نزهة... على ظهر حمار

 

ياسر المالح

 

"نزهة على ظهر حمار" هو العنوان الذي اعتمدتُه لمحاضرتي، بعد أن استعرضتُ عددًا من العناوين. وكلُّها يثيرُ التساؤل أو العجب. أما العنوانُ الذي اخترته أخيرًا، فيدلُّ دلالةً واضحة على مضمون المحاضرة، وهو مفصَّل على قدِّها، دون زيادة أو نقصان. ففي النزهة ترويح عن النفس. فإذا كانت على ظهر حمار فإنها تثير الابتسام، لأن أحدًا هذه الأيام لا يتنزه على ظهر حمار، وإنما يتنزَّه بالسيارة، أو السوزوكي على أقل تقدير. لكن الحمار، يظل مركوب نزهة في كثير من القرى، وبعض بقاع الصحراء.

وعلى هذا فإني أدعوكم إلى أن تركبوا حميركم وتتبعوني. وحماري يعرف طريقَه جيدًا، ولاسيما أنه متشوقٌ إلى أن يزور أصولَه وأصحابَه في عمقِ التاريخ.

هل أنتم مستعدون؟ حسنًا... حاء يا حماري حاء.

***

مدخل إلى معشر الحمير

لا أدري – في الحق – ما الذي جعلني أختار أن أكتبَ في موضوع "الحمير" وقضايا الإنسان أولى بالكتابةِ عنها من قضايا الحمير.

وأنا لست من أنصار "بريجيت باردو" التي فقدت الأمل في الإنسان، فتحولت إلى الحيوان، تغرقُه بعواطفها، وتحيطُه باهتمامها، وتدافعُ عنه في كلِّ مِحفل. لكنني من أنصار جمعية الرفق بالحيوان والحفاظ عليه. وأنا أرى أن الحيوان، إن كانت له قضايا، فهو أولى ببحث قضاياه، وحلِّ مشكلاته في إطاره الاجتماعي، وما علينا نحن بنو الإنسان إلا أن نتركه وشأنَه دون أن نسعى إلى إيذائه أو تصفيته. وإذا كان لابد من الانتفاع به في شؤون حياتنا، فلتكن بيننا وبينه معاهدة وهمية، فيها اعتراف متبادل بالحقوق والواجبات لكلٍّ من الفريقين.

لكني، وقد آثرت الكتابة عن "الحمير" من جنس الحيوان، أودُّ أن أعترف بأنني أحب الحمار، على الرغم من أنني ابنُ مدينة، فأنا لم أعاشره معاشرةً كافية تؤهله لأن يأخذ مكانة في قلبي، ومع ذلك أحبه. ركبته حين كنت صغيرًا في بعض القرى المحيطة بدمشق، وكان سلسًا لطيفًا، وكنت أراقبه رفيقًا للباعة المتجولين في بعض أحياء دمشق، يصعد الجادَّات في جبل قاسيون دون أن يتذمَّر بنهيق أو نحوه. وكنت أسترق السمع إلى صاحبه، وهو يحاوره محاورةَ الصديق صديقَه فأضحك في سرِّي.

وحين شببتُ وأدركت طرفًا من علم وشيئًا من تجربة، عذرتُ صاحب الحمار حين كان يحاور حمارَه. وعرفتُ أن سبيل الراحة النفسية هو الحوار مع الآخر، سواء كان إنسانًا ضعيفًا، أو حيوانًا أليفًا، أو مع الذات بصوت مسموع على سبيل "الفضفضة"، وسكب ما في النفس من مشكلاتٍ وهموم في إناءِ الآخَر. ومن هنا عظُمت قيمة الصديق لأنه يُصغي إليك على الأقل وإن كان لا يملِك حلولاً لمشكلاتِك الحقيقية أو المتوَهَّمَة.

والحمار، في رأيي ورأي بعض الأدباء، خيرُ من يصغي من الحيوانات المستأنسة، فهو هادئ متزن، يحرك أذنيه الطويلتين الواسعتين، فيُخيَّل إليك أنه حريصٌ على أن يسمعَك. وأن يكون محلَّ ثقتِك. وهو قطعًا لن يفشيَ سرَّك لأحد صنيع بني آدم. فأنت آمِن على نفسِك حتى لو كنتَ من حزب المعارضة.

من أجل هذا كان بعضُ الأدباء يديرون حواراتهم في بعض قصصهم أو رواياتهم أو مسرحياتهم أو مقالاتهم مع الحمار، حتى يكونوا في منجاةٍ من المساءلة. ومع ذلك تُمنَع كتبُهم الحميرية من الوصول إلى أيدي القراء في بعض البلدان لما فيها من غمز ولمز.

حول اسم الحمار

أشد ما يحيِّرُني في الحمار أن اسمه يحمِلُ نبضًا مضحكًا متفرِّدًا، لا يحملُه اسمُ أيِّ حيوانٍ آخر. أدركتُ ذلك بجلاء، وأنا أعِدُّ هذه المحاضرة، كان يسألُني بعضُ الأصدقاء: ما جديدُك هذه الأيام؟ فأجيبهم: أكتبُ محاضرةً عن الحمير. فيضجُّون بالضحك ويتغامزون. فأعجَب لذلك، إذ ليس في الحمار نفسه ما يُضحك. ولو أنك نظرتَ إليه لأثار في داخلِك الإشفاقَ لا الضحك. على خلاف القرد مثلاً يُضحكُكَ منظرُه وحركاتُه، لكن اسمَه لا يضحك.

ويبدو أن الوراثةَ تؤثر على نحوٍ ما في مجالِ الأسماء المنحدرة من صلب الحمار، فهي تحمل على الابتسام أو الضحك. فابنه العزيز من الحمارة جحش وابنه الهجين من الفرس بغل، وهذه العائلة الحميرية جميعُها، يُشبَّهُ أفرادها الأكارم كلُّ غبيٍّ من بني الإنسان. فيقولون: فلان حمار، وفلانة حمارة، وفلان جحش، وفلان بغل.

ترى ما الظلالُ التي تلقيها هذه الأسماءُ في التصوِّر البشري حتى يتنبَّه مركزُ الضحِكِ في الدماغ فنضحك؟ سؤالٌ ليس من السهل الإجابةُ عنه إلا على سبيل الافتراض.

والحمارُ لفظًا ربما كان مشتقًا من فعل حَمِرَ بمعنى أكل الشعير حتى أُتخِمَ، فالحمار على هذا آكل الشعير المُتخَم. ومنهم من يردُّ اللفظ إلى كلمةِ أحمر. ولا أرى أنه كذلك لأن لون الحمار لا يكون أحمر، اللهم إلا إذا خجل!! والحمارُ كما نعرف مطلِّقُ الخجل.

واسم الحمار في العبرية "حامار" أو "حامور" وهما شبيهان باسمِه في العربية ويُقال إن الكلمتين العبريتين تعنيان الحمل والقوة. وهاتان الصفتان من صفات الحمار سواء كان عربيًا أم عبريًا. ومن المحتمل أن تكون العربية قد استعارت من العبرية هذا الاسم بعد تبديل صيغتِه من "حامار" إلى حمار. وهذا الأمر شائع بين اللغات.

وإذا كان العربُ قد ألفوا تسمية أبنائهم وبناتِهم ببعض أسماء الحيوانات، فقد ورد في المحيط أنهم سمَّوْا حمارًا وحُميرًا (تصغير حمار). وعِياض بنُ حمار محدِّثٌ معروف روى عنه الإمامُ أحمد جملةَ أحاديث. وعمروَ بنُ سفيان بنِ حمار بنِ أوسٍ البارقي المشهور بالمعقِّر سُمِّيَ جدُّه حمارًا. ومن شعره البيت المشهور:

وألقت عصاها واستقرَّ بها النوى          كما قرَّ عينًا بالإياب المسافرُ[1]

وقد تمثلت عائشة أمُّ المؤمنين بهذا البيت حين بلغَها نبأُ مقتل عليِّ بنِ أبي طالب.

أما من تسمى بحُميِّر تصغير حمار فكثيرون. منهم حُميِّر بنُ عَديّ وحُميِّر بنُ أشجع صحابيَّان. ووالد توبةَ ابنِ الحميِّر صاحبُ ليلى الأخبَليّة شاعرٌ معروف في سجلِّ العاشقين. وأشهرُ من تُسمَّى بجحش والدَ زينب بنتِ عمةِ الرسول (ص) وزوجةِ زيدِ بنِ حارثة ربيبِ الرسول. فلما طلقها تزوجَها الرسولُ بأمرٍ من السماء.

أما الحمارُ لقبًا فقد سبقتْه (ذو) بمعنى صاحب لقبًا للأسودِ العَنسي الكذَّاب المتنبئ. وسببُ تلقيبه ذا الحمار أنه كان له حمارٌ أسود معلَّم. يقول له: أسجدُ لربك فيسجُد له. ويقولون له: إبرُك فيبرك. والحق أن هذا الدجَّال لم يأتِ بجديد، ولم يقدِّم معجزة، فكثيرٌ من الحيوانات تستجيب للإنسان في الأوامر والنواهي، ومروضو السيرك يعرفون هذا جيدًا. وتطيعُهم حيواناتُهم بالتدريب والتعزيز (تقديم أكلة ترضي الحيوان فورَ قيامِه بحركة مطلوبة).

ولعل أشهرَ من لُقِّبَ بالحمار هو مروانُ بنُ محمد آخرُ خلفاء بني أمية. يقال إن العباسيين لقبوه به سخريَّةً منه. غير أن روايةً أخرى تقول إن لقبَه هو "حمار الجزيرة الوحشي" وهو لقب يُقصَدُ به المديحُ لا الذم. فالحمارُ الوحشي عند العرب من أنبل الحيوانات في الصيد.

وللحمار عددٌ من الكُنى منها: أبو زياد وأبو محمود وأبو جحش. أما البغلُ ولد الحمار من الفرس وتُدعَى (الرُمَكة) فكنيتُهُ أبو قموص. (والقَمص أن يَرفع البغلُ يديه ويطرحُهما معًا). ويُكنَّى أيضًا أبا حرون (والحرون من الدواب ما يمتنع عن المسير حين يستحث عليه) وله كُنى أخرى لا مجالَ هنا لذكرها.

الحمار في سفينة نوح

يروي الجاحظ في كتابه الحيوان عمَّن لا علمَ عنده (يعني أن الحكاية تركيبة كما في الأساطير) أن الحمار لما دخل سفينة نوح، وكان آخر من دخل، تمنَّع بعسرِه ونكدِه. وكان إبليسُ قد أخَذَ بذنبه. وقال آخرون: بل كان في جوفه. فلما قال نوحٌ للحمار: ادخلْ يا ملعون ودخل الحمار دخل إبليس معه إذ كان في جوفه. فلما رأى نوحٌ إبليسَ في السفينة قال: يا ملعون، من أدخلك السفينة؟ قال: أنت أمرتني. قال: ومتى أمرتك؟ قال: حين قلت لي: ادخل يا ملعون، ولم يكن ثمَّ ملعونٌ غيري.

وعلى هذا فنحن ننعَم بوجودِ إبليس بيننا بفضل ذلك الحمار!!

وأحمد شوقي يحكي عن ذلك الحمار الذي استقر على السفينة مع أتانِه حكايةً طريفة؛ فالسفينة مع ما عليها من مخلوقاتٍ بشرية وحيوانية، كانت تغالب أمواجَ الطوفان التي تحيط بها. ويبدو أن الحمار كان يقف قريبًا من حافةِ السفينة، فسقط. يصف أحمد شوقي الحدث في موقعه كما يصف مراسلو التلفزيون الأحداث لمحطاتهم، فيقول:

سقط الحمار من السفينة في الدجى                فبكى الرفاق لفقده وترحَّموا
حتـى إذا طلع الصباح أتت بـــــــــــــــــه                نحو السـفينة موجـة تتقدَّمُ
قالت: خذوه كما أتاني سالـمــــــــــــــــــًا                لـم أبتلعه لأنـه لا يُهضَمُ

(أحمد شوقي. S.O.S سفينة نوح. موسكو!)

ولما كنتُ مغرمًا بالبحث والتقصي ولاسيَّما في مجال التحقيق الجنائي. طرحتُ على نفسي سؤالاً محددًا: من صاحبُ المصلحة في التخلص من الحمار؟ ومن الذي دفعه وأسقطه في الطوفانِ الذي لا ينجو منه أحد؟

إبليس؟ مستبعَد. أولاً لأنه يحفَظ الجميلَ للحمار حين استقرَّ في جوفِه ودخل معه السفينة. ثانيًا لأن من مصلحةِ إبليس أن يكثر الحميرُ على الأرض بعد انحسار الطوفان! فليس من المعقول أن يصفِّيَ المنجبَ الوحيدَ للحمير. وحامت شكوكي حول الأتان زوجته. فبعد أن انتشل الرفاقُ الحمارَ من بحر الطوفان وأنعشوه حتى عاد حمارًا سويًا، اقتربت منه رفيقةُ دربِه الأتان، وقالت له: الحمد لله على السلامة! أرأيتَ كيف أن الموجة لم تبتلعْكَ لأنك لا تُهضَم؟ فلم يجب. وأردفت قائلة: أنت عرَّضت نفسك للخطر بوقوفك على حافة السفينة. من تحسَبُ نفسَك؟ ليوناردو دي كاپريو[2] في التايتانيك تتباهى أمام تلك الفرس التي كنت تدورُ حولَها قبل الطوفان؟ فلم يجب.

هنا أدركتُ أن الدافعَ عند الأتان للتخلص من الحمار قوي جدًا. وزاد يقيني بأنها هي التي دفعته بعد أن نهشت قلبَها الغيرةُ المحرقة. وقلتُ أتابع التقصِّي.

حين انحسَرَ الطوفان، وأقبلت حمامةُ السلام تحملُ غصن الزيتون. نزل الجميعُ إلى الأرض، وأعرسَ كلٌّ إلى رفيقة دربه. وولدتِ الأتانُ بعد مرةٍ ولدًا يشبه أباه، ومن شابه أباه فما ظلم، سمَّياه جحشًا. ومنذ ذلك الوقت تأسست أسرة الحمير. لكن الحمارَ في تجوالِه بحثًا عن الدَّريس والشعير، التقى الفرسَ الجميلةَ التي كان التقاها في سفينة نوح. وراودَها عن نفسِها هذا (المحشوم الآدمي). فتمنعت في البداية، فهو يعرف أنهن يتمتعن وهنَّ راغبات. ثم استجابتْ. ومضت الشهور فولدت ولدًا أقوى من أبيه الحمار، لكنه يشبهُه في بعض السمات، ومن شابه أباه فما ظلم، وقالت لزوجها الحصان: "انظر إلى هذا المهر الجميل. لشد ما يشبهُكَ الشبهَ كلَّه، ومن شابه أباه فما ظلم"، فثار الحصانُ وهمهم: "أيتها الخائنة، هذا الولدُ لا يشبهني، وليس بمهر. لعل أباه كان ذلك الحمار، الذي كان يتجول في الجوار. أنا أعرفك جيدًا. لقد كنتِ ضعيفةً أمام ذلك الحمار، فكان أن حملتِ منه هذا البغل. سأنتقم من ذلك الحمار. وسأراود أتانَه عن نفسِها كما فعلَ معك". فقالتِ الفرس: "لكنك ستكون حمارًا لو فعلتَ ذلك، فتلك الأتان (الشرشوحة) لا تدانيني في جمالي ولا تصل إلى كعبِ حافري". ونفَّذ الحصان تهديده، وارتمتِ الأتانُ بين ذراعيه دون تمنُّع، انتقامًا من زوجها الحمار الخائن. وبعد شهور ولدتِ الأتان ولدًا يشبهُ ذلك البغل. وقالت للحمار: "انظر إلى ولدك الجحش الفائق الجمال". فقال لها الحمار: "أنا لا أعترف به، وهو ليس جحشًا. وإنما هو نغل". فقالت الأتان: "هذا النغلُ يشبهُ ذلك البغل[3] الذي ولدته تلك الفرس". فسكت الحمار ولم يجب. وعرف أن الجزاء يكون من جنس العمل، وكما تدين تُدان. وبدأ يفكر في التزام العفة، مع العلم أن التزام العفة في مجتمعِ الحمير أمرٌ بالغ الصعوبة.

صوت الحمار

في القرآن الكريم ينصحُ لقمانُ ابنَه فيقول له: "واقصِد في مشيك واغضُض من صوتك. إن أنكر الأصوات صوت الحمير". هذا الصوت المنكر يدعى النهيق أو النهاق. قال عروة:

لعمري إن عشَّرتُ من خشيةِ الردى        نُهاق الحمير إنني لجزوعُ

والتعشير متابعة الحمارِ النهيقَ عشرَ نهقات وعشرَ ترجيعات. وكان العربُ إذا دخلوا القرى عشَّروا تعشيرَ الحمار على سبيل دفع الشر. وقد تسربت هذه العادة من اليهود[4].

والزفيرُ أولُ صوته والشهيقُ آخرُه. فإذا اشتد النهيق سُمّيَ بالسَّحيل. والشحيجُ صوتُ البغل[5].

في الكتب المقدسة

في القرآن الكريم ذُكِرَ "الحمار" مرتين وذكرتِ الحميرُ مرتين وذكرت "الحُمُر" مرة واحدة. وإليكم التفصيل: في سورة الجمعة قال تعالى: "مثلُ الذين حُمِّلوا التوراةَ ثم لم يحملوها كمثَل الحمار يحمل أسفارًا. بئس مَثَلُ القومِ الذين كذبوا بآيات الله، والله لا يهدي القومَ الظالمين".

هنا ضرب تعالى المثل وعقد التشبيه بين الذين لا يفقهون ما في التوراة، والحمار الذي لا يفقه ما على ظهره من كتب. والمخصوص بالذمِّ هنا اليهود وليس الحمار، فمن الطبيعي ألا ينتفعَ الحمارُ بالكتب التي يحملُها، لأنه غير مؤهلٍ للقراءة والفهم أصلاً. أما اليهود فيفترض فيهم أنهم عقلاء ومؤهلون لفهم التوراة، ومع ذلك لم يتدبروها، فهم إذًا أدنى مرتبةً من الحمار. فالموازنة هنا معقودة بين من يعقل لكنه لا ينتفع بعقلِه وبين من لا يعقل أصلاً.

ولعل هذه الآية هي التي جعلت الناس يطلقون صفة حمار على الآدمي الذي لا يفهم ولا يحاول أن يفهم. فهو حمار أو جحش.

وفي سورة البقرة قال تعالى: "أو كالذي مر على قرية وهي خاويةٌ على عروشها. قال: أنَّى يحيى هذه اللهُ بعدَ موتها؟ فأماتَه الله مئة عام ثم بعثه. قال: كم لبثتَ؟ قال: لبثتُ يومًا أو بعضَ يوم. قال: بل لبثتَ مئةَ عام. فانظرْ إلى طعامِك وشرابِك لم يتسنَّهْ (لم يتغير) وانظر إلى حمارِك. ولِنجعلَك آيةً للناس. وانظر إلى العظام كيف نُنشِزُها ثم نكسوها لحمًا. فلما تبيَّنَ له قال: أعلم أن اللهَ على كل شيء قدير".

فالحمار في هذه الآية وسيلةُ إيضاح تثبتُ قدرةَ الله على الإحياء. قال السدِّي:

تفرقت عظامُ الحمار حولَ المنكِرِ قدرةَ اللهِ على الإحياء (يقال هو عُزَير أو حَزْقيل بن بَوار) فنظر إليها وهي تلوح من بياضها، فبعث الله ريحًا فجمعتها من كلِّ موضعٍ من تلك المحلة، ثم رَكَّبَ كلَّ عظمٍ في موضعِه حتى صار حمارًا قائمًا من عظامِ لا لحمَ عليها. ثم كساها الله لحمًا وعصبًا وعروقًا وجلدًا وبعث الله ملكًا، فنفخ في مِنخري الحمار، فنهق بإذن الله عز وجل، وذلك كله بمرأى من عُزَير.

أما كلمة "حمير" فوردت في سورة لقمان في الآية التي قدمناها في حديثنا عن صوت الحمار. ووردتْ في سورةِ النحل في قوله تعالى: "والخيلَ والبغالَ والحمير لتركبوها وزينة، ويخلُق ما لا تعلمون". وهذه الحيواناتُ معطوفة على الأنعام التي خلقها الله لمصالح البشر. والحمير هنا مقرونة بالخيل والبغال من أسرتها وهي للركوب والزينة.

أما كلمة "حُمُر" فهي جمع حمار وهو يجمع كذلك على أحمرة وحُمور وحُمُرات ومحموراء. جاء في سورة المدِّثر قوله تعالى: "فما لهم عن التذكرةِ معرضين؟ كأنهم حُمرٌ مستنفِرَة، فرَّت من قسْورة". يذكِّر أهلَ جهنم الذين أعرضوا عن الهداية وفرُّوا منها كما تفرُّ الحمير الوحشية إذا لاح لها أحد الحيوانات المفترسة.

وفي الآياتِ جميعها لا نجدُ الحمارَ مذمومًا إلا في أن صوته منكر، وأنهُ غير مؤهل للقراءة والاستيعاب. ولم يطالِب الحمارُ ولا غيرُه أن يكونَ مطربًا أو مثقفًا!

غير أن ما لفتَ انتباهي وأنا أقرأُ في تفسير ابن كثير، حديثٌ شريف لا أدري مدى صحته، في معرض تفسير آية "وكلَّمَ اللهُ موسى تكليمًا" في سورة النساء. فقد روى الحاكم في مستدركه وابنُ مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسولُ الله (ص): "كان على موسى يومَ كلمهُ ربه جبَّةُ صوف، وكساءُ صوف، وسراويلُ صوف، ونعلان من جلد حمار غير ذكي". فالسؤال هنا: هل هنالك حمارٌ ذكي وحمارٌ غير ذكي؟ ثم ما الحكمة في أن يكون نعلا موسى من جلد حمار غير ذكي؟ نترك الإجابة عن هذا إلى السادة أصحابِ الفضيلةِ العلماء، فهم المرجعُ في أمورِ التفسير وتحقيقِ الأحاديث الشريفة.

هذا في القرآن الكريم أما في التوراة، فقد جاء في سفر التكوين، أن أبرام حين دخل مصر وزوجتُه ساراي وكانت حسنةً جدًا ادعى بأنها أختُه، فأُخِذَت إلى بيتِ فِرعون. وقدَّم فرعون إلى أبرام بسببها، وكان يجهلُ حقيقتها، غنمًا وبقرًا وحميرًا وعبيدًا وإماءً وأتُّنًا وجمالاً. فضرب الربُّ فرعون وبيتَه ضرباتٍ عظيمة بسبب ساراي امرأة أبرام. فدعا فرعونُ أبرام وقال: ما هذا الذي صنعتَ بي؟ لماذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لماذا قلتَ هي أختي حتى أخذتُها لتكون زوجتي؟ والآن هوذا[6] امرأتُك. خذْها واذهب. فأوصى عليه فرعونُ رجالاً فشيعوه وامرأتَه وكلَّ ما كان له.

فالحمير هنا جزء من إنعام فرعون على أبرام. وذكر الحمار في التوراة 138 مرة وهنالك ستُّ وصايا على الأقل للاهتمام بالحمار في سِفرَي الخروج والتثنية، مثل: "إذا صادفت ثورَ عدوكَ أو حماره شاردًا تردُّه إليه". وهذا في الواقع في أخلاقيات التعامل مع العدو أكثر مما يتصل بالاهتمام بالحمار.

ولا يُذكرُ الحمارُ في الإنجيل إلا قليلاً. لكنهم يروون أن المسيح دخل أورشليم، وهي القدس عندنا، وهو يركب جحشًا كملكٍ للسلام، ولم يركب الفرسَ كملكٍ يذهب إلى الحرب والقتال!

وجاء في دائرة المعارف الكتابية تعليقٌ على ذكرِ الحمار في التوارة والإنجيل يقول: جرت العادة أن يُضرَبَ المثلُ بالحمار في العِناد والغباء والبَلادة. لكن لا شيء من هذا في الكتاب المقدس. بل قيلَ إن الحمارَ يعرفُ مَعلفَ صاحبِه. فهو أذكى من الشعب الخاطئ.

وما دمنا نتنزَّه مع الحمار في الماضي السحيق، فبعضُ الروايات العربية تذكرُ بلقيس ملكةَ سبأ وتقول: إن ساقيها كساقي حمار. وذلك بسبب توحُّمِ أمِّها على حمار[7]. أستحلفكم بالله هل هنالك امرأةٌ حبلى في العالم، يمكنُ أن تتوحَّمَ على حمار؟! أغلبُ ظني أنها كانت كثيفة شعر الساقين، ولم يكن لديها من الوسائل المزيلة للشعر ما هو متوافر اليوم، فشبَّهوا ساقيْها بساقيْ حمار ليس غير.

وجاء في كتاب الحيوان للجاحظ: أن موسى قال للخِضْر وهو صاحبُه: "أيُّ الدواب أحبُّ إليك وأيُّها أبغض؟" قال: "أُحِبُّ الفرسَ والحمارَ والبعير لأنها من مراكبِ الأنبياء، وأبغِضُ الفيلَ والجاموس والثور. فأما البعيرُ فمركبُ هود وصالح وشعيب والنبيين عليهم السلام. وأما الفرسُ فمركبُ أولي العزم من الرسل وكلِّ من أمرَهُ الله بحملِ السلاح وقتالِ الكفار. وأما الحمارُ فمركب عيسى بن مريم وعُزيز وبَلعم. وكيف لا أحبُّ شيئًا أحياه الله بعد موتِه قبل الحشر؟" (يقصد حمار عُزيز الذي أماته الله مئة عام).

في الأمثال العربية

في العام 1956 كان لي في الإذاعة السورية برنامج بعنوان "لكل مثل قصة" كنت أعده معتمدًا على مجمع الأمثال للميداني، فأحول قصة المثل إلى تمثيلية إذاعية. ومن أطرف الأمثال التي أعددتها آنذاك مثل:

"ذكَّرني فوكِ حِماريْ أهلي"

وقصته أن رجلاً خرج يطلب حمارين ضلاّ له، فرأى امرأة متنقبة، فأعجبته حتى نسي الحمارين. فلم يزل يطلب إليها أن تَسفِرَ عن وجهها حتى سَفَرَت له، فإذا هي فوهاء (فمها كبير وأسنانها كبيرة وطويلة كأسنان الحمار) فتذكر الحمارين وهمَّ بالمسير. فقالت له: إلى أين؟ فقال لها: ذكرني فوك حماريْ أهلي. ومضى على وجهه هاربًا وهو ينشد:

ليتَ النقابَ على النساءِ محرَّمٌ              كيلا تَغَرَّ قبيحةٌ إنسانا

وفي مجمع الأمثال بعضُ الأمثال التي تبدأ بحمار أو تنتهي بحمار. وأما المثل الذي حكينا قصتَه فالحمار توسط المثل. فمن الأمثال التي تبدأ بالحمار قولهم:

"الحمار على كَراهُ يموت"

والكرى هنا العدْوُ الشديد. والمعنى أن الحمار يموت وهو جادٌّ في الوصول إلى الغاية. وكذلك لا تُدرك الغايات إلا بالمتاعب. ومن الأمثال التي تنتهي بحمار قولهم:

"أكفرُ من حمار"

وحمار هنا اسمٌ لرجل من عاد. وقيل أيضًا هو حمارُ بنُ مالكٍ الأزدي. كان مسلمًا أربعين سنة في كرم وجود، فخرج بنوه عَشرةً للصيد، فأصابتهم صاعقةٌ فهلكوا، فكفر، وقال: لا أعبد من فعل ببَنيَّ هذا، فأهلكه الله تعالى، وأخرب واديَه الخصب، فضُرب بكفره المثل.

والأمثال الثلاثة ليست إلا نماذج، فمن شاء التوسعَ والاستزادة، فسبيلُه كتبُ الأمثالِ والأدب.

في الشعر العربي

لعله من الطبيعي أن يذكَر الحمارُ في الشعر العربي، لأن البيئة العربية حافلةٌ بالحيوانات المستأنسَة التي تنفعُ العربي في الصحراء في الحلِّ والترحال. والحمار أحد هذه الحيوانات. وهو ممدوحٌ تارةً ومذمومٌ تارةً. ومن العرب من لا يركبُه أبدًا.

أشهر من وصف الحمير في الجاهلية الشمَّاخ بنُ ضرارٍ الذبياني[8]، ووصفُه للحمر الوحشية يمثِّل أكبرَ نسبةٍ من شعره. يتحدث عن غيرة الحمار على أتانِه وعراكِه مع أقرانِه من أجلها فيقول:

مُدِلٌّ شرَّد الأقرانَ عنه             عراكٌ ما تعاركه الحميرُ

ولولا أن شعرَ الشماخ عسيرُ الفهم على الناس في عصرِنا لاستشهدتُ من شعره بأبياتٍ أخرى.

ويذكر الشعراءُ في شعرِهم دونَ أن يُعنَوا بوصفه أو يتعرضوا لذمه أو مدحه. يصف عمرو الباهليُّ جاريةً فيقول:

لها رِطل تكيل الزيتَ فيه          وفلاحٌ يسوقَ لها حمارا

لكن أشهرَ بيتٍ في الشعر العربي يتداولُه الناس قولُ أحدهم:

لقد ذهبَ الحمارُ بأم عمرو                 فلا رجعت ولا رجعَ الحمارُ

ومن الشعراء من يذكر الحمارَ مذمومًا كقول أحدهم يهجو بني زياد:

ألا قَبَح الإلهُ بني زيادٍ            وحيَّ أبيهمُ قبحَ الحمارِ

وقول الآخر يهجو الموالي:

فما المولى وإن عرُضَت قفاهُ               بأجمل للملاوِم من حمارِ

والملاوم هنا اللائم الذي يعذل وينتقد وقلما يعجبه شيء. فالمولى مهما تجمَّل وتحسَّنت أحواله لا يعدو أن يكون في نظر اللائم حمارًا. ولعل هذا البيت قد قيل أيام الشعوبية.

وقال الزمخشري يسخر من راكبِ الحمار:

إن الحمارَ ومَن فوقَه             حمارانِ. شرُّهما الراكبُ

وقال أحد النحويين لرجل خاصمه:

عاديتنا، لازلتَ في تبابِ           عداوةَ الحمارِ للغرابِ

ويبدو أن الغراب من الطيور التي تزعج الحمار وتضايقه، حين تحط عليه، وتنقر في شعره أو لحمه. وربما كان الغراب حسنَ النية ينظف الحمارَ مما علق به من ذباب أو هَوام وهو في الوقت نفسِه يتغذى بها.

تلك أمثلةٌ من شعرِ القدامى في الحمار، وتقصِّي المزيد يخرجنا من حيز المحاضرة إلى حيز الموسوعة الحميرية، ولستُ معنيًا بذلك في الوقت الحاضر على الأقل.

وفي العصر الحديث، نظم أحمد شوقي بعضَ القصائد يحكي فيها بعضَ حكايات الحيوان، وهي مثبتةٌ في الجزء الرابع من الشوقيات تحت عنوان "الحكايات". وهي ليست للأطفال كما يُخيلُ إلى بعض الناس. لكن مؤلفي الكتب المدرسية للمرحلة الابتدائية لا يجدون حرجًا في تضمين هذه الكتب بعضَها مما كان سهلاً طريفًا. وقد ذكرنا حكاية الحمار الذي سقط من سفينة نوح. وهنالك حكاية أخرى طريفة جرت بين ثعلب واسمُه ثُعالة (والثعالة في الأصل أنثى الثعلب) وحمارٍ كان في الجوار جاء يزوره:

أتى ثعالةَ يومًــــــــــــــا              من الضواحي حمارُ
وقال: إن كنت جاري              حقًا ونعمَ الجــــــــارُ
قل لي فإني كئيــــــبٌ               مفكرٌ، محتـــــــــــــارُ
في موكب الأمسِ لما             سرنا، وسار الكبارُ
طرحت مولايَ أرضــــًا              فهل بذلك عــــــــــارُ؟
وهل أتيتُ عظيمــــــــــًا؟            فقال: لا يا حمارُ

وللحمار عند أحمد شوقي حكايةٌ أخرى، جرت بين حمار وجمل، هي أبلغُ وأجمل:

كان لبعضهم حمارٌ وجمـــــــــــــلْ              نالهما يومًا من الرق الملــــــلْ
فانتظرا بشائرَ الظلمـــــــــــــــــــــــاءِ             وانطلقا معًا إلى البيــــــــــــــــداءِ
يجتليان طلعةَ الحريـــــــــــــــــــــــهْ              وينشَقان ريحَها وعشبِهــــــــــــا
وبعد ليلةٍ من المسيــــــــــــــــــــــر              التفتَ الحمارُ للبعيـــــــــــــــــــــــــرِ
وقال: كربٌ يا أخي عظيــــــــــمُ               فقف. فمشيي كله عقيـــــــــــــمُ
فقال: سَل فِداك أمي وأبــــــــــي              عسى تنال بي جليلَ المطلبِ
قال: انطلقْ معي لإدراكِ المنى              أو انتظرْ صاحبَكَ الحرَّ هنَا
لابد لي من عودةٍ للبلــــــــــــــــــدِ              لأنني تركتُ فيه مِقــــــــــودي
فقال: سر والزم أخاكَ الوتِـــــدا              فإنما خلقتَ كي تقيّــــــــــــــدا

أما سليمان العيسى فيذلِّلُ إحدى حكايات الأطفال بأغنية يغنيها الحمارُ بمصاحبة عصافير الأشجار. والحمار بهذه الأغنية يعترف بخطأه للشجرة التي قيَّدته حيواناتُ الغابة بها، لأنه غشها وتنكر بثياب غيره وأخذ يتحكم بها. تقول الأغنية:

أخطأتُ يا ذاتَ الرداءِ الأخضرِ
أخطأتُ مدِّي لي رداءكِ واغفري
أخطأت حين حملتُ غيرَ طبيعتي
ونسيتُ كل حقيقتي
ولبستُ جلدًا غيرَ جلدي الأسمرِ

طرفة

رجاني مرة أحد الأصدقاء أن أدلَّه على كراج موثوق به لتصليح سيارته. فقلت له: اذهب إلى فلان في المكان الفلاني، وقل له: فلان دلني عليك، وأعتقد أنه لن يقصر في خدمتك. فذهب. وبعد مرة رأيت صديقي فقلت له: كيف؟ إن شاء الله مشى الحال وصارت سيارتك على ما يرام. فقال لي: صاحبك طلع حمار. أصلح السيارة ودفعت المبلغ المرقوم. ورجعت السيارة (تقطش) الطلعة.

في الأدب القصصي

للحكاية عند العرب شأن. فهم مولعون بالحكايات في أسمارهم، وهي حكاياتُ ما يجري في يومهم، أو جرى في زمن مضى، وهذا النوعُ فيه خيالٌ ومبالغات. وهنالك القصص الديني الذي كثيرًا ما يُحاط بهالة مقدسة ويروي كثيرًا من الغرائب والخوارق.

وفيما بعد عرف العربُ الحكايات المترجمة عن اللغات الأخرى كالهندية والفارسية. وأشهر كتاب مترجم كليلة ودمنة لابن المقفع. وحكايات تتحرك فيها الحيوانات، وتحمل الكثير من ضروب الحكمة والسياسة. وهي قطعًا ليست موجهة إلى الأطفال. لكن الاستفادة منها في أدب الأطفال ممكنة. وفي كليلة ودمنة حكاية أو أكثر عن الحمار، يضيق المقام عن حكايتها.

وفي ألف ليلة وليلة حكايات عن الحيوانات ربما استُلهِمَت من كليلة ودمنة، منها حكاية الحمار والثور. وملخَّصها أن الثورَ المتعب شكا لصديقه الحمار تعبَه من الحراثة. فنصح له الحمار أن يتمارض، فلما فعل وامتنع عن تناول العلف أخذ الفلاح الحمارَ بدلاً منه، فأُرهِقَ الحمارُ وندم على نصيحتِهِ الثور بالتمارض. وحين سأله الثورُ عن حاله، قال له: إنه سمع الفلاح يعلن أنه عازم على ذبح الثور إن هو بقي مريضًا. فخاف الثور وأكل علفه وعاد نشيطًا. فارتاح الحمار.

وفي المقامات التي ابتكرها الهمذاني ذكرٌ عارض للحمار في المقامة البغذاذية. يقول على لسان أبي الفتح الاسكندري:

اشتهيت الأذاد وأنا في بغداد، وليس معي عقد على نقد. فخرجت أنتهز محاله. حتى أحلني الكرخ. فإذا أنا بسوادي يسوق بالجهد حماره ويطوف بالعقد إزاره.

وأذكر أنني في العام 1967 قد ضمنت هذه المقامة الطريفة برنامجي "أبجد هوز" في التلفزيون السوري. واحتجنا إلى استئجار حمار. فدخلت على مدير التلفزيون آنذاك لآخذ موافقته على استئجار حمار فقال لي مازحًا وهو يضحك: ألم تجدوا أحدًا يقوم بهذا الدور؟

أما أشهر حمار في الأدب القصصي فهو حمار جحا. وأشهر حكاية تروى عنه هي التالية: ركب جحا حماره ومشى ابنه الصغير خلفه. ومرَّا ببعض النسوة فشتمنه وقلن له: أيها الرجل. أما في قلبك رحمة؟ تركب أنت وتدع الصبي الضعيف يعدو وراءك؟ فنزل جحا عن الحمار وأركب ابنَه. ومرَّا بجماعة من الشيوخ فقال أحدهم لجحا: تمشي وأنت شيخ وتدع ولدك يركب الحمار. حقًا إنك أفسدت تربيته وعلمته عقوق الآباء. عندئذ قفز جحا إلى ظهر الحمار وركب وابنه معًا. ومرَّا بجماعة الرفق بالحيوان فقال أحدهم: أما تتقيان الله بالركوب معًا على هذا الحيوان الهزيل؟ فنزل جحا وابنه عن ظهر الحمار وساقا الحمار أمامهما. فمرا ببعض الخبثاء من الأولاد فقال أحدهم: تمشيان والحمارُ معكما ولا تركبانه. لقد حَق للحمار أن يركبكما. فأخذ جحا عصًا متينة وربط أرجل الحمار وعلقها وابنه بالعصار وحملا الحمار كل من طرف. فلحق بهما أهل البلد وهم يهتفون: مجانين... مجانين. وقبض الشرطة على جحا وابنه وأخذاهما إلى مستشفى المجانين. وفي الطريق قال جحا لابنه: أرأيت يا بني؟ رضى الناس غاية لا تُدرَك.

وضاع حمار جحا فأخذ يصيح: ضاع الحمار والحمد لله. فسأله أحدهم: ولماذا تحمَد الله على ضياع حمارك. فقال: أحمد الله لأنني لو كنت راكبَه لضعتُ معه ولم أجد نفسي.

ورجاه بعض جيرانه أن يعيرَه حماره، فاعتذر جُحا بأن حمارَه ذهب ليرعى، فنهق الحمار. فقال له جاره: كيف تقول إن حمارك ذهب يرعى وأنا أسمع نهيقه؟ فال له جحا: سبحان الله أتكذبني وتصدق الحمار؟

وكان جحا يركب حمارًا ومعه ستةُ حمير، يعدُّهم فيجدهم ستة. ينزل عن الحمار ويعدُّهم فيجدهم سبعة. قال: أنزل وأمشي وأربح حمارًا فذلك خير من أن أركب وأخسر حمارًا. بذمتكم من منهما الحمار جحا أم حماره؟

في التراث الشعبي

أكثر ما تعيه ذاكرتي ما رواه لي والدي عن استخدام الحمار في التشهير بمذنب كاللص مثلاً. فهم يُركبون المذنب مقيدًا على حمار بالمقلوب، رأسه عكسَ رأس الحمار في الاتجاه. ويسير أحدهم يحمل جرسًا بيده يقرعه، وينادي الناس ليتفرجوا على المذنب، ويتجمع الناس حول المشهد ومنهم من يبصُقُ في وجهِ المذنب أو يشتمُه. ويُسمي العامةُ هذا (تجريسًا) لاستخدام الجرسِ في تنبيه الناس. وقد دخلت كلمةُ التجريس معجم العامية بمعنى الفضيحة. والتشهير فضيحة.

وفي مصر يستخدمون الحمار الاستخدامَ نفسه لغرض آخر. فهم يُركبون طفلاً من أسرة لم يعش لديها طفل، ويلبسونه لباسًا خاصًا ويضعون على رأسه الريش. ويسير الحمار بالطفل بين جموع أهل الحارة وهم يغنون: يا بو الريش إن شا الله تعيش.

ومن الأغاني التي أذكرها وأنا طفل، أغنية سلّوا لي حماري. تقول كلمات الأغنية:

سلّوا لي حمـــاري                  سلّوا لي حماري
حشيش ما بياكل                  عليقه غـــــــــالي

وهي من مقام الصبا الذي يحمل مسحةَ حزن. وربما كان المقصود بالحمار هنا الطفل المدلل.

أما الأمثال الشعبية الشامية، فمنها عدد من الأمثال التي تحتوي الحمار منها:

-       فلان بيدور مثل حمار الطاحون

-       فلان حمار معبّا ببنطلون

-       فلان حمار شغل

-       اربوط الحمار مطرح ما بيقلك صاحبو

-       حمار حاخام أهبل شيطان

-       الحمار بيوقع بجوره تاني مرّه بيبعد عنها

-       قالوا: حمار طرد (ضرط) نار. قالوا: ما احترق ذنبو؟

-       أو قالوا: اسماع وسطّح.

-       جواز قبرصي. وقبرصي هنا صفة لحمار شديد الرفسة (الجواز: لأن الحمار يرفس بكلتا رجليه الخلفيتين من يقف وراءه وجواز محرفة عن زوج بمعنى اثنين) هذا المثل تقوله الزوجة لزوجها حين يقول لها: راح أتجوز عليك. فتقول له على سبيل التورية: إن شا الله جواز قبرصي. أي تدعو عليه أن يرفسه حمار قبرصي رفسة مميتة. وكلمة جواز هنا تعني الرفسة ولا تعني الزواج.

-       مثل حمير الترّابه

-       من استغصب ولم يغضب فهو حمار

-       فلانه راكبه جوزها ومدندله رجليها (كناية عن أن زوجها حمار) أو مطوطحه

-       يللي طالَع الحمار عالمادنه بينزلو

وفي الأمثال الشعبية الحلبية طائفة من الأمثال التي تذكر الحمار. منها:

-       فلان بيلهي الحمار عن عليقو

-       فلان متل حمار الزير بتسوقو مُبلي بيمشي شمالي

-       فلان متل حمار العرس بتشَيْلو زبل بيشيل، بتشيْلو دَهب بيشيل

-       الحمار حمار لو حمل خزنة السلطان

-       لا ناخد الرفسة الماكنه إلا من الحمار الضعيف

-       إيش عرّف الحمير بأكل الجنزبيل (الزنجبيل)؟

-       بعد العوالي ركبنا الحمير.

وتتبّع الأمثال الشعبية في سورية والبلاد العربية والبحث فيها عن الحمير ربما احتاج إلى باحث متفرغ لتقديم رسالة دكتوراه في هذا المجال.

وقد لفت انتباهي تعبير دارج على ألسنة المصريين حين يعجَز أحدُهم عن حزر (فزورة) فهم يسألونه: غُلُب حُمارَك؟ أي هل عجزت؟ وغلْبُ هنا تعني بذل أقصى الجهد باللهجة المصرية. كقول محمد عبد الوهاب:

وغلبت أشكي وغلبت أبكي        لا الشكوى نفعت ولا البكايا

وحمارك هنا تعني حمار العقل. والمعنى العام هل بذل حمار عقلك أقصى جهده ثم توقَّف؟ وهذا يشبه القول الفصيح: وقف حمار الشيخ في العقبة. كناية عن العجز.

حواري مع حماري

ونحن نتنزه على ظهر حمار، اسمحوا لي أن أحاوره لنعرف أصلَه وفصلَه.

-       يا أنيسي... كيف حالُك؟ هل أنت متعب من ركوبي عليك في هذه النزهة الطويلة؟

-       أبدًا. على العكس. أنا مستمتع بهذه النزهة، ولاسيما أنك تقدم إلي علفي المفضل والماء النظيف. أهو من نبع بقين؟

-       حزرت... هو النبع الذي أشرب منه. وقد علمت أنك مغرم بالماء النظيف البارد فأحببت أن أنعشك.

-       أنا ممتن لك. وستجدني إن شاء الله من الشاكرين والصابرين. وأرجو ألا تفسر نهاقي يومًا بين يديك إلا زغرودة شكر.

-       عرفنا أنك دخلت سفينة نوح آخر الداخلين. وهذا يعني أنك كنت موجودًا قبل الطوفان. فهل لك أن تروي لنا شيئًا عن أصلك؟

-       كل ما رواه لي جدِّي أن الحمار الوحشي هو جدنا الأبعد الذي وجد منذ ألوف السنين. ونحن في الأصل من أفريقيا الشمالية. فاستأنسَنا المصريون القدماء قبل ثلاثة آلاف سنة من الميلاد، وكنا في غاية الالتزام بالطاعة والتحمل والعمل الدؤوب. لكن المصريين حسبوا صبرَنا وتواضعَنا غباء. وهم في ذلك ظالمون. تصور أنهم في كتابتهم الهيروغليفية يصورون رأس الحمار رمزًا للبلادة والغباء. ونحن منزعجون لأن المفاهيم أصبحت مقلوبة. أستحلفك بالله. هل الطاعة والصبر على المشاق غباء؟

-       على العكس هو ذكاء وتمسك بالفضائل. لكن الحمار في بعض الأحيان لا يقصر في إيذاء ظالمه، فهو إما أن يرفِسَه رفسةً برجليه الخلفيتين فيكسرَ عظامَه، أو (يعنفظ) ويقذف ركبه من فوق ظهره على الأرض فيقرِّب أجله.

-       نعم. يحدث هذا ردًا على سوء المعاملة وقلة الطعام ورداءة الماء. أما من يحسن إلينا فنخدِمه بعيوننا، ونقوم بجميع الأعمال من المحراث والدوران في الطاحون ووطء الحصيد وجر العربات، ونحمل الحمولة الثقيلة على الجانبين ولا نتشكى، ونصعد الجبال ونحن محملون أو مركوبون دون تذمر.

-       ومع هذا كلِّه فالناسُ يدللون الخيول ولا يدللونكم..

-       هذا حظنا أن نعيش مضطهدين ونعاشرَ الفقراء. الخيولُ للأغنياء لأنهم يريدونها للوجاهة والتباهي. وهم قادرون على دفع ثمنها والعناية بها. أما نحن فالأغنياء يحتقروننا ويشمئزون منا.

-       ليس دائمًا فالحمارُ الأبيض في الماضي، كما أعرف، كان مركوب الأغنياء والأمراء.

-       الحمار الأبيض يا أخي نادر. ولأنه نادر فهو مدلل. وهو بعدُ جميل الطلعة. والنادر لا حكم له.

-       عندي سؤال أرجو ألا يزعجك؟

-       تفضل أنا لا يزعجني شيء ما دمتَ صاحبي تعرفُ قدري.

-       هل صحيح أن لحمَك طيب.

-       هل تريد أن تأكلَني يا صاحبي؟ (ماكانش العشم).

-       ولو... هو سؤال فقط على سبيل المعلومات.

-       لحمي طيب. ومن الناس من يتفنن في تحضيره. لكن بعض الناس يخافون من أكله حتى لا تتسرب إلى شخصياتهم (الحمرنة)، على مبدأ قل لي ماذا تأكل أقل لك من أنت. وأود أن أعلمك أن حليبَ أتاني طيبٌ ومفيد. وجلدي إذا نفقت أي مُت يصنعون منه (الدربكات) التي ترقص على إيقاعها الراقصات الحسناوات.

-       هذا جيد. لكن هذا يذكرني بتهديد الشامي خصمه إذ يقول له: والله لساوي من جلدك (دربكات). فهو في هذه الحالة يصف خصمه (بالحمرنة) ويتهدده بسلخ جلده.

-       أرأيت؟ بنو آدم يتفننون بشتم بعضهم بعضًا. فيقول أحدهم للآخر: يا حمار. أو يباشره فيقول له: أنت حمار. أو أنت حمار ابن حمار. وهكذا. ولا يعلم أنه يكرمه ويمدحه بهذه الشتيمة، فنحن ملتزمون بالفضائل الإنسانية أكثر من الإنسان.

-       حقًا، أنت حمار. أي فضائل إنسانية تلك التي تتحدث عنها؟ أنتم معشر الحمير لديكم فضائل حميرية لأنكم مخلوقون لذلك، ولا يجوز لكم أن تغمزوا من قناة الإنسان وتسلُبوا فضائلَه وتنسبوها لأنفسكم.

-       هل انقلبت عليَّ؟

-       لا... وإنما يجب أن تعرف حدودك في النقاش. هل قرأت ما كتبه عنكم الجاحظ في كتاب الحيوان؟

-       لا... فأنا لا أعرف القراءة والكتابة. وأنا حمار غير مهيأ لذلك.

-       هذا أحسن. سأحكي لأصحابي ما كتبه الجاحظ عنكم في وقت آخر. لأنني لا أريد أن أؤذي شعورك.

-       هل ما كتبه الجاحظ في حق الحمير رديء؟

-       الجاحظ نقل بعض الروايات كما وصلت إليه. والأفضل ألا أرويها لك. فأنتم معشر الحمير أعرف بها.

-       على راحتك...

وانتهى حواري مع حماري. وأود أن أهمس لكم ببعض الروايات التي ذكرها الجاحظ في كتابه الحيوان. وبعضها لا يشرِّف الحمار.

الحمار وذوو القربى في الحيوان

طالعت ما كتبه الجاحظ عن الحمار وذوي قرباه في الأجزاء السبعة من الحيوان فبلغ أكثرَ من مئة نادرة، بعضُها مكرر. وأود أن أتجاوز ما ذكره عنه في أمور الجنس لأنه لا يليق بأدب المحاضرة. وكل ما يمكن أن يذكر في هذا الباب أن بعضَ الحمير لديه شذوذ جنسي كما هي الحال عند الخنازير والقطط والحمام والقردة وبعض بني الإنسان.

من أبرز صفات الحمار أنه يَهدي إلى الطرقات الآمنة ولاسيما في المرتفعات. وقد أخبرت أحد المهندسين من أصدقائي بأن الحمار أولُ مهندس طرقات. والحمر الوحشية أهدى من الأهلية وأطول عمرًا. والحمار حاد السمع. وربما كانت أذناه الطويلتان المتحركتان سببًا في ذلك. وهو يعرف الصوت الذي يأمره بالمشي (حاء) والوقوف (هش). وهو يفضل الدفء ولا يطيق البرد وهو يرتجف إذا مسته نسمة باردة. فهو لذلك لا يعيش في بلاد نهاوند الباردة. واعتقادي أن بلودان أيضًا لا توافقه، فلا تأخذوا حميركم إليها راكبين.

والحمار يغار على أتانه ويحميها الدهرَ كله من أي راغب فيها. فالقول الشامي: يللي ما بيغار حمار لا صحة له في الواقع. لكن الحمار الغيور يبيح لنفسه ما لا يبيحه لأتانه، ويضرب في الأتن الأخرى غير مبال بالالتزام الأخلاقي عند الإنسان. لأنه حيوان.

والأتان أمٌّ بمعنى الكلمة، تُرضِع وليدَها وترعاه بحنانها، وتفطِمُه بالتدريج عن حليبها حتى إذا علمت أنه غدا في غنى عن الرضاعة، وأنه يستسيغ الدريس والشعير وغيرهما فطمته فطامًا لا رجعة فيه.

أما عن البغل فيقول الجاحظ: البغل خرج من بين حيوانين يلدان حيوانًا مثلهما. ويعيش نتاجهما ويبقى بقاءهما (الحمار والفرس) وهو لا يعيش له ولد وليس بعقيم ولا يبقى للبغلة ولد وليست بعاقر. فلو كان البغل عقيمًا والبغلة عاقرًا لكان ذلك أزيد في قوتهما وأتم لشدتهما.

وهذا الخبر الذي أورده الجاحظ عن البغل بأنه غير عقيم، يعارضه ما قرأته في كتاب بالإنكليزية AGRICULTURE إصدار موسوعة MCGRAW-HILL فقد ذكر الكتاب تحت عنوان Mule أي البغل أن البغال عقيم لا تنجب فيما بينها ولا هي قادرة على الإنجاب مع النغال Hinny.

في الأدب العالمي

"دون كيخوته"

لعل أولَ ما يمكنُ أن نذكرَه من فنون الأدب العالمي التي صورت أعمالَ الفروسية على نحوٍ ساخر روايةُ دون كيخوته أو "دون كيشوت" لثربانتس الكاتب الإسپاني الكبير.

وثربانتس عاش نصف القرن السادس عشر وتوفي في العام 1616. وعدوا روايته هذه من روائع الأدب العالمي الأربع: وهي الإلياذة لهوميروس، والكوميديا الإلهية لدانتي، ودون كيخوته لثربانتس، وفاوست لغوته.

وتحكي هذه الرواية قصة رجل كان يقرأ قصصَ الفروسية الشائعة في ذلك العهد، فعزم أن يكون فارسًا جوالاً ينصُر المستضعفين ويعاقبُ المجرمين ويصححُ الأخطاء، وينشُر العدالة.

هذا الفارس على الرغم من نبل أهدافِه غيرُ مؤهل للفروسية، وهو في كل مشهدٍ حقيقيٍّ أو متوهَّم يؤوب بالهزيمة والانكسار.

يقابلُ شخصيةَ البطل هذا شخصية أخرى بسيطة هي "سنشوبنثا". وهو فلاح طيب فقير أغراه "دون كيخوته" بأن يرافقَه في مغامراته ليحمل سلاحه. مقابل تعيينه حاكمًا لجزيرة سيستولي عليها. ويوافق سنشو على عرض "دون كيخوته" ويجهز حمارًا يملكه لهذه الغاية. مقابل الفرس التي يركبها الفارس "دون كيخوته". لكن "دون كيخوته" الذي لا يتذكر أنه قرأ في قصص الفروسية عن حامل سلاح يركب حمارًا يوافق على مضض، ويعد سنشو بأن يعطيه فرسَ أولِ فارسٍ يبارزُه ويجندِلُه.

ذِكْرُ الحمار هنا كمركوب لسنشو يعمق التعارض بين شخصيتي "دون كيخوته" و"سنشوبنثا" ويحدد المستوى البطولي والاجتماعي لكل منهما. فليس هنالك راكبُ حمار يتطلع إلى أن يكون فارسًا. وليس هنالك فارسٌ يرضى أن يمارسَ فروسيته على ظهر حمار.

وعلى سبيل التذكير لا أكثر ارتبط "دون كيخوته" بمنازلة طواحين الهواء. والحق أنه فعل ذلك في أول خروج له مع سنشو، فقد تخيل طواحين الهواء في سهل يعبرانه فرسانًا مردة، تلوِّح بأذرعتها وسيوفها على الرغم من أن سنشو أوضح له حقيقتها. لكن "دون كيخوته" لم يقتنع وهاجم أول طاحونة صادفها وهو يصرخ، فضربه جناحُها وأسقطه عن فرسه وكسر رمحه.

ما ذكرناه هنا ليس إلا إشارة إلى حمار "سنشوبنثا" الذي يشاكل حمارَنا الذي نركب على ظهره.

أنا وپلاتيرو

كتاب يجمع بين الطابع الإبداعي والطابع الوثائقي في حياة مؤلفه خوان رامون خيمينث الإسپاني وفيه 138 قصيدة نثرية، تروي أحداثًا في قرية "موغير" سجلها الشاعر محاورًا حماره الصغير "پلاتيرو". وبعضهم يسميها مرثاة أندلسية لأن الحمار يموت في النهاية فيرثيه الشاعر في غير قصيدة. ألف خوان رامون خيمينيث هذا الكتاب بين عامي 1906 – 1912 وطبع أول مرة في العام 1914. وقد جاء في مقدمته: "إلى الرجال الذين يقرؤون هذا الكتاب للأطفال" مما دعا بعضَ النقاد إلى القول: إنه كتاب قيم من أدب الأطفال. وقال آخرون: إن مكتبةً مثالية للطفل لا يمكن أن تخلو من أقاصيص أندرسن وغريم وأنا وپلاتيرو وأليس في بلاد العجائب.

ويخاطب الشاعر حماره قائلاً:

واضح يا پلاتيرو أنك لست حمارًا بمعنى الكلمة الشائع. ولا بحسب التعريف الوارد في قاموس المجمع اللغوي الإسپاني. إنك حمار، نعم، كما أعرف الحمار وأفهمه. لك لغتك وليس لغتي. كما ليس لي لغةُ الوردة، وليست للوردة لغةُ العندليب. وعليه، فلا تخف، لن أجعلك بطلاً ثرثارًا في خرافةٍ ما، كما قد تكون تصورتَ وأنت بين كتبي، فأضفِرُ تعبيرَك الصوتي وعُواءَ الثعلب أو زقزقة الحسون لأستخلص من ثمَّ بحروفٍ مميَّزة مغزىً أخلاقيًا باردًا باطلاً... كلا يا پلاتيرو.

فالحمار هنا، ليس إلا مستمتعًا وشاهدًا، وهو رفيق الشاعر الذي يأنس به، لا يطلب منه سوى الإنصات إليه. ولا يريد أن يستخدمه رمزًا للفهم أو الغباء ولا أن يحمله ما لا يحتمل. كما هي الحال لدى القصاصين الآخرين الذين يتخذون من إجراء الحوار على ألسنة الحيوان وسيلة للإيحاء ببعض المفاهيم والقيم في الأذهان.

والجدير بالذكر أن خوان رامون خيمينيث حاز على جائزة نوبل في العام 1956.

"الحمار الميت"

ومن الذين استوحوا من الحمار قصصًا يكتبونها عزيز نيسين الأديب التركي الساخر، فكتب قصة الحمار الميت على صورة رسائل كتبها حمار مات وانتقل إلى الدار الآخرة إلى صديقته ذبابة الحمار في الحياة، وكان هذا الحمار الشجاع لا يخاف من الذئب في حياته. وعدد الرسائل (23) رسالة. ومما جاء في الرسالة الثالثة والعشرين الأخيرة إلى ذبابته العزيزة:

ذبابة الحمار العزيزة جدًا:

لم يجدوا مكانًا ليضعوني فيه. جهنم قليلة بالنسبة إلى الذنوب التي اقترفتها. قالوا: لنضعه في قعر جهنم، ولنر ماذا سنجد له مستقبلاً. كانوا يخيفوننا بجهنم في أثناء حياتنا. أليس كذلك؟ لكنها ليست مخيفةً إلى الحد الذي صوروه لنا. أما كانوا يقولون: جهنم ألسنة لهب، ثم تقف ليصبح كل شيء متجمدًا؟ نعم إنها كذلك. كيف كنت أعيش في قبو يشتعل حرًا صيفًا وكالثلاجة شتاء! هنا ما يشابهه تمامًا، كأني لم أمت بل أكمل حياتي السابقة. تعرفين أن الهواء لم يكن يدخل إلى القبو الذي نعيش فيه. لكن هنا يدخل الهواء كلما فتح الباب لدخول مذنب جديد. أنا هنا كأنني في مصيف لا يوجد هنا ذبابٌ أو بعوض ولا ضجيجُ مذياع رفع صوتَه الجيران. ولا صراخُ الأولاد أو مناداةُ الباعة المتجولين ولا أصواتُ زمور السيارات وسيارات الشرطة. ولا يوجد هنا أيُّ نوع من أدوات التعذيب كالتلفزيون والراديو والجرائد.

ولا يخفى أن الكاتب هنا يتحدث عن البؤساء من البشر الذين عايشهم. والحمار هنا في الآخرة يتحدث بلسانهم.

"آه منا نحن معشر الحمير"[9]

وهو كتاب آخر لعزيز نيسين يحتوي على مجموعة من القصص القصيرة عددها (15). وعنوان الكتاب هو عنوان القصة الأولى. وليس للحمير صلة بالقصص الأخرى.

والقصة على لسان حمار، يعلل فيها سبب تحول لغة الحمير وكانت جميلة إلى نهيق مزعج.

يروي هذا الحمار المعاصر قصة حمار عاش في الزمن القديم يرعى وحيدًا سعيدًا. فشم رائحة الذئب، لكنه كذب نفسه وقال: لا ليس هذا ذئبًا. ومازال الذئب يقترب والحمار يكذب نفسه، حتى انقض عليه وغرز في لحمه أنيابه. عندئذ ارتبط لسان الحمار، وتحول تعبيره عن الألم إلى نهيق.

وينهي الحمار الراوي القصة فيقول: لو أن ذلك الحمار لم يخدع نفسه. لكنا نجيد الحديث اليوم بلغتنا الجميلة. لكن ماذا أقول؟ آه منا نحن معشر الحمير.. هاق... هاق.

فهذه القصة إذًا فيها إسقاط يمكن إنجازه بما يلي: كل من يرى الحقيقة المرَّة ويدركها بكل حواسه ثم ينكرها كنوع من المغالطة والكذب على النفس سيكون مصيره مصير ذلك الحمار. وما أكثر الناس الذين يفعلون فعل ذلك الحمار في حياتهم اليومية.

وممن كتب رواية عن الحمار غونتر ديبرون الألماني ترجمت في العام 1977 تحت عنوان الحمار[10]، ترجمها صنع الله إبراهيم.

في المسرحية والرواية والصحافة العربية

يبدو لي أن فكرة حوار الحمير التي انطلقت من تراثنا الشعبي، قد راقت بعض الكتاب في الشرق والغرب فحاوروا الحمير بالصيغ الأدبية الملائمة في بيئتهم. وهم على الأغلب غيرُ مقلدين، وربما لم يحدث أيُّ تواصلٍ أدبي بين كاتب وآخر. لكن الفكرةَ في ذاتها تغري الكتاب الساخرين والكتابَ الخائفين من السلطة أن يصطنعوا الحماريات، لما فيها من فكاهة وخفة. وكثيرٌ من الأفكار النقدية يفرَج عنها إذا كانت في قالب فكاهي. ويحجَرُ عليها إذا قدمت في قالب الجد.

وتتبع الأجناس الأدبية في الأدب العالمي والعربي لمعرفة مَن من الكتَّاب اتخذ من الحمار لعبتَه الفنية أمرٌ بالغ الصعوبة. وربما استطعت أو استطاع آخرون أن يستعينوا بالإنترنيت ليغطوا بعض هذه المعرفة. وما أظن أحدًا يُضيع شطرَ حياته في سبيل الحمار أو الحمارة، مهما يبلغا من الجمال والذكاء والأهمية.

ما استطعت أن أقع عليه في أدبنا العربي الحديث يتوزع في المسرحية والرواية والمقالة. وأول رائد للحمار والحمير في هذه الأجناس توفيق الحكيم بلا منازع. وبعض النقاد يزعَم أنه استفاد من الكاتب الإسپاني خوان رامون خيمينيث صاحب أنا وپلاتيرو. ولدى الموازنة بين "آثار الحكيم" وذلك الأثر لا تتضح أي مشابهة.

وللحكيم ثلاثة آثار في هذا الشأن: أولها حماري قال لي، والثاني حمار الحكيم، وثالثها الحمير. وسأحاول الحديث عن كل منها باختصار شديد.

حماري قال لي

هي مجموعة مقالات نشرت منفردة في الصحف في العام 1938. ثم جمعها الحكيم في كتاب نشر في العام 1945. ولأن الحكيم مغرم بالحوار، فقد اتخذ من الحمار محاورًا له في معظم المقالات، وكان مثيرًا لبعض الأفكار في مقالات أخرى.

وهو في أول مقالة يعرفنا بحماره جحشًا ومتقدمًا في السن ومتعبًا محمَّلاً ثم نافقًا، ويقول إن أي حمار من الحمير التي أعرف أو لا أعرف هو لي صديق. أحبه وأحدب عليه. وأفهم ما يجول في خاطره. وأنظر إلى عينيه وأصغي إليه، فيخيل إلي أن صمته الطويل قد انفرج عن حديث مؤنس يدلي به إليّ، وأسئلة طريفة يلقيها عليَّ.

وعناوين المقالات هي التالية: من هو حماري؟ - حماري والطوفان – حماري وهتلر – حماري وموسوليني – حماري ومؤتمر الصلح – حماري وحزبه – حماري والذهب – حماري والسياسة – حماري والطالبة – حماري والقاضية – حماري وحزب النساء – حماري وعداوة المرأة – حماري والمحكمة – حماري والجريمة – حماري ومنظري – حماري وصورتي – حماري والنفاق – حماري والكفاح – حماري والجنة والنار.

وفي هذا المقال ينحو الحكيم منحى المعري في رسالته الغفران، فيتخيل أحمد الصاوي صاحب مقالات "ما قلَّ ودلَّ" يحاور إحدى الحوريات في الجنة. ثم يحاور طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم في النار. ويغلق باب جهنم على الصاوي مع أصحابه الذين حاورهم لتجاوزه الوقت الذي سمح له رضوان به.

حمار الحكيم

هي رواية في أربعة عشر مقطعًا. تنتهي بحكمة لتوما في أسطورة قديمة على لسان حمار. يقول حمار الحكيم توما:

أيها الزمان. متى تنصِف فأركب. فأنا جاهل بسيط أما صاحبي فجاهل مركب. فقيل له: وما الفرق بين الجاهل البسيط والجاهل المركب؟ فقال: الجاهل البسيط هو من يعلم أنه جاهل. أما الجاهل المركب فهو من يجهل أنه جاهل.

وتدور الرواية حول جحش رآه الحكيم في أحد شوارع القاهرة فاشتراه وأسكنه معه في فندق، واعتنت به امرأة تسكن في حجرة مجاورة. ثم يأتي إلى الحكيم مخرج سينمائي يريد أن يتعاقد معه على كتابة حوار لفيلم يعمل على إخراجه في إحدى القرى لصالح شركة فرنسية. ثم ينتقل الحكيم مع جحشه والمخرج وفريق العمل إلى القرية الممتازة. فلما وصلوا حمل الجحش إلى بيت العمدة. وخلال الإقامة في القرية يحاور الحكيم المخرج وزوجته، أما الجحش فقد سماه فيلسوفًا والتقط للمخرج معه صورة، ودفع الجحش إلى أحد الفلاحين. ثم يسافر الحكيم إلى سويسرا ومعه سيناريو الفيلم واعدًا المخرج بأن يكتب الحوار هناك. وتندلع الحرب العالمية الثانية، ويعود الحكيم إلى القاهرة. ويلتقي المخرج فيبلغه بموت الحمار يوم إبحار الحكيم إلى أوروپا.

في الحقيقة لا أرى في هذه الرواية خصائص الرواية فهي أقرب إلى الخواطر المسجلة والحوار في الأمور الفنية والاجتماعية. وليس للحمار أي دور إيجابي في هذه الرواية.

الحمير

اسم جامع لأربع مسرحيات قصيرة نشرت في العام 1975. وقد كتبت منها مسرحيتان في العام 1969 والعام 1970 قبل وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. وهما الحمار يفكر، والحمار يؤلف وحاول الحكيم نشرهما في جريدة الأهرام فلم يوفق وفي ذلك يقول:

أرسلتُ المسرحيتين إلى جريدة الأهرام. لكن رئيس التحرير المسؤول وجد حرجًا شديدًا في النشر. وحبسهما حبسًا طويلاً في مكتبه. فالوعي إذًا قد وجد، والقلم قد كتب، ولكن النشر قد منع. والمسرحيتان تعالجان انحراف الاشتراكية إلى البيروقراطية في عهد عبد الناصر من خلال التصرف بحكاية شهريار في الأولى، ومن خلال ما يجري في الشركات المشبوهة في الثانية.

أما مسرحيتا سوق الحمير وحصحص الحبّوب، فتعتمد الأولى منهما على حكاية من حكايات جحا، حين استبدل لصا الحمير الحمار الذي اشتراه جحا بأحدهما، وانطلت الحيلة على الشاري المغفل. وتعتمد الثانية منهما على طرفة قديمة تروي حكاية الحمار الذي يريد صاحبه أن يعلمه في المدرسة. وقد كتب المسرحية الأولى في العام 1971 والثانية في العام 1972.

والحمار في المسرحيات الأربع ليس فعَّالاً. ويقتصر دوره على حوار أولي مع صاحبه يفضي إلى فكرة تتجسد في أشخاص يمثلون، ويقوم الحمار هنا بدور الموحي أو صاحب الفكرة أو بطل الطرفة. والحكيم في حواره مع الحمار في آثاره الثلاثة فنان يتخيل وما الحمار عنده إلا مركب يقود إلى عرض رؤيته الفنية لما يحيط به من أحداث أو يجيش في نفسه من نقد اجتماعي أو سياسي.

وأنا في هذه المحاضرة لا أتصدى إلى نقد الحكيم ولا أقيمه، وإنما أعرض تلخيصًا لما كتب عن الحمار بما يلائم طبيعة المحاضرة والوقت المخصص لها. ومن رأى أن ما قدمته هو فاتح للشهية فدونه كتب الحكيم يقرأ منها ما يشاء.

الأشجار واغتيال مرزوق

أما الأثر الروائي المكتمل الذي كان فيه للحمار دور قصير فهو رواية الأشجار واغتيال مرزوق للروائي عبد الرحمن منيف وقد نشرت في أوائل الثمانينيات.

منصور عبد السلام راوية الرواية يروي له إلياس مرافقه في القطار قصة حياته في قريته الطيبة وقد اشترى حمارًا أبيض ليعمل بائعًا متجولاً بين القرى، وقد سمى الحمار سلطانًا يصفه بقوله: كان حمارًا عجيبًا وذكيًا. نعم، أعجب حمار رأته عيني. كان يفهم أكثر من البشر دون أن يقول كلمة واحدة. وصدقني أنه هو الذي كان يشتري ويبيع للناس أكثر مما أفعل. كان يقودني من قرية إلى أخرى. وكأن الحيوانات تمتلك حواس تجعلها تفهم أكثر من البشر. أو ربما هو بالذات يملك وحده هذه الحواس. فعندما أطيعه نبيع ونربح. أما إذا عاندته. وهذا ما كنت أفعله أول الأمر فينقضي يومنا دون أن نربح شيئًا. كنت أعرض البضائع أقول للنساء: هذه جيدة. هذه رخيصة. ولكنهن يتضاحكن ولا يفعلن شيئًا غير ذلك.

والحمار سلطان هذا هو الذي أصر على قيادة صاحبه إلى قرية المغيريب ليتزوج فتاة فيها، تدعى حنة. أما حماره فتركه في قرية المحربة. فهزل الحمار وامتنع عن الطعام والماء. فلما عاد إليه إلياس ابتهج وانتعش ورجعت إليه حيويته. وبعد شهور تموت حنة زوجته فيها، ويدفنها مع جنينها. فقد ماتت وهي تلد ثم يعمد إلى سلطان فيذبحه ليخلصه من العذاب، ويخلص نفسه من ذكريات قريته الطيبة.

دور الحمار في هذه الرواية دور رفيق الطريق المرشد إلى خير صاحبه، لذلك فهو في رأي إلياس أكثر فهمًا من البشر. وكثير من معاشري الحمير يدعون ذلك ليس طعنًا في البشر بل تقديرًا للحمار الحكيم.

الحمار في مجلة المضحك المبكي

تتبعت أعداد مجلة المضحك المبكي التي أسسها ورأس تحريرها المرحوم حبيب كحالة منذ العام 1922. وكانت مجلة سياسية اجتماعية فكاهية ساخرة تصدر في دمشق. فكان صاحبها يكتب فيها افتتاحيات ومقالات يوقعها تارة باسم "ابن حرام" وتارة باسم "حشاش"، وتارة باسم "ناقد" وتارة باسم "حمار".

وأعتقد أن هذه المجلة جديرة بدراسة قائمة بذاتها لأنها تؤرخ للحياة السياسية في سورية خلال ربع قرن على الأقل، ليس بالمعنى العلمي لكلمة تأريخ بل بمعنى التسجيل الناقد له موقف مما يجري.

حماريات

هي مجموعة مقالات نشرت في مجلة الكواكب في العام 1987 ثم جمعت في كتاب والكاتب هورغِرت الأمير. وأول مقال يتحدث عن لقاء يتم بين حمار والممثلة النجمة ناديا لطفي التي أسست جمعية للحمير ترأسها بنفسها. والحمار في هذا اللقاء يعتب على ناديا لأنها أسست الجمعية دون أن تسأل الحمير رأيها وهي صاحبة الشأن.

والمقالات في مضمونها فنية واجتماعية وسياسية، ومن عناوينها:

الحمار يغني في البانيو فقط. عشر عمليات تجميل لجماعة الحمار. الحمار يرفض بطولة مسلسل. الحمار بين اليمين واليسار. هلوسة حمارية. الحمار يتحدى پيكاسو بذيله.....

حمار من الشرق

هو مجموعة مقالات كان نشرها الكاتب الصحفي محمود السعدني في صحيفة أخبار اليوم 1991 ثم جُمِعَت في كتاب صدر عن دار أخبار اليوم. وعنوانها يذكر برواية لتوفيق الحكيم مشهورة هي عصفور من الشرق فاستبدل الكاتب كلمة حمار بعصفور على سبيل السخرية والاعتراف بالفضل لرائد الحمير في الأدب توفيق الحكيم. فالشيء بالشيء يُذكَر. وأبرز ما جاء من عناوين في هذا الكتاب: أعلى مراحل الاستحمار. حمير ولكن كرماء. النشوء والانحناء.

والمضمون سياسي ساخر. وعلى الرغم من أن هذه المقالات نُشِرَت وقُرِئَت ثم جُمِعَت وقُرِئَت في مصر. فإن بعض الرقابات العربية منعت تداول الكتاب.

في قصص الأطفال

كثير من كتاب الأطفال أعادوا صياغة طرائف جحا وحماره أو ما جاء من حكايات عن الحمار في كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة ونشروا ذلك في كتيِّبات صغيرة مزينة بالرسوم الكارتونية. ومما اطلعت عليه منذ مدة حكايتان بعنوان: الحمار الكسلان والحمار أمير الغابة لعبد الواحد علواني.

في الغناء والسينما

من المؤسف أن الحمار انسحب من الساحة الغنائية المزدحمة بالأصوات المنكرة. وأدرك بحسِّه المرهف وحساباتِه الفنية، أن المنافسةَ مع هذه الأصوات الكثيرة، ليست في صالحه. وقد فعل في هذا الانسحاب عين الصواب.

أما في السينما فقد استخدموا ولده من الفرس وهو "فرنسيس البغل المتكلم" منذ أكثر من خمسين سنة. وكل ما أذكره أن البغل كان يحرك شفتيه ويكلم صاحبه، مع العلم أن تقنية تحريك الشفتين اليوم تتم بالكمبيوتر.

وفي التلفزيون أحيى[11] الأخ الفنان دريد لحام لعبة الحوار مع الحمار في مسلسله الأخير عودة غوار. ويبدو لي أن ما أجراه على لسان الحمار الذي يسمع صوته الآدمي فقط يدخل في باب النقد الاجتماعي. والحمار في هذا النقد يبدو في غاية الحكمة والفهم. ولا أدري لماذا لم يستخدم الأخ دريد تقنية الكمبيوتر وأخفى فم الحمار في المخلاة مع أن ذلك في إمكانه.

وظهر الحمار في بعض حلقات مرايا للأخ الفنان ياسر العظمة، وكان ظهوره عارضًا لا أساس في تحميله الأفكار.

وفي الأحوال كلها يظل الحمار أفضل الحيوانات جميعًا في تحميله أفكار الآدميين في الأحوال الصعبة. ولئن بدت اللعبة مكشوفة فإنها تظل "مهضومة" بالتعبير اللبناني.

طرفة

في مشهد قديم لدريد لحام ونهاد قلعي. كان دريد سكران يحتسي ويسكي "هيوستن" وكان يقول كلامًا لا يقوله الصاحون. ويدافع دريد عن السكر فيقول لنهاد: هلأ جيب سطل مي وسطل عرق وحطهن قدام حمار من أنو سطل بيشرب؟ فيجيب نهاد بنية سليمة: طبعًا بيشرب من سطل المي. فيقول دريد: طبعًا لأنه حمار.

وأنا شخصيًا أعد هذا المشهد من أعظم ما قدمه دريد في حفل عام نقله التلفزيون. فقد بدا في ذروة عطائه الفني.

نهاية النزهة

وبعد، هل انتهت نزهتُنا على ظهر حمار؟ في الواقع انتهت في حدود الوقت المتاح. وأعتقد أن حمارنا كان مطيعًا هادئًا سلسًا طوال النزهة. لِمَ لا، وقد كرمناه بما ألَّفنا فيه من كتب وروايات ومسرحيات ومقالات ومحاضرة؟ حمارنا يرتاح إلى التكريم ومن منا لا يحب التكريم؟ لكن لابد أن يكون المكرَّم أهلاً للتكريم. فهل حمارُنا أهل لذلك؟ لعل أهمَّ موجبات تكريمه أننا نحمِّلُه الأحمال الثقيلة، ونقودُه في الطرق الوعرة، والجبال العالية راضيًا بالقليل من العلف، وهو صابر لا تنِدُّ عنه نأمةُ شكوى. ليس هذا فقط، وإنما نزيد على ذلك فنحمله فوق أعبائِه همومَنا اليومية بالحوار معه. وغالبًا ما نُفرِغُ توترَنا العصبي فيه فنضرِبُه ونشتمُهُ ونضعُ من قدره. ونشتم الغبيَّ به فننعته بالحمار، دون مراعاةٍ لمعايير الغباء والذكاء. ولو أردنا تطبيق هذه المعايير بدقة لبدا الحمار أذكى من كثير من الناس. وليس أدلَّ على ذكائه من حس إصغائه واستجابته لما يلقى إليه من أوامر ونواهٍ، وتجنبِه العثرات. ولابد أن نضيف إلى موجبات التكريم فضيلة التواضع.

ولأنه يستحق التكريم فقد جعله الحزب الديمقراطي الأمريكي شعارًا له. ويبدو لي أن أعضاء ذلك الحزب اجتمعوا قبل إطلاق شعار الحمار وبحثوا طويلاً في مجتمع الحيوان، فوجدوا أن مجتمع الحمير أكثر ديمقراطية من سائر الحيوان، فالحمير يجتمعون ويبحثون أمورهم الهامة. ويتخذون القرارات بتصويت الأكثرية. وهذا التصويت بطبيعة الحال يتخذ نغمة النهيق مع رفع الحافر الأيمن إلى أعلى. وعلى هذا الأساس اقتنع أعضاء الحزب الديمقراطي الأمريكي بأن يكون شعار حزبهم الحمار. وصوتوا على ذلك بالأكثرية أو بالإجماع لا أدري فلم أكن حاضرًا جلستهم آنذاك.

وأذكر في الخمسينيات أن صديقًا لي كان يعمل في الطب البيطري، عرض علي هوية شخصية له رسم عليها صورة حمار، وتحت الصورة اسمه وتاريخ ميلاده ومكانه، وسألني أن أنتسب إلى جمعية الحمير. فهو عضو فيها ووعدني بالسعي لقبولي عضوًا في مجلس إدارتها بوصفي من المثقفين، فاعتذرت إليه، وقلت له: أفضل أن أبقى إنسانًا حرًا غير منتسب إلى أي جمعية. لكني وعدته بمؤازرة الجمعية حين تدعو الحاجة. فنهق صديقي نهقة وسكت.

وقد لفت انتباهي منذ أشهر مقابلة تسجيلية مع الشاعر الكبير محمود درويش، فهو في آخر المقابلة يقف في أحد السهول وينظر إلى تلة فيجد حمارًا واقفًا في قمتها فيقول: أتمنى أن أكون حمارًا. وتنتهي المقابلة عند هذا التمني.

مادام التكريم حاصلاً للحمار من دون الحيوانات الأخرى فإني أود أن أتوجه باقتراح إلى جمعية حقوق الحيوان، إذا كانت موجودة، وهو: أن يسمى يوم من أيام السنة "يومَ الحمار العالمي" ويمكن أن يُعَدَّ لهذا اليوم مهرجان طريف، يجتمع فيه الحمير من الأنواع كلِّها، وتُزيَّنُ بأنواع الزينة والألوان والأقنعة التنكرية، ويتسابق المؤلفون الموسيقيون لوضع ألحان مرحةٍ مشتقةٍ من النهيق. ولا بأسَ أن تقام هنا وهناك مسارحُ مكشوفة، يصعَد إليها بعضُ ذوي الموهبة من الحمير ليغنوا الأغاني الجماهيرية المطلوبة.

في انتظار أن يتحقق اقتراحي في إقامة "يوم الحمار العالمي" أتمنى لحمير الدنيا السعادة والرخاء وحسن الختام.

*** *** ***

المراجع

المراجع العربية:

-       القرآن الكريم.

-       التوراة.

-       الأناجيل الأربعة.

-       تفسير ابن كثير.

-       كليلة ودمنة لابن المقفع.

-       الحيوان للجاحظ.

-       المقامات الهمذانية للهمذاني.

-       ألف ليلة وليلة.

-       المستطرف في كل فن مستظرف للأبشيهي.

-       مجمع الأمثال للميداني.

-       القاموس المحيط للفيروزبادي.

-       فقه اللغة للثعالبي.

-       الموسوعة العربية الميسرة.

-       جحا الضاحك المضحك للعقاد.

-       حماري قال لي للحكيم.

-       حمار الحكيم للحكيم.

-       الحمير للحكيم.

-       الأشجار واغتيال مرزوق لعبد الرحمن منيف.

-       حماريات لعزت الأمير.

-       حمار من الشرق لمحمود السعدني.

-       الحمار أمير الغابة لعبد الواحد علواني.

-       الحمار الكسلان لعبد الواحد علواني.

-       مجلة المضحك المبكي لحبيب كحالة (أعداد متفرقة).

-       ديوان الشوقيات لأحمد شوقي.

-       درر الكلام في أمثال أهل الشام لمنير كيال.

-       الأمثال الشعبية الحلبية وأمثال ماردين للأب يوسف قوشاقجي.

-       دائرة المعارف الكتابية.

-       مجلة العربي مايو 1999.

-       المنجد (معجم).

-       الشماخ بن ضرار الذبياني، صلاح الدين الهادي، مكتبة الدراسات الأدبية (45)، دار المعارف.

-       قصائد جاهلية نادرة، د. يحيى الجبوري، مؤسسة الرسالة.

المراجع المترجمة إلى العربية

-       تاريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمان ترجمة: فارس البعلبكي.

-       دون كيخوته لثربانتس ترجمة عبد الرحمن بدوي.

-       أنا وپلاتيرو لخوان رامون خيمينيث ترجمة أنطوان سعيد خاطر.

-       آه منا نحن معشر الحمير لعزيز نيسين ترجمة جمال درويش.

-       الحمار الميت لعزيز نيسين ترجمة عبد القادر عبد اللي.

-       الحمار (حمار بوريدان) لغونتر ديبرون ترجمة صنع الله إبراهيم.

المراجع الإنكليزية

-        موسوعة أپوللو Encyclopaedia Apollo, McGraw

-        الزراعة، منشورات ماغروهيل Agriculture, Mc Graw Hill

 


 

horizontal rule

[1] قصائد جاهلية نادرة، د. يحيى الجبوري، مؤسسة الرسالة.

[2] ليوناردو دي كاپريو وكيت ونسليت بطلا فيلم "تايتانيك" المُنتَج في العام 1997، والمعروض في العام 1998.

[3] البغل في الإنكليزية Mule والنغل Hinny. وقد انفرد المنجد بترجمة Hinny إلى نغل.

[4] الحيوان للجاحظ، الجزء الثالث ص 440.

[5] فقه اللغة للثعالبي، ص 318.

[6] هكذا ورد اللفظ في التوراة والصواب (هي ذي)

[7] مجلة العربي، مايو 1999، من المكتبة العربية، كتاب بلقيس امرأة الألغاز وشيطانة الجنس، زياد منى

[8] الشماخ بن ضرار ينتسب إلى بني جحاش. ربما كان هذا أحد الدوافع لولعه بحمر الوحش ووصفها. ومما يروى عنه أنه أحب امرأة تدعى كلبة. والعرب تسمي أبناءها كلب وكلبة وحمار وجعل وقرد على التفاؤل كما يقول الجاحظ.

[9] الطبعة الأولى من ترجمة جمال درويش أصدرتها دار الطليعة بدمشق في العام 1994.

[10] العنوان الأصلي حمار بوريدان. نشرتها دار ابن رشد للطباعة والنشر.

[11] تكتب أيضًا أحيا شذوذًا.

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني