الصفحة التالية                  الصفحة السابقة

الاقتلاع والأُمَّة 2

 

سيمون ڤـايل

 

يمكن أن نرى بوضوح إلى أي حد وصل التفككُ الأخلاقي لنظامنا إذا فكَّرنا بالمَدْرسة. فالأخلاق فيها تشكِّل جزءًا من البرنامج، وحتى المدرِّسون الذين لم يكونوا يُحِبُّون أن يجعلوا منها موضوعَ تعليم عقائدي كانوا يُعلِّمونها حتمًا بصورة باهتة. وكان المفهوم الرئيسي لهذه الأخلاق هو العدالة والواجبات التي تفرضها تجاه القريب.

ولكن عندما يتعلق الأمر بالتاريخ لا تعود الأخلاق تتدخَّل. فلا يجري الحديث أبدًا عن واجبات فرنسا في الخارج. كانوا يصفونها أحيانًا بالعادلة والكريمة، وكأن هذا زيادة لها، ريشة على القبَّعة، تتويج للمجد. فالفتوحات التي قامت بها وخسرَتْها قد تكون بأسوأ الحالات موضوعَ شك خفيف، مثل فتوحات نابليون؛ ولكن ليست أبدًا الفتوحات التي حافظَت عليها. ليس الماضي سوى تاريخ نمو فرنسا، ومن المسَلَّم به أن هذا النمو هو دائمًا خير من جميع النواحي. ولم نتساءل قط إن كانت قد قامت بالتدمير أثناء نموها. إن التفكير في أنه لم يحصلْ لها ربما أنْ دمَّرَت أشياءً من مستوى قيمتها قد يبدو أفظعَ تجديف. يقول برنانوس إن جماعة حركة العمل الفرنسي Action Française ينظرون إلى فرنسا كولد يُطلَب منه أن يكبر ويسمن. ولكن ليسوا هم الموجودين فقط ولا أحد غيرهم. إنه خط التفكير العام الذي، بدون أن يُعبَّر عنه أبدًا، يكون دائمًا مضمَرًا في الطريقة التي يُرى بها ماضي البلد. والتشبيه بالولد هو تشبيه أكثر من لائق. فالكائنات التي لا نطلبُ منها إلاَّ أنْ تسمنَ هي الأرانب والخنازير والفراريج. لقد استخدم أفلاطونُ الكلمةَ الأصح عندما قارن الجماعةَ بالحيوان. والذين يعميهم ويبهرهم سِحرُها، أي جميع البشر، عدا المكرَّسين منذ الأزل، "يَدْعون الأشياءَ الضروريةَ بالعادلة والجميلة، لعدم قدرتهم على تمييز وتعلُّم المسافة الموجودة بين جوهر الضروري وجوهر الخير."

يفعلون كلَّ شيء لكي يشعر الأطفالُ، ويشعرون بذلك من جهة أخرى بصورة طبيعية، بأن الأشياء الخاصة بالوطن والأمة ونمو الأمة لها درجة أهمية تضعهم بمعزل عن الآخرين. وتحديدًا بصدد هذه الأشياء لم تُذْكَرْ أبدًا العدالةُ والاحترامُ الواجب للآخرين والالتزاماتُ الصارمة التي تفرِض حدودًا على الطموحات والشهوات، وكلُّ هذه الأخلاق التي نسعى لإخضاع حياة الأولاد الصغار لها لم تُذكَر أبدًا.

ماذا نستنتج من ذلك غيرَ أنها في عِداد الأشياء ذات الأهمية القليلة وأنها، كالدين والمهنة واختيار طبيب أو مُوَرِّد [تاجِر]، تأخذ مكانَها في المجال الأدنى للحياة الخاصة؟

لكنْ إذا ما الأخلاقُ بكل ما تحمله هذه الكلمةُ من معنىً انحطَّت على هذا النحو فلن يحلَّ محلَّها نظام مختلف. لأن الهيبة الأسمى للأمة مرتبطة بذكرى الحرب. ولا تُقدِّم دوافعَ، بالنسبة لزمن السلْم، إلاَّ في نظام يقوم على التحضير المستمر للحرب، كالنظام النازي. وفيما عدا مثل هذا النظام، قد يكون خطيرًا التذكيرُ كثيرًا بأن هذا الوطن الذي يطلب من أبنائه حياتَهم يمتلك وجهًا آخر هو الدولة بضرائبها وجماركها وشرطتها. يتجنبون ذلك بعناية؛ وهكذا لا يخطر ببال أحد أن كراهية الشرطة والتهرب الجمركي والضريبي لا يمكن أن يكون نقصًا في الوطنية. يشكِّل بلدٌ مثل إنكلترا استثناءً إلى حد ما، بسببِ إرثٍ عُمرُه ألفُ عام من الحرية التي تكفلُها السلطاتُ العامة. وهكذا فإن ازدواجية الأخلاق في زمن السلْم يُضعِف سلطةَ الأخلاقِ الدائمةِ بدون أن تضع شيئًا مكانها.

هذه الازدواجية موجودة بصورة مستمرة، دائمًا، في كل مكان، وليس فقط في المَدْرسة. لأنه يحصل يوميًا تقريبًا، في الأوقات العادية، لأي فرنسي، عندما يقرأ الصحيفةَ، عندما يتناقش مع العائلة أو في الحانة، أنْ يفكرَ من أجل فرنسا، باسم فرنسا. وابتداءً من تلك اللحظة وحتى يرجع إلى شخصيته الخاصة، يفقد حتى تذَكُّرَ الفضائل التي قبِلَ على نفسه الالتزامَ بها بصورة غامضة إلى حد ما ومجردة. وعندما يتعلَّق الأمر بنفسه وحتى بعائلته، فمن المسَلَّم به إلى حد ما أنه يجب ألاَّ يتباهى بنفسه كثيرًا، يجب أن يحذر من إطلاق أحكامه عندما يكون قاضيًا وطرفًا في آن معًا، يجب أن يتساءل إن كان الآخرون على حق ولو جزئيًا على الأقل ضده، يجب عدم التباهي كثيرًا، يجب عدم التفكير بالنفس فقط؛ باختصار، يجب وضع حدود للأنانية والكبرياء. أما فيما يخصُّ الأنانيةَ القومية والكبرياء القومي فهناك حرية لا حد لها، وليس هذا فحسب، بل هناك شيء ما يشبه الواجبَ يفرِض أعلى درجة ممكنة منها. فعلاقات احترام الآخرين والاعتراف بالأخطاء التي يرتكبها المرء والتواضع ووضع حد إرادي للرغبات تصبح في هذا المجال جرائمَ وانتهاكاتٍ للحرمات. من بين العديد من الأقوال السامية التي يلقِّنها كتابُ الموتى المصري في فم البارِّ الصالح بعد الموت وربما الأكثر تأثيرًا هي هذا القول: "لم أُصِمَّ أُذُنَيَّ عن كلام الحق." إلاَّ انه على الصعيد الدولي يرى كلُّ فرد أنه من الواجب المقدس أن يصمَّ أذنيه عن سماع كلام حق يتعارض مع مصلحة فرنسا. أو هل نقِرُّ بأنَّ كلَّ كلام يتعارض مع مصلحة فرنسا لا يمكن أبدًا أن يكون كلامَ حق وصدْق؟ الأمران سِيَّان.

هناك أخطاء ذوقية تمنع التربيةُ الحسنةُ، في حال عدم وجود أخلاق، من ارتكابها في الحياة الخاصة، هذه الأخطاء تبدو طبيعيةً تمامًا على الصعيد الدولي. فحتى أشنع رئيسة جمعية خيرية قد تتردد في جمع من ترعاهم لكي تكشفَ لهم من خلال خطابٍ عظَمةَ الإحسان الممنوحِ لهم وعظَمةَ الشكر الواجب بالمقابل. لكنَّ أحدَ الوُلاة الفرنسيين في الهند الصينية [شبه الجزيرة الهندية الصينية] l'Indochine لم يتردد باسم فرنسا في التمسك بهذه اللغة حتى بعد أعمال القمع المروِّعة جدًا مباشرةً أو بعد المجاعات التي يندى لها الجبينُ خجَلًا؛ وينتظر، ويفرض أجوبةً تكونُ صدىً لما يريد.

وهذه عادة موروثة من الرومان. إذْ كانوا لا يرتكبون أبدًا أعمالًا وحشية ولا يقدِّمون أبدًا معروفًا بدون أن يتباهوا في كلا الحالتين بكرمهم ورحمتهم. ولم يكن مقبولًا أبدًا أن يُطلَب إليهم أيُّ شيء، حتى مجرد طلب تخفيف أفظع قمع، قبل البدء بالمدائح نفسها. فدنَّسوا بذلك التوسلَ الذي كان شريفًا قبلهم من خلال فرض كذب التملُّق عليه. في الإلياذة، لا يضيف الطرواديُّ أيةَ نبرة تملُّق مهما كانت طفيفةً في لغته وهو يجثو على ركبتيه أمام اليوناني ويتضرَّع إليه لكي يبقيَه حيًا.

لقد ورثْنا وطنيتَنا مباشرةً عن الرومان. ولهذا يتم تشجيع صغار الفرنسيين على استلهامها من كورناي. إنها فضيلة وثنية، إذا كانت الكلمتان لا تتعارضان مع بعضهما البعض. فكلمة "وثني"، حملَتْ في روما بالفعل وبصفة شرعية معنى الفظاعة الذي كان المجادلون polemists المسيحيون الأوائل يعطونه لهذه الكلمة. لقد كان شعبًا ملحدًا فعلًا وعابدَ أصنام؛ ليس عابدًا لتماثيلَ من حجر أو برونز، بل عابد ذاته. وعبادةُ الذات هذه هي التي أورثونا إياها تحت مسمَّى الوطنية.

لذلك كانت الازدواجيةُ في الأخلاق فضيحةً مدوِّية، إذا ما فكَّرنا، عوضًا عن الأخلاق العلمانية، بالفضيلة المسيحية التي كانت الفضيلةُ العلمانية ببساطةٍ نسخةً عنها لجمهور واسع ومحلولًا مخفَّفًا غيرَ مُرَكَّز. إنَّ مَرْكَزَ الفضيلة المسيحية وجوهرها ونكهتها الخاصة هي التواضع، الحركة نحو الأدنى برضا تام. وبهذا يتشبَّه القدِّيسون بالمسيح. "الذي إذْ هو في صورة الله لم يحسبْ مساواتَه لله اختلاسًا... أفرغَ ذاتَه [أخلى نفْسَه]... مع كونِه ابنًا، تعلَّمَ الطاعةَ مما تألَّم به[1]."

لكنْ عندما يفكر فرنسيٌّ بفرنسا يكون الكبرياءُ في نظره واجبًا، بحسب المفهوم الحالي؛ ويبدو التواضع خيانةً. هذه الخيانةُ هي التي تُعَدُّ ربما مأخذًا شديدًا على حكومة ﭭيشي. وهذه قولةُ حق، لأن تواضعها كان من نوعية سيئة، كان تواضُعَ عبدٍ يتملَّق ويكذب ليتجنَّبَ الضرباتِ. إلا أن تواضعًا ذا نوعية عالية يبدو، بهذا الصدد، أمرًا مجهولًا عندنا. حتى إننا لا نتصور إمكانيةَ وجوده. ولكي نصل فقط إلى تصور إمكانيته قد يَلْزَمُنا بالأساس جهدُ ابتكار.

إن حضور الفضيلة الوثنية للوطنية في روح مسيحية هو أمر مُدَمِّر. لقد انتقلَت من روما إلى أيدينا دون أن تتعمَّدَ. وهذا أمر غريب، فالهمجيون، أو الذين نسميهم كذلك، قد تعمَّدوا بدون صعوبة تقريبًا أثناء غزْوِهم؛ لكنَّ إرثَ روما القديمة لم يتعمَّدْ قط، لأنه بلا شك لم يكن باستطاعته قبولُ المعمودية، هذا على الرغم من أن الإمبراطورية الرومانية قد جعلَت من المسيحية دينَ دولة.

من جهة أخرى، يبدو من الصعب تصور شتيمة قاسية إلى هذا الحد. أما فيما يخص الهمجيين، فمن غير المدهش أن يدخل القوطيون Goths بسهولةٍ في المسيحية، إذا كانوا، كما يعتقد المعاصرون، من أقارب هؤلاء الغِيتيِّين Gêtes[2]، أكثر التراقيين Thraces[3] بِرًا، والذين كان هيرودوتُ يسمِّيهم المخلِّدون immortaliseurs بسبب شدة إيمانهم بالحياة الأبدية. فاختلط إرثُ الهمجيين بالروح المسيحية ليشكِّلَ هذا النتاجَ الفريدَ الذي لا يضاهى والمتجانس تمامًا والذي يسمَّى الفرسان. لكن بين روح روما وروح المسيح لم يكن هناك اندماج أبدًا. ولو كان الاندماج ممكنًا لكان سِفْرُ رؤيا يوحنا [اللاهوتي] Apocalypse كاذبًا في تشبيهه روما بالمرأة الجالسة على الوحش، المرأةِ المملوءة أسماءَ تجديف[4].

كانت النهضة انبعاثًا من الروح اليونانية أولًا، ثم من الروح الرومانية. في هذه المرحلة الثانية فقط عملَت النهضةُ كهادمة للمسيحية. وخلال هذه المرحلة الثانية وُلِدَ الشكلُ الحديث للقومية، الشكلُ الحديث للوطنية. كان كورنايُ مُحِقًا في إهداء مسرحيته أوراس Horace [عام 1640 م] إلى ريشليو، مستخدمًا عباراتٍ كانت دناءتُها صِنْوَ التكبر، يهذي تقريبًا هذيانًا يوحي بالمأساة. هذه الدناءة وذاك التكبر لا ينفصلان؛ ونرى ذلك في ألمانيا اليوم. كورناي نفسُه مثال ممتاز على نوع الاختناق الذي أصاب الفضيلةَ المسيحية باحتكاكها بالروح الرومانية. كانت مسرحيتُه ﭙـوليوكت Polyeucte ستبدو مضحكةً لو أننا لم تُـعْـمِ أبصارَنا العادةُ. فـﭙـوليوكت، بريشة هذا الكاتب، رَجُلٌ فهِمَ فجأةً أن هناك أرضًا للغزو أعظم بكثير من الممالك الأرضية، وأن هناك تقنيةً خاصة لبلوغ ذلك؛ فيستعد على الفور للذهاب إلى هذا الغزو، دون أي اعتبار لأي شيء آخر، وبالعقلية نفسها التي حارب بها في الماضي لصالح الإمبراطور. ربما بكى الإسكندرُ، كما يقال، لأنه لم يكن لديه غير الكرة الأرضية ليغزوَه. كان كورناي يعتقد على ما يبدو أن المسيح قد نزل على الأرض ليسدَّ هذه الثغرةَ.

إذا كانت الوطنيةُ تعمل بصورة غير مرئية كهادمة للفضيلة سواء أكانت مسيحية أم عِلْمانية، في زمن السلْم، فإن العكس سيحصل في زمن الحرب؛ وهذا أمر طبيعي تمامًا. فعندما يكون هناك ازدواجية أخلاقية فإن الفضيلة التي تقتضيها الظروفُ هي دائمًا التي تتحمَّل ضررَ ذلك. فالميل نحو السهولة يؤدي إلى تفضيل نوع الفضيلة التي لا داعيَ في الواقع إلى ممارستها؛ فيفضِّل أخلاقيةَ الحرب في زمن السلْم وأخلاقيةَ السلْم في زمن الحرب.

في زمن السلْم، تتدنَّى العدالةُ والحقيقةُ، بسبب الحاجز المنيع الذي يفصلهما عن الوطنية، إلى مرتبة الفضائل الخاصة البحتة، شأنها شأن التهذيب مثلًا؛ لكنْ عندما يطلب الوطنُ التضحيةَ القصوى فإن هذا الحاجز نفسه يَحرِم الوطنيةَ من الشرعية التامة التي يمكنها وحدها أن تحرِّضَ على بذل الجهد التام.

إذا اعتدنا على النظر إلى هذا النموِّ لفرنسا كخير مطلق لا تشوبه شائبةٌ، هذا النموِّ الذي التهمَت فرنسا خلاله وهضمَت كثيرًا من الأقاليم، فكيف لن تتسلل إلى إحدى زوايا النفس دعايةٌ مستلهَمة من الفكرة نفسها بالتحديد وواضعةٌ اسمَ أوروبا فقط مكانَ اسم فرنسا؟ تقوم الوطنيةُ الحالية على معادلة حدَّاها هما الخيرُ المطلق وجماعةٌ تُقابِل مساحةً أرضية، أيْ فرنسا؛ وأيُّ شخص يغيِّر في فكره حدَّ المعادلة المتمثل بالأرض ويضع مكانه حدًا أصغر كبريطانيا أو حدًا أكبر كأوروبا يُنظَر إليه على أنه خائن. لماذا هذا؟ إنه اعتباطي تمامًا. والعادة تمنعنا من إدراك مدى اعتباطيته. لكن في اللحظة الأخيرة، تُعرِّضنا هذه الاعتباطيةُ لخطر صانع المغالطات الداخلي.

إن موقف المتآمرين الحالي إزاء أوروبا الجديدة التي صاغها على ما يبدو النصرُ الألماني هو الموقف الذي طُلِب اتِّخاذُه من سكان مناطق البروﭭـانس وبريتانيا والألزاس وفرانش-كونتيه، في الماضي، إزاء غزو ملك فرنسا لبلادهم. لماذا يغير اختلافُ العصور الخيرَ والشر؟ كنا نسمع عادةً أن الناس الطيبين الذين يتمنون السلامَ يقولون بين عامَي 1918 و1919: "في الماضي، كان هناك حروب بين الأقاليم، ثم اتَّحدَت مشكِّلةً أممًا. وستتحد الأممُ في كل قارة بالطريقة نفسها، ثم في العالم أجمع، وسيكون ذلك نهايةَ كل حرب." كانت هذه فكرةً مبتذلة واسعة الانتشار؛ وكانت تَنْـتُج عن هذه المحاكمة العقلية من خلال التعميم والتي كان لها قوة كبيرة في القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين أيضًا. كان الناس الطيبون الذين يتكلمون على هذا النحو يعرفون تاريخ فرنسا إجمالًا، لكنهم لم يكونوا يفكرون عندما كانوا يتكلمون بأن الوحدة الوطنية قد تمَّتْ بصورة حصرية تقريبًا من خلال أعنف الغزوات. ولكن عندما تذكَّروا في عام 1939 فإنهم تذكَّروا أيضًا أن هذه الغزواتِ كانت قد بدت لهم خيرًا. ما المدهش في الأمر إذا أخذ جزءٌ على الأقل من أنفسهم يفكر: "من أجل التقدم، من أجل تحقيق التاريخ، فإنه لا بد من ذلك ربما."؟ كان بوسعهم أن يقولوا فيما بينهم: "أحرزَت فرنسا النصرَ عام 1918؛ ولم تتمكن من تحقيق وحدة أوروبا؛ الآن تحاول ألمانيا تحقيقَ ذلك، فلا تعيقوها." كان من المفروض حقًا أن توقفَهم الأعمالُ الوحشية للنظام الألماني. لكن من الممكن إما ألاَّ يكونوا قد سمعوا بها وإما أنهم افترضوا أن دعايةً كاذبة قد اختلقَتْها وإما أنهم لم يقيموا لها وزنًا يُذكَر، وكأنها أُنزِلَت بأقوام ذوي مستوىً أدنى. هل تجاهُلُ أعمالِ الألمان الوحشية بحق اليهود أو التشيكيين أصعب من تجاهل أعمال الفرنسيين الوحشية بحق الأناميين [الـﭭيتناميين]؟

كان ﭙـيغايُ Péguy[5] يقول: طوبى للذين قُتِلوا في حرب عادلة. لا بد ذلك أنْ يعنيَ أنَّ الذين قتلوهم ظلمًا هم أشقياء. فإذا قُتِل الجنودُ الفرنسيون في عام 1914 في حرب عادلة، فكذلك يكون أيضًا إذًا شأنُ "ﭭـِرسينْجيتوريكس" Vercingétorix بالتأكيد، بالدرجة نفسها على الأقل. إذا فكَّر أحدهم بهذه الطريقة فما هي المشاعر التي تتملَّكه تجاه الرجل الذي حبسه خلال ست سنوات مكبَّلًا في زنزانة شديدة الظلام، ثم عرضَه على الرومان، ثم قُتِل؟ لكنَّ ﭙـيغايَ Péguy كان معجَبًا متحمسًا بالإمبراطورية الرومانية. وإذا كان المرء يُعجَب بالإمبراطورية الرومانية فلماذا يحقد على ألمانيا التي تحاول أن تعيد هذه الإمبراطورية على أرض أوسع وبطرق مماثلة تقريبًا؟ هذا التناقضُ لم يمنعْ ﭙـيغايَ من الموت عام 1914. لكنَّ هذا التناقضَ هو نفسه الذي منعَ، على الرغم من عدم التعبير عنه والاعتراف به، كثيرًا من الشباب عام 1940 من الذهاب للقتال في الحالة الذهنية نفسها التي كانت عند ﭙـيغاي.

إما أن يكون الغزو شرًا دائمًا؛ وإما أن يكون خيرًا دائمًا؛ وإما أن يكون مرة خيرًا ومرة شرًا. وفي الحالة الأخيرة يَلْزَم وجودُ معيار للتمييز. عندما يكون المعيار هو أن الغزو خير عندما يوسِّع الأمةَ التي ننتمي إليها انتماءً بالولادة فيها مصادفةً، وأنه شر عندما يقلِّص الأمةَ، فإن هذا منافٍ للعقل إلى درجة أنه مقبول فقط عند الناس الذين يطردون العقلَ نهائيًا وعن تعصب، كما هي الحالة في ألمانيا. لكن ألمانيا يمكنها فعلُ ذلك لأنها تعيش من إرث رومانسي. وفرنسا لا تستطيع لأن التعلق بالعقل يشكِّل جزءًا من تراثها القومي. يمكن لجزء من الفرنسيين أن يُظهِرَ عداءه للمسيحية؛ لكن قبل عام 1789 وكذلك بعده استندَت جميعُ الحركات الفكرية التي قامت في فرنسا إلى العقل. لا يمكن لفرنسا إزاحة العقل باسم الوطن.

لذلك فإن فرنسا تشعر بضيق في وطنيتها، هذا على الرغم من أنها هي التي اخترعَت في القرن الثامن عشر الوطنيةَ الحديثة. يجب عدم الاعتقاد بأن ما أسمَوهُ بالرسالة العالمية لفرنسا تجعل المصالحةَ بين الوطنية والقيم العالمية أسهل على الفرنسيين منها على غيرهم. إنما العكس هو الصحيح. فالصعوبةُ أكبر على الفرنسيين، لأنهم لا يستطيعون تمامًا أن ينجحوا لا في إلغاء الحد الثاني للتناقض ولا في فصل الحدَّين بحاجز منيع. فيجدون التناقضَ داخل وطنيتهم نفسها. لكنهم يصبحون بذلك وكأنهم مجبَرون على ابتكار وطنية جديدة. فإذا فعلوا ذلك فإنهم يؤدون الوظيفةَ التي كانت إلى حد ما في الماضي وظيفةَ فرنسا، أي التفكير فيما يحتاج إليه العالَم. والعالَم يحتاج في تلك اللحظة إلى وطنية جديدة. والآن يجب القيامُ بجهد الابتكار هذا، في حين أن الوطنية شيء يريق الدماءَ. ويجب عدم الانتظار حتى تعودَ فتصبحَ شيئًا يتكلمون عنه في الصالونات والمجامع Académies وأرصفة المقاهي.

من السهل القولُ، على حد قول لامارتين، "وطني هو كل مكان تتألق فيه فرنسا، الحقيقة هي بلدي." للأسف لن يكون لذلك معنىً إلاَّ إذا كانت فرنسا والحقيقةُ كلمتين مترادفتين. وقد حصل ويحصل وسيحصل أنْ تكذبَ فرنسا وتكون ظالمةً؛ لأن فرنسا ليست اللهَ، وينقصها الكثيرُ. المسيح وحده استطاع أن يقول: "أنا الحقيقة". وهذا غير مسموح لأي شيء آخر على الأرض، لا للبشر ولا للجماعات، ولكنه أقل ما يُسمح للجماعات. لأنه من الممكن أن يبلغَ إنسانٌ ما درجةَ القداسة بما لم يَـعُـدْ هو بل بالمسيح الذي يحيا فيه. في حين أنه ليس هناك من أمة مقدسة.

هناك أمة في سالف الزمان ظنت نفسها مقدَّسة، فباءت بالفشل الذريع؛ ومن الغريب جدًا بهذا الشأن الاعتقادُ بأن الفِرِّيسيين Pharisiens كانوا هم المقاوِمين في تلك الأمة وبأن العشَّارين [جباة الضرائب] publicains هم المتآمرون، وكذلك تذَكُّرُ ما هي العلاقاتُ التي كانت بين المسيح وبين كليهما.

هذا يجبِر على ما يبدو على التفكير بأن مقاومتنا ستكون موقفًا خطيرًا على الصعيد الروحي، بل موقف سيء روحيًا، إذا لم نعرِفْ تقييدَ الدافع الوطني من بين الدوافع التي تحركها في حدود مناسبة. وهذه هو الخطر نفسه الذي يعبِّر عنه بلغة عصرنا المبتذلة جدًا هؤلاء الذين يقولون، عن صدق أم عن غير صدق، بأنهم يخشون أن تتحول هذه الحركةُ إلى الفاشية؛ لأن الفاشية مرتبطة دائمًا بنوع من الشعور الوطني.

لا يمكن أنْ تُذكَر الرسالةُ العالمية لفرنسا بفخر تام إلا كذبًا. وإذا كذَبْنا فإننا نخونها بالكلمات نفسها التي نذكرها بها؛ وإذا تذكَّرْنا الحقيقةَ فلا بد للعار أن يمتزج بالفخر، لأن هناك شيئًا مزعجًا في جميع الأمثلة التاريخية التي يمكن تقديمها عن ذلك. كانت فرنسا في القرن الثالث عشر موئلًا للمسيحيين أجمعين. إلا أنها في مطلع هذا القرن دمَّرَت للأبد في جنوب الوار la Loire حضارةً ناشئة كانت تتألق أساسًا تألقًا كبيرًا؛ وخلال هذه العملية العسكرية، وفيما يرتبط بها، أُنشئت للمرة الأولى محاكمُ التفتيش. وهذه وصْمة عار تؤخذ بالحسبان. فالقرن الثالث عشر هو القرن الذي حل فيه القوطيُّ محلَّ الروماني والموسيقى متعددة النغمات محلَّ الترتيل الغريغوري، وفي الإلهيات حلت التراكيبُ المستقاة من أرسطو محل الإلهام الأفلاطوني؛ وعليه إذًا يمكننا أن نشكَّ في أن التأثير الفرنسي في ذاك العصر كان يقابل تطورًا. في القرن السابع عشر تألقت فرنسا من جديد على أوروبا. إلا أن الهيبة العسكرية المرتبطة بهذا التألق قد تم الحصولُ عليها من خلال طرائقَ مخجلةٍ، على الأقل إذا كنا نحب العدالة؛ ومن جهة أخرى، فقد أنتجَت المخيلةُ الكلاسيكية الفرنسية من أعمال رائعة في اللغة الفرنسية بمقدار ما مارسَت من تأثير مدمر في الخارج. في عام 1789 أصبحت فرنسا أملَ الشعوب. إلا أنها بعد ثلاث سنوات ذهبَت إلى الحرب، ومنذ الانتصارات الأولى استبدلَت حملاتِ التحرير ووضعَت محلها حملاتِ الغزو. ولولا إنكلترا وروسيا وإسبانيا لكانت فَرَضَتْ على أوروبا وحدةً خانقة لا تكاد تكون ربما أقلَّ خنقًا من الوحدة التي وعدت بها اليوم ألمانيا. في النصف الثاني من القرن الأخير، عندما أدركنا أن أوروبا ليست العالَمَ وأن هناك قاراتٍ أخرى على هذا الكوكب، سيطرَت على فرنسا من جديد طموحاتٌ بلعب دور عالمي. لكنها لم تنجح سوى في خلق إمبراطورية استعمارية حذَت حذوَها إمبراطوريةُ الإنكليز، وأصبح اسمها الآن في قلب عدد من الناس الخلاسيين مرتبطًا بمشاعرَ لا يُحتمَل التفكيرُ بها.

وهكذا كان التناقض ملازمًا للوطنية الفرنسية على مر تاريخ فرنسا أيضًا. يجب عدم الاستنتاج من ذلك أن فرنسا التي عاشت طويلًا مع هذا التناقض يمكنها أن تستمر. أولًا، إذا تم الاعتراف بهذا التناقض فمن المخجل تحمُّلُه. ثم إن فرنسا كادت تموت من إحدى أزمات الوطنية الفرنسية. كل شيء يحمل على الاعتقاد بأنه لو لم تكن الوطنيةُ الإنكليزية ذاتَ نوعية متينة لحُسْنِ الحظ لماتت فرنسا. إلا أنه لا يمكن نقلها إلى عندنا. بل لا بد من تجديد وطنيتنا. ومازالت بحاجة إلى تجديد. فهي تحمل من جديد علاماتِ حيوية لأن الجنود الألمان هم عندنا عناصر دعاية لا مثيل لهم للوطنية الفرنسية؛ ولن يظلوا طويلًا هنا.

وهنا تكمن مسؤولية رهيبة. لأن المطلوب هو ما نسميه إعادة تجديد روح البلد: وهناك رغبة قوية تغريهم بإعادة تجديدها باللجوء إلى الكذب أو الحقائق الجزئية الضرورية أكثر من اللجوء إلى البطولة في التمسك بالحقيقة.

كانت أزمة الوطنية مزدوجة. ويمكن القولُ، باستخدام مفردات سياسية، بأنه كان هناك أزمة على اليسار وأزمة على اليمين.

على اليمين، في الشبيبة البرجوازية، كان الفصل بين الوطنية والأخلاق بالإضافة إلى أسباب أخرى قد حط تمامًا من شأن كل أخلاقية؛ لكن الوطنية لم يكد يظل لها هيبة. فالفكر الذي كان يُعبَّر عنه بالكلمات: "السياسة أولًا" قد انتشر أبعد بكثير حتى من تأثير موراس. إلاَّ أنَّ هذه الكلماتِ تُعبِّر عن عبثية، لأن السياسة ليست إلا تقنية، مجموعة وسائل. وكأننا نقول: "الميكانيكية أولًا". والسؤال الذي يُطرح على الفور هو: السياسة بهدف ماذا؟ ربما سيجيب ريشليو: لأجل عظَمة فرنسا. ولماذا لأجل هذا الهدف لا لأجل غيره؟ ليس هناك أي جواب لهذا السؤال.

إنه السؤال الذي يجب عدم طرحه. فالسياسة التي تسمَّى واقعية والتي انتقلت من ريشليو إلى موراس، وليس من دون أن يلحقَ بها فسادٌ أثناء انتقالها، ليس لها معنىً إلاَّ إذا لم يُطرح هذا السؤالُ. هناك سبب بسيط يؤدي إلى عدم طرحه. عندما كان المتسولُ يقول لـ"تالِّيران" Talleyrand: "سيدي، يجب أن أعيش"، كان تالِّيرانُ يردُّ: "لا أرى في ذلك ضرورةً." لكن المتسول نفسه كان يرى جيدًا ضرورة ذلك. كذلك فإن لويس الرابع عشر كان يرى جيدًا ضرورةَ خدمة الدولة بإخلاص تام لأن الدولة كانت هو. ولم يكن ريشليو يظن إلاَّ أنه خادمها الأول؛ مع ذلك، كان يمتلكها بمعنىً ما، ولهذا السبب يتماهى فيها. فليس لمفهوم ريشليو السياسي من معنىً إلا عند هؤلاء الذين يشعرون بصفة فردية أو جماعية إما بأنهم أسياد بلادهم وإما بأنهم قادرون على أن يصبحوا أسيادها.

لم يكن باستطاعة الشبيبة البرجوازية الفرنسية منذ عام 1924 أن تشعر بأن فرنسا مُلْكها. لقد أحدث العمالُ ضجةً كبيرة أكثر من اللازم. ومن جهة أخرى، قد تعاني هذه الشبيبةُ من هذا الإعياء الغامض الذي هبَّ على فرنسا بعد عام 1918، والذي يعود الجزءُ الأكبر من أسبابه بالتأكيد إلى أسباب مادية. وسواء أُلقي اللومُ على إدمان الكحول أو على الحالة العصبية للأهل عندما أنجبوا ورَبَّوا هذه الشبيبةَ أو على أي شيء آخر فإن الشبيبة الفرنسية تعطي منذ وقت طويل إشاراتٍ أكيدةً على التعب. إن الشبيبة الألمانية، حتى في عام 1932، وبينما لم تكن السلطاتُ العامة تهتم بها، كانت تمتلك حيويةً أكبر بما لا يقارَن، على الرغم من حالات الحرمان القاسية جدًا والطويلة جدًا التي عانت منها.

كان هذا التعبُ يمنع من أن تشعر الشبيبةُ البرجوازية في فرنسا بقدرتها على أن تصبح سيدةَ البلد. ومنذ ذلك الحين، كان الجواب الذي يفرض نفسه على السؤال: "السياسة بهدف ماذا؟" هو: "بهدف أن يُنَصِّبَها الآخرون في السلطة في هذا البلد". والآخرون يعني الأجنبي. لا شيء في النظام الأخلاقي لهؤلاء الشباب كان يمنع هذه الرغبةَ. لقد أدخلَتْها صدمةُ عام 1936 فيهم على عمق ميئوس منه. لم يُسَـأْ إليهم أيةَ إساءة؛ لكنهم كانوا خائفين؛ كانوا قد أهينوا، وهذه جريمة لا تُغتفر، في نظرهم، فقد أهانهم الأشخاصُ الذين كانوا ينظرون إليهم على أنهم أدنى منهم. في عام 1937، استشهدت الصحافةُ الإيطالية بمقال نُشِرَ في صحيفة طلابية فرنسية تتمنى فيه شابةٌ فرنسية أن يجد موسوليني من بين مشاغله العديدة وقتًا ليأتيَ ويعيد النظامَ إلى فرنسا.

مهما كانت هذه الأوساطُ قليلةَ اللطف ومهما كان موقفها بالنتيجة إجراميًا فإنهم كائنات إنسانية، وكائنات إنسانية تعيسة. تُطرح المشكلةُ بشأنهم بهذه العبارات: كيف تتم مصالحتهم مع فرنسا بدون تسليمها بين أيديهم؟

على اليسار، أي بصورة خاصة لدى العمال والمثقفين الذين يميلون إلى جهتهم، هناك تياران متمايزان تمايزًا تامًا، على الرغم من أن هذين التيارين أحيانًا ولكن ليس دائمًا يتعايشان في كائن واحد. أحدهما هو التيار المنبثق من الإرث العمالي الفرنسي الذي يعود تاريخه بصورة ظاهرة إلى القرن الثامن عشر، عندما كان كثير من العمال يقرأون جان-جاك [روسو] Jean-Jacques، ولكنه يمكن أن يعود تاريخه بصورة خفية إلى الحركات الأولى لتحرير البلدات. إن هؤلاء الذين يقودهم هذا التيارُ وحده يُكَرِّسون أنفسَهم بالكامل لفكرة العدالة. للأسف فاليوم هذه الحالة نادرة إلى حد ما بين العمال ونادرة جدًا بين المثقفين.

هناك أناس من هذا الصنف في جميع الأوساط المسماة يسارية، مسيحية، نقابية، لاسلطوية [أناركية]، اشتراكية؛ وهناك أناس من هذا الصنف خاصةً بين العمال الشيوعيين، لأن الدعاية الشيوعية تتكلم كثيرًا عن العدالة. وفي هذا تَتَّبِع الدعايةُ تعاليمَ لينين وماركس، مهما بدا ذلك غريبًا على الذين لم يَلِجوا خفايا المذهب.

هؤلاء الناس هم في العمق ذوي نزعة دولية internationalistes في زمن السلْم، لأنهم يعلمون أن العدالة لا جنسية لها. وغالبًا ما يكونون كذلك خلال الحرب طالما أنه ليس هناك هزيمة. لكن هزيمة الوطن الساحقة تُظهِر فورًا في أعماق قلوبهم وطنيةً متينة جدًا ونقية. وسيتصالح هؤلاء بصورة دائمة مع الوطن إذا عُرِضَ عليهم مفهومُ وطنيةٍ متوقِّفٌ على العدالة.

التيار الآخر هو رد على الموقف البرجوازي. لقد أدت الماركسيةُ إلى إمبريالية عمالية شبيهة جدًا بالإمبرياليات القومية، وذلك عندما قدَّمَت للعمال اليقينَ العلمي المزعوم بأنهم سيصبحون عما قريب سادةَ الكرة الأرضية. وقدَّمت روسيا مظهرًا من الإثبات التجريبي، وبالإضافة إلى ذلك يُعتمَد عليه لتحمُّـل الجزء الأصعب من العمل الذي ينبغي أن يؤديَ إلى الإطاحة بالسلطة.

وهنا تكمن رغبةٌ لا تقاوَم بالنسبة لأناس منفيين ومهجَّرين معنويًا، من خلال الاحتكاك بالجانب القمعي للدولة بصورة خاصة، لأناس يقفون بسببِ موروثٍ عتيقٍ توارثَتْه الأجيالُ على تخوم الفئات الاجتماعية التي تشكِّل طريدةً للشرطة، لأناس يعامَلون على هذا الأساس كلما اتجهت الدولةُ نحو رد الفعل. تقول لهم الدولةُ ذات السيادة والكبيرة والقوية والتي تحكم مساحةً جغرافية أوسع من بلادهم: "أنا مُلْك لكم، أنا ثروتكم، أنا ملكيتكم. أنا لست موجودةً إلا لمساعدتكم، وسأجعل منكم في يوم قريب سادةً مطلَقين في بلدكم."

من جهتهم فإن رفض هذه الصداقة يبدو تقريبًا سهلًا كسهولة رفض إنسان للماء وهو لم يشرب منذ يومين. إن بعض الناس الذين قاموا بجهد كبير على أنفسهم ليتمكنوا من مقاومة ذلك أصابهم الإعياءُ من هذا الجهد إلى درجة أنهم استسلموا دون قتال للضغوطات الأولى لألمانيا. وآخرون كُثُر لم يقاوموا إلا ظاهريًا، وانعزلوا في الواقع ببساطة، خوفًا من المخاطر التي يجرُّها العملُ الذي ينخرطون فيه عندما ينضمُّون إلى أحد. هؤلاء، سواء أكانوا كثيرين أم لا، لا يشكِّلون قوةً أبدًا.

الاتحاد السوﭭيتي، عدا روسيا، هو وطن العمال بحق. وللشعور بذلك، لم يكن يَـلْزَم سوى النظر في أعين العمال الفرنسيين عندما كانوا يشاهدون، حول أكشاك بيع الصحف، العناوينَ التي تعلن أولى الهزائم الروسية الكبيرة. لم يكن التفكير في انعكاسات هذه الهزائم على العلاقات الفرنسية الألمانية هو الذي ألقى اليأسَ في أعينهم، لأن الهزائم الإنكليزية لم تَـعْـنِهِم أبدًا بهذا الشكل. كانوا يشعرون بأنهم مهدَّدون بفقدان أكثر من فرنسا. كانوا إلى حد ما في الحالة الذهنية التي كانت ستتملَّكُ المسيحيين الأوائلَ فيما لو قُدِّمَت لهم براهينُ ماديةٌ تثبت بأن قيامة المسيح كانت محضَ خيال. بصورة عامة، لا شك في أنَّ هناك تشابهًا كبيرًا إلى حد ما بين الحالة الذهنية للمسيحيين الأوائل وبين الحالة الذهنية لكثير من العمال الشيوعيين. فهم أيضًا ينتظرون كارثةً قادمة، أرضية، تقيم دفعةً واحدةً وللأبد هنا على الأرض الخيرَ المطلَق ومجدَهم الخاص في الوقت نفسه. كان موتُ الشهادة أسهل على المسيحيين الأوائل منه على مسيحيي العصور اللاحقة، وأسهل بكثير على المحيطين بالمسيح الذين كانت الشهادةُ مستحيلةً عليهم في اللحظة الأخيرة. كذلك اليوم فإن التضحية أسهل على الشيوعي منها على المسيحي.

ولكون الاتحاد السوﭭيتي دولةً فإن الوطنية تجاهه تنطوي على التناقضات نفسها التي تنطوي عليها أيةُ وطنية أخرى. ولكن لا ينتج عن ذلك الضعفُ نفسه. على العكس. فوجود تناقض يأكل الشعورَ عندما يكون محسوسًا حتى ولو بصورة خفية؛ وعندما لا يكون محسوسًا أبدًا فإن الشعور يصبح أشدَّ به، لأنه يستفيد في الوقت نفسه من الدوافع المتعارضة. وهكذا يمتلك الاتحاد السوﭭيتي هيبةَ الدولة بكل أبعادها، والوحشية الباردة التي تطبع سياسةَ الدولة بطابعها، الشموليةَ منها بصورة خاصة؛ وفي الوقت نفسه تمتلك هيبةَ العدالة بكل أبعادها. فإذا لم يكن هذا التناقض محسوسًا فذلك بسبب البعد من جهة ولأن الاتحاد السوﭭيتي يَعِدُ الذين يحبونه بكل السلطة من جهة أخرى. مثلُ هذا الأمل لا يقلل الحاجةَ إلى العدالة، ولكن يجعلها عمياء. ومثلما أن كل إنسان يحسب نفسه قادرًا بما فيه الكفاية على العدالة، كذلك فإن كل إنسان يعتقد أيضًا بأن كل نظام يكون هو فيه قويًا يكون [النظامُ] عادلًا إلى حد ما. هذا هو الإغواء الذي امتحنَ الشيطانُ المسيحَ به. والبشرُ يستسلمون له باستمرار.

على الرغم من أن هؤلاء العمال الذين تحركهم إمبريالية عمالية مختلفون جدًا عن البرجوازيين الفاشيين الشباب ويشكِّلون تشكيلةً إنسانية أجمل، فإن هناك مشكلةً مشابهة تُطرح بخصوصهم. كيف نجعلهم يحبون بلدَهم بما يكفي من دون أن نسلِّمَه لهم؟ لأنه لا يمكن تسليمه لهم، ولا حتى إعطاؤهم موقعًا مميزًا فيه؛ فقد يكون هذا ظلمًا صارخًا بحق باقي السكان، وخاصة الفلاحين.

يجب على الموقف الحالي لهؤلاء العمال تجاه ألمانيا ألاَّ يعميَ عن خطورة المشكلة. يصادف أن تكون ألمانيا عدوَّ الاتحاد السوﭭيتي. وقبل أن تكون كذلك، كان هناك بالأصل اضطراب بينهم؛ لكنَّ الضرورة الحيوية للحزب الشيوعي هي أنْ يغذِّيَ الاضطرابَ دائمًا. وهذا الاضطرابُ كان "ضد الفاشية الألمانية والإمبريالية الإنكليزية". فرنسا لا علاقة لها بالموضوع. من جهة أخرى، وخلال سنة كانت حاسمةً، منذ صيف عام 1939 حتى صيف عام 1940، مُورِسَ التأثيرُ الشيوعي بالكامل ضد فرنسا. ولن يكون سهلًا التوصل إلى أن يتجهَ هؤلاء العمالُ بقلوبهم نحو بلادهم.

لدى باقي السكان لم تكن أزمةُ الوطنية حادةً إلى هذا الحد؛ ولم تكن تبلغ حدَّ الإنكار، لصالح شيء آخر؛ هناك فقط نوع من الانطفاء. فعند الفلاحين كان مردُّ ذلك بلا شك إلى أنهم كانوا يشعرون بأنهم غير محسوبين في البلد، إلاَّ اللهمَّ كعتاد بشري لخدمة المصالح الغريبة عن مصالحهم؛ وعند البرجوازيين الصغار فلا بد أن يكون مرد ذلك إلى الضجر بصورة خاصة.

يضاف إلى جميع أسباب السخط الخاصة سببٌ عام جدًا هو أشبه بنقيض الوثنية. إذْ إنه تحت اسم الأمة أو الوطن لم تعد الدولةُ خيرًا مطلقًا، بمعنى الخير الذي يجب خدمته بالتفاني والإخلاص. بالمقابل أصبحَت في نظر الجميع خيرًا لا حدودَ لاستهلاكه. فالمطلق المتعلق بالوثنية بقي مرتبطًا بها، بعد أن زالت الوثنيةُ، وأخذ هذا الشكلَ الجديد. فبدت الدولةُ القَرْنَ الخصيب الذي لا ينضب والذي يوزع الكنوزَ بما يتناسب مع الضغوط التي تتعرَّض لها. وهكذا يحقدون عليها دائمًا لعدم منح المزيد. كان يبدو أنها ترفض كلَّ ما لم تكن تُقدِّمه. وعندما كانت تطلب كان مطلبها يبدو كمفارقة. وعندما كانت تفرِض كان فرضها إكراهًا لا يطاق. كان موقف الناس من الدولة كموقف أطفال من كبار لا يحبهم هؤلاء الأطفالُ ولا يخافون منهم وليس كموقف أطفال من آبائهم؛ فيطلبون باستمرار ولا يريدون أن يطيعوا.

كيف يمكن الانتقال دفعةً واحدة من هذا الموقف إلى الإخلاص الذي لا حد له والذي تفرضه الحربُ؟ لكن حتى خلال الحرب اعتقد الفرنسيون أن الدولة كانت تمتلك النصرَ في مكان ما في خزائنها، إلى جانب الكنوز الأخرى التي لم تكن تريد أن تتكلَّفَ عناءَ إخراجها. وتم فعلُ كل شيء لتشجيع هذا الرأي، كما يُظهِر هذا الشعارُ: "سنَهزِم لأننا الأقوى."

سيحرِّر النصرُ بلدًا يكون فيه الجميع مشغولين حصرًا تقريبًا بعدم الطاعة، لأسباب دنيئة أو سامية. فقد سمعوا إذاعةَ لندن وقرأوا ووزَّعوا أوراقًا محظورة وسافروا بطريق التهريب وخبأوا القمحَ وعملوا بأسوأ صورة ممكنة ومارسوا السوقَ السوداء وتباهَوا بكل ذلك بين الأصدقاء والأهل. فكيف نُفهِم هؤلاء الناسَ بأن الأمر قد انتهى وبأنه يجب من الآن فصاعدًا أن يطيعوا؟

لربما كانوا أمضوا أيضًا هذه السنوات في الحلم بالشبع. إنها أحلام متسولين، بمعنى أنهم لا يفكرون إلا بالحصول على الأشياء المفيدة بدون أي مقابل. في الواقع، ستؤمِّن السلطاتُ العامة التوزيعَ؛ فكيف يمكن إذًا تجنُّبُ أن يصبحَ موقفُ المتسول الوقح هذا أشدَّ إلى أقصى درجة، هذا الموقف الذي كان بالأساس موقفَ مواطنين تجاه الدولة؟ وإذا كان موضوع هذا الموقف هو بلد أجنبي، كأمريكا مثلًا، فإن الخطر أكبر بكثير.

الحلم الثاني المنتشر جدًا هو حلم القتل. القتل باسم أجمل الدوافع، ولكن القتل بدناءة وبدون مسؤولية. إما أن الدولة تستسلم لعدوى هذا الإرهاب المنتشر، وهو ما يدعو إلى الخوف، وإما أنها تحاول الحدَّ من ذلك، وفي الحالتين سيصبح الجانبُ القمعي والبوليسي للدولة يحتل المرتبةَ الأولى، ذلك الجانبُ المكروه جدًا والمحتقَر في فرنسا بالتواتر.

وستكون الحكومةُ التي ستَظهر في فرنسا بعد تحرير الأرض أمام خطر ثلاثي يسببه طعمُ الدم هذا وعقدةُ التسول تلك وذاك العجزُ عن الطاعة.

ليس هناك إلا علاج واحد. وهو إعطاء الفرنسيين شيئًا يحبونه. إعطاؤهم أولًا فرنسا ليحبُّوها. وتصوُّرُ الحقيقة المقابلة لاسم فرنسا بحيث يمكنها، كما هي وفي حقيقتها، أن تُحَبَّ من أعماق النفس.

إن لب التناقض الملازم للوطنية هو أن الوطن شيء محدود يتطلَّب فريضةً غير محدودة. ففي لحظة الخطر القصوى، يطلب كلَّ شيء. لماذا يُعطى كلُّ شيء لشيء محدود؟ من جهة أخرى فإن عدم التصميم على إعطائه كل شيء عندما يكون في حالة الحاجة يعني التخلِّيَ عنه تمامًا، لأنه لا يمكن الحفاظ عليه بثمن بخس. وهكذا يبدو أن المرء يكون إما في هذه الجهة وإما في الجهة المقابلة مما يجب عليه تجاه الوطن، وإذا ذهب بعيدًا في الجهة المقابلة فإنه سيعود لاحقًا كردة فعل بالأحرى إلى هذه الجهة.

التناقض واضح تمامًا. أو بتعبير أدق، إنه واقعي، ولكن بالنظر إلى حقيقته فإنه يعود إلى أحد هذه التناقضات الأساسية للوضع البشري، والتي يجب الاعتراف بها وقبولها واستخدامها كمِرْقاة يصعد عليها المرءُ إلى فوق ما هو إنساني. ليس هناك أبدًا في هذا الكون مساواة في الأبعاد بين الواجب وبين موضوعه. فالواجب غير محدود والغرض محدود. هذا التناقضُ يلقي بثقله على الحياة اليومية لجميع البشر بدون استثناء، بمن فيهم الأشخاص الذين قد يكونون عاجزين تمامًا عن صياغته حتى بعبارات غامضة. وكل الوسائل التي اعتقد البشرُ أنهم اكتشفوها للخروج منه ما هي إلا كذب.

أحد هذه الوسائل يقوم على عدم الاعتراف بالواجبات إلا تجاه ما ليس من هذا العالَم. هناك نوع من هذه الوسيلة يشكِّل التصوفَ المزيَّف، التأملَ المزيَّف. وهناك نوع آخر هو ممارسة الأعمال الحسنة التي تتمُّ ضمن روح ما، "لوجه الله"، كما يقال، حيث لا يكون الأشقياءُ الذين يتلقَّون المساعدةَ سوى مادةٍ للعمل فقط، وتكون فرصةً لفاعل خير ليُعبِّرَ لله عن العطف. وفي كلا الحالتين، هناك كذِب، لأن "من لا يحب أخاه الذي يراه كيف يمكنه أن يحبَّ اللهَ الذي لا يراه؟" إنه فقط من خلال الأشياء والكائنات في هذه الدنيا يمكن للحب البشري أن يخترقَ ليبلغَ ما يسكن وراء ذلك.

هناك وسيلة أخرى تقوم على قبول وجود موضوع أو عدة مواضيع تضمُّ هذا المطلَقَ، هذا اللانهائيَّ، هذا الكمالَ، وتكون بصورة رئيسية مرتبطةً بالواجب في ذاته. وهذه هي كذبة الوثنية.

الوسيلة الثالثة تقوم على إنكار كل واجب. لا يمكن إثبات خطأ ذلك ببرهان من النوع الهندسي، لأن الواجب هو من مستوى يقين أعلى من المستوى الذي تسكن فيه البراهينُ. وفي الواقع، هذا النفيُ مستحيل. ويشكِّل انتحارًا روحيًا. وقد خُلِقَ الإنسانُ على نحوٍ يترافق فيه الموتُ الروحيُّ لديه بأمراض نفسية هي الأخرى قاتلة. في الواقع، تمنع غريزةُ البقاء النفسَ من أن تقتربَ أكثر من حالة كهذه؛ وحتى على هذا النحو، فإنه يتملَّكها ضجرٌ يُحوِّلها إلى خواء. بصورة دائمة تقريبًا، أو لنقُلْ بالتأكيد بصورة دائمة تقريبًا، مَن ينكر كلَّ واجب يكذب على الآخرين وعلى نفسه؛ وهو في الحقيقة يعرف ذلك. ليس هناك من إنسان لا يحمل أحيانًا أحكامًا حول الخير والشر، حتى ولو لمجرد إلقاء اللوم على الآخرين فقط.

يجب قبولُ الوضع الذي وُجِدَ لنا والذي يُخضِعنا لواجبات مطلقة تجاه أشياء نسبية ومحدودة وناقصة. ولتمييز هذه الأشياء ومعرفة كيف يمكن أن تتكوَّنَ متطلَّباتُها منا، يجب أن نرى بوضوح على أي شيء تقوم علاقتُها مع الخير.

بالنسبة للوطن، تكفي مفاهيمُ التجذُّر والوسط الحيوي بهذا الشأن. ولا تحتاج لإثباتها ببراهين، لأنه قد تم التحقق منها تجريبيًا منذ عدة سنوات. فكما أن هناك أوساطًا زراعية لبعض الحيوانات المجهرية وتُرْباتٍ ضروريةً لبعض النباتات، كذلك فإن هناك جزءًا ما من النفس في كل فرد وبعضًا من طرق التفكير والتصرُّف التي تنتقل من البعض إلى الآخرين لا يمكن أن توجد إلا في الوسط الوطني وتختفي عندما يدمَّر البلدُ.

يعرف اليوم جميعُ الفرنسيين ما الذي كان ينقصهم عندما هلكَت فرنسا. يعرفون ذلك مثلما يعرفون ما الذي ينقص عندما لا يأكل المرءُ. يعرفون أن جزءًا من أنفسهم يلتصق بفرنسا إلى درجة أنه عندما تُنتزَع منهم فرنسا يبقى ملتصقًا بها كالتصاق الجلد بشيء يحترق، ثم يُنتزَع كذلك. هناك إذًا شيء يلتصق به جزءٌ من نفس كل فرنسي، الجزء نفسه بالنسبة لجميع الفرنسيين، الجزء الوحيد والحقيقي على الرغم من كونه غير ملموس، والحقيقي على طريقة الأشياء التي نلمسها. وعلى هذا الأساس فإن ما يهدد فرنسا بالدمار – وما الغزوُ في بعض الظروف إلا تهديد بالدمار – يساوي التهديدَ بتشويهٍ جسديٍّ لجميع الفرنسيين، ولأولادهم ولأحفادهم ولذرِّياتهم على مد النظر. لأن هناك شعوبًا لم يُـشْـفَوا أبدًا من كونهم تعرَّضوا ذات مرة للغزو.

هذا يكفي لكي يفرضَ الواجبُ تجاه الوطن نفسَه كبديهة. فيتعايش مع واجبات أخرى؛ ولا يُلزِم بالعطاء الكامل دائمًا؛ إنما يُلزِم بالعطاء الكامل أحيانًا. مثلما أنه يجب على عامل المنجم أحيانًا أن يعطيَ كلَّ شيء عندما يحصل حادث في المنجم ويتعرَّض زملاءٌ له لخطر الموت. وهذا مقبول ومعترف به. الواجب نحو الوطن أمر بديهي تمامًا أيضًا عندما يعاني الوطنُ بشكل ملموس كأمر واقع. وهو كذلك اليوم. فواقع فرنسا أصبحَ حساسًا لجميع الفرنسيين من خلال الحرمان.

لم يجرؤ أحد أبدًا على إنكار الواجب تجاه الوطن من غير إنكار حقيقة الوطن. والسِّـلْميةُ القصوى بحسب مذهب غاندي ليست نفيًا لهذا الواجب، بل منهج خاص للقيام به. هذا المنهج لم يطبَّقْ أبدًا، على حد علمنا؛ وخاصةً أن غاندي لم يطبِّـقْه، وغاندي كان واقعيًا جدًا. ولو كان طُبِّقَ في فرنسا لما قاوم الفرنسيون الغازيَ بأي سلاح؛ ولكنْ لما وافقوا أبدًا على القيام بأي شيء في هذا المجال من شأنه أن يساعد الجيشَ المحتلَّ، لكانوا فعلوا كلَّ شيء لإعاقته، ولكانوا استمروا على هذا الموقف بعناد إلى ما لا نهاية. من الواضح أنهم كانوا سيهلكون بأعداد كبيرة وبصورة مؤلمة جدًا. إن هذا محاكاة لآلام المسيح مطبقة على الصعيد الوطني.

لو كان هناك أمة قريبة من الكمال في مجملها بحيث يمكن اقتراح محاكاة آلام المسيح عليها لكان ذلك يستحق بالتأكيد فعله. ربما ستزول، ولكن زوالها أفضل بكثير جدًا من بقائها المعظَّم الممجَّد. لكن الأمر ليس كذلك. ومن المرجَّح جدًا، بل من المؤكَّد، أن الأمر لا يمكن أن يكون كذلك. يمكن فقط للنفس، في عزلتها الأكثر سرية، أن يُـقَـيَّـضَ لها المضيُّ قُدُمًا نحو مثل هذا الكمال.

مع ذلك، إذا كان هناك أناسٌ يُظهِرون استعدادًا لهذا الكمال المستحيل فإن السلطاتِ العامةَ ملزَمةٌ بالسماح لهم بذلك، لا بل بتقديم الوسائل لهم لبلوغ ذلك. هاهي إنكلترا تعترف باعتراض الضمير.

ولكن لا يكفي هذا. ربما ينبغي على هؤلاء أن يكلِّفوا أنفسَهم عناءَ ابتكار شيء يشكِّل حضورًا في الحرب بكل معنى الكلمة، حضورًا شاقًا وخطِرًا أكثر من حضور الجنود أنفسهم، وذلك بدون أن يكون هذا الأمر مشاركةً لا مباشرة ولا غير مباشرة في العمليات الاستراتيجية.

قد يكون هذا هو العلاج الوحيد لمساوئ الدعاية السلْمية. لأن هذا من شأنه أن يتيحَ، بدون ظلم، فضْحَ الذين يرفضون، بمجاهرتهم بالسلْمية التامة أو شبهِ التامة، إقرارًا من هذا النوع. لا يمكن لهذه السلْمية أن تؤذيَ إلا إذا تم الخلطُ بين كراهيتين، كراهية القتل وكراهية الموت. الأولى شريفة، ولكنها ضعيفة؛ والثانية تكاد تكون مخجلة، لكنها قوية جدًا؛ وخلطهما يشكِّل دافعًا ذا طاقة كبيرة لا يكبحه الخجلُ وتكون فيه الكراهيةُ الثانية هي وحدها الفاعلة. كان السِّـلْميون الفرنسيون في السنوات الأخيرة يكرهون الموتَ، ويكرهون القتلَ كراهيةً مطلقة، ولولا ذلك لما هرعوا بسرعة كبيرة في تموز/يوليو عام 1940 إلى التعاون مع ألمانيا. والعدد القليل الذي كان موجودًا في هذه الأوساط بدافع اشمئزاز حقيقي من القتل كان مخدوعًا بكل أسف.

بفصل هاتين الكراهيتين عن بعضهما يُقضى على كل خطر. فتأثير كراهية القتل ليس خطِرًا؛ فهي أولًا حسنة، لأن مصدرها الخير؛ ثم إنها ضعيفة، وليس هناك للأسف أية فرصة في ألاَّ تظلَّ ضعيفةً. أما بالنسبة للضعفاء أمام الخوف من الموت فالأجدر أن يكونوا موضوعَ شفقة، لأن كل كائن إنساني، إنْ لم يُحمَلْ على التعصب، مُعرَّض على الأقل من وقت لآخر لهذا الضعف؛ لكن إذا جعلوا من ضعفهم رأيًا يروِّجون له فإنهم يصبحون آثمين، ويصبح عندئذ من الضروري والسهل فضحهم.

عندما نُعرِّف الوطنَ بأنه وسط حيوي معيَّن، نتجنب التناقضاتِ والأكاذيبَ التي تنخر الوطنيةَ. إنه وسط حيوي؛ لكن هناك أوساط أخرى. وقد نتجَ عن تشابك أسباب يختلط فيها الخيرُ والشر والعدل والظلم، وبذلك فهو ليس أفضل الممكن. ربما تشكَّل على حساب تركيبة أخرى غنية أكثر بالتدفقات الحيوية، وفي حال كان الأمر كذلك فإن الحسراتِ ستصبح مبررةً؛ لكن الأحداث الماضية وقعَت وانتهت؛ وهذا الوسط موجود، ويجب المحافظة عليه كما هو وكأنه كنز وذلك بسبب الخير الذي يحتوي عليه.

لقد تألم في كثير من الحالات السكانُ الذين غزاهم جنودُ ملك فرنسا. إلا أنه ظهرَت روابطُ عضويةٌ كثيرة على مر العصور إلى درجة أن علاجًا جراحيًا لا يفعل شيئًا سوى أنه يضيف شرًا جديدًا إلى هذا الشر. لا يمكن إصلاح الماضي إلا جزئيًا، ولا يمكن ذلك إلا من خلال حياة محلية وإقليمية تسمح بها وتشجعها السلطاتُ العامة ضمن إطار الأمة الفرنسية. من جهة أخرى فإن زوال الأمة الفرنسية، بدون القيام بأقل ما يمكن من إصلاح الشر الناتج عن الغزو الماضي، يجدِّد هذا الشرَّ بخطورة متزايدة وبصورة كبيرة جدًا؛ وإذا عانى عدد من السكان، منذ عدة قرون، من فقدان الحيوية بسبب الأسلحة الفرنسية فإنهم سيُقتَلون معنويًا بجرح جديد تسبِّبه الأسلحةُ الألمانية. وبهذا المعنى فقط تكون صحيحةً الفكرةُ العامة التي تقول بأنْ لا تعارُضَ بين حب الوطن الصغير وحب الوطن الكبير. لأنه بهذا يمكن لشخص من تولوز أن يتأسف بشدة لأن مدينته أصبحت مؤخرًا فرنسية؛ ولأن كثيرًا من الكنائس الرومانية الرائعة قد هُدِّمَت لتفسحَ المكانَ لطراز قوطي رديء مستورَد؛ ولأن محاكم التفتيش قد أوقفَت التفتحَ الروحي؛ ويمكنه بشغف أكبر أن يعلِّلَ نفسَه أيضًا ويَعِدَها بألاَّ يقْبلَ أبدًا بأن تصبحَ هذه المدينةُ نفسُها ألمانيةً.

كذلك الأمر بالنسبة للخارج. فإذا كان الوطن يُعتبَر وسطًا حيويًا فلا حاجة لإبعاده عن التأثيرات الخارجية إلا بالمقدار اللازم للإقامة فيه وليس بصورة مطلقة. وتتوقف الدولةُ عن أن تكون، بحقٍّ إلهي، سيدةً مطلقة على الأراضي المسؤولة عنها؛ إنَّ سلطةً عقلانيةً ومحدودةً على هذه الأراضي، منبثقةً من هيئات دولية وهدفُها مشاكلُ أساسية ذات معطيات دولية، من شأنها ألاَّ تعودَ تُعتَبر جُرْمَ خيانة [للمصلحة العليا] lèse-majesté. كما يمكن أيضًا إنشاء أوساط لانتشار الأفكار، أوسع من فرنسا وتضم فرنسا، أو تربط بعضَ الأقاليم الفرنسية بأقاليمَ غير فرنسية. أليس طبيعيًا، مثلًا، أن يشعر في نطاق معيَّن كلٌّ من بريتاني la Bretagne[6] وبلاد الغال Galles [وِيلْز Wales أو "كَمْرِي" Cymru] وقُرْنوالية [كورنُوال] la Cornouaille[7] وإيرلندا أنها أجزاء من وسط واحد؟

ولكن من جديد، كلما تعلَّقْنا بهذه الأوساط غير الوطنية أردنا الحفاظَ على الحرية الوطنية، لأن مثل هذه العلاقات فيما يتعدى الحدودَ لا يتم من أجل السكان المستعبَدين. وهكذا كانت التبادلاتُ الثقافية بين بلدان حوض المتوسط أشدَّ كثافة بما لا يقارن وأكثر حيوية قبل الغزو الروماني مما كانت عليه بعده، في حين أن جميع هذه البلدان، الخاضعة للحالة البائسة للأقاليم، وقعَت في تجانس كئيب. لا يكون هناك تبادل إلا إذا حافظَ كلُّ واحد على عبقريته الخاصة، وهذا ليس ممكنًا بدون حرية.

بصورة عامة، إذا اعترفنا بوجود عدد كبير من الأوساط الحاملة للحياة فإن الوطن لا يشكِّل إلا واحدًا من هذه الأوساط، ومع ذلك فعندما يكون في خطر الزوال فإن جميع الواجبات الناتجة عن إخلاصٍ لجميع تلك الأوساط تتَّحد في واجب وحيد هو نجدة الوطن. لأن أفراد سكان مستعبَدين لدولة أجنبية يكونون محرومين من جميع هذه الأوساط معًا، وليس فقط من الوسط الوطني. وهكذا عندما تجد الأمةُ نفسَها في هذه الدرجة من الخطر فإن الواجب العسكري يصبح التعبيرَ الوحيد عن جميع الإخلاصات على هذه الأرض. وهذا صحيح حتى بالنسبة لمعترضي الضمير، إذا تجشَّمْنا عناءَ إيجاد معادِل لعملية الحرب وقدَّمناه لهم.

عندما يُعترَف بذلك فلا بد أن ينتجَ عنه بعضُ التعديلات في طريقة النظر إلى الحرب، في حالة الخطر الذي يهدد الأمةَ. أولًا يجب إلغاءُ التمييز بين العسكريين والمدنيين إلغاءً كاملًا، هذا التمييز هو الذي بالأساس قد محاه تقريبًا ضغطُ الوقائع. فهذا التمييز هو الذي في جزئه الأكبر قد أدى إلى رد الفعل بعد عام 1918. كل فرد من السكان مدين للبلد في مجموع قواه وموارده المالية وحتى في حياته، إلى أن يزول الخطرُ. من المحبَّذ توزيع الآلام والمخاطر على جميع فئات السكان، شبابًا وشيوخًا، رجالًا ونساءً، من هم في صحة جيدة ومن هم في صحة سيئة، بمقدار ما تستطيعه الإمكانياتُ التقنية بالكامل، وحتى أكثر من ذلك بقليل. أخيرًا فإن شدة ارتباط الشرف بإتمام هذا الواجب وشدة معارضة الإكراه الخارجي للشرف تبلغان درجةً يصبح معها من الواجب ربما السماح للراغبين بأن يتخلَّصوا من هذا الواجب؛ إنهم يعاقَبون ربما بفقدان الجنسية، وأكثر من ذلك إما بطردهم مع منعهم من العودة أبدًا إلى البلد، وإما بإهانات دائمة كعلامة عامة على أنهم بلا شرف.

من الفاضح أن يعاقَب على الإخلال بالشرف بالطريقة نفسها التي يعاقَب بها على السرقة والقتل. فالذين لا يريدون الدفاعَ عن وطنهم يجب أن يفقدوا الوطنَ بلا قيد ولا شرط، لا أن يفقدوا الحياةَ ولا أن يفقدوا الحرية.

إذا كان وضع البلد وضعًا يكون فيه هذا العقابُ بالنسبة لعدد كبير عقابًا لا معنى له فإن القانون العسكري أيضًا سيجد نفسه عندئذٍ بدون فعالية. ولا يمكننا تجاهل ذلك.

إذا كان الواجبُ العسكري يشتمل في بعض الأوقات على جميع الإخلاصات الأرضية، بالمثل فإن واجب الدولة في كل وقت هو أنْ تحافظَ على كل وسط داخل الأراضي أو خارجها، حيث يستمد جزءٌ صغير أو كبير من السكان حياةً للروح.

إن واجب الدولة الأكثر وضوحًا هو السهر بصورة فاعلة في كل وقت على أمن أرض الوطن. والأمنُ لا يعني غيابَ الخطر، لأن الخطر موجود دائمًا في هذا العالم، بل التخلص من المأزق في حالة الأزمة. غير أن هذا ليس سوى الواجب الأكثر أساسية للدولة. وإذا لا تفعل سواه فإنها لا تفعل شيئًا، لأنها إذا لم تفعل سوى ذلك فلن تتمكَّنَ حتى من النجاح فيه.

واجب الدولة أن تجعلَ من الوطن حقيقةً بأعلى درجة ممكنة. فهو لم يكن حقيقةً بالنسبة لكثير من الفرنسيين في عام 1939. وقد أصبح من جديد حقيقةً من خلال الحرمان. يجب أن يبقى كذلك من خلال الملكية، ولهذا يجب في الواقع أن يكون بالفعل مزوِّدًا بالحياة وأن يكون بالفعل أرضًا للتجذُّر. يجب أيضًا أن يكون بيئةً ملائمةً للمشاركة والمحبة المُخْلِصة لكل أنواع الأوساط الأخرى غيره.

اليوم، بينما استعاد الفرنسيون الشعورَ بأن فرنسا هي حقيقة، أصبحوا أكثر وعيًا مما مضى بالفوارق المحلية. إن لتقسيم فرنسا إلى أجزاء وللرقابة على المراسلات التي تتضمَّن تبادل الأفكار في إقليم صغير تأثيرًا في ذلك، والمفارَقةُ هي أنَّ الاختلاطَ المتصنَّع للسكان ساهم كثيرًا في ذلك أيضًا. فلدى المرء اليوم بصورة مستمرة وحادة أكثر مما مضى الشعورُ بأنه بريتانيٌّ [بريتونيٌّ] Breton، لورِّينيٌّ Lorrain، ﭙـروﭭـانسيٌّ Provençal، باريسي. ويشوب هذا الشعورَ شيءٌ من العدوانية ينبغي محاولةُ إزالتها؛ فضلًا عن أنه من المُـلِحِّ أيضًا إزالةُ الشعور بكره الأجانب. لكنَّ هذا الشعور في ذاته يجب عدم تثبيطه، بل على العكس. قد يكون من الكارثي القولُ بأنه يتعارض مع الوطنية. ففي الضيق والاضطراب والوحدة والاقتلاع الذي يوجد فيه الفرنسيون يجب المحافظةُ على جميع الإخلاصات والتعلقات ككنوز نادرة جدًا وثمينة جدًا، ويجب سقايتها كما تُسقى النباتاتُ المريضة.

لا بأس في أنْ تناديَ حكومةُ ﭭيشي بمذهب إقليمي. خطؤها الوحيد بهذا الشأن هو عدم تطبيقها له. وبعيدًا عن العمل بعكس شعاراتها في كل شيء، يجب علينا المحافظة على كثير من الأفكار التي أطلقَتها دعايةُ الثورة الوطنية، بل يجب جعلُها حقائقَ.

كذلك فإن الفرنسيين حتى في عزلتهم قد تملَّكهم الشعورُ بأن فرنسا صغيرة وبأن المرء في الداخل يضيق نفَسُه وبأنه يَلْزَم أكثر من ذلك. لقد فعلَت فكرةُ أوروبا والوحدة الأوروبية الكثيرَ من أجل نجاح الدعاية التآمرية في الأيام الأولى. وهذا الشعور أيضًا لا يمكن تشجيعه كثيرًا ولا تغذيته. ومن الكارثي جعلُه متعارضًا مع الوطن.

أخيرًا لا يمكن تشجيعُ وجود أوساطِ أفكارٍ لا تشكِّل جهازًا في الحياة العامة؛ لأنه بهذا الشرط الوحيد لا تكون هذه الأوساطُ جثثًا ميتة. إنها حالة النقابات، إذا لم تكن مثقَلةً بمسؤوليات يومية في التنظيم الاقتصادي. إنها حالة الأوساط المسيحية، البروتستانتية أو الكاثوليكية، وبصورة خاصة حالة تنظيمات مثل الشبيبة العاملة المسيحية J.O.C.؛ لكَّن الدولةَ التي قد تستسلم أقل ما يمكن للأهواء الإكليروسية تقتل من كل بد هذه الأوساطَ. إنها حالة الجماعات التي ظهرت بعد الهزيمة. بعضها ظهرَ رسميًا، معسكرات الشبيبة Chantiers de Jeunesse[8]، [جمعيات] رفاق العمل [المهنة] Compagnons، والبعض الآخر كان سريًا، أي مجموعات المقاومة.وكان لبعضها قليل من الحياة على الرغم من صفتها الرسمية، بمصادفات استثنائية؛ لكن لو أُبقيَت لها صفتُها الرسمية لماتت. والأخرى ولدت من الصراع ضد الدولة، ولو تمَّ الاستسلامُ لإغواء منحها وجودًا رسميًا في الحياة العامة لدمَّرَها ذلك معنويًا بدرجة رهيبة.

من جهة أخرى، إذا كانت هذه الأوساطُ من هذا النوع في معزل عن الحياة العامة فإنها لا تعود موجودةً. يجب إذًا ألاَّ تكونَ جزءًا منها وألاَّ تكون أيضًا بمنأى عنها. ومن الطُّرُق المتعلِّقة بهذا الشأن يمكن أن تكون مثلًا طريقة أن الدولة تعيِّن مرارًا أناسًا تختارهم في هذه الأوساط لمهمات خاصة، بصفة مؤقتة. لكن لا بد للدولة نفسها من أن تختار الأشخاصَ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا بد أن يجد جميعُ رفاقهم في ذلك مدعاةً للفخر. إن طريقة كهذه يمكن أن تؤديَ إلى حالة المؤسسة.

وهنا أيضًا يجب، من خلال محاولة منع الكراهيات، تشجيعُ الاختلافات. فهيجانُ الأفكار لا يمكن أبدًا أن يؤذيَ بلدًا كبلدنا. إنما الجمود الفكري هو القاتل له.

إن الواجب المفروض على الدولة، وهو أن تؤَمِّن للشعب شيئًا يكون وطنًا له بالفعل، لا يمكن أن يكون شرطًا من أجل الواجب العسكري المفروض على السكان في حالة الخطر القومي. لأنه إذا قصَّرت الدولةُ في مسؤوليتها وإذا ضَعُفَ الوطنُ فسيكون هناك مع ذلك أمل في النهضة مادام الاستقلال الوطني قائمًا؛ ولو نظرْنا عن كثب فسنلاحظ في ماضي جميع البلدان، في تواريخَ متقاربةٍ أحيانًا، انحطاطاتٍ وعملياتِ نهوض مفاجئةً جدًا. أما إذا كان البلد قد أُخضِعَ بواسطة أسلحة أجنبية فلا يعود هناك شيء يؤمل، إلا في حالة التحرير السريع. إن الرجاء وحده، وليس هناك مع ذلك غيره، يستحق عناءَ أن يموت المرءُ للمحافظة عليه.

وهكذا، على الرغم من أن الوطن واقع، وبما هو كذلك فهو خاضع لشروط خارجية ولمصادفات، فإن واجب إغاثته في حالة الخطر القاتل يخضع لشروط أكثر. لكن من البديهي أن السكان في الواقع سيكونون متحمسين بمقدار ما تكون حقيقةُ الوطن ملموسةً لهم أكثر.

فمفهوم الوطن مُعرَّفًا على هذا النحو يتعارض مع التصور الحالي لتاريخ البلد، مع التصور الحالي للعظَمة القومية، وقبل كل شيء مع الطريقة التي نتكلم فيها حاليًا عن الإمبراطورية.

تمتلك فرنسا إمبراطوريةً، وبالتالي، ومهما كان الوضع المبدئي المعتمَد، ينتج عن ذلك مشاكلُ واقعية معقدة جدًا ومختلفة جدًا بحسب الأماكن والجهات. لكن يجب عدم خلط كل شيء بعضه ببعض. تُطرح أولًا مسألةٌ مبدئية؛ وحتى أنه يُطرح شيءٌ أقلُّ تحديدًا أيضًا، وهو مسألةُ شعور. إجمالًا، هل هناك ما يدعو الفرنسيَّ لأنْ يكونَ سعيدًا بأن فرنسا تمتلك إمبراطوريةً، ويفكر بذلك، ويتكلم عن ذلك بفرح وبفخر وبنبرة مالك شرعي؟

نعمْ، إذا كان هذا الفرنسي وطنيًا على طريقة ريشليو أو على طريقة لويس الرابع عشر أو على طريقة موراس. ولا، إذا كان الإلهام المسيحي وفكْرُ عام 1789 يمتزجان امتزاجًا شديدًا بالجوهر نفسه لوطنيته. كان من حق كل أمة في أسوأ الحالات أن تستأثر لنفسها بإمبراطورية، ولكن ليس فرنسا؛ للسبب نفسه الذي جعل من السيادة الزمنية للبابا فضيحةً في أعين المسيحيين. عندما نتولَّى وظيفةَ التفكير عن العالَم كما فعلت فرنسا عام 1789 ووظيفةَ تحديد العدالة له فلا نعود مالكين للجسد البشري. وحتى إذا كان صحيحًا أنه لولانا لسيطر الآخرون على هؤلاء البائسين وعاملوهم معاملةً أسوأ أيضًا فإن ذلك لم يكن سببًا وجيهًا؛ ولكان الشر الإجمالي في النهاية أقلَّ. فأسبابٌ من هذا النوع تكون سيئةً في معظم الأوقات. فالكاهن لا يصبح مسؤولًا عن بيت دعارة متذرِّعًا بأن القَوَّاد يعامل هؤلاء النساءَ معاملةً سيئة جدًا. ليس على فرنسا أن تقلل من احترامها لذاتها بالشفقة على غيرها. فضلًا عن أنها لم تشفق على أحد. فلا أحد يجرؤ على التأكيد فعليًا بأنه ذهب لغزو تلك الشعوب ليمنع أممًا أخرى من إساءة معاملتها. فضلًا عن أنها في القرن التاسع عشر هي نفسها التي بادرَت إلى حد كبير إلى إحياء المغامرات الاستعمارية.

من بين الذين أخضعَتْهم يشعر البعضُ شعورًا قويًا جدًا كم كان فاضحًا أن تكون هي التي فعلَت ذلك؛ حقدهم علينا زاد من هذا الشعور بنوع من المرارة المؤلمة جدًا وبنوع من الذهول.

من الممكن أن يكون على فرنسا اليومَ أن تختارَ بين التعلق بإمبراطوريتها وبين حاجتها من جديد إلى روح. بصورة أعم، يجب عليها أن تختارَ بين الروح وبين المفهوم الروماني الكورناوي[9] للعظَمة.

فإذا أساءت الاختيارَ وإذا دفعناها نحن إلى إساءة الاختيار، وهو أمر محتمل جدًا، فلن يكون لها لا هذه ولا تلك، بل فقط المأساة الأفظع، التي ستتعرَّض لها ذاهلةً بدون أن يتمكَّنَ أحد من معرفة سبب ذلك. وجميع الذين يكون في مقدورهم الكلام والكتابة سيتحمَّلون إلى الأبد مسؤوليةَ جريمة.

لقد فهِمَ برنانوس وقال بأن الهتلرية هي عودة روما الوثنية. لكن هل نسي وهل نسينا ما هو حجم تأثيرها في تاريخنا وثقافتنا واليوم أيضًا في أفكارنا؟ ولو أننا، نتيجةَ الرعب من شكلٍ ما من الشر، صمَّمْنا تصميمًا رهيبًا على القيام بالحرب، بكل الأعمال الوحشية التي تنطوي عليها، فهل في الإمكان أنْ نُعْـذَرَ إذا قمنا بحرب أقلَّ قسوة على هذا الشكل نفسه من الشر في أنفسنا نحن؟ إذا كانت عظَمةُ النوع الكورناوي تستهوينا بسِحر البطولة فيمكن أن تستهويَنا ألمانيا أيضًا لأنَّ الجنودَ الألمانَ "أبطال" بالتأكيد. ففي البلبلة الحالية للأفكار والمشاعر حول مفهوم الوطن، هل نمتلك أيَّ ضمان بأن تضحية جندي فرنسي في أفريقيا أنقى تأثيرًا من تضحية جندي ألماني في روسيا؟ حاليًا ليس لدينا أي ضمان. وإذا لم نشعر بالمسؤولية الرهيبة التي تنتج عن ذلك وأية مسؤولية هي فلن نستطيع أبدًا أن نكون أبرياءَ وسط سيل الجرائم هذا عبر العالم.

إذا كانت هناك نقطة يجب فيها الاستخفاف بكل شيء وتحدِّي كل شيء حبًا بالحقيقة فإنها هذه النقطة. نحن جميعًا مجتمعون باسم الوطن. فماذا سنكون وأيَّ ازدراء لا نستحقه إذا كان يخالطُ فكرةَ الوطن أدنى أثرٍ للكذب؟

لكن إذا كانت مشاعرُ من النوع الكورناويِّ لا تثير وطنيتَنا فيمكن أن نتساءل عن أي دافع يحل محلَّها.

هناك دافع واحد، ليس أقلَّ فعالية، نقي حتمًا، ويستجيب تمامًا للظروف الحالية. إنه الرحمة بالوطن. وأشهر مثال على ذلك جان دارك التي كانت تقول بأنها ترأف بمملكة فرنسا.

لكن يمكن أن نحتجَّ بسلطة أعلى بكثير. ففي الإنجيل، لا يمكننا أن نجد إشارةً على أن المسيح أحسَّ تجاه أورشليم واليهودية بشيء يشبه الحبَّ، إلاَّ اللهمَّ الحب الذي تنطوي عليه الرحمةُ. ولم يُظهِرْ أبدًا لبلده أيَّ تعلُّق من نوع آخر. لكنَّ الرحمةَ عبَّر عنها أكثر من مرة.[10] فبكى على المدينة وهو يتوقع، كما كان سهلًا القيام بذلك في ذاك العصر، الدمارَ الذي كان سيقع عليها مستقبلًا. كلَّمها كما لو كان يكلم شخصًا. "يا أورشليم أورشليم، كم مرةٍ أردتُ..."[11] وحتى وهو يحمل صليبَه، أظهر لها أيضًا رحمتَه.

علينا ألاَّ نفكر أن الرحمة بالوطن لا تحمل طاقةً حربية. فقد بعثَت الروحَ في القرطاجيين ليقوموا بمأثرة من المآثر الخارقة في التاريخ. وبعد أن هزمَهم سكيبيو الإفريقي Scipion l'Africain[12] وجعلَهم لا قيمة لهم، عانوا فيما بعد خلال خمسين سنة من عملية إضعاف للروح المعنوية والتي مقارنةً بها يُعَدُّ استسلامُ فرنسا في ميونخ Munich شيئًا لا يُذكَر. وتعرَّضوا بدون أية وسيلة دفاع لجميع شتائم النوميديين Numides[13]، وبعد أن تخلَّوا من خلال معاهدة عن حرية القيام بالحرب، توسَّلوا دون جدوى الإذنَ من روما بالدفاع عن أنفسهم. وعندما قاموا بذلك في النهاية من دون إذْن أُبيدَ جيشُهم. عندئذٍ وجب توسُّلُ العفو من الرومان. فوافقوا على تسليم ثلاثمئة شخص من أبناء النبلاء وجميع أسلحتهم. ثم تلَقَّى مندوبوهم أمرَ إخلاء المدينة بالكامل إخلاءً نهائيًا لكي يكون بالإمكان تدميرها. انفجروا بصراخِ سُخطٍ واستنكار ثم انفجروا بالدموع. "كانوا ينادون وطنهم باسمه، وكانوا وهُمْ يكلِّمونه كما يكلمون شخصًا يقولون له الأشياءَ الأكثر تمزيقًا للقلب." ثم توسلوا إلى الرومان بأنه إذا أرادوا بهم أذىً فليُبقوا على هذه المدينة وليوفِّروا حجارتَها وأوابدَها ومعابدَها التي لا يمكن إلقاء اللوم عليها في شيء، وأنْ يبيدوا من بابٍ أَولى السكانَ على بَكْرة أبيهم؛ وقالوا بأن هذا القرار سيكون أقلَّ إهانةً للرومان ومفضَّلًا لشعب قرطاج. ونظرًا لأن الرومان بقوا متصلِّبين فقد انتفضت المدينةُ، على الرغم من أنها بدون موارد، فأمضى سكيبيو الإفريقي على رأس جيش عرمرم ثلاثَ سنوات بحذافيرها حتى سيطر عليها ودمَّرها.

هذا الشعور بالحنان المؤثر لشيء جميل وعزيز وهش وزائل هو شعور مفعم بالحرارة خلافًا للشعور برفعة الأمة وعظَمتها. فالطاقة التي يُشحن بها هذا الشعورُ طاقة صافية تمامًا. وهي قوية جدًا. أليس الرجل قادرًا بسهولة على البطولة لحماية أطفاله وأبويه الكبيرَين الذينَ لا يرتبط بهم أيُّ شيء من سحر العظَمة؟ يشبه حبُ الوطن الصافي تمامًا المشاعرَ التي يوحي بها إلى الرجل أولادُه اليافعون وأبواه الكبيران وامرأةٌ محبوبة. يمكن لفكرة الضعف أن تؤجِّجَ الحبَّ كفكرة القوة، ولكنها تؤججه بلهيب مختلف في صفائه. الرحمةُ بالضعف مرتبطة دائمًا بحب الجمال الحقيقي، لأننا نشعر شعورًا قويًا بأن الأشياء الجميلة حقًا من المفروض أنْ يُكفل لها وجودٌ أبدي، وليس الأمر كذلك.

يمكن أن نحب فرنسا من أجل المجد الذي يبدو أنه يكفل لها وجودًا يمتد بعيدًا في الزمان والمكان. أو يمكن أن نحبها كشيء يمكن لكونه أرضيًا أن يُقضى عليه، فضلًا عن أن ثمنه شديد الحساسية.

وهذان حبان متمايزان؛ وربما متعارضان على الأرجح، على الرغم من أن اللغة تخلط بينهما. فالذين خُلِقَت قلوبُهم لتكابدَ الحبَّ الثاني يمكنهم، بحكم العادة، أن يستخدموا اللغةَ التي لا تناسب إلا الحبَّ الأول.

الحب الثاني وحده الحب المشروع للمسيحي، لأنه وحده يحمل لونَ التواضع المسيحي. وينتمي وحده إلى نوع الحب الذي يمكن أن ينالَ اسمَ الرحمة [المحبة] charité. علينا ألاَّ نعتقد أن هذا الحب يمكن فقط أن يكون غرضُه بلدًا بائسًا.

السعادة هي موضوع للرحمة مثلما أن الشقاء موضوع لها، لأن السعادة أرضية، بمعنى أنها ناقصة وهشة وعابرة. علاوة على ذلك، ما يزال هناك للأسف في حياة البلد درجةٌ من الشقاء.

وعلينا أيضًا ألاَّ نعتقدَ أن حبًا كهذا يُحتمل أن يَتجاهل أو يُهمِلَ ما يوجد من عظَمة حقيقية وصافية في الماضي والحاضر وفي تطلعات فرنسا. على العكس تمامًا فالرحمة رقيقة ومؤثرة فضلًا عن أننا نميز خيرًا أكثر في الكائن الذي يكون موضوعًا لها، وفضلًا عن أنها تحمل على تمييز الخير. فعندما يتصور المسيحيُّ المسيحَ على الصليب فإن الرحمة له لا تقلِّل منها فكرةُ الكمال، ولا العكس. ولكن من جهة أخرى يمكن لهذا الحب أن تكون أعينُه مفتوحةً على المظالم والأعمال الوحشية والأخطاء والأكاذيب والجرائم والفضائح الموجودة في الماضي والحاضر، وعلى حاجات البلد ورغباته بدون رياء ولا تحفُّظ، وبدون أن ينقصَ منه شيءٌ؛ فيصبح بذلك فقط أكثر إيلامًا. بالنسبة للرحمة فإن الجريمة نفسها تكون سببًا ليس للابتعاد بل للاقتراب من أجل المشاركة ليس في الجرم بل في الفضيحة. فجرائم البشر لم تقلِّلْ من رحمة المسيح. وهكذا تكون أعينُ الرحمة مفتوحة على الخير والشر وتجد في كل منهما أسبابًا للمحبة. وهذا هو الحب الوحيد في هذه الدنيا الذي يكون حقيقيًا وعادلًا.

هذا هو الحب الوحيد الذي يناسب الفرنسيين في هذا الوقت. فإذا كانت الأحداث التي تجاوزناها الآن لا تكفي لتُنذرَنا بأن علينا أن نغيِّرَ طريقةَ حبنا للوطن فأي درس يمكن أن يعلِّمَنا؟ ماذا يمكن أن يكون هناك لِلَفْتِ الانتباه أكثر من ضربة هراوة على الرأس؟

الرحمة بالوطن هي الشعور الوحيد الذي لا يكون متكلَّفًا في هذا الوقت والذي يناسب الحالةَ التي توجد فيها نفوسُ وأجساد الفرنسيين والذي يحتوي في الوقت نفسه على التواضع وعزة النفس معًا وكلاهما مناسبان في المصيبة؛ وكذلك البساطة التي تتطلَّبها المصيبةُ قبل كل شيء. فأنْ يَذْكُرَ المرءُ في هذه اللحظة العظَمةَ التاريخية لفرنسا وأمجادَها الماضية والمستقبلية وتألقَها الذي يحيط بوجودها فإن ذلك غير ممكن بدون نوع من التصلب الداخلي الذي يعطي النبرةَ شيئًا من التكلف. لا شيء يشبه الكبرياءَ يمكن أن يناسبَ الأشقياءَ.

بالنسبة للفرنسيين الذين يتألمون، يدخل مثلُ هذا الاستذكار في فئة عمليات التعويض. والبحث عن تعويضات في المصيبة هو شر وأذىً. فإذا كان هذا الاستذكار للأمجاد يتكرر مرارًا وإذا كان يقدَّم كمصدر وحيد للعزاء فإنه يمكن أن يسبب أذىً لا حد له. فالفرنسيون متعطِّشون إلى العظَمة. لكن الأشقياء لا تَلْزَمهم العظَمةُ الرومانية؛ فإما أن يبدو ذلك لهم سخريةً أو أن يسمِّم نفوسَهم كما كانت الحالة في ألمانيا.

وليست الرحمة بفرنسا تعويضًا، بل رَوحنةٌ للآلام التي يكابدها الإنسانُ؛ يمكنها أن تغيِّرَ حتى الآلامَ الأكثر حسية، البردَ، الجوعَ. فالبردان والجائع الذي يحاول أن يشفق على نفسه يمكنه بدلًا من ذلك أنْ يوجِّهَ عبرَ جسدِه المنقبضِ شفقتَه نحو فرنسا؛ عندئذ يُدخِل البردُ والجوعُ حبَّ فرنسا إلى أعماق النفس عن طريق الجسد. ويمكن لهذه الشفقة أن تجتاز الحدودَ بدون عوائق وتمتد إلى جميع البلدان الشقية وإلى جميع البلدان بلا استثناء؛ لأن جميع البشر خاضعون لشقاءات وضْعِنا. وبينما تكون كبرياءُ العظَمة القومية بطبيعتها الخاصة غيرَ قابلة للتبادل وللتعميم فإن الرحمة بطبيعتها شاملة؛ إنها فقط أكثر كمونًا بالنسبة للأشياء البعيدة والغريبة وأكثر واقعية وأكثر حسية وممتلئة أكثر بالدم وبالدموع وبالطاقة الفعالة بالنسبة للأشياء القريبة.

الكبرياء القومية بعيدة عن الحياة اليومية. ففي فرنسا، لا يمكن إيجاد تعبير عنها إلا في المقاومة؛ ولكنَّ الكثيرين إما لم تُتَحْ لهم الفرصةُ للمشاركة الفعلية في المقاومة وإما لم يُكرِّسوا لها كلَّ وقتهم. الرحمة بفرنسا هي دافع على الأقل قوي بما يكفي لعمل المقاومة؛ لكنْ يمكنها بالإضافة إلى ذلك أن تجدَ تعبيرًا يوميًا عنها، متواصلًا، في جميع أنواع المناسبات، حتى العادية جدًا، بنبرة أُخُوَّة في العلاقات بين الفرنسيين. فالأُخُوَّة تُنتِش وتَنْـبُتُ بسهولة في الرحمة عند مصيبة تُعرِّض للخطر شيئًا أغلى بكثير من راحة كل فرد، وذلك بفرضها على كل شخص حصَّتَه من العذاب. الكبرياءُ القومية، سواء في الرخاء أم في الشقاء، عاجزة عن خَلْق أُخوَّة حقيقية مفعمة بالحرارة. ولم يكن هناك شيء منها لدى الرومان. فكانوا يجهلون المشاعرَ الرقيقة حقًا.

تعطي الوطنيةُ التي تلهمها الرحمةُ الجزءَ الأفقر من الشعب مكانةً معنويةً مميزة.

ليست العظَمة القومية حافزًا بين الطبقات الاجتماعية الدنيا إلا في الأوقات التي يمكن فيها لكل فرد أن يأمل، في الوقت نفسه الذي يحصل فيه مجدُ البلد، مشاركةً شخصية بهذا المجد وواسعة بقدر ما يرغب. كانت هذه هي الحالة في بداية حكم نابليون. وكان من حق أي فتىً صغير في فرنسا، مولودٍ في أي حي، أن يحملَ في قلبه أيَّ حلم للمستقبل؛ لم يكن يمكن لأي طموح أن يكون كبيرًا إلى درجة أن يصبح عبثيًا. كان من المعروف أنه لن تتحقَّقَ جميعُ الطموحات، لكنْ كان لكل طموح على حِدَةٍ فُرَصُ تحقيقه، وكان بإمكان الكثير منها أن يتحقق جزئيًا. تؤكد وثيقةٌ فريدة من ذاك العصر أن شعبية نابليون كانت تُعزى إلى إمكانيات التقدم في الفرص التي يقدِّمها لهم للنجاح في المهنة أكثر مما تعزى إلى إخلاص الفرنسيين لشخصه. وهذا هو بالضبط الشعورُ الذي يَظهَر في [رواية] الأحمر والأسود[14]. لقد كان الإبداعيون [الرومنطقيون] أطفالًا يمَلُّون لأنه لم يكن أمامهم أفق لارتقاء اجتماعي غير محدود. فبحثوا عن مجد أدبي كمنتَج بديل.

إلا أن هذا المثير غير موجود إلا في اللحظات المضطربة. لا يمكن القول أبدًا بأنه يتوجَّه إلى الشعب في ذاته؛ فكل فرد من الشعب، وهو يخضع لهذا المثير، يحلم بالخروج من الشعب، بالخروج من حالة المغمور [خامل الذِّكْر] anonymat التي يتَّصف بها الوضعُ الشعبي. وهذا الطُّموح، عندما ينتشر انتشارًا واسعًا، هو نتيجة حالة اجتماعية مضطربة وسببُ اضطرابات متفاقمة؛ لأن الاستقرار الاجتماعي بالنسبة له عقبة. وعلى الرغم من أن ذلك حافز فلا يمكن القول بأنه أمر صحي لا للنفس ولا للبلد. ومن الممكن أن يكون لهذا الحافز مكانة واسعة في الحركة الحالية للمقاومة؛ لأنه فيما يخصُّ مستقبلَ فرنسا فإن الوهم يُقْبَل بسهولة، وفيما يخص المستقبل الشخصي فإن أي شخص يمكنه، إذا عرف كيف يُظهِر قدراتِه وسط الخطر، أن يتوقع أي شيء في حالة الثورة الكامنة التي يوجد فيها البلد. لكن إذا كان الأمر على هذا النحو فإن ذلك خطر رهيب على مرحلة إعادة الإعمار، ومن العاجل إيجاد حافز آخر.

في مرحلة الاستقرار الاجتماعي التي يبقى فيها الأشخاصُ المغمورون مغمورين إلى حد ما بغض النظر عن بعض الاستثناءات ولا يفكرون حتى بالخروج منها، فإن الشعب لا يمكنه أن يشعر بأنه في بلده عندما يكون في وطنية تقوم على الكبرياء وتألُّق المجد. فالشعب فيها غريب كغربته في قاعات ﭭيرساي التي هي تعبير عن هذه الوطنية. المجد يتعارض مع ما هو مغمور. فإذا أُضيفت إلى الأمجاد العسكرية أمجاد أدبية وعلمية وغيرها فإن الشعب سيظل يشعر بنفسه غريبًا. ومعرفة أن بعضَ هؤلاء الفرنسيين الذين يكلِّلهم المجدُ قد خرجوا من الشعب لا تُقدِّم للشعب في مرحلة الاستقرار أيَّ عزاء؛ لأنهم إذا خرجوا منه فإنهم لا يعودون منه.

على العكس، إذا قُدِّم الوطنُ للشعب كشيء جميل وثمين، لكنه ناقص من جهةٍ، وهشٌّ جدًا ومُعرَّض للشقاء من جهة أخرى، ويجب الحرصُ عليه حبًا والذَّود عنه، فإنه سيشعر، وهو محق، بأنه أقرب إليه من الطبقات الاجتماعية الأخرى. لأن الشعب يستأثر بمعرفة ربما هي الأهم من بين جميع المعارف، ألا وهي معرفة حقيقة الشقاء؛ وبذلك يشعر شعورًا قويًا جدًا كم هي نفسية الأشياء التي تحتاج إلى إزالتها منه، وكم يجب عليه الحرصُ عليها محبةً والذود عنها. إن الميلودراما تعكس هذه الحالةَ من الحساسية الشعبية. فلماذا هي شكلٌ أدبي سيء إلى هذا الحد، إنها مسألة يبدو أنها تستحق عناءَ دراستها. ولكنْ بعيدًا عن أن تكون فنًا باطلًا، فإنها قريبة، بمعنىً ما، من الواقع.

لو نشأتْ علاقةٌ من هذا القبيل بين الشعب وبين الوطن لما عاد الشعبُ يشعر بآلامه الخاصة كجرائمَ ارتكبها الوطنُ بحقه، بل كآلام عانى منها الوطنُ في هذا الشعب. والفرق شاسع. بمعنىً آخر، الفرق بسيط، وقد يكفي القليلُ القليل لتجاوزه. لكنه القليل الذي يأتي من عالَم آخر. هذا يَفترِض فصلَ الوطن عن الدولة. وهذا ممكن إذا ألغيَت العظَمةُ التي هي من النوع الكورناوي. لكن ذلك قد ينطوي على أناركية [لاسلطوية] إذا لم تجدِ الدولةُ، كتعويض، وسيلةً لتكسبَ بنفسها مزيدًا من الاعتبار.

لأجل ذلك ينبغي بلا ريب عدمُ العودة إلى الأساليب القديمة للحياة البرلمانية ولصراع الأحزاب. لكنَّ الأهمَّ ربما هو إعادة قولبة وتشكيل كامل للشرطة. قد تكون الظروف ملائمة لذلك. وقد تكون الشرطة الإنكليزية مجالًا مهمًا للدراسة. على أية حال، سيؤدي تحرير الأرض، وهو ما يجب تأمُّـلُه، إلى تصفية أفراد الشرطة، عدا هؤلاء الذين تصرَّفوا شخصيًا ضد العدو. ويجب أن يوضع مكانهم رجالٌ يتمتعون باحترام الجميع، وبما أن المالَ والشهاداتِ اليوم هي للأسف المصْدر الرئيسي لهذا الاحترام فيجب أن تتوفَّرَ حتى لدى العناصر والمفتشين درجةُ تثقيف عالية نوعًا ما، أعلى من الشهادات الجدِّية جدًا، كما يجب أن يكون الأجرُ جزيلًا. وحتى إذا كانت المدارسُ الكبيرة ما تزال دارجةً في فرنسا – وهو أمر غير مرغوب فيه ربما -، فإنه ربما يَلْزَم وجودُ مَدْرسة للشرطة تعيِّن العناصرَ بناءً على مسابقة. إنها طُرُق بدائية، لكنَّ شيئًا من هذا القبيل لا غنىً عنه. بالإضافة إلى ذلك، وهذا هو الأهم بكثير أيضًا، لا يعود يلزم وجود فئات اجتماعية كفئات البغايا وأصحاب السوابق التي يكون لها وجود رسمي كماشية تُسلَّم لإرادة الشرطة وهواها فتزوِّدها في آنٍ معًا بالضحايا وبالمتواطئين؛ لأنه لا مفر عندئذ من عدوى مزدوجة، والاتصال يؤذي الطرفين. يجب قانونًا إلغاءُ كلا هاتين الفئتين.

كما يجب معاقبةُ الموظَّفين الحكوميين على جريمة عدم النزاهة تجاه الدولة معاقَبةً فعلية أقسى من المعاقبة على السرقة بقوة السلاح.

يجب أنْ تَظهَرَ الدولةُ في وظيفتها الإدارية قيِّمةً على ممتلكات الوطن، قيِّمةً جيدة نوعًا ما، والتي لا بد إلى حد معقول أن ننتظر منها أن تكون على العموم سيئةً بدلًا من أن تكون حسنةً، لأن مهمتها صعبة وتتم في شروط غير ملائمة أخلاقيًا. الطاعة ليست أقل إلزاميةً من ذلك، ليس بسبب الحق الذي يمكن أن تمتلكه الدولةُ في إصدار الأوامر، بل لأن الطاعة لا غنىً عنها لبقاء الوطن وراحته. يجب طاعةُ الدولة، مهما كانت، إلى حد ما مثلما أن الأولاد العطوفين الذين يَعهَد بهم الوالدان المسافران إلى مربِّية رديئة يطيعونها مع ذلك حبًا بوالديهم. فإذا لم تكن الدولةُ رديئةً فنِعْمَ الأمر؛ يجب من جهة أخرى دائمًا أن يمارَسَ ضغطُ الرأي العام كحافز ليدفعَها إلى الخروج من الرداءة؛ لكنْ سواءً أكانت رديئةً أم لا فإن واجب الطاعة يبقى نفسَه.

لا جَرَمَ أن الطاعة ليست محدودةً، لكن لا يمكن أن يكون لها حد آخر غير تمرُّد الضمير. ولا يمكن تقديمُ أي معيار لهذا الحد؛ حتى إنه يستحيل على أي شخص أن يضع معيارًا واحدًا نهائيًا لاستخدامه الخاص؛ فعندما يشعر المرء بأنه لم يعد يستطيع الطاعةَ فإنه يشقُّ عصا الطاعة. لكنْ على أية حال، هناك شرط لازم، على الرغم من أنه غير كاف، لإمكانية العصيان دون جريمة، ألا وهو أن يدفع المرءَ واجبٌ مُـلِحٌّ إلى درجة أنه يُجبِر على الاستخفاف بجميع المخاطر بلا استثناء. وإذا كان المرء يميل إلى العصيان، لكنَّ شدة الخطر أوقفَتْه فلا يُغفَر له تفكيرُه بالعصيان ولا يُغفَر له أيضًا عدمُ قيامه بالعصيان، وذلك حسب كل حالة. فضلًا عن ذلك، عندما لا يكون المرء مجبَرًا قطعًا على العصيان فإنه يكون مجبَرًا قطعًا على الطاعة. لا يمكن لأي بلد أن يمتلكَ الحريةَ إذا لم يتمَّ الإقرارُ بأن عصيان السلطات العامة يدنِّس أكثرَ من السرقة إذا لم يصدر عن شعور قاهر بالواجب. هذا يعني أن النظام العام يجب أن يُعتبَر أقدسَ من المُلْكية الفردية. يمكن للسلطات العامة أن تنشر طريقةَ الرؤية هذه من خلال التعليم ومن خلال إجراءات مناسبة من المفروض ابتكارُها.

إلا أن الرحمةَ وحدَها بالوطن، الهمَّ الشاغلَ والرقيقَ لتجنيبه الشقاءَ، يمكنها أن تعطيَ للسلام، وخاصةً للسِّـلْم الأهلي، ما تمتلكه للأسف الحربُ الأهلية أو الأجنبية في حد ذاتها؛ تعطيه شيئًا مثيرًا للحماس، مثيرًا للشفقة، شاعريًا، مقدَّسًا. يمكن لهذه الرحمة وحدها أن تجعلَنا نستعيد الشعورَ المفقود منذ زمن طويل جدًا، فضلًا عن أنه نادرًا ما يحِسُّ به أحدٌ على مر التاريخ، والذي عبَّر عنه تيوفيلُ Théophile في البيت الجميل: "الجلالة المقدَّسة للقوانين."

إن اللحظة التي كان يكتب فيها تيوفيلُ هذا البيتَ ربما هي اللحظة الأخيرة التي أَحَسَّ فيها أحدٌ بهذا الشعور إحساسًا عميقًا في فرنسا. ثم جاء ريشليو، ثم [ثورة] الفروند la Fronde، ثم لويس الرابع عشر، ثم الباقي. لقد حاول مونتِسكيو فعلًا إدخالَه من جديد في الجمهور بواسطة الكِتاب. كان أناسُ عام 1789 يتبنَّونه، لكنهم لم يكونوا يمتلكونه في أعماق قلوبهم، وإلا لما انزلق البلد بهذه السهولة في الحرب الأهلية والأجنبية معًا.

ومنذ ذلك الوقت، حتى لغتُنا أصبحَت غيرَ مناسِبة للتعبير عنه. مع ذلك، هذا هو الشعور الذي نأتي على ذِكْره، أو الرد الباهتُ جدًا عليه، عندما نتكلم عن الشرعية. لكنَّ تسميةَ شعورٍ ما ليست طريقةً كافية لإثارته. إنها حقيقة أساسية وكثيرًا ما ننساها.

لماذا نكذب على أنفسنا؟ ففي عام 1939، وقبل الحرب، في عهد نظام المراسيم بقوانين décrets-lois، لم يعدْ هناك أساسًا شرعية جمهورية. كانت قد ذهبَت كشباب ﭭـيُّـون Villon[15] "[الشباب] الذي أخفى عني تسلُّلَه نحو نهايته"، بدون ضجيج، بدون أنْ تُخبِرَ بأنها ستذهب، وبدون أن يقوم أحدٌ بإيماءة أو أن يقول كلمةً ليحتفظَ بها. أما الشعور بالشرعية فقد مات تمامًا. فأنْ يعودَ اليومَ للظهور في أفكار المنفيين وأن يشغلَ مكانًا ما في أحلام شِفاء شعب مريض إلى جانب المشاعر الأخرى المتعارضة في الحقيقة معه فهذا لا يعني شيئًا أو يعني الشيءَ القليل. وإذا كان هذا الشعورُ لاشيئًا في عام 1939 فكيف سيصبح فعالًا مباشرةً بعد سنوات من العصيان المنظَّم؟

من جهة أخرى، لم يعد ممكنًا لدستور عام 1875 أن يكون أساسًا للشرعية بعد أن غرِقَ سنةَ 1940 في اللامبالاة أو حتى في الاستخفاف العام وبعد أن تخلَّى عنه شعبُ فرنسا. لأن شعب فرنسا قد تخلى عنه. فلا جماعاتُ المقاومة ولا فرنسيو لندن يستطيعون فعل شيء في ذلك. فإذا كان هناك شيء من الندم فليس الذي عبَّر عنه شريحةٌ من السكان، بل البرلمانيون الذين كانت المهنةُ لديهم تحافظ على بقاء الاهتمام بالمؤسسات الجمهورية، بعد أن مات في كل مكان آخر. ثم إنه لا يهمُّ إذا عاد الاهتمامُ بعد زمن طويل فظهر بطريقة ما. حاليًا ينقل الجوعُ إلى الجمهورية الثالثة كلَّ شاعرية عصر كان فيه خبز. إنها شاعرية هروبية. ومن جهة أخرى فالاشمئزاز الذي انتابهم خلال عدة سنوات والذي بلغ ذروتَه عام 1940 مازال في الوقت نفسه موجودًا. (فضلًا عن ذلك فقد أدينت الجمهورية الثالثة في نص صادر رسميًا عن لندن؛ عندئذ من الصعب إمكانية اعتبارها أساسًا للشرعية.)

مع ذلك، لا شك في أنه كلما اختفت أساليبُ ﭭيشي وتوقَّفَت عن الظهور مؤسساتٌ ثورية وربما شيوعية حصلَت عودةٌ لِبُنى الجمهورية الثالثة. لكنَّ سببَ ذلك فقط هو أنه سيحصل فراغ ولا بد من فعل شيء. وهذا من الضرورة لا من الشرعية. فيقابل ذلك في الشعب استسلامًا كئيبًا وليس إخلاصًا. ويوقِظُ تاريخُ 1789 نفسُه صدىً عميقًا جدًا؛ لكن لا يقابله إلا إلهام وليس مؤسسات.

بما أنه كان هناك في الواقع انقطاع في الاستمرارية في تاريخنا القريب فلا يمكن بعدُ أن يكون للشرعية صفةٌ تاريخية؛ ينبغي أن تنبثق عن المصدر الخالد لكل شرعية. يجب أن يكون الرجالُ الذين يُرَشِّحون أنفُسَهم لحكم البلد يعرفون بالتأكيد بعضَ الواجبات التي تلبِّي التطلُّعاتِ الأساسيةَ للشعب، المكتوبةَ من الأزل في أعماق نفوسهم؛ ويجب أن يثق الشعبُ بأقوالهم وبمقدراتهم ويحصل على إمكانية التعبير عن ذلك؛ يجب أن يشعر الشعبُ بأنه عندما يَقْبل بهم يلتزم بالطاعة لهم.

ونظرًا لكون طاعة الشعب للسلطات العامة حاجةً وطنية فهي بذلك واجب مقدَّس وتضفي على السلطات العامة نفسها صفةَ القداسة ذاتها لأن هذه السلطاتِ هي موضوع الطاعة. ليس هذا وثنيةً تجاه الدولة، وثنيةً مرتبطةً بالوطنية على الطريقة الرومانية. فهذا نقيضها. فالدولةُ مقدَّسة، ليس على طريقة الوثن، بل كأدوات للعبادة أو كحجارة الكنيسة أو كماء المعمودية أو كأي شيء من هذا القبيل. الجميع يعرفون أن هذا مجرد مادة. لكنَّ القِطَعَ الماديةَ تُعتبَر مقدَّسةً لأنها تخدم غرضًا مقدَّسًا. هذا هو نوع المهابة الذي يليق بالدولة.

إذا لم يُعرَفْ كيف تُنفَخ في شعب فرنسا فكرةٌ ملهَمةٌ كهذه فسيكون لديه الخيارُ فقط بين الفوضى وبين الوثنية. يمكن للوثنية أن تأخذ شكلًا شيوعيًا. وهذا ما قد يحصل على الأرجح. ويمكن أن تأخذ شكلًا قوميًا. عندئذ سيكون على الأرجح موضوعُها الزوجَينِ اللَّذَينِ يميِّزان عصرَنا واللَّذَينِ يتألَّفان من رجل يُنادى به رئيسًا ومن الآلة الفولاذية للدولة. وإذْ بالدعاية يمكنها أن تصنعَ رؤساء من جهة؛ ومن جهة أخرى، إذا ساقت الظروفُ رجلًا ذا قيمة حقيقية إلى منصب كهذا فإنه سريعًا ما يصبح أسيرَ دوره كوثن. بتعبير آخر، وبلغة عصرية، قد لا يترك غيابُ الإلهام الصافي للشعب الفرنسي احتمالاتٍ أخرى غير الفوضى أو الشيوعية أو الفاشية.

هناك أناس، في أمريكا مثلًا، يتساءلون إذا لم يكن فرنسيو لندن يميلون نحو الفاشية. إن طريقةَ طرحِ السؤال خاطئةٌ جدًا. فليس للنيَّات في حد ذاتها سوى أهميةٍ قليلة جدًا، إلاَّ عندما تتَّجه مباشرةً نحو الشر، لأنه من أجل الشر هناك دائمًا وسائلُ في متناول اليد. لكنَّ النيَّاتِ الحسنةَ لا قيمةَ لها ما لم ترافقْها وسائلُ مقابِلة. لم يكن في نية القديس بطرس أبدًا أن ينكر المسيحَ؛ لكنه فعل ذلك لأنه لم يكن يمتلك في داخله النعمةَ التي كانت ستُمكِّنه من الامتناع عن ذلك. وحتى الطاقةُ واللهجةُ الحازمة التي استخدمها لإثبات النية المعاكسة قد ساهمتا في حرمانه من هذه النعمة. إنه مثال يستحق أن نفكر فيه في جميع الاختبارات التي تُقدِّمها الحياةُ.

المشكلة هي في معرفة إنْ كان فرنسيو لندن يمتلكون الوسائلَ اللازمة لمنع الشعب الفرنسي من الانزلاق في الفاشية ولمنعه في الوقت نفسه من السقوط إما في الشيوعية وإما في الفوضى. ونظرًا لكون الفاشية والشيوعية والفوضى ليست سوى تعبيرات مترادفة لا تكاد تتمايز لشر واحد فالموضوع يكمن في معرفة إن كانوا يمتلكون علاجًا لهذا الشر.

فإذا كانوا لا يمتلكونه فإن سبب وجودهم الذي هو إبقاء فرنسا في الحرب سيقضي عليه بالكامل النصرُ الذي لا بد له في هذه الحالة من أن يعيد غَمْسَهم في عامة الشعب من أبناء جِلْدتهم. وإذا كانوا يمتلكونه فيجب عليهم أن يكونوا قد بدأوا بالأساس في تطبيقه بكمية كبيرة وبطريقة فعالة منذ ما قبل النصر. لأن معالجةً من هذا القبيل لا يمكن البدءُ بها وسط القَلاقل الشديدة التي سترافق في كل فرد ولدى عوام الشعب تحريرَ البلد. يمكن بصورة أقل البدءُ بها عندما تهدأ الأعصابُ، هذا إذا حصلَت التهدئةُ يومًا ما؛ سيكون قد فات الأوانُ وسبق السيفُ العذَل، ولا يعود بالإمكان الحديث عن أي علاج.

ليس المهم إذًا أن يؤكدوا أمام الأجنبي حقَّهم في حكم فرنسا؛ مثلما أنه ليس المهم بالنسبة للطبيب التأكيد على حقه في علاج المريض. الشيء الأساسي هو أن يكون قد قام بالتشخيص ووضَعَ في فكره علاجًا واختار الأدويةَ وتحقَّقَ من أنها في متناول المريض. وإذا عرف الطبيبُ القيامَ بكل ذلك، ليس من دون خطر القيام بخطأ، لكن مع احتمالات معقولة بأنه أصاب في رؤيته، عندئذ يحق له، إذا ما أُريدَ منعُه من مزاولة وظيفته ووضْعُ مشعوذ مكانه، أن يعترض على ذلك بكل ما أوتي من قوة. لكن إذا كان هناك، في مكان بدون أطباء، عدةُ جاهلين يضطربون حول مريض تتطلَّب حالتُه عنايةً دقيقةً وواعية جدًا فماذا يهمُّ بين يدَيْ أيٍّ من هؤلاء سيجد هذا المريضُ نفسَه ليموت أو لتُنقذَه المصادفةُ فقط. لا شك في أنه من الأفضل بأية حال أن يكون بين أيدي الذين يحبونه. لكنَّ الذين يحبونه لن يُنزِلوا به عذابَ محركة طاحنة قرب سريره، إلا إذا كان هناك في حوزته وسائل يمكن أن تنقذه.

ترجمة: محمد علي عبد الجليل

*** *** ***

 


 

horizontal rule

[1] "فمعَ كَوْنِهِ ابنًا تَعلَّمَ الطاعةَ من الآلام التي قاساها." عبرانيين 5: 8. (المترجم)

[2] الغيتيُّون Gêtes (Gètes) أو القوط الشرقيون: هم شعوب محاربة من الأصل التراقي Thraces استوطنَت ضفافَ نهر الدانوب في العام 339 ق. م. يقول عنهم المؤرخ الإغريقي هيرودوت Hérodote: "الغيتيون هم الأكثر رجولةً والأكثر تجرُّدًا وإنصافًا بين التراقيين." (المترجم)

[3] تراقيا La Thrace: هي منطقة تاريخية وجغرافية في جنوب شرق البلقان بشرق أوروبا، تتقاسمها بلغاريا واليونانُ وتركيا. تُجاور تراقيا ثلاثةَ بحار: الأسود وإيجة ومرمرة. حدود تراقيا ضمن الحدود السياسية لتركيا ورومانيا واليونان، وهناك تداخل في حدود تراقيا التاريخية وحدود مقدونيا التاريخية. (المترجم)

[4] يوحنا، 17، 3. (المترجم)

[5] شارل ﭙـيغاي Charles Péguy (1873 – 1914): كاتب فرنسي اشتراكي كاثوليكي. (المترجم)

[6] بريتاني (بريتانيا) la Bretagne: منطقة فرنسية عاصمتها رين Rennes. (المترجم)

[7] قرنوالية أو كورنوال Les Cornouailles أو la Cornouailles [الكُورنُواي] (بالإنجليزية: Cornwall وبالكورينية: Kernow): مقاطعة إنكليزية ساحلية جنوب غرب إنكلترا. تقع إلى الغرب من نهر تامار وديفون. عاصمتها ترورو Truro. قرنوالية هي الوطن التاريخي للشعب الكورنيشي الذي يعد أحد الشعوب الكلتية التي تـنتمي إلى الدول الكلتية الستة التاريخية بإجماع الكثير من السكان والمؤرخين. يجيد بعض سكان المنطقة اللغة الكورنية، وهي لغة كلتية قديمة في منطقة قرنوالية تعود لعام 1777، وهي مرتبطة باللغة الويلزية والبريتونية. كما يعتبر بعض السكان أنفسهم "قرنواليين" وليسوا إنجليزًا. (المترجم)

[8] معسكرات الشبيبة (أو مخيمات الشباب) Chantiers de la jeunesse française CJF: منظَّمة فرنسية شبه عسكرية وُجِدَت بين عامَي 1940 و1944. (المترجم)

[9] كورناوي cornélienne: نسبةً إلى الكاتب الفرنسي ﭙـيير كورناي Pierre Corneille (1606 – 1684). (المترجم)

[10] في الإسلام، يُعَدُّ محمدًا نبيَّ الرحمة. ووردَ عنه في المنقول أنه لم يرضَ لشدة رحمته أن يحلَّ العذاب بمن آذاه من أهل الطائف قائلًا: "عسى أن يخرج من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله." فكانت نظرتُه نظرةَ رحمة كنظرة المسيح إلى أورشليم. ثم إن المنظور الإسلامي يرى أن العلاقة بين الزوجين هي علاقة "مودة ورحمة": "وجعل بينكم مودةً ورحمة" (الروم 21) لكون الرحمة أشمل وأرقى من الحب. كما أن النظرة الإسلامية تتلاقى مع النظرة الثيوصوفية في أن الرحمة الإلهية وسعَت كلَّ شيء وفي أن رحمة الله سبقَت غضبَه. حيث أن قانون كارما الإلهي الصارم هو قانون رحيم وعادل في آن معًا، ولكنه رحيم أولًا، لأن غرضه ليس مجردَ تطبيق العدل من خلال العقاب أو القصاص، بل تفتُّح الوعي. كما أن البسملة تجمع صفتَي "الرحمن" "الرحيم". (المترجم)

[11] "يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين، إليها كم مرةٍ أردتُ أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. هو ذا بيتكم يترك لكم خرابًا." (متَّى، الإصحاح 23، العدد 37) (المترجم)

[12] سكيبيو الإفريقي (بابليوس كورنيليوس سكيبيو الإفريقي Publius Cornelius Scipio Africanus‏): والذي يُعرَف أيضًا باسم "سكيبيو الكبير" أو "أفريكانوس الكبير" (235 ق.م - 183 ق.م) هو قائد روماني خلال الحرب البونيقية الثانية. يعتبر واحد من أقوى القادة العسكريين في التاريخ. كانت أبرز معاركه التي أظهرت قدراته التكتيكية معركة إليبا. (المترجم)

[13] النوميديون Numides: هم سكان مملكة نوميديا la Numidie الأمازيغية القديمة (202 ق. م. – 46 ق. م.) وعاصمتها سيرتا (حاليًا تسمى قسنطينة) والتي قامت في غرب شمال أفريقيا ممتدةً من غرب تونس حاليًا لتشمل الجزائرَ الحالية وجزءًا من المغرب الحالي. واسم "نوميديا" مشتق من اللاتينية واليونانية ويعني: بلاد البدو. (المترجم)

[14] الأحمر والأسود Le Rouge et le Noir: رواية كتَبها عامَ 1830 ستاندالُ Stendhal (1783 – 1842). (المترجم)

[15] فرانسوا ﭭـيُّـون François Villon: شاعر فرنسي من نهاية القرون الوسطى، وُلِد عام 1431 واختفى عام 1463. جعلَتْ منه حياتُه المغامِرةَ، إذْ كاد يصل إلى حبل المشنقة، رمزًا أسطوريًا. حياته غير معروفة تمامًا. كان يتيمَ الأب وتربَّى عند كاهن قانوني chanoine حتى حصوله على شهادة من السوربون. (المترجم)

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني