أطوار صورة الله في التوراة: إله العائلة

 

فراس السواح

 

مع الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين، تنتهي افتتاحية الكتاب الميثولوجية الفخمة، التي روت عن قيام الإله التوراتي تحت اسم الله أحيانًا واسم يهوه أحيانًا أخرى بخلق العالم وخلق الإنسان، وما تلا ذلك من قصة الجنة والعصيان والسقوط، ونسل آدم، والطوفان. ومع الانتهاء من هذه الافتتاحية تنتهي علاقة الإله مع البشر وتبدأ قصته مع شعب إسرائيل الذي تسلسل من سام، أحد أولاد نوح الثلاثة الذين تشعَّبت منهم أمم الأرض بعد الطوفان.

تنتهي سلسلة سام في الإصحاح الحادي عشر إلى المدعو تارح الذي كان يسكن مدينة أور في جنوب وادي الرافدين. ومع تارح هذا تبدأ قصة أصول إسرائيل. فقد أنجب تارح ثلاثة أبناء هم: أبرام (أو إبراهيم كما دُعي فيما بعد) وناحور وهاران، ولكن هاران توفي في حياة أبيه وترك ابنه لوطًا في رعاية جده. أما أبرام وناحور فقد اتخذا لهما زوجتين هما ساراي (أو سارة كما دُعيت فيما بعد) ومِلكة. وكانت ساراي زوجة أبرام عاقرًا. ولسبب غير واضح، قرر تارح مغادرة موطنه والتوجه إلى فلسطين في أرض كنعان. ولكنه حط الرحال في مدينة حاران (= حرَّان) في الشمال السوري، ومعه ولداه أبرام وناحور، وزوجتاهما، وحفيده لوط ابن هاران المتوفى، ولكن إقامة تارح في حاران طالت ووافته المنية هناك (التكوين 11: 10-32).

عند هذه النقطة تأخذ البدايات الأولى لقصة إسرائيل كما رسمها محرر سفر التكوين بالتوضُّح. فبعد وفاة تارح خاطب يهوه أبرام قائلاً له:

اذهب من أرضك وعشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أُريك، فأجعلك أُمَّةً عظيمة وأُباركك وأُعظِّم اسمك، وتكون بركة... فذهب أبرام كما قال له الرب. وأخذ أبرام ساراي امرأته ولوطًا ابن أخيه وكل مقتنياتهما التي اقتنيا والنفوس التي امتلكا في حاران فأتوا إلى أرض كنعان. (التكوين 12: 1-5).

فمن هو أبرام هذا؟ ولماذا اختاره الرب من بين جميع الناس ليكون إلهًا له ولأسرته؟ لقد قال لنا محرر سفر التكوين إن الله قد اختار نوحًا لأنه أكثر الناس برًا في جيله، فلماذا لم يقل الشيء نفسه أو أي شيء آخر عن أبرام؟ إن الجواب على هذه الأسئلة يكمن في أن الرب لم يكن هو الذي اختار أبرام ليكون إلهًا له، بل إن أبرام هو الذي اختاره ليكون إلهًا له ولعائلته. وهذه الظاهرة معروفة في تاريخ الدين ندعوها بدين العائلة أو الدين الشخصي، عندما يختار رب الأسرة أحد الآلهة ويدخل في علاقة شخصية معه، ويعتبره حاميًا له ولأفراد عائلته، ويتوقع منه العون والمساعدة والتوجيه في حياته الشخصية وعلاقاته مع الآخرين، وفي مواجهته لقوى الطبيعة. ويتم اختيار هذا الإله من بين الآلهة المتعددة التي تعبدها الجماعة التي ينتمي إليها الشخص، وما أن يتم اختياره حتى يغدو الإله الوحيد المعبود ومركز التقوى الدينية في العائلة، إليه تُقدم التقدمات وترفع الصلوات، ويُنادى كشفيع أمام القوى الكونية الكبرى. وهنا بالطبع لا وجود لكهنة محترفين أو معابد ومراكز دينية عامة، والطقوس تؤدى على مستوى العائلة حيث يلعب رب الأسرة دور الكاهن. وإذا ما ارتحلت الأسرة ارتحل معها إلهها وبُني له مذبحٌ في محل الإقامة الجديد يرمز إلى حضوره بينها، على ما فعل أبرام:

فأتوا إلى أرض كنعان. واجتاز أبرام في الأرض إلى مكان شكيم، إلى بلوطة مورة، وكان الكنعانيون حينئذٍ في الأرض. وظهر الرب لأبرام وقال: لنسلك أُعطي هذه الأرض. فبنى هناك مذبحًا للرب الذي ظهر له. ثم نقل من هناك إلى الجبل شرقي بيت إيل ونصب خيمته، وبنى هناك مذبحًا للرب ودعا باسم الرب. ثم ارتحل أبرام ارتحالاً متواليًا نحو الجنوب. (التكوين 12: 6-9).

في وعد الرب لأبرام ذي الزوجة العاقر بنسل، يكشف الإله الشخصي عن سمة مهمة أخرى من سمات علاقته بالعائلة التي يدير شؤونها، لاسيما فيما يتعلق بالجماعات الرعوية والزراعية، حيث تشكل العائلة وحدة اقتصادية متكاملة ومكتفية بذاتها إلى حد بعيد. فالأولاد يقدمون اليد العاملة اللازمة لدعم أعمال الأب، ويحافظون على ثروة الأسرة وأملاكها، ويعتنون بالوالدين في سن الشيخوخة. وبدون هؤلاء الأولاد فإن كيان الأسرة مهدد بالزوال. من هنا تأتي أهمية الوعد الإلهي بولادة وريث، وهو الوعد الذي يتكرر عدة مرات في قصة إبراهيم.

هذا الإله الشخصي لرب الأسرة سوف يغدو إلهًا لأولاده من بعده، ويأخذ دور الأب الأعلى في رعايتهم، ولذلك يُدعى بإله الأب أو إله الآباء. ولذلك نجد يعقوب فيما بعد يدعوه بإله إبراهيم (التكوين 31: 53)، وبإله أبي إله إبراهيم (التكوين 31: 42). ونجد عبد إبراهيم يناديه: يا أيها الرب إله سيدي إبراهيم (التكوين 24: 12). وقد يكون من الضروري أحيانًا أن يعيد الخَلَفُ توثيق علاقته مع إله السلف ليكون إلهًا له مثلما كان إلهًا لأبيه. ولذلك نجد يعقوب بعد أن فر من وجه أخيه عيسو وسافر قاصدًا بيت خاله لابان في حران، يشترط على إله أبيه أن يعينه ويرزقه ويعيده سالمًا لكي يختاره إلهًا له:

ونذر يعقوب نذرًا قائلاً: إن كان الله معي وحفظني في هذا الطريق، وأعطاني خبزًا لآكل وثيابًا لألبس، ورجعت بسلام إلى بيت أبي، يكون الرب لي إلهًا. (التكوين 28: 20-21).

ويبدو أن الأمور سارت بين الطرفين على خير ما يرام، لأنه في عودته إلى دياره خاطب إلهه قائلاً:

يا إله أبي إبراهيم وإله أبي إسحاق، الرب الذي قال لي ارجع إلى أرضك وإلى عشيرتك فأُحسن إليك. صغير أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التي صنعتَ لعبدك... نجني من يد أخي عيسو لأني خائف منه. (التكوين 32: 9-11).

وعندما قرر هذا الإله الشخصي بعد مدة طويلة أن يتحول إلى إله لشعب بكامله، قدم نفسه لموسى في أول تجلٍّ له على أنه إله آبائه نفسه: "أنا إله أبيك، إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب." (الخروج 3: 6).

إلا أن ما يميز إله إبراهيم عن إله موسى، هو إن إله الآباء، إبراهيم وإسحاق ويعقوب، لم يقل لهم مثلما قال يهوه لموسى في وصيته الأولى: "لا يكن لك آلهة أخرى أمامي" (الخروج 20: 3). فقد عاش هو في عالم متعدد الآلهة، وهم على الرغم من عبادتهم لإلههم الشخصي وإخلاصهم له، لم ينكروا وجود آلهة أخرى، وربما تباركوا بها وحمل أفراد من أُسرهم صورها معهم. فعندما قرر يعقوب العودة إلى دياره بعد أن تزوج من بنتي خاله لابان، وخشي من ممانعة لابان في سفره لأنه كان يرعى غنمه ويخدمه، انطلق في الليل سرًا، أما زوجته الثانية راحيل فقد سرقت أصنام أبيها وخبَّأتها في متاعها. وعندما اكتشف لابان خدعة يعقوب تبعهم، وحين أدركهم عاتب يعقوب قائلاً: "أنت ذهبت لأنك اشتقت إلى بيت أبيك، ولكن لماذا سرقت آلهتي؟" وكلمة أصنام الواردة هنا هي في الأصل العبري «تَرافيم». وعلى ما نفهم من المواضع المتعددة التي وردة فيها كلمة ترافيم في الكتاب، فإنها كانت صورًا منحوتة لآلهة رب البيت. وفي العادة تكون خفيفة وسهلة الحمل، وتوضع في المصلى العائلي أحيانًا على ما نفهم من قصة ميخا في سفر القضاة: 17-18.

وظاهرة الدين العائلي هذه موثقة لدينا خارج كتاب التوراة، ولدينا عنها نصوص من بلاد الرافدين ترجع إلى القرون الأولى من الألف الثاني قبل الميلاد، أي من الموطن الأصلي لإبراهيم والفترة الزمنية نفسها[1]. وهذا النوع من العبادة لم يكن وقفًا على العائلات الرعوية والفلاحية فقط، بل إن كل ملك سومري كان له إله شخصي يحميه ويسدد خطاه. وتعبير إلهي، أو إلهي الخاص، يرد في العديد من أدعية هؤلاء الملوك لآلهتهم. وفي نصوص أوغاريت التي ترجع إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، يدعو الملك إلهه الشخصي بـ«إل. إب» أي إله أبي أو آبائي. ففي ملحمة أقهات نجد الملك دانيال العاقر يصلي طالبًا ذرية وولدًا "يقيم نصبًا لإله أبيه – إل. إب – في الحرم المقدس". وظهر تعبير إل. إب على ختم شخصي يحمل اسم صاحبه على أنه عبد إل. إب، أي عبد إله الآباء. ويبدو أن لإله الآباء هذا طبيعة أخرى عند الكنعانيين تتعلق بعبادة الأسلاف، فهو يجسد أرواح الأسلاف التي تتابع من عالمها الآخر عنايتها بالأسرة ورعايتها لها[2].

وهكذا نجد أن إله التكوين في صورة الله السامي المتعالي، وفي صورة يهوه الغضوب المخيف، قد تحول في عصر الآباء إلى صديق أنيس للعائلة الإبراهيمية، ودخل في علاقات شخصية مع أفرادها، يكلمهم ويكلمونه دون إحساس منهم برهبة الدنو من القدسي، ويُعنى بأدق تفاصيل حياتهم. فعندما حملت جارية إبراهيم منه بعد أن دفعتها إليه سارة لَمَّا يئست من الحمل، غارت سارة وأذلت جاريتها حتى هربت من وجهها. وهنا تدخل الرب إله العائلة لحل هذه المشكلة، وظهر لها عند عين ماء في البرية وقال لها: يا هاجر جارية ساراي، من أين جئت وإلى أين تذهبين؟ فقالت: إني هاربة من وجه ساراي مولاتي. فقال لها: ارجعي إلى مولاتك واخضعي تحت يديها. لأكثرن نسلك تكثيرًا حتى لا يُحصى لكثرته. ها أنت تلدين ابنًا وتسمينه إسماعيل لأن الرب قد سمع صوت شقائك: "فدعت اسم الرب الذي تكلم معها أنت إيل رُئي. لأنها قالت أَهَهُنا رأيت بعد رؤية" (التكوين 16). ويتضح لنا من هذه الجملة المشوشة الأخيرة أن هاجر قد رأت الرب الذي دعته بالاسم إيل. وهذه الجملة ترد في الترجمة الكاثوليكية للعهد القديم على الوجه التالي: "فنادت باسم الرب المخاطب لها أنت الله الذي رآني، لأنها قالت يقينًا هَهُنا رأيت قفا رائيَّ". وهذه الترجمة على غموضها أيضًا تفيد بأن هاجر قد رأت إيل من قفاه كما رآه موسى فيما بعد (الخروج 33: 18-23).

وعندما أرسل إبراهيم عبده ليخطب لابنه إسحاق فتاة من بيت أخيه ناحور الساكن في آرام النهرين على الفرات، وصل العبد إلى أطراف بلدة ناحور وأناخ جماله على بئر الماء وقت خروج المستقيات وطلب من إله العائلة أن يدله على الفتاة التي جاء لخطبتها، وهنا لم يرَ الإله ضيرًا في أن يُقدم له هذه الخدمة: "أيها الرب إله سيدي إبراهيم يسِّرْ لي اليوم واصنع لطفًا إلى سيدي إبراهيم. ليكن أن الفتاة التي أقول لها: أميلي جرتك لأشرب. فتقول: اشربْ وأنا أسقي جمالك أيضًا، هي التي عيَّنتَها لعبدك إسحاق." وعندما استجاب له الرب وقدم له هذه الخدمة "خر وسجد للرب وقال: مبارك الرب إله سيدي إبراهيم الذي لم يمنع لطفه وحقه عن سيدي." (التكوين 24: 1-27).

وهكذا فقد غدا خالق السماوات والأرض الآن على مقياس العائلة. وكما كانت هذه العائلة صغيرة وهشة ولا تستطيع اللجوء إلى القوة في مواجهة خصومها، كذلك كان إلهها المسالم الذي لم يتخذ بعد وجه الإله المحارب. وفيما عدا قصة تدميره لمدينتي سدوم وعمورة، وهي قصة لا تنتمي إلى قصص عصر الآباء بقدر انتمائها إلى الافتتاحية الميثولوجية لسفر التكوين، فإن هذا الإله كان مسالمًا إلى أبعد الحدود، ولا يحارب إلى جانب أسرته أو يحضهم على القتال. ولنا في قصة نزاع أسرة إسحاق مع رعاة ملك جرار على الآبار خير مثال على ذلك، عندما لم يتدخل إله إسحاق في هذا النزاع ولكنه ساعد عائلته على إيجاد آبار جديدة بديلة، وانتهى النزاع بطريقة دبلوماسية وتم عقد معاهدة بين الطرفين (التكوين 26: 19-31). وعندما تخاصمت أسرة لابان مع أسرة يعقوب، لم يكن لآلهة الطرفين من دور سوى رعاية عهد الصلح بين الطرفين:

وقال لابان ليعقوب: شاهدة هذه الرجمة وشاهد هذا العمود أني لا أتجاوز هذه الرجمة إليك، ولا تتجاوز هذه الرجمة وهذا العمود إليَّ للشر. إله إبراهيم وإله ناحور، آلهة أبيهما، يقضون بيننا. (التكوين 31: 51-53).

وكما نلاحظ من قصص عصر الآباء، فإن الدين المؤسساتي لم يكن قد ظهر بعد، ولم يكن الدين سوى تقوى شخصية وإحساس بوجود قوة إلهية خيِّرة تقدم له عونًا غير مشروط وغير مرتبط بالمواقف الأخلاقية. فعند هذه المرحلة من دين إسرائيل كما يرسمه المحرر التوراتي، لم يكن الإله قد أنزل شريعة، ولم يأمر بعد بالتزام أي وصايا ولم يحدد طبيعة الطقوس التي يتوجب على جماعته ممارستها. ولم تكن الطقوس التي مارسها هؤلاء الآباء إلا من النوع الشائع والمعروف لدى الأسر الرعوية والزراعية في تلك الأيام. فقد كانوا يقربون التقدمات الزراعية والحيوانية في بيوتهم أو خيامهم، ويبنون مذبحًا في المكان الجديد الذي يمكثون فيه أو يقيمون نصبًا حجريًا يعبر عن حضور الألوهة بينهم مثلما فعل يعقوب قرب مدينة لوز عندما ظهر له الرب في المكان، فنصب عمودًا حجريًا وصب عليه زيتًا ودعا اسم ذلك المكان بيت إيل (التكوين 25: 16-18). وبالطبع لم يكن لأولئك الآباء مقامات دينية منفصلة عن منازلهم، ولا كهنوت، ولا دورة سنوية شعائرية أو أعياد دينية ثابتة. كما أننا لا نعثر في قصص الآباء على تأملات لاهوتية بخصوص طبيعة الله وعلاقته بالبشر، ولا على أفكار تتعلق بالثواب والعقاب وأحوال عالم الموتى. لقد كان على كل هذه الأمور أن تنتظر تجلي يهوه لموسى عند جبل سيناء في نار شجرةٍ شوكيةٍ تتوهج بالنار دون أن تحترق.

بعد أن تلقى إبراهيم وهو في الخامسة والسبعين من العمر أول وعد من الرب بنسل يرث أرض كنعان، حصل جوع في الأرض فارتحل إلى مصر، وهناك قال عن زوجته سارة أنها أخته حتى لا يُقتل بسببها لأنها كانت امرأة جميلة. ولكن عبيد الفرعون رأوا جمالها فأخذوها إلى سيدهم فضمها إلى حريمه، وصنع خيرًا لإبراهيم فصار لديه مواشٍ كثيرة. وعندما اكتشف الفرعون أنها زوجته وليست أخته، أعادها إليه وصرفه بسلام. (التكوين 13: 1-10).

عندما عاد إبراهيم إلى كعنان تخاصم رعاته مع رعاة لوط فقرر الاثنان أن يفترقا فعبر لوط إلى شرقي الأردن وسكن في الوادي عند مدينة سدوم. وقال الرب لإبراهيم بعد أن فارقه لوط:

إن جميع الأرض التي تراها أعطيها لك ولنسلك إلى الأبد. قم فامشِ في الأرض طولها وعرضها فإني لك أعطيها. فانتقل أبرام بخيامه حتى جاء وأقام في بلوطات ممرا التي بحبرون، وبنى هناك مذبحًا للرب. (التكوين 13: 15-18).

وهذا هو الوعد الثاني الذي يبذله الرب لإبراهيم بالذرية.

أما لوط فقد نجَّاه الرب من الدمار الشامل الذي أحدثه بسدوم وعمورة، فلجأ مع ابنتيه إلى كهف في جبل وعاشوا هناك في عزلة لأن جميع السكان من حولهم قد ماتوا. ولما اشتهت البنتان الذرية وما من أحد ليدخل عليهما سقتا أباهما خمرًا واضطجعتا معه وهو لا يشعر. فحملتا منه وولدت الكبرى ابنًا دعته مؤاب وولدت الصغرى ابنًا دعته بَنْعمِّي، فصار مؤاب أبًا للشعب المؤابي، وبنعمي أبًا للشعب العموني (التكوين 19). ونلاحظ هنا كيف بدأ المحرر التوراتي يرسم خارطة إثنية للمنطقة، ويستبعد من خط نسب إسرائيل الذي تسلسل من نوح عبر ابنه سام شعوبًا ذات نسب وضيع مبتدئًا بمؤاب وعمون الأعداء التقليديين لبني إسرائيل، الذين جعلهم أولاد زنا نجموا عن فسق الأب بابنتيه.

بعد هذه الأمور كان كلام الرب إلى إبراهيم في الرؤيا قائلاً: "لا تخف يا أبرام أنا ترس لك. أجرك عظيم جدًا." وهنا تكلم إبراهيم لأول مرة مع إلهه، وكان في المرات السابقة يستمع ولا يرد، أما الآن فقد طفح به الكيل. فما هو الأجر العظيم الذي يعده به الرب وهو ما زال عقيمًا والوعد بالنسل لم يتحقق؟ قال إبراهيم بمرارة ولهجة نزقة: "يا رب، ماذا تعطيني وأنا ماضٍ عقيمًا وقيّم بيتي هو أليعازر الدمشقي؟ وقال أبرام: إنك لم ترزقني نسلاً، وهوذا ربيب بيتي وارث لي." (وكانت الأعراف تقضي في تلك الأيام، على ما نعرف من وثائق مدينة نوزي الحورية، أن القيِّم على بيت الرجل هو الذي يرثه إذا مات دون خَلَفٍ). فقال له الرب: "لا يرثك هذا بل من يخرج من صلبك هو الذي يرثك... في ذلك اليوم قطع الرب ميثاقًا مع أبرام قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات." (التكوين 15). وكان هذا هو الوعد الثالث الذي لم يتم الوفاء به مجددًا.

بعد مرور عشر سنوات على إقامة إبراهيم في أرض كنعان، أعطت سارة جاريتها المصرية هاجر إلى إبراهيم ليدخل عليها عساهما يحصلان منها على نسل. فحملت هاجر وأنجبت لإبراهيم ابنًا وهو في سن السادسة والثمانين. ولكن إبراهيم لم يعتبر أن إلهه قد وفى بوعده لأنه كان راغبًا في نسل من زوجته سارة. أما إلهه فقد انقطع عنه مدة ثلاث عشرة سنة، وعندما بلغ التاسعة والتسعين كلمه مجددًا وأعاد توثيق عهده معه ومع نسله من بعده، ثم أمره أن يختتن هو وابنه وجميع عبيده، ليكون هذا الختان علامة العهد. وكان هذا هو البند التشريعي الوحيد الذي فرضه الرب في سفر التكوين على الآباء. ثم إن الرب غير اسمه من أبرام إلى إبراهيم، وغير اسم زوجته من ساراي إلى سارة، ووعده للمرة الرابعة بولد منها يدعى إسحاق يقيم معه عهدًا أبديًا له ولنسله (التكوين 17). لدى سماع إبراهيم لهذا الوعد الرابع لم يجادل إلهه كما في المرة السابقة، وإنما كبت غيظه وقال في قلبه: "هل يولد لابن مئة سنة؟ وهل تلد سارة وهي بنت تسعين؟"

أما الوعد الخامس فلن يتأخر كثيرًا ولن يتأخر تحقيقه، وسوف نتوقف في البحث التالي عند هذا الوعد لطرافة وغرابة ما رافقه من أحداث.

*** *** ***

ألف، 2013-10-05


 

horizontal rule

[1] Th. Jacopson, The Treasures of Darkness, Yale, 1976. PP. 147

[2] W. F. Allbright, Yahweh and the Gods of Canaan, Anchor Book, 1969, pp. 292.

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني