفعلْ أي شيء
لا تُغلقْ فمكَ الممحيَّ
لا تُغمضْ عينيكَ المفقوأتين
كدميةٍ منسيةٍ
ليضغطْ أحدُهم بإصبعهِ على جرحٍ في صدركَ
وستخرجُ تلك الموسيقا
الرتيبةُ جدًا.

18

ترحلين
تغلقُ الشمسُ بابَها
أما أنا
فسأراقبُ هذا الغروبَ طويلاً
على الطاولةِ
أمامَ الغروبِ اﻷخيرِ
زجاجٌ مهشَّم منثورٌ
اختلطَ بحباتِ سكرٍ وقطراتِ دمٍ ورمادٍ
كذلك قلبي.

19

في كفِّها المترعةِ بالدمعِ
كانتْ أمي
تتأمَّل وجهي.

20

حياتي الآنَ
بيتٌ كبيرٌ، كثيرُ الغرفِ، مطفأُ الأضواءِ في ليلةٍ ماطرةٍ.
وكلُّ ما أقومُ به
أنني أتلمَّسُ كلَّ يومٍ جدرانَه الباردةَ
من غرفة إلى أخرى
باحثًا عما يدفئُ عظامي
عن الطفلِ الذي كنتُه يومًا
عن حبقٍ زرعتْه أمي في أصيصُ القلبِ
ومضتْ.

21

أنا سربُ طيورٍ غريبة
وقلبي
حبةُ قمحٍ صغيرة.

22

سفني الورقيةُ
التي حمَّلتُها بكلامٍ ممزقٍ كاسدٍ
أدفعها كلَّ مساءٍ
من شواطئَ غامضةٍ
إلى مائكِ
الصيادُ المكبَّل إلى صخرةِ الوحدةِ
الجمرةُ النائمةُ التي تلمِّعها ريحُك القادمةُ من بعيدٍ
من ثلجِ شتاءٍ قديم.

23

من النافذةِ
سيسقطُ ضوءٌ باردٌ على قلبي
الآن
ضوءٌ خفيفٌ من نجومٍ ذائبةٍ
تتألَّم الحصى المدمَّاة في أحشائي
ألعقُ حوافي كنهرٍ جريح
تنتظرين اﻵنَ
على ضفافه
رجلاً آخرًا.

24

بإبرةِ الأملِ الصَّدئة
وخيطِ اﻷلمِ الطويلِ الطويلْ
تحوكُ أمٌّ كلَّ يومٍ
قبعاتٍ ملونة
لصغارِها الذين قضوا هناك
تحتَ اﻷنقاضِ
على مقربةِ قلبِها.

25

كل شيءٍ ميتٌ هنا
اﻷشجارُ لا يحرِّكها هبوبُ الصرخةِ عليها
الهواءُ ثقيلٌ أهزُّه بغصنِ قلبي
أفردُ جناحي عصفورٍ في السَّماء، أعلِّقه في اﻷفقِ، فيهوي كريشةٍ في زوبعةْ
اﻷمطارُ عطشى
والمزاريبُ جفَّفها الانتظارُ على الحافةِ
العشبُ أُنبِتهُ على ساقيْ
نهرًا
يشتهي قطرةَ حياة.

*** *** ***

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني