english arabic

الطبيعة إلهي

 

لقاء مع ميخائيل غورباتشوف

 

يبدو اسم ميخائيل غورباتشوف – وهو الذي ارتبط، وبالطبع سوف يظل مرتبطًا، بالحدث الأكثر درامية لنهاية القرن العشرين والمتمثل بتفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار المنظومة الشيوعية – وقد توارى في الذاكرة البعيدة. لكنْ هو ذا الرجل مازال يحمل حلم الديموقراطية والإيكولوجيا والحياة الروحية لروسيا وللعالم، كما يظهر من المقابلة التي نقدِّم ترجمتها هنا والتي أجراها معه Fred Matser ونُشِرَتْ في العدد 184 من مجلة Resurgence. (المترجم)

***

ما هي القيم المهمة بنظرك؟

أنا سعيد بأنك تستفسر عن القيم. لقد كان القرن العشرون أحد أكثر القرون مأساوية – قرنًا مليئًا بإراقة الدماء والسيطرة والتدمير. وهو القرن الأكثر مفارقة: فمن جهة، أحرزنا فتوحات كبيرة على صعيد المعرفة، نجمتْ عنها تكنولوجيات جديدة؛ ومن جهة أخرى، وبسبب من هذه الفتوحات التكنولوجية – الأسلحة النووية، على سبيل المثال – فإن نجاتنا نفسها عرضة للخطر. نحن نشهد انهيارًا للعلاقة الخصوصية بين النوع البشري وبقية الطبيعة.

أعتقد أن هذا الوضع نشأ لأننا ابتعدنا عن القيم الخالدة. وأنا لا أظن بأننا نحتاج إلى أية قيم جديدة. فالأمر الأهم هو أن نحاول إحياء القيم المعروفة عالميًّا التي تراجعنا عنها.

عندما كنت شابًّا، تحمستُ قلبيًّا للمُثُل الشيوعية. فالروح الشابة جزمًا لا تستطيع رفض أشياء من قبيل العدالة والمساواة؛ وهذه كانت الغايات التي نادى بها الشيوعيون. لكنْ، في الواقع، أحدثتْ تلك التجربة الشيوعية الفظيعة قمعًا للكرامة الإنسانية. فقد استُخدِم العنف لفرض ذلك النموذج على المجتمع. وباسم الشيوعية تخلَّينا عن القيم الإنسانية الأساسية. لذلك، عندما تسلَّمتُ السلطة في روسيا شرعتُ في إحياء تلك القيم – قيم "الانفتاح" والحرية.

متى أدركتَ أنه ينبغي نبذ هذا النموذج؟

لم يكن ثمة «يوم بعينه» أدركت فيه ذلك. لقد استغرقني استخلاصُ النتائج حياةً كاملة. لكني، حين أدركت ما كان يحدث، وعندما أتيحت لي الفرصة، بدأت في إحداث التغييرات. إن فلسفتي تستند إلى الفطرة السليمة؛ والفطرة السليمة تحيل على حسِّ الاعتدال والوسطية. فمثلاً، إذا لم ترتبط الحرية بالخلقية فهي ليست حرية؛ إنها إباحة. هي مجرَّد مصلحة شخصية وليست حرية.

للحياة قيمة بحدِّ ذاتها. فعندما تدَّعي بعض المناهج أنها تقدمية، وينجم عنها تدميرٌ للحياة، فهي ليست مقبولة. أعتقد أن القرن الواحد والعشرين يجب أن يكون قرن الكائنات الإنسانية التي تعيش في تناغم مع الطبيعة، بدلاً من أن تستعبدها التكنولوجيا.

ينبغي أن نشجع أولئك الذين يشايعون الليبرالية الاقتصادية في روسيا؛ لكن عليهم أن يتخلوا عن فكرة أن بإمكانهم استخدام هذا الخواء الإيديولوجي لكي يفرضوا التغريب westernization كوسيلة في حلِّ مشكلاتنا. أعتقد أن الليبرالية الاقتصادية ليست أقل هشاشة من الاشتراكية أو الشيوعية. فالرخاء الاقتصادي يجب أن يترافق مع التماسك الاجتماعي والاستدامة sustainability الإيكولوجية. فأيُّ خير في المال الكثير إذا كان النسيج الاجتماعي مدمَّرًا والبيئة ملوثة؟

إن قيمًا من نحو التضامن والاقتصاد ذي التوجُّه الاجتماعي والحاجة إلى انسجام في العلاقات بين النوع البشري وبقية الطبيعة قيمٌ هامة على حدٍّ سواء. وسيتوقف المستقبل على تمكُّننا من إيجاد تأليف، إيجاد إدغام بين القيم الإيكولوجية والليبرالية والاجتماعية. وهذه القيم أدعوها "قيمًا خالدة".

أريد أن أشدد بصفة خاصة على القيمة الجوهرية للطبيعة، لأن البشر لا يمكنهم أن يوجدوا بدون الطبيعة. علينا أن نحافظ على البشر والطبيعة جميعًا. فإذا لم نحترم الطبيعة فقد نزول في آخر المطاف، وعلى الأرض، مرة أخرى، ستوجد الطبيعة بدون البشرية. لذا فإن إحراز البشر معرفةً أفضل بأنفسهم وبدورهم في الكوسموس هو أمر فائق الأهمية. فإذا فعلنا ذلك نستطيع عندئذٍ أن نتقي الكثير من المخاطر. ينبغي على النوع البشري أن يكون أكثر تواضعًا في حاجاته وأكثر احترامًا للبيئة التي نشكل مجرد جزء منها.

 

إذا لم نتعلم الحياة في تناغم مع الطبيعة فسوف نعدم الأمل في حياتنا، وفي المآل، سوف نعرِّض وجودنا نفسه للخطر. بذلك المعنى أعتقد أن علينا العودة إلى نوع جديد من النهضة renaissance. وعلى هذه النهضة الجديدة أن تتأسس على فكرة أن الناس يجب أن يعيشوا حياة أكثر طبيعية.

كيف يستطيع الناس إعادة بناء احترامهم لذاتهم في الوقت الذي يحترمون فيه الطبيعة أيضًا؟

ينبغي أن نعود إلى القيم العالمية لكي نحرز مثل هذا الاحترام. ومهما كان الأمر صعبًا، ينبغي أن نصون استراتيجيات لا تهجر تلك القيم البالغة الأهمية. وينبغي أن نلتمس إدغام تلك القيم في أساليب عملية. ينبغي علينا، أولاً، أن نهجر كلَّ أنواع العنف؛ وأن نفهم، ثانيًا، أننا يجب أن نكف عن اللجوء إلى التطرف. على السياسيين في روسيا، كما في كلِّ مكان آخر، أن يفهموا أن اقتصاد السوق الحر ليس ضامنًا لصون القيم العالمية. فعندما تمتلك سوقًا حرة لن تجد، بين عشية وضحاها، أنك تعيش في بلد حر. ينبغي اكتساب الكثير من الخبرة في كيفية استخدام تلك الحرية. لذا على المرء أن يكون مستعدًّا للسير على الطريق خطوة خطوة واستدماج مبادئ أخرى. إذا فشلنا في استعادة الكرامة الإنسانية والاستدامة الإيكولوجية فإن السوق الحرة لا طائل فيها.

وإذا لم يؤخذ بالحسبان الثمنُ الاجتماعي والثمنُ البيئي للسوق الحرة فإن الثقة سوف تتبخر. لقد تبددتْ اليوم أوهامُ الناس عن السياسة. إنهم لا يثقون بالسياسيين ويشعرون بأن هؤلاء يعتبرونهم مجرد مطايا للوصول إلى السلطة.

عندما يريد الناس التغيير فمن المهم جدًّا أن يستلهموا «الزعماء».

لا ريب في ذلك. فبدون الإلهام تفشل كلُّ محاولات الإصلاح حتمًا. البشر ليسوا مجرد غبار في الهواء؛ إنهم يريدون الانخراط في تغيير الحياة نحو الأفضل. وأولئك الناس أصحاب السلطة في روسيا عاجزون اليوم عن البقاء في تماس مع الناس الذين منحوهم الثقة أصلاً. والنتيجة هي أن الناس فقدوا إلهامهم، وهم يعيشون في نمط بقائي. هذا الأمر يشجع من جديد ذهنية الاتكال القديمة المعتمدة على وجود قيصر أو سكرتير عام طيب. ولكن في بلد تعيش فيه قومياتٌ ومجموعاتٌ إثنية متعددة لا تستطيع تحقيق أهدافك بدون إشراك المجتمع بأكمله.

هل يمكنك التحدث عن حياتك الشخصية؟ على سبيل المثال، ما الذي تعلَّمتَه من والديك؟

بداية، لقد تعلمت من والديَّ الفطرة السليمة – وهي نمطية جدًّا عند أهل الريف. إنهم يتصفون بالشعور نحو الطبيعة والكوسموس والعالم والحياة الحقيقية. فهم يولدون على الأرض وعليها يعيشون؛ لديهم شعور نحو تلك الأرض ويعرفونها جيدًا. ومرارًا ما يرفعون رؤوسهم للنظر إلى السماء، ليس لمجرد رؤية الغيوم التي تجلب المطر، بل للنظر إلى النجوم. فالناس الذين يرتبطون بالأرض يتفاعلون مع النجوم. وهذا الارتباط مع الطبيعة يمنح الناس استمساكًا حقيقيًّا بالفطرة السليمة.

تعلَّمتُ أيضًا الاعتدال والتواضع. في الجاليات الريفية ثمة الكثير من العمل الشاق الذي يحمل معه التسامح والتضامن – وهذا شيء وجدته في عائلتي وقريتي. وقد رافقني هذا الأمر طوال حياتي، فلم أنسَ أصلي قط. فبعض الناس من ذوي الأصول الريفية، ممَّن تكاد عائلاتهم تعدم التعلُّم، يرتبكون من جراء ذلك. لكنني لم أرتبك أبدًا منه؛ وفي الواقع أنا فخور بجذوري الريفية.

سألتْني زوجة رئيس فنلندا ذات يوم كيف أتحمَّل الأوقات العصيبة. قلت: "عليَّ أن أكون ممتنًّا لوالديَّ الفلاحَيْن اللذين زرعا فيَّ فعلاً أساسًا صلبًا وعلَّماني الجَلَد والعزيمة ونوعًا من الحكمة." وقلت أيضًا إنني ممتنٌّ لزوجتي. فهي ليست مجرد زوجة، بل صديقة حقيقية. لقد شاركتْني حياتي، في حلوها ومرِّها، وكانت لي مصدرًا عظيمًا للقوة.

ما هي معتقداتك الروحية؟

طيب، إنني أؤمن بالكوسموس. جميعنا مرتبطون بالكوسموس. أُنظرْ إلى الشمس. فلو لم تكن هناك شمس لما كنَّا موجودين. لذا فإن الطبيعة هي إلهي. وبالنسبة لي، الطبيعة مقدسة: الأشجار معابدي والغابات كاثدرائياتي.

إذا علمتَ أنك سوف تموت قريبًا، ما هي الرسالة التي ستوجِّهها إلى العالم؟

لست خائفًا من الموت. لكن هذا لا يعني أنني غير مبالٍ بالحياة: إني أعشق الحياة. بي فضول عظيم والحياة ممتعة. لست عدميًّا. نحن نأتي إلى العالم وسوف نغادره؛ لكني لا أعتقد أن ذلك سيكون عديم الأثر. الموت ليس هو النهاية.

إذا قُيِّض لي أن أعلم بأني سأموت فلن يقلقني ذلك كثيرًا. سأعيش حياة طبيعية كما كنت من قبل، ولن يغريني ذلك باستعمال الوقت الباقي لأبعث بأية رسالة خاصة، بل سأستعمل كلَّ الأيام المتبقية لي للتواصل مع الطبيعة والتماس معها، لأكون متحدًا بالطبيعة.

أتذكر يوم ذهبنا إلى قريتنا. كان القمح ناميًا. رأينا حقلاً من الحنطة، وفي المساء سمعنا غناء طيور السُّمَّن. كان ذلك أشبه بسيمفونية أو كونشيرتو. ثم، في أثناء الليل، رأيت كلَّ تلك النجوم في السماء وكان شعوري أني أقتات بالطبيعة وأني أذوب فيها. لذا ففي الأيام المتبقية لي سوف أنصرف إلى هذا النوع من التواصل مع الطبيعة، ولن أرغب في إزعاج الأحياء بأية رسالة.

ما الذي تعنيه لك كلمة «حب»؟

الحب من أسرار الطبيعة – وأعتقد أن من المستحسن أن يبقى سرًّا. بالطبع، لقد كُتِبَ الكثير عن الحب. الحب بنظري، قبل كلِّ شيء، هو ما يوحِّد الرجل والمرأة. لكن الحب يوحِّد أيضًا البشر والطبيعة. أعتقد أننا هنا نتعاطى مع سرٍّ أكبر منَّا بكثير. فحالما تحاول تعريفه يكون ذلك نهاية الحب. إنه يموت متى اعتقدت أنك عرفت سرَّه.

*** *** ***

ترجمة: معين رومية

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود