اختبار الروح وخبرة الحياة*

 

الأب فرانس فاندرلَخت اليسوعي**

 

الرَّاهب بولص[1]

تندرجُ هذه الندوة ضمن الإطار الأوسع للحوار الإسلامي المسيحي الذي يشكِّل الخطَّ العام لدعوة جماعة دير مارموسى الحبشي الرهبانية، بل وللجماعة الأوسع لهذا الدير بما تضمُّ من علمانيِّين وعلمانيَّات، سواء كانوا معاونين ومعاونات، أو أصدقاء وصديقات. لقد أردنا معًا أن ننظِّمَ هذه النَّدوة عن الاعتكاف، أو الخلوة الروحية في الإسلام والمسيحية.

الموضوع واسعٌ جدًّا مع اتساع التَّقاليد الروحية العديدة في المسيحية كما في الإسلام أيضًا.

هناك تقليدٌ سوف نلقي الضوء عليه على نحوٍ خاصٍّ في هذه الأيام هو التقليد الإغناطي[2]. فالأب زيغمونت سيقدِّم لنا عرضًا يخصُّ بداية هذا التَّقليد، أي أنَّه يدور حول خبرة إغناطيوس دي لويولا الروحية الموثَّقة في زمانه. وإذا ما سمح لنا الوقت فسنستطيع أن نرى كيف ترتبط هذه الخبرة في الواقع بإسبانيا الأندلس، فهي غير بعيدةٍ أبدًا عن الأجواء التي ندعوها صوفيَّةً في الإسلام.

على كلِّ حال ثمَّة في سوريا ثلَّةٌ من الآباء اليسوعيِّين الملتزمين منذ سنوات في تجديد الجانب المكرَّس من التقليد الإغناطي ومنهم الأب فرانس فاندرلخت الغنيِّ عن التعريف والذي أترك الكلمة له الآن.

الأب فرانس:

شكرًا باولو.

أودُّ أن أتحدَّث عن خبرتي الروحية الشخصية، ثمَّ عن الرياضات كما نقوم بها، وخبرتي فيها، ثمَّ نتشارك كلُّنا معًا. بيد أنَّ خبرتي الخاصة لا تنفصل عن الرِّياضات التي أنظِّمها وأرشدها، بل هي مهمَّة جدًا فيها.

متى بدأت هذه الخبرة؟ أنا لا أذكر بالضبط، لكنني أظنُّ أنَّ عمري كان يتراوح بين الثامنة والتاسعة. فلقد حدث أن لبثتُ بعد ظهر أحد الأيام في الكنيسة التي كانت قرب بيتنا، وأنا لا أعرف لماذا بقيت هناك وقتذاك، وما كان ذلك من عادتي. لكنني بقيتُ في الكنيسة على كلِّ حال، وكان هناك صمتٌ كبير، ثمَّ أديت وحدي طقس درب الصليب، أي عشت مراحل هذا الطّقس[3] مرحلةً مرحلة أمام الصُّور الموجودة. لقد أديت هذا الطَّقس (قبل أن أصير يسوعيًا وأتعرَّف على الطريقة الإغناطية) وفق هذه الطريقة التي تُطلَبُ منَّا كيسوعيِّين، وهي استخدام الحواس، أي أن ننظرَ إلى الشخصيات، وأن نصغي لما تقول، وأن ننظرَ إلى ملابسهم وحركاتهم، وهو نوعٌ من الدخول إلى الشخصيات حتى نحسَّ بهم، فالإحساس بالآخر مهمٌّ جدًا في التَّأمُّل.

"عملت" كلَّ مرحلةٍ إذًا، وما زلت أذكر تمامًا كيف أني تصوَّرت كلَّ الأشخاص ودخلت في كلِّ شخصية.

أنا أظنُّ أنَّه على المستوى الروحي العميق ليس ثمَّة عمر! فلقد يمكنني وأنا طفلٌ أن أختبرَ ما يختبره الكبير، فالصغير في خبرته الروحية يكون كبيرًا، والكبير بخبرته الروحية يعود طفلاً. هذا ما علَّمتني إيَّاه خبرتي في طفولتي وهو أنَّ هناك شيئًا عميقًا على المستوى الروحي لا عمر له، وهو أمرٌ يمكنني أن أختبرَه الآن كما اختبرتُه وأنا في الثامنة.

وصلت شيئًا فشيئًا إلى الصليب، وإلى شخصية المسيح. وشعرت أكثر فأكثر أنَّ هناك حبًا صافيًا. وأحسست أنَّ هذا الحبَّ الصافي هو من الله. وهو حبٌّ بلا مصلحة، حبٌّ متألم. شعرت أنَّ المسيح لم يكن في ضيقٍ من الناس الذين يصلبونه، بل كان حزينًا من أجلهم، من أجل جهلهم، من أجل عُقَدِهِم، من أجل مشاكلهم. لقد أدركت وأنا ولد، أنَّ وراء شرِّ أولئك الناس ألمًا يدفعهم لارتكاب هذا الشَّرِّ. كما أدركت أيضًا أنَّ المسيح لا يهتمُّ كثيرًا بألمه، ولا بشرِّ الآخر، بل بالألم الذي وراء هذا الشَّرِّ. ففي صمته حنانٌ لألمهم لا غضبٌ على شرِّهم، وهو يثبت لهم بهذا الحنان، حبَّه لهم حبًّا بالله!

وصلت إذًا إلى الصليب، وحين تأمَّلت المسيح على الصَّليب، وأصغيت لكلامه، فقد كنت، في عمري ذاك، أعرف عبارة: "سامحهم أبتِ لأنهم لا يعرفون ما يعملون" (لو: 23، 34)... حدثت خبرةٌ عميقةٌ، فلقد كنت تمامًا أمام حبِّ الله. هذا شعورٌ يستولي عليك ولست أنت من تُشعِر نفسك به. إنه ينجم عن تواصل حقيقي مع قلب الله.

في تلك اللحظة التي تأمَّلت فيها مشهد الحبِّ الإلهي في المسيح، كان أول ما فعلته هو السّجود. لقد ركعت حقًا أمام حبِّ الله في المسيح.

بدأت أشعر، بعد أن عشت هذا السجود لفترة، أنَّ شيئًا من الحبِّ الذي في هذا الشخص على الصليب يدخل فيَّ.

هناك عدَّة مشاعر هنا: شعور قائد المائة الذي مجد الله فقال: "هذا الشخص كان صديقًا حقًا" (أو "هذا حقًا ابن الله" بحسب متّى). فهنا تقف نظرته المتأمِّلة عند الله في المسيح، فيحسُّ بالسجود ويمجد الله. الشعور الثاني هو شعور الشَّعب الذي كان ينظر إلى الصَّليب، والذي كان يقرع صدره. كذلك حين يتأمَّل شخصٌ الصليب، فإنَّه ربما يقرع صدره ويذهب إلى البيت. هذا الشعور أمام الحبِّ هو الشعور بأنني صغيرٌ جدًا وخاطئ. بمعنى أنني لو أستطيع أن أستقبل أكثر لاستطعت أن أحبَّ أكثر. هذا الشعور بالخطيئة هو شعورٌ بنقصٍ وضعفٍ، وبالصغارة أمام الحبِّ الكبير. هذا ما شعرت به أيضًا، لكن هذا الشعور لم يفارقه الإحساس بالحبِّ. أيّ أنَّني لم أشعر بكوني مرفوضًا أو مطرودًا أو أشياءَ من هذا القبيل، بل إنَّني محبوبٌ وصغيرٌ جدًا. ثمَّ قلت في نفسي إنَّني أريد أن أبقى بعد في الكنيسة، واجتلست مقعدًا. لا أدري كم من الوقت، ساعةٌ ربما، ورافقني شعورٌ عميق بفرحٍ وسلام. ثم خرجت من الكنيسة. لقد اختبرت شيئًا من الحبِّ.

أجريت، في وقتٍ لاحقٍ تحليلاً نفسيًا أحد أسبابه أن أعرفَ إن كانت هذه الخبرة الروحية صحيحةً أو غير صحيحة. فقد يكون هناك شيءٌ قد خرج من اللاشعور، أي من البعد النفسيِّ، وليس من البعد الروحيِّ. والمحلِّل النفسي أخبرني مباشرةً أنَّ كلَّ هذا غير صحيح، وأنَّ ما عشته لم يكن روحيًا. وهذا ما جعلني أفقد ثقتي به. لأنَّه حكم مباشرةً على هذا الشعور وعلى هذه الخبرة. وهو أمرٌ لم يكن من حقِّه، بل كان يجب أن نصلَ إلى النتيجة معًا... وعلى كلِّ حال فقد كنت مرتاحًا في التحليل وكنت واثقًا ممَّا عشته. إنَّنا في التحليل النفسي نضع كلَّ شيءٍ في موضع التساؤل. أمَّا هنا فثمَّة شيء لا يمكن وضعه في محلِّ تساؤلٍ، كونه يدخل في العمق البعيد، ولا يقتصر على كونه خبرةً نفسية سطحية أو من اللاوعي أو من الوعي...

عشت فيما بعد خبراتٍ أخرى من هذا النوع. فقد كنت أحبُّ في بعض الأحيان مثلاً أن أمكثَ وحدي في غرفتي في عتمة الليل وصمته. فأعيش هذا الحضورَ القويَّ. فالله حاضرٌ، لا في صمت الليل فقط، بل فيَّ أيضًا. أي أنَّ هناك تفاعلاً بين صمت الليل، والصمت الذي فيَّ، والصمت المرتبط بفيض حضور.

لقد كانت خبرتي على الدوام على هذا النَّحو: إذا استطعتُ أن أصلَ إلى صمت، أي أن أصغي للصمت المحيط بي، وأصغي للصمت الذي فيَّ، من خلال الصمت الذي حولي أحيانًا، فهذا الصمتُ هو فيضٌ، وهذا الصمت هو حضور. أنا لا أستطيع أن أميِّز كثيرًا بين حضور الله وفيض الصمت، فهما قريبان جدًا من بعضهما. هكذا كانت خبرتي باستمرار. ولقد شعرت دومًا وأنا صغير أنني لست أنا من يستطيع أن يختبرَ هذا الشيء، بل أنه كان نعمةً انطلاقًا من المسيح. صحيحٌ أنني في صمت الليل لم أتصوَّر دومًا المسيح، وصحيحٌ أنَّه يمكن القول إنَّ هناك شيئًا كونيًّا أو خَلقيًّا أكثر، أو إنَّ هذا الحضور ينبثق من نبع الكون وليس من دينٍ معيَّن، فهو أوسع من دين، وهو علاقةٌ بين الخالق وخليقته،... لكنه بالنسبة لي يرتبط بالمسيح طالما أنَّني اختبرت الحبَّ الإلهيَّ الصافي بكامله في المسيح. أظنُّ على كلِّ حال أنَّ كلَّ واحدٍ أعطي هذه النعمة، أو لديه إمكانية أو نعمة الصمت، يستطيع أن يعملَ في نفسه ليصلَ إلى هذا الصمت أكثر، ويستطيع أن يختبرَ هذا الأمر.

في فترةٍ لاحقة، في عمر الثامنة عشرة، ذهبت لعند "الترابيست". وهم رهبان نسَّاك يعيشون مع بعضهم البعض داخل الدّير ولا يغادرونه (أو هكذا كان شأنهم في الماضي على الأقلِّ) وكانوا يعيشون بصمتٍ، ولا يتبادلون الحديث إلا في الأعياد، ويعملون في الأرض. فحياتهم تقوم إذًا على العمل في الأرض، والصمت، والتَّرانيم الروحية. فالليتورجية مميَّزة جدًّا عندهم، وهم يخلقون من خلال نمط حياتهم هذا جوًّا تأمُّليًّا وصامتًا مميَّزًا. كنت أودُّ أخذ فترة أعيش فيها عند "الترابيست" في هولندا، هناك عشت خبرةً حلوة جدًّا عن الله في الليل.

ذهبت مرَّةً مع كاهنٍ معروفٍ في هولندا، أو عُرِف أكثر فيما بعد بسبب تمرُّده على بعض التقاليد في الكنيسة، فقد كان يودُّ أن تكون هناك إمكانية لزواج الكهنة وأشياء من هذا القبيل. مكثت كلَّ الليل في الكنيسة هناك، وكان الصمت رهيبًا... لهذا السبب أنا أحبُّ كثيرًا هذا المكان هنا أيضًا. فلو أمكن للمرء أن يقضيَ ليلةً هنا على انفراد، فلربما اختبر نعمة الصمت والحضور، أي الحضور الإلهي. ذلك أنَّه حين يلبث المرء ساعاتٍ متواصلة في مثل هذا الجوِّ، مع صمت الليل، وبعض النور (كنور شمعة مثلاً) فإنَّ من الممكن أن يستولي عليه فجأةً ضربٌ من شعورٍ بالحضور، حضورٍ لك، حضور لأعمق ما فيك، وهذا الحضور ليس لما هو أعمق ما فيك فحسب، بل هو حضورٌ ينبثق منك تجاه الخارج. هذا الشعور اختبرته كثيرًا عند الترابيست. ثمَّ سألت نفسي إن كان عليَّ أن أربطَ هذا الأمر بالكهنوت أم لا؟ في ذلك الوقت رفضت هذه الفكرة، لم أكن أفكِّر بهذا الأمر. فالخبرة كانت حلوةً، أمَّا أن أربطها بكهنوت أو ترهُّبٍ، أو فرانسيسكان - فقد كنت أفكِّر وقتها بالفرانسيسكان - فأمرٌ آخر... المهمُّ هو أنَّني رفضت هذا الأمر، وبقيت أرفضه لفترةٍ. ثمَّ رجعت من جديدٍ لعند الترابيست، وكان عمري إحدى وعشرين عامًا، وعدت أفكِّر بما يطلبه الله منِّي انطلاقًا من هذه الخبرة. بعد ذلك ذهبت لعند الفرانسيسكان، وأنا أحبُّ في هذه الرهبنة بساطتها. فربما كان عند الفرانسيكسان بساطةٌ أكثر ممَّا عند اليسوعيين، ربما وليس دومًا، لكنَّ هذا هو الانطباع، دون أن نحكم بهذا أو ذاك، فالموضوع أكثر صعوبةً... ثمَّ رأيت أنَّ ذلك لا يناسبني. فأنا كنت من قبل عند اليسوعيِّين، وأخذت خطًّا معيَّنًا، فقبلت مبدئيًّا التفكير بأن أصبح راهبًا يسوعيًّا.

هنا يُطرَح السؤال: كيف يمكن للمرء أن يتابعَ مثل هذه الخبرة في حياته اليومية؟ هذا الموضوع لم يكن أمرًا سهلاً. فإذا كان الله يعطيك نعمة أن تختبرَ حبَّه في المسيح، أو في شيءٍ آخر، فما الذي يُفترض لهذه الخبرة أن تؤثِّر به في حياتك؟[4] فالصوفية ليست أن تختبر حبَّ الله في المسيح بالضرورة، بل يمكن أن تختبره في أيِّ شيءٍ آخر، ولهذا السبب فقد يمكن لشخصٍ غير مسيحي أن يختبر حبَّ الله أكثر من آخر مسيحيٍّ.

كيف أتابع؟ الخبرة وحدها لا تكفي. إذا اختبر المرء أمرًا من هذا القبيل، ثمَّ ترك الخبرة وترك الدير، فيمكن أن يعيشَ شيئًا مختلفًا؟! الخبرة تبقى موجودةً، ويحنُّ المرء لها كثيرًا، ويعطش لهذه الخبرة،... لكنه يعيش في الوقت نفسه حياةً بعيدةً عن هذه الخبرة. فالسؤال، وبالنسبة لي هو دومًا: كيف نؤمِّن الصلة بين الخبرة والحياة؟

أنا أظنُّ أنَّ هناك العديد من الأمور المهمَّة، فإذا عدتُ للنظر إلى حياتي قبل الرَّهبنة، وجدتُ أنَّ هذه الحياة كانت بنوعٍ ما مناسبة لإمكانية اختبار شيءٍ من هذا النوع. لم يكن هناك الكثير من الضغط، كنت أعيش بشكلٍ عَفويٍّ، لم أكن أفرض على نفسي الكثيرَ من الواجبات، لم يكن هناك "قهريَّة"[5]، لأنني كنت آخذ وقتًا لكلِّ شيء، لم يكن هناك "لازم" (أي لزمَ أن) أعمل كذا و"لازم" أنهي كذا...". يعني كنت أترك كلَّ شيءٍ لوقته.

يستطيع المرء في هذا النمط من الحياة أن يختبرَ، بسهولةٍ أكثر ربما، مثل هذه الخبرات الروحية. ذلك أنَّ هناك نوعًا من المجانية في هذا النمط من الحياة. فليس هناك استعجالٌ وإلحاح وضرورة في سرعة إنجاز هذا وذاك من الأمور... ثمَّ أنَّ على المرء أن يأخذَ وقتًا لهذه الخبرة، فهو لا يستطيع أن يقولَ إنَّ الخبرة تأتي من تلقاء نفسها. فثمَّة شروط، ولا بدَّ من الوقت إجمالاً. وعلى المرء أن يجدَ لنفسه مكانًا صامتًا قدر الإمكان، وأن يصبرَ وينتظر، وأن يُفرِغَ نفسَه، وأن يكونَ مستعدًّا لاستقبال هذه الخبرة من ذاته أو من شيءٍ آخر. تلك هي الشروط لإمكانية خبرةٍ من هذا النوع. يكمن الخطر في أنَّك إن لم تأخذ هذا الوقت، وإن لم تحيَ، ولو قليلاً، بشكلٍ مجانيٍّ، فإنك تبتعد عن الخبرة، والخبرة لا تعمل فيك كما يجب. فيمكن للمرء أن يقول: إذا كانت الخبرة موجودةً، وجرَّبنا أن نعيشَ بحسبها، فما الذي يحدث؟ تقول خبرتي إنَّك إذا حاولتَ في فترةٍ من الحياة أن تكونَ أقرب لهذه الظروف، أن تأخذَ وقتك، وألا تعيشَ كثيرًا بشكل قهريٍّ، وأن تعيش فعلاً انطلاقًا من الخبرة، فإنَّ ما يحدث هو أنَّك لن تصير مثاليًّا بل حقيقيًّا.

تظهر الحقيقة وتغيب الازدواجية بين البنية التحتية الروحية في حياتك، والبنية اليومية الاجتماعية. لا يبقى هناك مستويان، بل يصبح هناك نوع من البساطة.

أنا أظنُّ أنَّ البساطة قريبةٌ جدًّا من الخبرة الروحية. وأعني بالبساطة أن يعيشَ المرء كما هو، مؤمنًا بأنَّه إن عاش انطلاقًا من الروح، من المنطقة النظيفة التي فيه، فإنَّ ما سيظهر سيكون جيدًا. لكنَّ هذا الذي يظهر لا بدَّ أن يمرَّ بطبقاتٍ أخرى في شخصية المرء، طبقات نفسية اجتماعية اقتصادية،... كما يمرُّ الماء الذي يخرج من النبع في المستنقع ويمرُّ في البئر ويمرُّ في أشياء عديدة... فهو يخرج أخيرًا غير صافٍ لكنه مع ذلك ماءٌ كامل ويحمل في قلبه صفاء ماء النبع، كما فيه شيء من المستنقع أو من أشياء أخرى...

أظنُّ أنَّ الإنسان الذي يعيش شيئًا قريبًا من هذه الخبرة يصبح بسيطًا. فهو يعيش غضبه إن كان غضبانًا، وحنانه حين يكون حنونًا... إنه لا يكذب على نفسه، وما يخرج من نفسه يخرج ببساطة، ومن الأكيد إذا خرج شيءٌ من النبع (من المنطقة الصافية) فإنَّ هذا الذي يخرج يكون رحمةً وحنانًا، وبساطةً، وحضورًا للآخر، وإصغاءً،... ولكن حتَّى هذه الأشياء لا تخرج صافيةً تمامًا لأنَّ هناك أشياءَ أخرى في نفس كلِّ إنسان، وليس روح الله وحسب.

يمكن للروح أيضًا أن يجعلَك تنطلق ممَّا هو غير جيِّد فيك. فالروح لا يطلب منك أن تخفي شيئًا. إذا شعرتَ مرَّةً أنَّك تريد أن تكسّر الدّنيا، فيمكن لهذا الشعور أن يكون انطلاقًا من الروح، كما فعل المسيح في الهيكل. ولكن يمكن لهذا الأمر ألا يكون كذلك أيضًا. لكن لا بأس مع ذلك، فيمكن في هذه الحالة أن تغضبَ وتثورَ وأنت تعرف أنَّ مصدر العصبية ليس الروح بل شيء آخر. ثمَّ فيما بعد ترى كيف ظهر هذا الشيء وما الذي يمكن عمله حتى تصفوَ النفس أكثر، هكذا وبهذه البساطة.

أعود إلى نفسي. ربما أعيش كلَّ حياتي بعطشٍ لأن أكونَ مخلصًا لهذه الخبرة التي تعود بين وقتٍ وآخر، لكنَّ هناك مشكلة بالنسبة للوقت، وأخرى بالنسبة للرهبانية أيضًا.

حين دخلت الرهبانية كان هناك جوٌّ قهريٌّ نوعًا ما: "يجب إنجاز أمرٍ ما" دومًا. بينما كنت قبل ذلك أعيش بشكلٍ عفويٍّ أكثر، فحين أودُّ أخذ وقتٍ للروح، فإنني أستطيع ذلك. كان هناك صفاءٌ أكبر أو لنقل جهدٌ أقلُّ.

في رياضتي الأولى في الرهبانية كان هناك شيءٌ جميلٌ جدًّا. اختبرت من جديد الأشياء التي كنت قد اختبرتها من قبل. وأخبرت معلِّمي بأنَّه سبق لي أن اختبرت هذه الأشياء. ولهذا السبب فأنا أعتقد أنَّ الخبرة الروحيَّة لا عمر لها.

لكن الذي حدث فيما بعد هو وجود القهريَّة، أي القيام القسري بالواجبات الكثيرة التي يجب إنجازها، وبالأشياء التي يجب تحقيقها، وضرورة عدم تضييع أيِّ وقت. ثمَّة تناقض في الأمر هنا لأنني كنت أعمل جهدًا كي أظهر، كي لا أبدو أقلَّ من زملائي، وكنت أعرف أنَّ هذا ليس سليمًا، لكنني كنت قد دخلت في تيارٍ معيَّن مع الباقين، وشعرت أنَّ هذا نوعٌ من التكبُّر والنرجسية، لكنَّنا دخلنا في الجوِّ، حتى أنَّنا خلال فترة الابتداء كنَّا لا نذهب كثيرًا إلى دورة المياه لأنَّ هناك على الدوام ضيقٌ في الوقت، بل كان البعض يصطحب الكتاب معه إلى الدورة!...

دخلت إذًا في هذا الجوِّ، لكن معلِّمنا في الابتداء لم يكن هو نفسه يحبُّ هذا الجوَّ، بل كان يحبُّ الحرية. وكنَّا كثيرًا ما نخرج لنركبَ الخيل أو نلعب كرة القدم. كان هذا حلوًا، ولكن هذا لا يمنع وجود قهرية تضرُّ الخبرة الروحية لأنَّ نوعًا من التوتُّر يفرض نفسه ولا يبقى المرء مرتاحًا ولا يبقى الوقت للوقت...

لا بدَّ من الانتباه لأمرٍ مهمٍّ هنا هو أنَّك تدخل في هذا الاتجاه أيضًا لأنَّ هناك شيئًا فيك يناسبه هذا الاتجاه، ربما لا يكون الأمر واضحًا لك من قبل، ولكن مجرَّد دخولك في هذا الخطِّ يبرهن على وجود شيءٍ فيك يريد هذا الخطَّ.

كانت الدراسة أمرًا مهمًّا بالنسبة للرهبانية. ويكمن الخطر في أن تدرسَ كي تكون مهمًّا، أو كي لا تكون أقلَّ أهمية من الباقين، ويعني هذا أن تدخلَ أيضًا في جوٍّ قهريٍّ: "يجب أن أحقِّق نتيجةً حتى أُقبَلَ على نحوٍ جيِّد، أو حتى أبدو مقبولاً من الآخرين". يصبح هناك نوع من القهرية إذًا من أجل تحقيق أهداف، وطبعًا على حساب الخبرة الروحية. فالخبرة الروحية تحتاج إلى حرية، والنجاح يعني أنَّ عليك أن تعملَ شيئًا، وإذا أردتَ أن تعملَ شيئًا كتعويضٍ عن نقص، أو لكي تُبرِزَ نفسَك بين الآخرين، فهنا تبتعد عن الحياة الروحية. لقد دخلت قليلاً في هذا الاتجاه في الرهبانية، وعرفت أنَّ هذا ليس جيدًا، وكنت أعود أحيانًا إلى ما هو أفضل في الخبرات الروحية، ولكن ليس كالسابق. وهكذا سارت حياتي في الرهبانية حتى وصلت في دراستي إلى مرحلة الدكتوراه في علم النفس.

هنا وقفت وسألت نفسي: هل يريد الله منِّي الدكتوراه هذه أم أنَّني أنا أريدها تعويضًا عن نقصٍ أو رغبةً في لقب دكتور أو شيئًا من هذا...؟ أخذت لنفسي وقفةً وقمت برياضةٍ لثلاثين يومًا، وذلك في وقتٍ كنت فيه قريبًا من إنجاز أطروحة الدكتوراه. كان أمامي في الرياضة سؤالان: هل أكمل الأطروحة أم لا؟ وهل أقوم بتحليلٍ نفسيٍّ أم لا؟ ففي ذلك الوقت كنت في مرحلة أريد فيها أن أضع كلَّ شيءٍ في موضع التساؤل لأعرفَ إن كنت أعيش على نحوٍ سليم أم لا. كما كنت أريد أن أعرفَ إن كانت هذه الخبرة الروحية صافيةً أو غير صافية، أو هي "تحسيس" [أي أنَّني أولِّد في نفسي مشاعر أرغب بها]؟

قمت بالرياضة، وتعذَّبت كثيرًا لأنني كنت أريد أن أعرفَ إن كنت سأكمل الأطروحة أم لا، وكان عليَّ أن أقارن الإيجابيات والسلبيات، والسلبيات والإيجابيات... هنا أيضًا تظهر القهرية، فلا بدَّ أن أصلَ إلى نتيجة، بيد أنِّي لم أصل، بعد ثلاثين يومًا، إلى نتيجة.

شعرت من جديد أنَّ هناك شيئًا قهريًّا. فمن جهةٍ يجب أن أقرِّر، ومن جهةٍ يجب ألاَّ أقرِّر لمجرَّد أنَّ عليَّ أن أقرِّر! وقرَّرت أن لا أقرِّر... يحدث أن يتعبَ المرء كثيرًا ولا يتكلَّم الروح في نهاية الأمر، أو أننا لا نسمع كلام الروح مع كلِّ ما يصيبنا من تعب، وهكذا... النتيجة كانت جيدة لأنَّني قلت في نفسي سيَّان عندي، أنا حرٌّ لكنني غير قادرٍ أن أقرِّر. وهكذا سلَّمت أمري في هذا الشأن للرهبانية. لقد شعرت بعدم وجود هدفٍ نرجسيٍّ، كما كنت أميل ربما إلى عدم إكمال الأطروحة. أمَّا الذي حدث فهو أنَّني كتبت رسالةً للمسؤول العام عن الرهبانية، وهو شخصٌ يعرفني على نحوٍ جيِّد، وشرحت له الوضع، وطلبت منه أن يخبرَني هو بما يجب أن أعملَه، حتى لو كان عليَّ أن أعيدَ الرياضة الروحية. فكتب لي فورًا أنَّ عليَّ أن أكمل الأطروحة، فهو شخصٌ يحبُّ العلم، وفي الوقت نفسه كنت قريبًا من النهاية فقد أجريت مقابَلاتٍ وكتبتُ عدَّة أشياء.

أمَّا بشأن التحليل النفسي فقد قرَّرت من خلال الرياضة ألاَّ أجريه في ذلك الوقت، وأن أدعَ الأمور على حالها.

شعرت بحاجةٍ إلى الحقيقة أكثر، وإلى بساطةٍ أكثر وإلى عيش الوقت بسعته.

عدت بعد ذلك إلى سوريا، بعد أن أنهيت الأطروحة، وبقيت سنتين. رغبتُ مجدَّدًا بعدهما بإجراء التحليل، وطلبتُ ذلك من الرهبانية. وكان عليَّ بالطبع أن أعودَ من أجل ذلك إلى أوروبا لمدَّة سنتين على الأقلِّ. كان ذلك القرار صعبًا جدًّا، لا بسبب مشكلةٍ مع نفسي، بل كانت المشكلة هي الشرق. فأنا كنت أحبُّ الشرق أكثر ممَّا أحبُّ نفسي. بالنسبة لي لم يكن مهمًّا أن أبقى كاهنًا أو لا أبقى، فإذا طلبَتِ الحقيقةُ مني أن أتركَ الكهنوت، كنت مستعدًّا لذلك. أمَّا أن أتركَ الشرق فذلك كان أصعب بالنسبة لي. ثمَّ قلت في نفسي الحقيقة هي أهمُّ شيء. وهكذا تركت هذا البلد وكنت وقتها في حلب.

إنَّ تاريخ عيشي في هذا البلد يُلَخَّص بالمناسبة كما يلي: قبل ذلك كنت قد قضيت وقتًا في حمص، ثمَّ ذهبت إلى فرنسا وعدت إلى هنا، ثمَّ عدت إلى فرنسا من أجل الأطروحة، ثمَّ عدت إلى هنا لإجراء بحوثٍ تخصُّ الأطروحة ثمَّ قدَّمت الأطروحة في فرنسا ثمَّ عدت لمدَّة سنتين قضيتهما في حلب، وأخيرًا قرَّرت أن أقف من جديد من أجل التحليل، فهناك ما كنت أودُّ أن أفهمه بشكلٍ أعمق. وتركت حلب وعدت إلى هولندا.

كانت هناك مشكلة أن أجري التحليل في فرنسا أم في هولندا. فأنا درست في فرنسا وأحبُّ فرنسا كثيرًا، وأحبُّ التحليل في فرنسا أكثر ممَّا في هولندا. ففي هولندا هو أكثر على النمط الأميركي أي العملي، أمَّا في فرنسا فهو أعمق وأكثر روحانية، بالنسبة لي على الأقل. لكنني قلت إنَّ من الأفضل أن أرجعَ إلى أصلي، لأنَّ تلك الخبرات الأصلية في طفولتي كانت في هولندا. وهكذا رجعت إلى هناك.

شعرت منذ البداية أنَّ المحلِّل لا يستوعب تمامًا، لكنني أكملت التحليل معه لمدَّة سنتين شعرت في آخرها أنَّ الأكثر أهميةً والأساس في حياتي هو خبرتي الروحيَّة العميقة، وأنَّني أريد أن أكونَ مخلصًا لهذه الخبرة قبل كلِّ شيء، وهذا هو الأساس بالنسبة لي. وطلبت من جديد أن أعيشَ ثلاثة أشهر عند الترابيست قبل أن أعودَ إلى سوريا. كنت أريد أن أعيشَ من جديد هذه الخبرة قدر الإمكان ثمَّ أنطلق.

بحثنا في هولندا وفي فرنسا ولم نجد ديرًا للترابيست يستقبلني ثلاثة أشهر، ثمَّ وجدنا ديرًا فيه حديقة عند الراهبات المباركات في قريةٍ صغيرةٍ قرب بروكسل، وكان ذلك جيدًا جدًّا فكنت أقيم القدَّاس مع الراهبات، ويبقى لي كلُّ ما تبقى من النهار. وكنت أمارس اليوغا والزِّن، مع الناس المحيطين بنا فقد كوَّنَّا مجموعةً وكان الأمر جيدًا وتعلَّمت الكثير منهم على مستوى اليوغا والزِّن، وقرأت كثيرًا عن ذلك، وعملنا مرَّةً دورةً تحليليةً جماعيةً في بروكسل عن التأمُّل التجاوزي، وكنت أشعر براحةٍ في هذه الأمور... والآن أيضًا، سوف أقف في وقتٍ لاحقٍ قريب لأقضي من جديد، وبعد عشرين عامًا من المرَّة الأولى، شهرين ونصف عند الترابيست[6].

يبقى السؤال بالنسبة لي هو هو: أنا لا أظنُّ أنني أشعر، في مشروع الأرض[7]، أو المسير، أو الرياضات، بقهرية. إذا قيل لي غدًا: "انتهى مشروع الأرض"، فليكن. إنَّني لحرٌّ تجاه ذلك، وكذلك الأمر بالنسبة للرياضات أو المسير،... طبعًا أحزن على فقدان هذه الأشياء ولكن بالنسبة لي أنا حرٌّ تجاه هذه الأشياء، ولا مشكلة عندي في أن أقومَ بأشياء أخرى. لا أشعر كثيرًا إذًا بقهرية تجاه هذه الأمور، أو بواجب أن أحقِّق شيئًا الآن، لكن هناك عطش لأن أعيش صمتًا من جديد، وبالطبع أحاول أن أعيشَ هذا الأمر هنا.

لكن هناك صعوبةٌ أخرى تعترض ذلك، فضلاً عن القهرية أو تحقيق أهداف، هي مشكلة العمل الذي يأتي من كلِّ صوب. فإمَّا أن تدخلَ أنت في هذا الخطِّ أو يُدخِلُك الآخرون فيه. وأنا ممَّن يحبُّون مساعدة الآخرين على ما أظنُّ، فإذا طلبتَ منِّي مساعدةً فأنا أحبُّ أن أقدِّمها إن استطعت، بغضِّ النظر عن مقابل. إنَّ ما يهمُّني في الحياة هو التفاعل مع الآخرين، هو مقدار ما أحيا وليس إلى أيِّ وقتٍ أعيش. هناك طلبٌ إذًا. فهنا السؤال أيضًا، فأنا أحتاج إلى شيءٍ لنفسي كنفس، ولروحي كروح، وللإخلاص لخبرتي،... أن أصمتَ وأعيشَ هذا التمجيدَ وهذا الشعور بأنَّني صغيرٌ، وذلك الشعور بأنَّني محبوب، وأن أعيشَ الانطلاقَ ببساطةٍ من الخبرة. هذا يبقى عطشًا موجودًا، وأشعر أنَّني من وقت لآخر أكون مخلصًا أكثر لهذه الخبرة، ولكن ليس دومًا أيضًا. ربما كنت أدخل من جديد في خطِّ الإخلاص لهذه الخبرة، بالتوازن مع ما هو مطلوبٌ منِّي، وما أقوم به وما أعيشه بحبٍّ، فأنا أحبُّ حياتي كثيرًا كما أعيشها الآن، ولكن بنفس الوقت أحبُّ أكثر وأكثر أن أكونَ قريبًا لهذه الخبرة قبل أيِّ شيءٍ آخر. لكنني أعرف في نفس الوقت أنّ الحياة تجرف، لذلك قلت لنفسي إنَّني أريد في هذه الفترة أن آخذ فترة حوالي شهرين أو أكثر قليلاً في نفس المكان الذي كنت فيه أوَّل مرَّة، وأن أعيش من جديد شيئًا من هذا النوع، وأن أعود قليلاً لذاتي.

أنا من جهةٍ أخرى من محبِّي القراءة، وأحبُّ في هذه الفترة أن أقرأ القرآن، فأنا لم أتعمَّق كثيرًا في الإسلام، ولا سيما من ناحية قراءة القرآن والحديث، فأحبُّ أن آخذ وقتًا لقراءة القرآن من جديد. وأن أتعمَّقَ قليلاً في لويس ماسينيون، لا بسبب باولو، ولكنني أشعر أيضًا أنَّ ثمَّة نبعًا هنا. كلُّ هذا إضافةً إلى مطالعة ما هو جديد في مجال الدراسات النفسية في فرنسا وأوروبا إضافةً أيضًا إلى الزِّن واليوغا، شهران ليسا مدَّةً طويلة ولكن الله كريم.

هذا فيما يتعلَّق بخبرتي الروحية على الصعيد الشخصي، أمَّا الآن فأتحدَّث عن الرياضات.

أنا أقول، انطلاقًا من خبرتي، إنني أحبُّ كثيرًا أن أساعدَ الناس ليدخلوا في هذه الخبرة هم أيضًا. الخبرة الروحية هي نعمةٌ طبعًا، وليس عملنا أن نُدخِل الناسَ فيها. نحن لا نستطيع أن نخلقَ الخبرة عند الآخر، ولكن نستطيع أن نقولَ للشخص إذا عملت كذا وكذا وكذا... فقد يمكن للنعمة أن تجعلَك تشعر في عمقك بحضور الله.

فإذا أمكن لشخصٍ أن يعيشَ بصمت فترةً في مكانٍ مثل دير مارموسى، هنا على سبيل المثال، فقد يصل إلى خبرةِ فرحٍ وهدوءٍ وسلام وحضور. ومن الأكيد أنَّ أشخاصًا عديدين يمكن أن يعيشوا مثل هذه الخبرة إذا فرَّغوا أنفسَهم بقدر الإمكان وكانوا حقًّا هنا وحسب، في هذا الحضور، في هذا الصمت في هذا الدير، واستقبلوا من صمت هذا الدير، ومن جمال الطبيعة شيئًا من روح الله.

فأنا أومن إذًا أنَّ المرء إن يدخل في جوِّ رياضة فإنه يستطيع أن يختبرَ شيئًا ممَّا اختبرت أنا في طفولتي وفيما بعد. يحتاج هذا الأمر إلى نوعٍ من روح الطفولة أي من التلقِّي، أي أن يكونَ المرءُ أقلَّ انشغالاً وأن يبتعدَ قليلاً عن عمله.

إذا كنت أقوم بالرياضات فأنا أحبُّ كثيرًا أن يفرِّغ النّاس أنفسَهم كي يستطيعوا أن يختبرُوا شيئًا في داخلهم. هناك أنواعٌ من الرياضات. هناك نوعٌ جدِّيٌّ جدًّا، ففي التفاحة مثلاً يعيش الشخص في غرفته منعزلاً، ونطلب منه الصمتَ بقدر الإمكان (أو هنا في مغارةٍ ما في مارموسى مثلاً) ويصغي للكتاب المقدَّس، ويعيش الصمتَ ليلاً نهارًا، ومن خلال هذا الأمر يمكن أن تحدثَ خبرةٌ روحية، وليس فكرة "لاروحية"، فالفكرة ليست "روحية". أنا ألاحظ، في هذا النوع من الرياضة، أنَّ الانتقال من فكرةٍ إلى خبرة ليس أمرًا سهلاً. بالنسبة لي حين كنت صغيرًا لم ألبث كثيرًا في "فكرة الله"، بل شعرت بـ "خبرة الله". ولهذا السبب فأنا ما شككت يومًا بهذا الأمر. ولكن الانتقال من الفكرة إلى الخبرة ليس بهذه البساطة بالنسبة للكثير من النّاس،... لماذا؟ هذا سؤالٌ مهمٌّ:

إذا أعطينا نصًّا لمتروِّض، ودعوناه لأن يتحدَّث عن هذا النص، فغالبًا ما يتحدَّث بأفكار، بينما يندر أن يروي خبرةً عاشها، أن يشعرَ بشيء. كيف نساعد الشخص أن ينتقلَ من فكرةٍ إلى خبرة؟ مثل تلميذَي عماوس: "أما كان قلبنا متَّقدًا في صدرنا حين حدَّثَنَا في الطَّريق؟"[8]

هذا موضوعٌ مهمٌّ جدًّا ويمكن أن نرجعَ له فيما بعد.

هناك أشخاصٌ يبذلون كلَّ جهدهم ولا يصلون للخبرة. هنا السؤال: لماذا يبقى هؤلاء الأشخاص على مستوى الفكرة؟

قد يكون الجواب هنا هو وجود سبب نفسيٍّ. إذا شعرت بوجود مثل هذه الحالة، أي أنَّ الأشخاص لا يدخلون في الخبرة لسبب نفسيٍّ، فأنا لا أجد مانعًا من الدخول في عملٍ نفسيٍّ في سبيل الحياة الروحية. يتَّهمني بعض الناس بأنني أحوِّل الرياضة الروحية إلى تحليلٍ نفسيٍّ. أنا أحببت أن أتحدَّث عن حياتي لأسباب عديدة منها أن أقولَ أيضًا إنَّ النفسيَّ عندي ليس الأهمَّ، بل الخبرة الروحية. ولكن إذا شعرت أنَّ المتروِّض لا يستطيع الوصول للخبرة الروحية لسببِ أمورٍ نفسية، وكنت أستطيع أن أكتشفها معه، فأنا أدخل في الأمور النفسية.

إذا لم يستطع شخصٌ ما أن يتأمَّلَ حنان الأب في قصَّة الابن الشاطر، على سبيل المثال. ذلك لأنَّه "أسقط" أباه الذي كان مثالاً معاكسًا عن الأبوة ربما، على هذا الأب في القصة، ولأنه سبق أن فقدَ الإيمان بالأب كأب، فأنا يمكن أن أدخلَ في تاريخ حياة هذا الشخص. إنَّ الخبرة الروحية لا تجد طريقها للظهور أحيانًا لأنَّ الخبرة الإنسانية أو النفسية تكون متعَبة أو متألِّمة.

نرى أحيانًا، كمثالٍ آخر، بنتًا صُدِمت بالحبِّ على مستوى الشعور والعواطف، وترفض بعد ذلك أن تشعر بالحبِّ، وتبقى في برج العقل، ولا تريد أن تحسَّ بشيء، ولا تريد أن تختبرَ شيئًا، لأنَّ خبرتها الأولى كانت مؤلمة. لقد ابتعدنا هنا إذًا عن الخبرة، ووصلنا إلى "برج الفكرة"، وهذا يؤثِّر أيضًا على التأمُّل. فهي - بشكلٍ واعٍ أو لاواع - لا تريد أن تتأمَّل، لأنها تخاف من الخبرة، تخاف من شعورها، تخاف أن تُجرَحَ من جديد. فأنا إن لاحظتُ أثناء الرياضات وجود مثل هذه الأمور، فإنَّني أدخل فيها، ولكن لا كي أبقى فيها، بل كي أساعدَ الشخص على تخطِّيها للوصول إلى الخبرة الروحية.

مثالٌ ثالث: يلعب الشعور بالذنب دورًا كبيرًا. أخبرتني صبيَّةٌ، خلال تأمُّل الأب مرَّةً: "أنا لا أستطيع أن أرى الأبَ على هذا النّحو..." وأخبرتني أنَّ علاقتها مع والدها لم تكن جيدة حتى أنَّها قالت له مرَّةً "إنشاء الله تموت غدًا"! ومات في اليوم الثاني. وشعَرَت البنت بنوعٍ من العلاقة السحرية بين كلامها وموت أبيها، فكأنَّ كلامها سبَّب موته. طبعًا يمكن أن يكونَ كلامها قد أثَّر على صحَّة والدها، ويمكن ألا يكون هذا التأثير كبيرًا لهذه الدرجة، ولكن في الحالتين تحمل البنتُ شعورًا فظيعًا بالذنب، هي لا يمكن أن تتصوَّر أبًا رحومًا، بل تتخيَّل فورًا أنَّه مجروحٌ منها ويريد معاقبتها. وهنا لا بدَّ من عملٍ نفسيٍّ، ربما كان يتطلَّب يومًا أو يومين... لذلك أقول إنَّني إذا شعرت أنَّه لا يمكن إكمال الرياضة بسبب خبراتٍ مؤلمة من الماضي، فأنا أحبُّ أن أنطلقَ من هذه الخبرات كي نتخطَّاها وصولاً إلى الآخر، إلى الله.

إذًا في هذه الرياضات الصامتة أجرِّب أن أساعدَ الأشخاص بهذا المعنى: أسأل الشخص المتروضَ إن كان يحبُّ أن يخبرَ شيئًا عن تاريخه.

بعض الناس يعارضون هذه الطريقة. إذ لا يجب أن يتحدَّثَ المرء برأيهم عن حياته، بل أن نعملَ على شيءٍ روحيٍّ.

لكن الخطر في هذه الحالة هو قيام بنيةٍ عليا فوق بنية تحتيةٍ هشَّة. وهذا خطرٌ كبيرٌ في الحياة الرهبانية والروحية، حين نلصق الأشياء الروحية على بنيةٍ تحتيةٍ هشَّة جدًّا. أقول إذًا: أنا أصغي لهذا التاريخ، فمن جهة أولى إذا كان هناك إصغاءٌ فعلاً فهناك شيءٌ روحيٌّ، أنا أعتقد أنَّ مجرَّد الإصغاء الحقيقي ينطوي على شيءٍ روحيٍّ، أي إذا كان هناك صمتٌ في الإصغاء وانتباهٌ للآخر فهذا شيءٌ روحيٌّ وليس نفسيًّا فقط. ومن جهةٍ أخرى، إذا أصغيتَ لألم الآخر فإنَّ بالإمكان أن تتيحَ له الابتعاد قليلاً عن شيءٍ ما من تاريخه، واستقبال شيءٍ جديد من نفس هذا التاريخ. ربما كان هذا الشخص بحاجة أن يتحدَّثَ ثلاثةَ أيَّامٍ عن حياته لأنَّه مغلقٌ وغير قادر على استقبال شيء. وإذا كان هذا هو الحال وذاك هو المطلوب، فأنا أفعل ذلك. فالمطلوب في النّهاية هو أن نكونَ في خدمة الإنسان. وأنا أعتبر هذا الأمر روحيًّا.

إذا بقينا على المستوى النفسيِّ في الرياضة، أنا أقول لابأس. لأنَّ الهدف هو أن يستطيعَ هذا الإنسان فيما بعد استقبالَ روح الله بإفراغ نفسه أكثر. أنا لا أريد أن ألصقَ شيئًا في هذا الشخص، وأنا أعتقد أنَّ من الروحيِّ أن يشعرَ هذا الشَّخص بأنَّني أحبُّه كما هو، وأنَّني لا أريد منه شيئًا آخر. أحبُّ إذًا أن أنطلقَ من الواقع، وأنا أومن أنَّ الله يعمل في هذا الموقع. ربما لا تعطي الرياضة نتاجها المتوقَّع لكنني أكون قد قدَّمت شيئًا روحيًّا إن كنت في خدمة هذا الإنسان نفسيًّا وروحيًّا.

هناك ناحيةٌ أخرى في هذه الرياضة الصامتة والجدِّيَّة، وهي العلاقة العمودية مع الله. فأنا أومن أنَّ الإنسانَ يستطيع أن يعيشَ علاقةً شخصيةً مع الله بدون أي وسيط خلا الصمت والسجود. هذا ما أومن به وهذه هي خبرتي. ولكن ربما كان هذا هو الشرط أيضًا كي يجدَ المرء الله في كلِّ شيء. بالنسبة لي إذا كان الشخص يريد أن يروِّض نفسه وحده، فالطبيعة تساعد كثيرًا، كما هو الحال هنا مثلاً. وكذلك إذا أرادَ أن يعيشَ مع الله وفي الله، فإنَّه يستطيع أن يجدَ الله في الطبيعة. ففي الطبيعة تجد الجمال الخارق. ويمكن للمرء أن يعيشَ البعدَ الروحيَّ في كلِّ شيء، في الكون، في الناس المحيطين، في العنزة، في الجبال،... كلُّ شيء يصبح قريبًا من الله. العلاقة مع الطبيعة مهمَّة جدًّا في الرياضة الروحيَّة، أمَّا العلاقة مع الآخر فهي غير ضرورية لأنَّها تُبْعِدُ عن الصمت، لكن هذا ليس مطلقًا أيضًا. هذا فيما يخصُّ الرياضات التي نسمِّيها صامتة.

إذا سُئلت الآن: هل هناك الكثير من الناس الذين يختبرون شيئًا مع الله؟ أنا أقول هذا صعبٌ جدًّا، لأننا لا نعرف متى تصل الخبرة الروحية إلى الإنسان كنعمةٍ من عند الله. ولكن أنا أظنُّ أنَّنا إن سألنا الذين قاموا برياضة، لوجدنا أنهم دخلوا في مجالاتٍ جديدة، أو على الأقلِّ عرفوا أنَّ هناك شيئًا مختلفًا، شاطئًا مقابلاً، وليس الحياة كما نعيشها فقط. هناك على الدوام شيءٌ أمامي وشيءٌ ورائي، وهناك شيءٌ جديدٌ يختبره المرء في الرياضة بعمق، وهو مختلفٌ عمَّا يعيشه مع الناس يوميًّا.

إجمالاً إذا قام المرء بهذه الرياضة هنا أو في أيِّ مكان آخر، فهو يختبر قيمة الصمت والحياة الروحية، ويستطيع من بعد أن يقولَ عمَّا يعيشه من خطأ إنَّه خطأ. وأعتقد أنَّ هذا أمرٌ جيدٌ أيضًا.

إنَّ مَن يعيش الخبرة الروحية يكتسب قدرةً على التمييز بين الصحِّ والخطأ بطريقةٍ مباشرة، وليس من الضروري أن يقومَ بتحليلٍ نفسيٍّ. فإن كنتَ تعيش مع الله تستطيع أن تميِّز فورًا بين الصحِّ والخطأ، وأن تكتشف نفسك حين تكون مخطئًا. لكن بإمكانك في هذه الحالة أن تغضَّ الطَّرفَ قليلاً باعتبار أنَّ الدنيا هكذا... لا تعاقب نفسك لأنك مخطئ، أي أنَّك تقبل ذاتك كما يقبلك الله. ولكن في الوقت نفسه يبقى العطش للمزيد من الحبِّ. تفرِّغ نفسك أكثر، وتشتاق للحبِّ أكثر، والحبُّ يعمل فيك أكثر... ولكنك لا تتألَّم كثيرًا بسبب تعبك وخطيئتك، لكونك، في هذا الوقت أو في هذه الفترة تهتمُّ بنفسك أكثر ممَّا تهتمُّ باستقبال الله في حياتك. هذا أهمُّ من الشعور بالذنب، والله يقول لك: أنا لا أحكم عليك، ولكن فرِّغ نفسك أكثر، حتى أجيء لعندك أكثر،... وهذا الصراع يبقى موجودًا.

من الصعب إذًا تقييم هذا الأمر ولكن أظنُّ أنَّ هناك جماعات أتوا إلى هنا أو إلى صلنفة أو التفاحة[9]، واكتشفوا شيئًا جديدًا. ومع أنَّ من الصعب عيش هذا الشيء في المجتمع، بيد أنَّ هناك أثرًا منه لا ينفصل عن المرء أنَّى عاش. ننسى دومًا، وهذه مشكلتنا، أنَّ هناك فارقًا كبيرًا بين ما نعيشه في الرياضة وبين المجتمع. في المجتمع يُحكَمُ على عملنا في ذاتنا، على الصمت، على الإصغاء،... "ما لَكَ وللدِّين، ما لك ولمارموسى، ما لك وللصلاة،..." يقول لنا المجتمع.

يصعب إذًا أن نعيشَ في المجتمع ما نعيشه هنا. ذلك أنَّ الأسلوبَ الذي نعيش فيه هنا مرفوضٌ في المجتمع، بيد أنَّ الأمر يسهُل بوجود جماعةٍ تساعد على ذلك.

هناك رياضاتٌ من نوع آخر، يصفها البعض بالمخيَّمات. أريد أن أوضحَ هنا أنَّ المخيَّم ليس أمرًا سيئًا بل هو أمرٌ جيِّد له وظيفته، لكن هناك فرقًا مع ذلك بين رياضةٍ سهلة ومخيَّمٍ جادٍّ. جرت في حمص في هذه السنة خمس رياضاتٍ شارك فيها أربعمائة شخص. هناك من يقولون: إنَّ ما يهمُّنا ليس العدد فنحن لا نبحث عن الكمِّ بل عن النوع.

لا بدَّ أن نلاحظَ هنا إنَّ موضوع العدد ربما يعكس الشعبية أو النجاح. ومن الخطر أن يفتخرَ المرء بالعدد لهذا السَّبب، أو أن يجعلَ كثرة العدد كدليلٍ على الشعبية هو الأساس. ولكن ليس من الخطير في المقابل أن تبتهجَ بشعبيَتك، طالما أنَّه ما من أحد كاملٍ في نهاية الأمر. إنما يختلف هذا عن أن تجعلَ الشعبية هدفك. فلا نترك العمل في هذا الأمر أو ذاك خوفًا من أن نكوِّن لأنفسنا شعبيةً نتباهى بها. ولكن لا نقوم به أيضًا من أجل ذلك. أنا أريد أن أعملَ هذا الشيء من أجل الله، وإن كان هناك أشياء أخرى تدخل،... لا بأس أنا لست قدِّيسًا.

بالنسبة لبرامج هذه الرياضات... يبدأ النهار ببعض تمارين اليوغا. إنَّ وظيفة اليوغا في الرياضات هي بشكلٍ أساسيٍّ إدخالُ الشبيبة في جوِّ الصمت والاستقبال. وهذا أساس، وإن لم يكن هذا الجوّ موجودًا فلا يمكن أن تسيرَ الرياضة. ثمَّ هناك القليل من الحركات لكن كلَّ ذلك في سبيل الحضور لكلام الله.

أرى من أجل برنامج بعد الظهر أنَّ من المناسب الانطلاق من الشباب أنفسهم. فمهما عملنا صباحًا على المستوى الروحيِّ يبقى بعيدًا عنهم. لذلك ننطلق بعد الظهر عن طريق ألعاب، لغة الصُّور، أو حديث الشبيبة عن أنفسهم. ونعلِّمهم انطلاقًا من ذلك الصمت والإصغاء. فإذا كان من الصعب الإصغاء في الكنيسة لكلام الله، لأنَّ ذلك يتطلَّب خبرةً ووقتًا وعملاً، فإنَّ الصمت يكون أكثر سهولةً في الإصغاء للآخر الذي أمامي. ندعهم إذًا يتحدَّثون عن أنفسهم، ويصغون لبعضهم، ويصلون لشيءٍ جميلٍ، ويتكلَّمون بصراحة كبيرة، وهنا خبرة إنسانية عميقة. وأنا أقول إنَّ هذا يساعد فيما بعد، وليس فورًا بطبيعة الحال، في الإصغاء للكتاب المقدَّس.

هناك برنامجٌ اجتماعيٌّ بعد الظهر إذًا، يليه موضوعٌ نتشارك فيه معًا، والمهمُّ في الأمر هو أنَّه يساعدهم أن يفكِّروا هم أيضًا. فأنا لا ألقي محاضرةً بل أجعل كلَّ واحد يفكِّر بمفرده في هذا الموضوع فيعبِّر عن أفكاره أمام الجميع، وسواء كان هذا الموضوع هو "الأهل" أو "العلاقة" أو "القيمة الذاتية"، أو "الله"،...

في كثيرٍ من الأحيان نتحدَّث عن التأمُّل، أي كيف نتأمَّل وكثيرًا ما يسألون هم عن ذلك. يفكِّر كلُّ واحد في نفسه إذًا ونتشارك الأفكار. إنَّ اللقاء مع الشبيبة، انطلاقًا من هذه المشاركة أمرٌ جميل. وهم يقولون أشياء متميِّزة عن أنفسهم، ويعرفون كيف يقولون أشياء جميلة جدًّا. بعد ذلك نحتفل بالقدَّاس، وتكون هناك مشاركة. وفي الليل ندعهم يروِّحُّون عن أنفسهم لأنهم يعيشون جدِّيَّةً كبيرةً خلال النهار.

نرى عطشًا كبيرًا للعلاقة والصداقة. وكثيرًا ما يبكي البعض من الشبيبة حين يفترقون في نهاية الرياضة. هذا العطش هو حاجةٌ يجب أخذها بجدِّيَّةٍ من قِبَلنا. لكن علينا من ناحيةٍ أخرى أن نعلِّمَهم في الرياضة كيف يحلِّلون العلاقة: الفرق بين التعلُّق والحبِّ مثلاً. أو إن كان هناك عبوديةٌ لـ "الحاجة للآخر"، أم أنَّ الأمر يتعلَّق حقًّا برغبةٍ حقيقية في الآخر.

نتحدَّث عن هذا الموضوع إذًا حتى لا يعيشوا علاقاتٍ تخديريةً، فيقول الشاب لنفسه: أنا وحيدٌ وبحاجةٍ لفتاة تهتمُّ بي، وتكتب لي وأكتب لها... هذا لا يكفي طبعًا وفي هذا العمر تكون الأمور بسيطةً أحيانًا، لكننا نعلِّمهم أيضًا كيف يقوم المرء بعلاقة، وما هي المقوِّمات الحقيقية لعلاقة صحيحة، وهذا ليس سهلاً أيضًا. وفي كلِّ الأحوال نجعلهم يفكِّرون. نطرح السؤال مثلاً: متى تكون العلاقة صحيحةً ومتى لا تكون؟ ونستمع للآراء وفي رياضات تضمُّ 70 أو 80 شخصًا يجري الحديث عن الموضوع في جوِّ حوارٍ حقًّا.

هذه هي الرياضات من النوع الثاني الذي نقيمه في حمص أو في الأرض... لا أدري إن كان باولو سيتحدَّث عن الرياضات هنا في مارموسى أي رياضات الثلاثين يومًا وهي أكثر جدِّيَّةً أيضًا[10].

أودُّ أن أقول كلمةً أخيرةً بعد، هل من الصحيح يا ترى أنَّني من خلال الرياضات أصبح أكثر محبَّةً، أنَّ الحبَّ يعمل فيَّ أكثر، وهذا هو الهدف، أنَّني أصبح بسيطًا أكثر، عفويًا أكثر؟ المهمُّ والمطلوب في النهاية هو الثمر. هل يوجد ثمار أو لا يوجد ثمار؟ هل أنا أحبُّ أكثر نتيجة الرياضة أو بعد المسير؟ يعني هل صرنا نحبُّ بعضنا أكثر أم لا؟... لا أعرف![11]

إذا نظرنا إلى أنفسنا نحن اليسوعيين مثلاً، فنحن نحبُّ أن نحبَّ بعضنا ولكن في الوقت نفسه هناك صعوبات. وهذا أمرٌ طبيعيٌّ أيضًا، فليس لأنَّني أعمل رياضات لا تعود هناك مشاكل مع الآخر بعد ذلك. فهذه المشكلة مع الآخر مرتبطة بأمور كثيرة، وتخطِّيها يفترض مسيرة طويلة مع الذَّات ومع الآخر ومع الله.

أنا أحبُّ بقدر ما يكون الحبُّ موجودًا فيَّ، وأنا أشتاقه أن يكونَ فيَّ أكثر، أن يشقَّ طريقًا نحو الآخر، في الرهبانية وفي الخارج. نحن نكون كاذبين إن لم نحبّ بعضنا البعض أولاً، إن لم تكن العلاقة بيننا جيدة. ولا أعني بجيدة أن تغيبَ عنَّا المشاكل، بل أعني أن تكونَ حقيقيةً أي أن نستطيع أن نعيشَ مع بعضنا بالحقيقة. أي إذا لم نستطع أن نعيش مع بعضنا البعض هذا الشيء فإنَّ كلَّ شيء معطَّل. فإذا كنَّا نعمل رياضات ثمَّ لا نعرف كيف نعيش مع بعضنا فهذا يعني وجود مشكلة على مستوى أساس حياتنا.

أعتقد أنَّ هناك أمرًا معزِّيًا وهو أنَّه إن أراد شخصٌ أن يعيش بحبٍّ مع آخر، فإنَّ عليه أن يقبل صعوبة هذا العيش. أي أنَّ قبول الصعوبة يكون أمرًا معزيًا. أعتقد أنَّ هذا أمرٌ إيجابيٌّ في البداية، فإذا أراد المرء للحبِّ أن يعملَ فعليه هو أن يقومَ بشيءٍ ما، وإن لم يفعل ذلك فهذا يعني أنه ليس جدِّيًّا. أشعر من خلال لقاءاتنا، نحن اليسوعيِّين، أنَّ الحبَّ موجودٌ دومًا وإن كانت العلاقات غير سهلة دومًا، وذلك بسبب تفاوت الانتماءات من حيث البلدان وبسبب اختلاف الأعمار واختلاف الطِّباع...

لا أعرف من أين يأتي الله بكلِّ هؤلاء الناس، مع ما هم عليه من اختلافات. لكنني أعرف أنَّ هذا هو الواقع. أمَّا كيف يعيش كلُّ هؤلاء معًا فهذا ليس بالأمر السهل. والحبُّ ليس مجرَّد عواطف حلوة، بل هو تحدٍّ وصراع ومعركة ومستقبل. والمهمُّ هو أن يشعرَ المرء بأنَّ هناك على الدوام إمكانيةً للتقدُّم، وأن يكون هناك بين وقتٍ وآخر شيئًا حلوًا يُعاش بالتشارك.

يشبه ذلك طعامًا يُعدُّ فتضع المقادير الصحيحة وتبدأ بالطهو... وتعمل النارُ عملَها، ولكن قد تكون قويةً جدًّا فيحترق الطّعام أو ضعيفةً جدًّا فلا ينضج... فنحن نخفِّف النار أو نزيدها، ونصيب أو نخطئ، ونحصل على طعامٍ لذيذٍ أو على طعامٍ غير ناضج... ليست هذه هي المشكلة بالنسبة للقدِّيس إغناطيوس، إنما المهمُّ هو الديناميكية، وهي أن نطلبَ دومًا الأفضل. إنَّنا لنجد الأفضل في الأسهل حين لا نريد أن نبذل جهدًا، لكن الأفضل في الحقيقة هو الأصعب: حين نكون نحن أفضل. وحين نعتقد أننا أفضل فهذا يعني على الأغلب أننا لسنا كذلك! ليست الأمور سهلةً كما ترَون!

أنا فرحان بالنسبة لنا كيسوعيين لأنني أشعر أنَّنا نحبُّ بعضنا البعض، حتى ولو كان الحبُّ يمرُّ في صعوبات، وكانت هناك علاقات معيَّنة أصعب من غيرها بين وقتٍ وآخر. وربما كنَّا في سوريا أفضل منَّا في أماكن أخرى، لأنَّنا نختلف أحيانًا مع بعضنا البعض، وأنتم تعرفون أنَّ باولو لا يستطيع السكوت مثلاً، إذا كان عنده شيء فلا بدَّ أن يخرج، والفائدة في ذلك هي أنَّ أيَّ شيء لا يبقى في الداخل وأنَّنا نواجه ولا نهرب، هذا يخلق على الدوام حركةً ديناميكية نحو الأفضل.

أنا أقول إذًا إنَّنا نحاول عيش هذه الأمور مع كلِّ المشاكل والاختلاف والخلاف،... والجمال هو وجود تطوُّر.

وربما كان هناك تطوُّرٌ ثمّ رجوعٌ إلى الوراء، لأنَّ أشخاصًا آخرين قد يأتون. فنحن أيضًا نعيش مع بعضنا ثمَّ يأتي أشخاصٌ آخرون ربما كانوا أصعب من قبل، أو أسهل من قبل، لا نعرف، وربما تحدث مشاكل جديدة، فقد لا يوافقون على مشروع معيَّن أو ينقسمون بين أنفسهم... ولكن المهم هو أنَّنا ننطلق نحو أشياء جديدة ونصل مجدَّدًا لشيءٍ آخر وأفضل.

هذا الانطلاق المتجدِّد دومًا يحتاج إلى اعترافٍ متجدِّد بأنَّنا لم نصل بعد، وهذا الاعتراف يحتاج إلى تواضعٍ كبير في كلِّ مرَّة، وهذا التواضع يشكِّل ركنًا أساسيًّا في كلِّ حياةٍ روحية.

***

حوار

سؤال: هل من الصحيح أنَّه لا يمكن الوصول لحالة الاختبار الروحي في حال وجود المشاكل النفسية؟ فهناك الكثير من القدِّيسين الذين نقرأ سيرهم عاشوا حالات من الخبرة الروحية اتُّهموا بأنَّهم غير سالمين نفسيًّا، ربما مثل فرنسيس الأسيزي وجان دارك.

الأب فرانس: ليس صحيحًا أنَّ المرء لا يستطيع أن يعيشَ اختبارًا روحيًّا إن كان مريضًا نفسيًّا. أنا رأيت أشخاصًا منهم من كان مصابًا حتى بانفصام ولديهم خبرة روحية عميقة، ولكن لا كما قد نراها نحن. فهم يعيشون في ذاتهم خبرات روحية عظيمة ولكن لا يستطيعون التَّعبير عنها بحيث نفهمها. مثلاً في السفينة في الشام، لدينا سانو[12]، وهو شخصٌ "معاقٌ عقليًّا" بدرجةٍ كبيرة، وهو لا يتحدَّث كثيرًا، وإذا صلَّى بعد الكلام الجوهريِّ يقول: بابا ماما الله!!... إذا سألته من تحبُّ؟ يقول الله!... ما الذي يعنيه هذا بالنّسبة له؟ لا أعلم، ولكنني إذا حدَّقت فيه وهو يقول هذه الكلمة فهمت أنَّه يعيش شيئًا مع الله. أنا أشعر إذًا أنَّه يعيش شيئًا عميقًا لكنه هو نفسه غير واعٍ لما يعيش في حياته الروحية، وهو لذلك لا يستطيع التَّعبير عنه لكنه في النهاية يعيش شيئًا.

أعتقد أنَّ المكان الذي يمكنكَ أن تجد فيه أشخاصًا أكثر يعيشون خبراتٍ روحيَّة هو مشفى الأمراض النفسية، حيث يقيم من نسمِّيهم تعسُّفًا "مجانين"! أنا أشعر حين أترك المشفى وكأنني كنت أعيش مع الله، كأنني عشت معهم مع الله!

ربما كان هذا مرتبطًا أيضًا بخبرة الموت والحياة. فهم يعيشون موتًا كبيرًا، أي كونهم مرفوضين من قبل المجتمع بشكلٍ كامل! أمَّا فيما بينهم، في حياتهم الاجتماعية، فهم يعرفون كيف يتخطُّون الموت إلى نوع من الحياة، وذلك بمشاركتهم مع بعضهم، إنه نوعٌ من العبور، بدلاً من القبور!! فأكثر مكانٍ فيه قبر، وهو مشفى الأمراض العقلية، هو أكثر مكانٍ فيه حياة! لا يوجد الكثير من الناس الذين ينتحرون، أو حتى يفكِّرون في الانتحار هناك. هناك من يفكِّرون بذلك طبعًا، ولكن هناك شيءٌ لا نفهمُه ولا ندركه من قوَّة الحياة موجودةٌ في هذا المشفى.

أنا أشعر كثيرًا أنَّني مع الله وفي الله حين أكون معهم. لكنني في الوقت نفسه أشعر بموتٍ فظيع وألم وبتعاسة هائلة. لقد مرَّ على بعض الأشخاص الموجودين في هذا المشفى عشرون عامًا ولم يرَوا زوجاتهم أو أولادهم أو ذويهم الذين لا يزورونهم،... أنا لا أظنُّ أنَّ المشاكل النفسية تمنع إمكانية حياةٍ روحية.

إنَّما عليَّ أن أقولَ في الوقت نفسه إنَّ من الممكن للمشاكل النفسيَّة أن تمنعَ الانفتاح على الإصغاء للكتاب المقدَّس، وهو الأسلوب الذي نستخدمه نحن على طريق الخبرة الروحية. نريد أن نصغي لهذا الكتاب، نريد أن نفرغ ذاتنا وأن نحضِّرها لهذه الخبرة. يمكن القول إنَّ المشاكل النفسية تشكِّل، ضمن هذه الديناميكيّة، عائقًا على الطريق. دون أن نقولَ إنَّ هذا الشخص لا يملك حياةً روحية. ولكن نستطيع القول إنَّنا إذا استطعنا تخطِّي بعض هذه المسائل النفسيَّة، دون أن نحلَّها بالضرورة، فهذا يساعد الشخص أن يعيشَ انطلاقًا من الروح أكثر.

إذا كان هناك قدِّيسون كانوا مريضين نفسيًّا فهذا صحيح. ولا بدَّ من الانتباه هنا إلى أنَّ كلمة "قدِّيسين" هي صفةٌ أطلقناها نحن على هؤلاء...

هناك قدِّيسون جعلهم الألم قدِّيسين. والسؤال: هل هذا الألم هو دومًا روحيٌّ، أم أنَّه قد يكون نرجسيًّا أو مازوخيًّا، أو غير ذلك؟ هنا يستطيع المرء أن يقولَ كلمةً بحسب التحليل على المستوى النفسيِّ للشَّخص، هل هو روحيٌّ أو مازوخي... ولكن من جهةٍ أخرى نقول إنَّه إذا تعذَّب شخصٌ ما كثيرًا واستطاع أن يسموَ قليلاً فوق ألمه، ويستقبلَ الروح، فإنَّ هذا يساعدُه أن يعيشَ حياةً روحية.

يمكن للألم أن يطهِّرَ ويصفِّي ويجعلَ المرء غير مازوخيٍّ، أو غير نرجسيٍّ. يمكن لألمِ المرض النفسيِّ أن يجعلني بسيطًا فلا أبقى متكبِّرًا، وأعتقد أنَّ كلَّ شيءٍ يتبع لي أو ينطلق منِّي، هذا بعضُ دورِ الألم في حياة الإنسان.

لا يمكننا إذًا أن نصنِّف المشاكلَ النفسية كونها تبعدنا عن الحياةِ الروحية.

لكن، وعلى سبيل المثال، إذا أراد شخصٌ، في تقليد الزِّن البوذيِّ، الدّخولَ في صمت (صمت اللوتس) فقد يحدث أن يخرجَ من النَّفس قلقٌ فظيع. في هذه الحالة يطلب الغورو إليه ألاَّ يكملَ هذه المسيرة الروحيَّة نحو خبرة النور.

على هذا الإنسان أن يقبلَ إذًا أنَّه لا يستطيع. ولكنه في هذا القبول يكون روحانيًّا أكثر من إنسانٍ آخر يصل إلى خبرة.

أنا أريد أن أقبلَ بكلِّ بساطةٍ أنَّني لست قادرًا على بلوغ خبرةٍ معيَّنة فعندئذٍ، وبهذا القبول الذي يمكن أن يكونَ انطلاقًا من الروح، يمكن لي أن أصبحَ أكثر بساطةً ممَّا لو أكملتُ إلى النهاية.

فالروح يكمن في قبول الأمور ببساطة، أمَّا أن يصلَ المرءُ إلى مرحلةِ النور ليُظهِرَ نفسَه أنَّه معلِّم فهذا يفسد كلَّ شيء! أصِلُ لآخر الطريق ثمَّ أفسد كلَّ شيء.

سؤال: كيف أعرف أنَّ هذه خبرة روحية وليست شيئًا آخر. بمعنى: إذا أراد شخصٌ ما أن يميِّز في العمق خبرته الروحيَّة، وفيما إذا كان اختبارٌ ما حقيقةً وليس وهمًا؟

الأب فرانس: مقياس الخبرة الروحية على ما أظنُّ هو المجانِّيَّة، ولكن كيف أميِّز المجانية؟ كيف أميِّز بين: مصلحة وحاجة من جهة، وبين أن أعمل الأمر محبَّةً في الآخر من جهة أخرى؟

هذا يحتاج إلى تحليل. إذا كنت أنا، على سبيل المثال، شخصًا متأمِّلاً ومتحمِّسًا للمسيح، فهل أتحمَّس للمسيح لأنَّ هناك مصلحة، لأنَّني أرى في المسيح صورةً أحبُّ أن أراها وتريحني؟

حين أتأمَّل المسيح، هل أصغي له حقًّا؟ هل أشعر بفرحٍ لأنَّني كنت عندَه، أم لأنَّني كنت أفكِّر في شيءٍ ما عنده يخصُّني أكثر ممَّا يخصُّه؟...

عليَّ إذًا أن أحلِّل موقفي وتجربتي... عليكِ أنتِ شيئًا فشيئًا أن تمكثي مع خبرتِك التي تسمِّيها روحيَّة حتى تجدي ما فيها من مجانية. ويمكن للآخرين أن يساعدوك في هذا الأمر.

عليك أن تصغي للآخرين ولما يقولونه عنك. هل يقولون إنَّ الحبَّ يخرج منك، إنَّك محبَّة؟ أو يقولون إنَّك تعتقدين نفسك محبَّة؟ من الصَّعب أن يقولَ المرء عن نفسه: إنَّني شعرت هنا بالمجانية، والأفضل أن يقول له آخر ذلك. وقد لا يقوله الآخرون...

على كلِّ حال هناك مستوى أعلى أو أعمق من التمييز: ليس من الضروريِّ أن أعرفَ إن كانت هذه الخبرة روحيَّةً أم لا! لماذا أريد أنا أن أعرف إن كانت خبرتي روحية؟ ألكي أقول إنَّني روحانيٌّ؟ الخبرة الروحية هي على الدوام خبرة مستقبلية: "ليأتِ ملكوتك". وقد أختبر غدًا ما لم أختبره اليوم، بل لا بدَّ من ذلك. لأنَّ الخبرة الروحيَّة ديناميكية ولا تبقى على الدوام كما هي. وهذه طريقةٌ للتمييز: أقول إنَّ هناك خبرةً روحية حين يكون هناك تطوُّرٌ وديناميكية، إذا شعرت أنَّ هناك نموًّا. الخبرة الاستهلاكية أو النرجسية فيها دومًا جمود، وتبقى على الدوام في محلِّها. إذا رأينا نموًّا في حياتنا فهذا يدلُّ على وجود شيءٍ صحيح، وعلى وجود شيءٍ روحيٍّ حقيقيٍّ. الجمودُ والتكرار والملل يدلُّون على غياب الروحي ويساعدوننا من جهةٍ أخرى على معرفة أنَّ علينا الانتقالَ لشيءٍ جديد.

سؤال: قلتَ في معرض حديثك: "إنَّ نعمة الصمت والحضور للإله هي من داخل الإنسان". هذه عبارة استخدمتَها وأكَّدتَ عليها. ونحن نقرأ عباراتٍ عن بعض الجمعيات الدينية والخيرية تقول إنَّ الإنسان إذا تعمَّق بالداخل وعاش حياة صمت فيمكن أن يصلَ إلى الله أو يكونَ هو الله.

هل هذا الكلام هو نوعٌ من الصوفيَّة أو من الحياة الروحية التي تتحدَّث عنها، أم هو بالأحرى مناقضٌ للمسيحية؟ لأنّ هناك الآن الكثير من البدع التي تقول بأنَّ الإنسان يمكن أن يكونَ هو الله إذا تعمَّق من الداخل.

الأب فرانس: أنا لا أعرف ما الذي يقولونه. لكنني أتحدَّث عن الإنسان الذي يدخل في الصَّمت، كما يفعلون في الزِّن مثلاً. فهم يحاولون الوصول إلى الصَّمت في داخلهم، إلى أن يصلوا، في وضعية اللوتس، إلى "خبرة النُّور" في ذاتهم. وهم لا يقولون إنني أنا النُّور بل يقولون إنَّ النُّور يخرج منِّي. وهم لا يتحدَّثون مطلقًا عن الله، بل يتحدَّثون عن النُّور في نفوسهم، الذي يخرج منها.

ما هو هذا النّور؟ إنّنا نحكم على ذلك من الثّمار[13]، فإذا كان النُّور يظهر كرحمة، فهذا شيءٌ إلهيٌّ. نستطيع أن نقولَ إنَّه شيءٌ من روح الله بالنسبة لنا. هم لا يقولون هكذا. ولكن أنا أقول إنهم اكتشفوا شيئًا من روح الله، ظهر فيهم كرحمة، كتحنُّنٍ على الآخر.

وأن نسمِّي هذا صوفيَّةً أو أي اسمٍ آخر، أو تسمِّيه الوحدة مع الله ذاته،... أنا أحبُّ أن أسمِّي الأمر كذلك. ولكن هم لا يستعملون هذا المصطلح، بل يستخدمون لغتهم هم.

أنا أظنُّ أنَّ كلَّ إنسان يستطيع أن يكتشفَ في نفسه نور الله، ويستطيع أن يعيش شيئًا من هذا النور للآخرين.

الآن، وفق أيَّة منهجية يمكن الوصول لهذا النور في النفس؟ هذا يختلف: هناك المنهجية الإغناطية والبوذية والطُّرق الصوفيَّة الإسلامية،... ولكن السؤال: هل يصلون كلُّهم إلى نفس الخبرة أم لا؟ أنا أظنُّ أنَّ الخبرة واحدة. ربما كانت هناك نوعيَّات، ولكن في العمق الخبرة مشتركة. وأنا أسمِّيها حبُّ الله، روح الله،... وهي أبعد من دينٍ معيَّن.

لكن هناك منهجيةٌ، سواء كانت مرتبطة بدين، أو غير مرتبطة بدين. في البوذية هناك فلسفةٌ أكثر ممَّا هناك دين. وأبناء الطائفة الإسماعيلية في سوريا يتحدَّثون قليلاً عن الدِّين، ولكنهم يتحدَّثون عن الله كحبٍّ انطلاقًا من الفلسفة اليونانية أيضًا.

بالنسبة لي أحبُّ أن أصغي لكلِّ واحد، وبقدرِ ما أكتشف وجود حبٍّ في حياته، أقول: هذا هو الله! طبعًا أنا أرى الحبَّ في شخصٍ ما، لكنني قد أخطئ أنا أيضًا. ربما لم يكن هذا حبًّا ولكن إحساسي هو وجود شيء جميل في هذا الإنسان. هناك شيءٌ من الحبِّ ولكن هذا مرتبطٌ بأشياء أخرى أيضًا. إنَّك لا تعثر على الذهب لوحده، هناك الفضَّة وهناك التَّنك وهناك كلُّ أنواع المعادن،... لكن الذهب موجودٌ أيضًا. بقدر ما أجد الذهب أقول نشكر الله.

*** *** ***


 

horizontal rule

* الفصل الأول من كتاب: الخلوة في الأديان - ندوة حوار عقدت في دير مارموسى الحبشي، 2002، دار الخليل للنشر.

** فرانس فاندرلخت من مواليد 1938 هولندي الأصل والجنسية، راهب وكاهن يسوعي، ومحلِّل نفسي. عاش قسطًا كبيرًا من عمره في سوريا ولا يزال. له بين شبيبتها بصمة كبيرة، وذلك عبر الرياضات الروحية التي ينظِّمها والمسير الذي قطع من خلاله مع آلاف الشبان والشابات، والكبار والصغار، وعلى مدى عقود، ولا يزال، معظم القطر من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه. لا يوحي نشاطه وهمَّته بعدد سني حياته فهو في الواقع يجمع بين حكمة الشيخ وخبرة عالِم النَّفس وتجرُّد الرَّاهب وخدمة القسِّيس وحيوية الشَّباب، ولن أفيضَ في الحديث طالما سيتحدَّث هو في الصفحات القليلة القادمة عن بعض حياته. [محرِّر الكتاب]
تم اغتيال الأب فرانس في حمص القديمة بتاريخ 7 نيسان 2014.

[1] أو الأب باولو دالوليو، من مواليد روما 1954. سبق التَّعرف إليه في ندواتٍ وكتب سابقة، إيطالي الجنسية والمولد، راهب يسوعي، مرمِّم ومحيي دير مارموسى الحبشي في بادية النبك ومؤسِّس ورئيس جماعته الرهبانية.

[2] نسبةً إلى القدِّيس اغناطيوس دي لويولا، الذي عاش في القرن السادس عشر وأسَّس جماعةً رهبانية سمَّاها "أصدقاء يسوع" وهي تُعرف أكثر باسم "اليسوعيِّين". لم يصلنا ممَّا كتب القدِّيس اغناطيوس غير القليل وأهمُّه كتاب الرياضات الروحية الذي أرسى من خلاله نهجًا وتقليدًا لرياضاتٍ روحية منظَّمة تساعد المتروِّض على "إفراغ ذاته" والابتعاد عن كلِّ ما يمكن أن يشغله بحيث يمكنه استقبال الروح وعيش اختباراتٍ روحية قوية يمكن أن تساعد في تمييز مسار حياته أو اتخاذ قراراتٍ هامَّة ومفصلية فيها، سنتعرَّف أكثر على إغناطيوس وعلى اليسوعيِّين من خلال هذا الفصل والفصل التالي من هذا الكتاب. [المحرِّر]

[3] هو من طقوس الكنيسة الغربية (اللاتينية) فيه يقوم المؤمن (أو جماعة المؤمنين) بقطع مسارٍ معيَّن تتالى فيه أيقونات تمثِّل مراحل آلام المسيح وصلبه مؤدِّين خلال ذلك صلواتٍ معيَّنة ومتأمِّلين في آلام وصلب يسوع. [محرِّر الكتاب]

[4] هذا السؤال الذي يطرحه الأب فرانس سيكون عنوانًا للندوة التالية التي انعقدت في دير مارموسى والتي صدرت في كتابٍ قبل هذا الكتاب بعنوان: الخبرة الروحية وتطور المجتمع. [محرِّر الكتاب]

[5] القهرية في العلوم النفسية هي أن يعيش المرء في جوٍّ من الضغط الناتج عن فروضٍ يفرضها هو على نفسه أو على الأغلب تُفرض عليه من الخارج بحيث يلزم إنجازها على حساب ما تحبُّ نفسه أن تعمل بل وعلى حساب حرِّيَّته. ولربما كان نقيض القهرية هو مقولة يسوع: "السبت جُعِل من أجل الإنسان وليس الإنسان من أجل السبت". [محرِّر الكتاب]

[6] لقد تمَّ للأب فرانس ذلك بعد أشهر من هذا الحديث. لعلَّ مثل هذه الوقفة بين وقتٍ وآخر، من أجل الانطلاق من جديد هي أمرٌ ضروريٌ في حياة كلِّ شخصٍ انخرط في مسيرٍ روحيٍّ وجعل لحياته هدفًا ومعنى. وهي ضربٌ من ضروب الخلوة التي هي موضوع هذه الندوة وهذا الكتاب. [محرِّر الكتاب]

[7] الأرض مشروعٌ (أو مجموعةٌ من المشاريع) خيريّ في خدمة الإنسان. مكان المشروع قرب مدينة حمص (طريق القصير) وفيه بيتٌ للمعاقين، ومشغلٌ للسيراميك، وبيتٌ للاستقبال، ودار السلام (وهو ملاذٌ للتأمُّل لكلِّ الناس من كلِّ الأديان) ومعملٌ للنبيذ، ومركزٌ زراعي ودار الضيافة للسُّواح!

[8] راجع الإنجيل بحسب لوقا، الفصل 24 بدءًا من الآية 13. [محرِّر الكتاب]

[9] صلنفة مدينة سياحية من جبال الساحل السوري باتت غنية عن التعريف، لا على مستوى سوريا فحسب بل وعلى المستوى العربي عمومًا، أمَّا التفاحة فهي قرية من جبال الساحل السوري أيضًا لكنها أقل شهرة وأكثر هدوءًا وعزلة. ينظِّم الآباء اليسوعيُّون رياضاتٍ روحيَّة في دير الراهبات الكرمليات في صلفة وفي ديرهم (أي الآباء اليسوعيين) في التفاحة كلَّ صيف، وتتَّصف هذه الرياضات بالصمت والجدية والأعداد القليلة من المشاركين، في حين تنظَّم رياضات أخرى، في حمص بشكل خاص تكون أكثر بساطةً ولعدد أكبر وموجهةً للدخول في الحياة الروحية.

[10] سوف يتطرَّق لها من بعيد الأب زيغمونت في المحاضرة التالية (الفصل التالي) وكذلك الأب باولو بكلماتٍ قليلة لاحقًا. هي ضربٌ من الخلوة التي يقوم بها المؤمن المسيحي بمساعدة مرشدٍ روحيٍّ مختصٍّ، بحيث تنتظم هذه الرياضة وفق برنامجٍ معين: يعيش المتروِّض منعزلاً عن الناس خلال فترة الرياضة، في مكانٍ يسوده الهدوء. يوجه مرشد الرياضة المتروِّض إلى قراءة نصوصٍ معينة من الكتاب المقدَّس والتأمُّل فيها. تُقسَّم الرياضة إلى أربعة مراحل: في المرحلة الأولى يجري فحصٌ للضمير ينتهي باعتراف المتروِّض، أي بممارسة سرِّ الاعتراف الذي يشكِّل واحدًا من أسرار الكنيسة السبعة. غالبًا ما يكون الكاهن الذي يتقبَّل سرَّ الاعتراف هو مرشد الرياضة نفسه لكن ذلك غير ضروري من حيث المبدأ. في الأسبوع الثاني يكون على المتروِّض إجراء تمييزٍ هامٍ يخصُّ خطَّ حياته. في المرحلة الثالثة يجري التأمُّل بآلام السيِّد المسيح وموته. وفي المرحلة الرابعة في قيامته وصعوده. إنَّ كلمة تأمُّل لا تفي بالغرض هنا. ففي الحالة المثالية يرتقي هذا التأمُّل ليصبح (بدرجاتٍ متفاوتة) ألمًا مع ألم المسيح وموتًا مع موته وقيامةً مع قيامته! ولهذا السبب سنجد الراهب بولص يؤكِّد في الفصل الأخير من هذا الكتاب على أنَّ من يخوض الرياضة الروحية الإغناطيَّة هذه لا يستطيع أن يقول إنَّه لم يرَ ولم يختبر دون أن يكون كاذبًا! [محرِّر الكتاب].

[11] يقدِّم الأب فرانس إجابةً تبدو مباغتةً بقدر ما هي قاطعة لسؤالٍ يطرحه هو نفسه. لكنه يعود لاستئناف الموضوع والحديث محاولاً أن يجيب بطريقةٍ أخرى. نقرأ في ذلك أنَّ المحاضر لا يقدِّم إجاباتٍ مقرَّرة بقدر ما يحاول أن يفكِّر على نحوٍ مرتجل وجهري باحثًا معنا لنفسه ولنا عن الإجابة. يضعنا هذا في مجالٍ لحوارٍ مفتوح يمكن أن يكون موضع تأمُّل على مستوى حياة كلِّ واحد منًّا. [محرِّر الكتاب]

[12] تستمدُّ السفينة اسمها من فلك نوح وهي مؤسَّسة تعنى على طريقتها الخاصة بمن نسمِّيهم تعسُّفًا "معوَّقين عقليًّا"! والسفينة بيتٌ عربي في دمشق القديمة ينتمي إلى اتحاد "الآرش العالمي"، يعيش فيه عدد من هؤلاء الأشخاص المختارين (ويُدعون إخوة) مشكِّلين المركز من عائلةٍ تضمُّ إلى جانبهم "مساعدين" وهم شبَّانٌ وشابَّات نصف متطوِّعين إن جاز القول يعنون بشؤون الإخوة. أمَّا سانو المذكور فاسمه الحقيقي غسَّان وهو أحد الإخوة الذين يعيشون في السفينة بعد أن قضى قسطًا من حياته في مشفى ابن سينا للأمراض العقلية. [محرِّر الكتاب]

[13] إشارة إلى قول يسوع: "من ثمارهم تعرفونهم" (متّى 7: 16) [محرِّر الكتاب]

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني