صورة الطفل في الحرب - إيلان كردي نموذجًا
أو عندما تؤجج الأيقونة الرأي العام!!

د. الكبير الداديسي

 

لا خلاف حول أهمية الصورة في عصر غدا الناس يملون قراءة المقالات والاستماع للخطب الطويلة، خاصة أمام التدفق الهادر للأخبار والمعلومات عبر الجرائد والمجلات والقنوات والإذاعات... الخ، مما استحال معه مواكبة كل ما يطبع وينشر، لذلك أضحت الصورة وسيلة تعبير فعالة، يفهم الرسالة عبرها الكبير والصغير، المتعلم والجاهل، بعد أن ساهمت الثورة التكنولوحية والرقمية في تسريع نشرها وتداولها بين مختلف الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية.

والمتتبع لأهم الأحداث التي شهدها العالم المعاصر في الخمسين سنة الأخيرة يدرك أن هناك صورًا ظلت عالقة في الذاكرة الجمعية العالمية، ولقيت نجاحًا ربما لم يحلم به ملتقطوها، بل كان لبعضها تأثير كبير على تغيير مسار تلك الأحداث، وفعلت ما لم تفعله المؤتمرات والأحزاب بل وحتى مختلف الأجهزة الدولية، ويكفي الإشارة إلى صور مثل:

-       صورة فتاة الفيتنام وهي عارية تصرخ من شدة ما ألم بها من حروق بعدما ألقت الولايات المتحدة الأمريكية قنبلة نابالم على قرية ترانج بانج. وقد كان للصورة دور أساسي في وقف حرب الفيتنام في سبعينيات القرن الماضي.

-       صورة رجل الدبابة أو المتمرد المجهول الرجل الذي وقف في طريق أسطول الدبابات الصينية وهي تحاول دخول ساحة تيانانمن الشهيرة لفك اعتصام ومظاهرات الطلاب 5 يونيو 1989.

-       صورة الفتاة الأفغانية الملتقطة سنة 1984 لفتاة يتيمة في مخيم ناصر باغ للاجئين بالقرب من الحدود الأفغانية الباكستانية.

-       صورة الفتاة الهاربة من مجاعة السودان والتي تظهر فتاة صغيرة تزحف هاربة نحو مركز الإغاثة ونسر ضخم خلفها، والصورة التقطت يوم 26 مارس 1993.

-       صورة محمد الدرة الملتقطة يوم 30 ديسمبر 2000 والتي تصور احتماء أب وابنه من نيران الكيان الصهيوني خلف برميل واستشهاد الابن بين ذراعي والده.

هذه عينة من الصور/الأيقونات التي ميزت عالم الصحافة في الفترة المعاصرة، كل صورة تستحق مقالاً خاصًا، وهي ظلت وستظل تجر خلفها تاريخًا من الدلالات، وكان وراء نجاحها اختيار التوقيت والمكان وزاوية الرؤية.

واليوم حظيت صورة باهتمام العالم، وحركت مشاعر الإنسانية فرادى وجماعات، فكانت شمسًا أفلت أمامها كل الصور مهما كانت أهميتها، والمقصود صورة الطفل السوري إيلان كردي وهو ملقى على شاطئ بعدما لفظ البحر جثته هامدة. فما الذي جعل من هذه الصورة تحظى بكل هذا الاهتمام دون غيرها من ملايين الصور التي تطلع علينا يوميًا من الدول التي تعرف صراعات وحروبًا تصور أطفالاً في وضعيات مأساوية؟

ساهمت وسائل الاتصال وشبكات التواصل الاجتماعي في تسريع زمن الاتصال والتواصل، وحولت الناس العاديين إلى عيون ترصد كل كبيرة وصغيرة وتدويلها، وتأليب الرأي العام الدولي عندما يتعلق الأمر بانتهاك حقوق الفئات المستضعفة (النساء، الشيوخ، المعاقين والأطفال) - هذه الفئات التي تعد الأكثر تضررًا في الحروب والأزمات. وتبقى صورة الأطفال في الحروب أقوى تأثيرًا في الناس لانعدام حيلة هذه الفئة وعجزها عن تأمين نفسها، والدفاع عن ذاتها. وإذا كان العالم اليوم يعرف تدفق آلاف الصور لأطفال يعذبون، يذبحون، يقتلون... في عدة بؤر ساخنة (سوريا، العراق، ليبيا، ، فلسطين، أفغانستان...) فإن صورًا قليلة تلك التي أحدثت أثرًا كبيرًا في تحريك مشاعر الإنسانية. وتبقى صورة الطفل السوري إيلان كردي في يومنا من أهم تلك الصور، لدرجة لا تكاد تصدر جريدة، أو تلقى نشرة، خالية من أن تتربع صورة الطفل على صفحتها الأولى وعناوينها الرئيسة.

إن المتأمل في الصورة يدرك منذ البداية أنها صورة بسيطة وعادية ملتقطة بعدسة مصور هاو، صورة ملتقطة من الأمام لم يبذل المصور جهدًا كبيرًا لالتقاطها، ولعل من أسباب تبوئها هذه المكانة هي بساطة الصورة، وخلوها من الدم والرعب الذين تعج بهما مختلف الصور، فهي بخلاف الصور الأخرى تغلف عنف الإنسانية بغلاف رومانسي سواء المكان: الشاطئ الذي تتحد فيه زرقة السماء بزرقة البحر، لتنعكس منهما إضاءة طبيعية؛ أو في صورة الطفل: الحذاء الرياضي، السروال الأزرق القصير، والقميص الأحمر. طفل ينام على الشاطئ تداعب الأمواج محياه بهدوء، لا أثر على جثته لأي تعذيب، أو دم، مُظهِرًا "فضيلة!" الموت في البحر لأنه أرحم من الموت في البر، فلو مات تحت تفجير القنابل والبراميل والمتفجرات لكان مثل غيره من القتلى الذين تتردد القنوات في نشر صورهم...  فيما تمكنت كل القنوات من نقل صورة إيلان وتداولها دون أن يكون في ذلك أي تعارض مع أخلاقيات مهنة الصحافة التي تدعو إلى عدم نشر جثت الأطفال والمصابين أو المعرضين لعنف أو تعنيف!

وبالإضافة إلى المكان والمحتوى كان لتوقيت نشر الصورة دوره الأساس في جعل صورة إيلان تخترق كل المواقع والوسائط، فتوقيت نشرها هو نهاية العطلة الصيفية، موعد عودة كل الأطفال من المخيمات والشواطئ إلى مدارسهم، لتكون صورة إيلان النشاز الوحيد عندما اختار القدر والبشر أن يبقى إيلان على الشاطئ وحيدًا عاجزًا عن تلبية دعوة الدخول المدرسي، وربما لو تم نشر الصورة في توقيت آخر لكان تأثيرها أضعف.

لقد تمكنت صورة إيلان من مخاطبة الذاكرة البصرية الإنسانية واستطاعت التأثير في كل من شاهدها، وكان تأثيرها أقوى من كل الأشكال الاحتجاجية التي ابتدعها السوريون لإيصال مأساتهم للعالم.

*** *** ***

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني