النية السليمة: بناء الروح اللاعنفية*

 

مايكل ناغلر

 

 

تدعم كل التعاليم الدينية العالمية "الوحدة الأساسية للعائلة البشرية على الأرض" - كما جاء في كلمات البرلمان العالمي للأديان (12 - 1993). وليس من المفاجئ أن أشهر قادة اللاعنف من أمثال أنغ سان سو كي Aung San Suu Kyi وعبد الغفار خان Abdul Ghaffar Khan وكينغ وغاندي بالطبع يستقون من أديانهم كمصدر إلهام، وأحيانًا يستقون من الممارسات الروحية لهذه الأديان، لامتلاك القوة على الرؤية والعمل اللاعنفي في وجه الأخطار أو الاعتداءات.

سواء كانت لدينا ميولاً دينية أو لم تكن (وهي الحالة السائدة في هذه الأيام) يتطلب التعمق في مصادر اللاعنف معرفةَ أننا، وكما جاء في كلمات كينغ عندما كان في سجن برمنغهام، "مرتبطون بمصير واحد". لابدَّ أن هناك شيء من الوحدة حتى مع خصومنا، وبعض الثقة بإمكانية التواصل معهم بغض النظر عن مدى عنف حالتهم العقلية الآنية. علينا أن ندرك بأننا نملك مصادر داخلية تجعل من اعتمادنا على الأسلحة أو الأرقام أو المال غير ضروري، وتقول بوجود معنىً للوجود تمامًا كما تقول بأنَّ لكل مشكلة حل دون التسبب بالأذى لأيٍّ كان.

الشخص ليس هو المشكلة

وفق النظرة اللاعنفية فإن الخلاص من حيث لا يوجد أي مخرج يتطلب التفكير في الخروج عن فهم النزاعات كلعبة الكل مقابل اللاشي، أي حتى أربح أنا فإن عليك أن تخسر أنت كليًا. أنا لست ضدك وأنت لست ضدي بل نحن كلانا ضد المشكلة. وهناك طريق يمكن لكلينا الاستفادة منه ويمكننا أيضًا تنميته. يمتلك هذا الطريق القدرة على تحويل أي جدل إلى جلسة لحل المشاكل وتحويل الخلاف إلى تجربة. في نهاية الأمر سيفيدنا تحويل الشعور بالعزلة إلى وعي بوحدة كل الأطراف، وعندها سيغدو هذا الشعور عاملاً بحد ذاته، ويوصلنا إلى الحل الخلاق والمناسب للجميع. ولهذا من المهم بالنسبة للعامل في مجال اللاعنف أن يحاول دومًا عدم إضاعة احتمالات المصالحة واحتمالية "تصفية الخصومة وليس الخصم". إياك أن تكون ضد الناس بل كن ضد المشاكل.

ليس من السهل دومًا تنمية هذه النيَّة ولكن هناك طريقة مفيدة بشكل خاص: يجب أن نحاول ألا نهين أو نقبل الإهانة لأن هذا سيؤذي الجميع. من الصعب على أي إنسان أن يعيش مع العار أو المهانة، وعندما يهددنا أحد باستخدام العنف نشعر بشيء من العار لاستخدام هذا المنهج حتى لو كان استخدامًا لاواعٍ. ولذلك حين نطرح تغيير أرضية الحديث باتجاه اللاعنف نعطي خصمنا بالتالي طريقًا للخروج. هذه النية هي الإقرار بأحد أهم مصطلحات اللاعنف وهو "alay dangal" ويعني "منح الكرامة" وقد تم صوغ هذا المصطلح خلال ثورة الشعب الفلبيني من أجل السلطة عام 1986 (Philippines People Power Revolution).

كما أخبر النبي محمد أتباعه في أحد المرات أنَّ عليهم مساعدة الجميع بما في ذلك الظالم، وعندما سألوه عن كيفية مساعدة الظالم أجاب: "من خلال رده عن الظلم". وهذا يمنح عقولنا توجهًا مفيدًا جدًا؛ فكلما ازداد احترامك لإنسانية خصمك كلما زادت فاعلية معارضتك لظلمه.

ولحسن الحظ نحن غير مجبرون في الساتياغراها على الاختيار بين المبدئي والاستراتيجي، فعلى المدى الطويل ستحقق الأدوات المناسبة (اللاعنف على سبيل المثال) النتائج المرجوة (كالعدالة) وهذا سيحقق سمة توعوية بحقيقة اللاعنف. على عكس الحملات العسكرية فإن المصادر الأساسية التي يستقي منها اللاعنف غير محدودة. عندما أمنحك احترامي فأنا لا أتخلى عنه أو أقلل مما لدي منه. بينما العنف يشد انتباهنا نحو الأمور المادية المحدودة وغير الدائمة ويخلق بذلك نوعًا من المنافسة والخوف.

وتعد غايتنا من وراء ابعاد الناس عن المشاكل والحفاظ على كرامة الآخر وكرامتنا أيضًا طريقًا وهدفًا للساتياغراها. وكما قال غاندي: "اللاتعاون الحقيقي هو اللاتعاون مع الشر وليس مع الأشرار". وقد حافظ على رأيه هذا حتى عندما واجه أصعب اختبار في اللاعنف ألا وهو الدفاع عن بلد يرزح تحت احتلال كبير ويواجه عدوًا عنيدًا. في عام 1942 عندما كانت الهند تابعة للبريطانيين ومهددة من قبل اليابان أشار غاندي إلى كيفية الدفاع عن البلد:

إن كان بلدنا حرًا يمكننا أن نقوم بأمور على نحو لاعنفي لتجنب دخول اليابانيين. ويمكن أن تبدأ المقاومة اللاعنفية في اللحظة التي يطأ فيها اليابانيون الأرض. بالتالي سيرفض المقاومون اللاعنفيون تقديم أي مساعدة لهم، سيرفضون حتى تقديم الماء. فمساعدة أي أحد على سرقة بلدهم ليس جزءًا من واجبهم. ولكن في حال أضاع أحد الجنود اليابانيين طريقه وكاد يموت من العطش ويبحث عن مساعدة كائن بشري سيقوم المقاوم اللاعنفي والذي لا يعتبر أي أحد عدوًا له بإعطاء الماء إلى الياباني العطشان. ولنفرض أن اليابانيون أجبروا المقاومين على اعطاءهم الماء فعلى المقاومين الموت كنوع من المقاومة.

أصبحت هذه الرؤية الجريئة حقيقة عندما غزت الجيوش السوفيتية تشكوسلوفاكيا لقمع الإصلاحات عام 1968. ولمعرفتهم بعبثية المقاومة المسلحة لجأ التشيكيون الأذكياء بشجاعة إلى عصيان حظر التجول بكل أنواعه وترتيباته وتآخوا مع الجنود الروس، وحاولوا ألا يضمروا أي غضب تجاههم كشعب. وكنتيجة لهذا العمل غير المتوقع لم تتمكن ثلاث جيوش من حلف وارسو يصل تعدداها إلى نصف مليون من فرض السيطرة على البلد لما يقارب الثماني أشهر. وبالتوازي مع الشجاعة والحس الفكاهي الذي يملكه الشعب التشيكي أعطتهم مهارتهم في حماية الناس من الانخراط في السياسة أو الفصل بين الشر وبين من يقوم به وسيلة للتغلب على الاحتمالات الطاغية. اليوم ندعو هذه الاستراتيجية بالدفاع المدني، التي وبالتزامن مع إرساء السلام المدني غير المسلح، تشكل المعادل اللاعنفي للدفاع العسكري.

وكل عنف يبدأ من فشل أو رفض الاقرار بالآخر ككائن إنساني كامل، لذلك يجب وكلما ازداد العنف أن نوقظ للإنسانية الموجودة في الخصم. حتى من يقوم بالتعذيب، مهما كان صعبًا تذكر هذا، هو شخص يعتقد بسبب جهله وانعدام حساسيته أن تعذيب الآخر مقبول. ولكن رغم اعتقاده هذا يبقى في الجوهر شخصًا. بالتالي حتى لو كان أحدهم خاليًا تمامًا من الإنسانية عند قيامه بهذا الفعل لابدَّ أن يكون لديه رغبة خفية ليكون إنسانًا مجددًا. ونحن نخاطب هذه الرغبة عندما نحافظ على "حالة الشخص" (personhood) للآخر، ولهذا لطالما تغلبت المقاومة اللاعنفية حتى على المعارضة المسلحة والعنيفة جدًا. على الأقل يحمينا اللاعنف من التأثيرات المزعجة لكتم الغضب والتجرد من الإنسانية (dehumanization). دعونا لا ننسى أن حريتنا الشخصية من الغضب والخوف وإلى ما هنالك تحقق منفعة جيدة، وهذا يتحقق من خلال ممارسة اللاعنف.

هناك عنصر مهم من وراء نيتنا بمعاملة المعتدي ككائن بشري ألا وهو تجنب تصنيفه/ها. فالتصنيف ينزع السمة الشخصية ولهذا يلجأ الجنود غالبًا إلى التصنيف لتجاوز حالة القرف الطبيعية التي تنتج عن قتل شخص آخر. والشخص غير العنيف حقًا لن ينزع السمة الشخصية أو يهين أو يجرد الآخر من إنسانيته بالأخص عندما يكون في وضع المقاومة. وهذا يتفق مع ما قاله كينغ عن الظلم وكيف أنَّ الظلم في أي مكان تهديد للعدالة في كل مكان، وينطبق أيضًا على كرامتنا؛ فامتهان أحدهم امتهان للجميع. وبشكل أدق يجب علينا العمل جميعًا لتحقيق الصداقة والمصالحة في فهمنا كما جاء في عبارة أبراهام لينكولن: "أفضل الطرق لتدمير عدو هي تحويله إلى صديق".

خمس ممارسات تدريبية أساسية لحياة لاعنفية

إغراء اذلال أحدهم لأن سلوكه سيء يعني محاولة جعله يشعر بالخجل من نفسه بدلاً من جعله يشعر بالخجل مما فعله، وهذا الإغراء قوي جدًا. ومنح الكرامة لهؤلاء الأشخاص والإقرار بأنهم يملكون وجهة نظر لا يأتي بشكل طبيعي. ولكن يمكن العمل على تحقيق هذا الموقف. وما يلي بعض عناصر برنامج التدريب اللاعنفي التي يمكننا من خلالها تمكين أنفسنا كأفراد وتنمية النيَّة السليمة.

1.    تجنب الشبكات والقنوات الإعلامية الكبرى. سواء أدركنا أو لم ندرك فإن وسائل الإعلام الكبرى مشبعة بالعنف والصور السيئة عن البشرية وهي تولِّد الكثير من العنف. أظهرت دراسات كثيرة أن صور العنف تدخل إلى عقولنا حتى لو رفضناها بشكل واعٍ وتجعل المشاهدين أكثر عنفًا وعدوانية. وتتطلب إعادة ضبط وسائل الاعلام حملة كبيرة. لحسن الحظ هناك وسائل إعلام بديلة في الوقت الحالي، ومن خلالها يمكننا الحصول على الأخبار والترفيه (هناك قائمة ببعض هذه الوسائل في نهاية الكتاب). من خلال هذه الوسائل من المستبعد أن يبدو العالم كمكان عنيف وأن نبدو عاجزين عن تغييره. يمكننا بأمان تقليل تعرضنا لوسائل الإعلام التجارية الكبرى التي تخدم الشركات والمصالح السلطوية.

2.    تعلَّم عن اللاعنف. لملئ الفراغ الذي يتركه تجنُّب وسائل الإعلام لا شيء أفضل من فهمٍ ومعرفة عميقة باللاعنف الذي وكما رأينا ليس مجرد تقنية بل رؤية عالمية بحد ذاتها وثقافة كاملة تمامًا. ويصبح اكتشاف اللاعنف حولنا مفيدًا جدًا. والتعلم التقليدي كقراءة كتب مثل هذا الكتاب وكتب أخرى موجودة في قائمة مراجعنا يضيف بعدًا آخرًا. وهناك وسيلة أخيرة مفيدة للحصول على ثقافة اللاعنف ألا وهي التدرب على الاستخدام الذكي للاعنف.

3.    اتباع تدريب روحي في حال لم تكن تتلقى أي تدريب. فالتأمل الذي لا يرتبط بالضرورة مع دين معين مفيد جدًا للشخص اللاعنفي ولأي شخص. التأمل وسيلة ضبط إنسانية عظيمة لأنها تربطنا بمجالات أعمق لإنسانيتنا – وللآخرون مثلها على حد سواء. نحتاج جميعنا إلى شكل من التأديب الذاتي سواء أكان دينيًا أو لم يكن. فقد وصل العديد من الأشخاص اللاعنفيين في وقتنا الحالي إلى المصادر والرؤية الداخلية من خلال التأمل والصلاة أو ممارسات روحية أخرى.

4.    فلتكن أكثر شخصانية مع الآخرين. من خلال تواصلنا اليومي نمنح الناس انتباهنا الكامل. أن تبذل جهدك في الحديث مع جابي التعريفات (إن لم يكن هناك خطًا طويلاً من السيارات وراءك)، أن تتصل بأحد بدلاً من ارسال رسالة له أو أن تتناول الطعام معه. هذه العادات الصغيرة كما تبدو يمكنها أن تغير تركيبة حياتنا وتساعدنا على تنمية الرأفة ورؤية الإنسانية في الآخرين بينما نساعدهم في الوقت عينه.

5.    البحث عن مشروع والانخراط في العمل. ماهي مساهمتك المميزة في الحياة؟ أين يحتاجك العالم؟ ماهي المشاريع الممكنة والمُلحة لتحقيق تغيير أساسي في نظامنا الحالي؟ أظهرت بعض الدراسات أن النشيطين أكثر تفاؤلاً والعكس صحيح. نحن نؤثر على أنفسنا كثيرًا من خلال ما نفعله وربما بالقدر نفسه أو أكثر مما نؤثر على أنفسنا من خلال الطريقة التي نتكلم فيها عن أفعالنا.

تساعدنا هذه الخطوات على تجهيز أنفسنا لنعيش حياةً لاعنفية. وحتى بدون الخطوة الخامسة ستحقق الخطوات السابقة تغييرًا في العالم لأنّ الطريقة التي نعيش فيها تؤثر على العالم حولنا حتى لو لم نقم بشيء آخر ولكننا سنقوم بشيء آخر.

ترجمة: عزة حسون

*** *** ***

 


 

horizontal rule

* الفصل الثاني من كتاب دليل اللاعنف إرشادات عملية للعمل اللاعنفي، تأليف مايكل ناغلر، ترجمة عزة حسون، معابر للنشر، دمشق، 2015.

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني