الصفحة التالية                  الصفحة السابقة

الزمان والآخر: الجزء الثاني

 

إيمانويل ليفيناس

 

المادة بؤس الأقنوم. العزلة والمادة تستويان. العزلة ليست توجُّسًا متعاظمًا يصيب كائنًا أُشبعت حاجاته كافة. العزلة ليست التجربة المميزة للكينونة من أجل الموت، لكنها ترافق – إن جاز التعبير – الوجود اليومي المسكون بالمادة. وبما أنَّ الهموم المادية تصدر عن الأقنوم ذاته، وتعبِّر عن حدث حرية الموجود ذاته، تنبعث الحياة اليومية – البعيدة كل البعد عن أن تكون سقوطًا أو خيانةً لمصيرنا الميتافيزيقي – من عزلتنا، وتشكل اكتمالاً لها ومحاولةً يائسة للنهوض من بؤسنا الدفين. إنَّ الحياة اليومية انهمامٌ بالخلاص.

*

الحياة اليومية والخلاص

ألا يمكننا بالتالي إيجاد حلٍّ لتناقض يُشكل لبَّ الفلسفة المعاصرة؟ الأمل بمجتمع أفضل من ناحية، واليأس من العزلة من ناحية أخرى؛ وكلا الاثنين يستندان إلى تجارب تعطي لنفسها صفة البداهة، لكنهما يُنتجان تضادًا لا يمكن تجاوزه. لا يوجد بين تجربة العزلة والتجربة الاجتماعية تعارض فحسب، وإنما تناقض. تزعم كلٌ منهما بلوغ مرتبة التجربة الشاملة واستيعاب الأخرى وإبرازها كتفكك لتجربة أصلية.

حتى في ظل نزعة بنائية متفائلة للسوسيولوجيا وللنزعة الاشتراكية، يستمر إحساس العزلة بالوجود والتهديد ليسمح بتعرية أفراح التواصل والأعمال الجمعية وكل ما يجعل من هذا العالم عالمًا يمكن الإقامة فيه – ليسمح بتعريتها كتسلية باسكالية، أو كمجرد نسيان للعزلة. فأن نجد أنفسنا مقيمين في هذا العالم، ننشغل بالأشياء ونتمسك بها ونطمح حتى للسيطرة عليها – ليس أمرًا مستهجنًا فحسب في تجربة العزلة، بل يمكن أن تشرحه فلسفة للعزلة. قد يكون الانهمام بالأشياء والحاجات سقوطًا أو هروبًا أمام الغاية الأخيرة التي تتضمنها الحاجات ذاتها، وقد يكون تناقضًا أو وهمًا، وقد يكون مصيريًا بلا ريب، لكنه يحمل سِمَة الدنيء والمستهجن.

لكن العكس صحيحٌ أيضًا. ففي وسط توجسات باسكال وهيدغر ونيتشه، نتصرف كبرجوازيين فظيعين. أو إننا، ببساطة، مجانين. لكن، لا أحد يقدم الجنون كسبيل للخلاص. المهرج أو المجنون في مأساة شكسبير هو ذلك الذي يشعر بعدم تماسك العالم وعبث حالاته ويفصح عنه بوضوح. غير أنّه ليس الشخصية الأساس في المأساة، إذ ليس لديه ما يصعِّده. إنَّه، في عالم الملوك والأمراء والأبطال، الفتحة التي تمر عبرها نسمات من الجنون إلى هذا العالم، لكنه ليس العاصفة التي تطفئ الأنوار وتقتلع الأثاث. لطالما وصفنا مجمل المهام التي تملؤ يومنا الطويل وتأخذنا من وحدتنا لتلقي بنا في علاقات مع أشباهنا بالسقوط، وبالحياة اليومية والحيوانية والانحطاط والمادية الدنيئة، لكن ليس فيها ما هو عبثي. يمكننا الاعتقاد أنَّ الزمان الأصلي وَجدٌ، ونبتاع مع ذلك ساعة لأنفسنا. وعلى الرغم من عُري الوجود يجب علينا أن نلبس بشكل لائق. وعندما نكتب كتابًا عن القلق فإننا نهديه لشخصٍ ما، ونمر بالمراحل كافة التي تفصل الكتابة عن النشر، ونسلك أحيانًا سلوك تاجر قلق. يضبط المحكوم عليه بالموت هندامه لحظة رحلته الأخيرة، ويقبل بسيجارة أخيرة، ويجد متسعًا لكلمة فصيحة.

هذه الاعتراضات الهيِّنة تُذكرنا باعتراضات الواقعيين الموجهة ضد المثاليين عندما يلومونهم بالأكل والتنفس في عالم وهمي. لكنها، من زاوية أخرى، اعتراضات ذات دلالة فهي لا تُعارض سلوكًا مع نسق ميتافيزيقي، وإنما تعارض سلوكًا مع أخلاق. كل واحدة من هذه التجارب المتضادة هي أخلاق. تعترض الواحدة على الأخرى، لا لكونها خطأ، بل لكونها لاأصلية.

هناك أكثر من مجرد سذاجة عندما تكذِّب الجموعُ النخبَ التي تلومها لانشغالها بالخبز أكثر من انشغالها بالقلق. فمن هنا تأتي النبرة الرفيعة والمؤثرة لكل مذهب إنساني ينطلق من المسألة الاقتصادية. ومن هنا نفهم أيضًا الإمكان الذي تحمله احتجاجات الطبقة العاملة لأن تنبني كمذهب إنساني. وأمَّا تفسير كل ما تقدم كسلوك نابع من سقوط في اللاأصلي أو كتسلية، أو حتى كمتطلب يشرعنه جنسنا الحيواني الذي ننتمي إليه – فهذا لا قوام له على الإطلاق.

إنَّ العزلة وتوجساتها هي، بالنسبة إلى نزعة اشتراكية بنائية وتفاؤلية، كموقف النعامة في عالمٍ يصبوا إلى التكافل والوضوح؛ ظاهرة طارئة وترفيَّة أو ظاهرة لا قيمة لها في مرحلة انتقال اجتماعي، وحلمٌ أحمق لفردٍ مختل التوازن، وترفٌ في قلب المؤسسة الاجتماعية. ولكل نزعة إنسانية اجتماعية الحقَّ – المساوي للحق الذي تستند إليه فلسفة العزلة – في أن تصف قلق الموت وقلق العزلة بالكذب والثرثرة، وحتى بالخدعة أو الفصاحة الخادعة، وبالهروب أمام الماهوي وبالتمييع. نحن أمام نقيضة تتعارض فيها حاجةٌ للخلاص وأخرى لإرضاء الحاجات (كالتعارض بين يعقوب وعيسو). لكن العلاقة الحقيقية بين الخلاص والإرضاء ليست كما تصوَّرتها المثالية التقليدية وأبقت عليها الوجودية. فالخلاص لا يفترض إرضاء الحاجات؛ هو ليس مستوىً أعلى يستلزم التأكد من قواعده. فرتابة حياتنا اليومية ليست مجرد عقابٍ لحيوانيتنا نتجاوزه عبر نشاط الروح. كما أنَّ همَّ الخلاص لا يصدر عن ألم الحاجة لتكون بذلك سببه الظرفي، كما لو كان الفقر أو وضع البروليتاريا فرصة لتبيُّن ملكوت السماوات. لا نعتقد أنَّ الظلم الذي ترزح تحته الطبقة العاملة تجربة خالصة تهدف لإيقاظ – فيما وراء التحرر الاقتصادي – حلم التحرر الميتافيزيقي فيها. يجد الصراع الثوري نفسه منحرفًا عن دلالته الحقيقية وعن غايته الواقعية إذ يُستخدم كقاعدة للحياة الروحانية، أو، إذ ينبغي عليه، داخل أزماته، أن يوقظ نداءات باطنية. فالصراع الاقتصادي هو مسبقًا وبشكل تام صراع من أجل الخلاص، لأنه مؤسَّس على ديالكتيك الأقنوم الذي تتشكل داخله الحرية الأولى.

لا أعرف مصدر هذا الحاضر الملائكي في فلسفة ساتر. فبعد إلقاء ثقل الوجود على الماضي، تتموضع الحرية فوق المادة رأسًا. إنَّنا عندما نضع ثقل المادة في الحاضر وفي حرية انبثاقه، نودُّ بذلك أن نعترف للحياة المادية بنصرها على غفل الانوجاد وبالقطعية المأساوية التي ترتبط بها الحرية.

من خلال ربط العزلة بمادية الذات sujet، أي، بترابطها المتلاحق بذاتها، يمكننا فهم وفق أيِّ معنى يشكل العالم، ووجودنا فيه، مسارًا أساسًا للذات بغية التغلب على العبء الذي تمثله لذاتها؛ للتغلب على ماديتها، أي، لتحلَّ الرابط بين الذات soi والأنا.

*

الخلاص عبر العالم: الأغذية

في الوجود اليومي، وفي العالم، تتغلب الذات على بنيتها المادية إلى حدٍّ ما. فتظهر فسحة بين الأنا والذات، ولا تعود الذات الهوية إلى ذاتها رأسًا.

اعتدنا منذ هيدغر النظر إلى العالم كمجموعة من الأدوات. الوجود في العالم فعلٌ، لكنه فعلٌ موضوعه وجودنا ذاته. تُحيل الأدوات بعضها إلى بعض، لتحيل في النهاية إلى انهمامنا بالوجود. فعندما نضغط على زرِّ الحمام نفتتح المشكلة الأنطولوجية برمتها. ما يبدو أنه غاب عن انتباه هيدغر – إن صحَّ أن شيئًا غاب عن انتباهه في هذا الخصوص – هو أنَّ العالم، قبل أن يكون نظامًا من الأدوات، هو مجموعة من الأغذية. إنَّ حياة الإنسان في العالم لا تتعدى الأشياء التي تملؤه. قد لا يكون القول إننا نعيش من أجل الأكل قولاً دقيقًا، لكن القول إننا نأكل من أجل العيش هو أيضًا غير دقيق. فالغائية النهائية للأكل متضمنة في العنصر الغذائي. عندما نشمُّ وردة تنحصر غائية هذا الفعل في الرائحة. التنزه يعني استنشاق الهواء النقي، ليس من أجل الصحة وإنما من أجل الهواء النقي. إنَّ الأغذية تشكل خاصية وجودنا في العالم. وجودٌ وَجديٌّ – أي، كينونة خارج ذاتها – لكنه محدودٌ بالأشياء.

يمكننا وصف هذه العلاقة مع الأشياء باللذة. اللذة طريقة وجودية، لكنها أيضًا إحساس، أي، نور ومعرفة – أي، استغراقٌ بالموضوع وبعدٌ عنه معًا. وإلى التلذذ تنتمي جوهريًا معرفةٌ ونور. بالتالي، تكون الذات – التي هي أمام الأغذية المعروضة – على مسافة من الأشياء الضرورية لوجودها؛ في حين أنه، في الهوية الأولية للأقنوم، تكون الذات غارقة في مستنقعها وفي العالم. فيحلُّ محلَّ العودة إلى الذات "رابطٌ مع كل ما هو ضروري لتكون".

تنفصل الذات عن ذاتها، والنور هو شرط هذا الإمكان. بهذا المعنى، إنَّ حياتنا اليومية طريقة للتحرر من المادية المبدئية التي تتشكل الذات وفقها. فهي تحتوي مسبقًا على نسيان ذاتي. أخلاق "الأغذية الأرضية nourritures terrestres [عنوان كتاب أندريه جيد]" هذه هي الأخلاق الأولى، وإنكار الذات الأول. ليس الأخير؛ لكن يجب المرور عبره[1].

*

تعالي النور والعقل

لكن نسيان الذات (أي، ضياء اللذة) لا يكسر الارتباط غير الرحيم للأنا بذاتها، لأنه لا يمكن فصل هذا النور عن الحدث الأنطولوجي لمادية الذات، ولأن العقل هو رفع هذا النور إلى مرتبة المطلق. إنَّ فسحة المكان التي يعطيها النور يستغرقها هذا النور في اللحظة ذاتها. النور هو ما به يصبح شيء ما مختلفًا عني؛ لكن، كما لو أنه يصدر مني. والموضوع المضاء نلقاه خارجًا، لكن، كما لو أنَّه مضاء مني[2]. هو ليس ذا غرائبية جليَّة، وتعاليه مستغرق في التحايث. في المعرفة واللذة، أجد نفسي مع ذاتي. لهذا السبب، لا تكفي خارجانية النور لتحرير الأنا أسيرة ذاتها.

يظهر كلٌّ من النور والمعرفة في موضعهما الصحيح داخل الأقنوم والديالكتيك الذي يحمله معه: هما وسيلة الذات التي اجتازت غفل الانوجاد، لكنها ظلت عالقة بذاتها من خلال هويته كموجود (أي، الذات وقد أصبحت مادية)، ووسيلة الذات للابتعاد عن ماديتها. غير أنَّ المعرفة – وقد انفصلت عن هذا الحدث الأنطولوجي، أي، عن المادية التي تَعِدُ بآفاق تحرر أخرى – لا تتغلب على العزلة. فالعقل والنور يستزيدان من عزلة الكائن بما هو كائن، وينجزان مصيره في أن يكون، في كل شيء، المرجع الوحيد والأوحد.

بإحاطته بالكل من خلال بنيته الشمولية، يجد العقل ذاتَه عبر العزلة . ليست الأنوية (أو التوحُّدية) solipsisme شذوذًا ولا مغالطة: إنها بنية العقل. لا تنتج الأنوية عن الطابع "الذاتي" للأحاسيس التي يركبها العقل، وإنما بسبب شمولية المعرفة، أي، عن لامحدودية النور واستحالة أن يكون أي شيء آخر خارجه. لذلك، لا يجد العقل عقلاً آخر يتحدث إليه. كما أنَّ قصدية الوعي تسمح بتمييز الأنا عن الأشياء، لكنها لا تُزيل الأنوية، لأن أساسها (أي النور) على الرغم من أنه يجعلنا سادة العالم الخارجي، يبقى غير قادرٍ على إيجاد نظيرٍ لنا فيه. ولا تغيِّر موضوعية المعرفة العقلية شيئًا في الطابع المتوحد للعقل. إنَّ انقلاب الموضوعية إلى ذاتية هو تيمة المثالية التي هي فلسفة للعقل، وموضوعية النور هي الذاتية. يمكن التعبير عن كل موضوع بمصطلحات الوعي، مما يعني: أن يُنار mise en lumière.

لا يمكن تعالي المكان أن يتثبت ويصبح واقعيًا إلا إذا أُسِّس على تعالٍ من دون عودةٍ إلى نقطة البداية. لا يمكن الحياة أن تصبح طريق الخلاص إلا إذا، في خضمِّ صراعها مع المادة، صادفت حدثًا يمنع تعاليها اليومي من الوقوع من جديد في نقطة تبقى ذاتها على الدوام. لإدراك هذا التعالي الذي يعزز تعالي النور، والذي يعطي العالم الخارجي خارجانية حقيقية، ينبغي العودة إلى الحالة الملموسة حيث يصدر النور عن اللذة، أي، العودة إلى الوجود المادي.

ترجمة: د. جلال بدلة

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] هذا التصور للذة لخروج من الذات يتعارض مع الأفلاطونية. فأفلاطون ينطلق من فكرة النفع عندما يرفض الملذات المختلطة؛ فهي غير نقيَّة لأنها تفترض نقصًا يتمُّ غمره من دون أي عائدٍ فعلي. لكن، لا ينبغي محاكمة اللذة بمفردات الربح والخسارة، بل يجب رؤيتها في صيرورتها وحدثها، وكذلك بالنسبة للأنا التي تندرج في الكينونة، أي، كملقاة داخل ديالكتيك. إنَّ كل ما في جاذبية الأغذية الأرضية وتجربة الشباب يتعارض مع الحساب الأفلاطوني.

[2] الفرصة مواتية هنا للعودة إلى نقطة عالجها ويلينس Waelhens في محاضرته الرائعة. يتعلق الأمر بـ هوسرل. يقدِّر ويلينس أنَّ السبب الذي دفع هوسرل للانتقال من الحدس الوصفي إلى التحليل الترانسدنتالي يعود إلى التوحيد بين المعقولية والبناء؛ فمجرد الرؤية ليس معقولية. إلا أنني أعتقد أنَّ فكرة هوسرل عن الرؤية تتضمن المعقولية مسبقًا. أن نرى، هذا يعني أن نجعل الموضوع يخصُّنا كما لو أنَّنا نُخرج هذا الموضوع الذي نلقاه من أعماقنا. بهذا المعنى، "البناء الترانسدنتالي" ليس إلا رؤية ذات وضوح تام. إنَّها إتمام للرؤية.

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني