اللغة والدماغ*

 

نعوم تشومسكي
ترجمة: جوهر عبد المولى
*

 

قد تبدو الطريقة المثلى للتعامل مع موضوع اللغة والدماغ هي أن نستعرض المبادئ الأساسية لكلِّ من اللغة والدماغ من أجل أن نوضح كيفية التوحيد فيما بينها. يمكننا القيام بذلك بأن نتبع، مثلاً، نموذج الكيمياء والفيزياء الذي ظهر منذ 65 عامًا، أو النموذج الذي ظهر بعده ببضع سنوات حول دمج أجزاء علم الأحياء (البيولوجيا) المتكاملة ضمن كيانٍ مركَّبٍ واحد. لكنني لن أسلك ذلك المنحى الآن لأنني ببساطة لا أمتلك الكم الكافي من المعلومات التي تمكنني من التعامل مع هذا الموضوع بالشكل المطلوب. يمكن أن أذكر نقطتين في هذا الصدد - وإن كان ما سأقوله يشوبه بعض الشك. النقطة الأولى هي أنَّ الفهم الحالي لهذه القضية يفتقر لما هو لازم من أجل وضع حجر الأساس لعملية التوحيد بين العلوم التي تدرس الدماغ والقدرات الذهنية العليا التي تعتبر اللغة من ضمنها. النقطة الثانية هي أن هناك الكثير من المفاجآت التي تنتظرنا في محاولتنا للوصول إلى ما قد يبدو هدفًا صعب المنال، وذلك بحد ذاته أمرٌ لا يجب اعتباره مفاجأةً إذا ما نظرنا إلى الأمثلة الكلاسيكية التي ذكرتها آنفًا على أنها النموذج الواقعي الذي يجب اتباعه.

ويختلف هذا التقييم المتشكك في الآمال الحالية عن وجهتي نظرٍ متعاكستين تمامًا. تفترض وجهة النظر الأولى أن التشكيك هذا لا مبرر له، أو أنه خاطئ بشكل جذري، لأن مسألة توحيد العلوم تلك ليست مطروحة أصلاً لا في اللغة ولا في علم النفس. فلا يمكن طرحها في علم النفس بوصفه دراسة للذهن لأن هذا الموضوع لا يندرج تحت علم الأحياء، وهو موقفٌ يُتخذ في تعريف ما يسمى بــ "النموذج الحاسوبي للذهن/العقل"[1]؛ ولا يمكن طرحها في اللغة أيضًا لأن اللغة كيانٌ فوق-بشري، وتلك هي وجهة النظر السائدة ضمن العديد من التيارات الفلسفية التي تدرس الذهن والدماغ، وهو ما طُرح حديثًا أيضًا على لسان بعض الأسماء البارزة في علم الأعصاب neuroscience والإيثولوجيا ethology[2]. وهذا على الأقل ما يمكن فهمه من وجهة النظر هذه، فقد تختلف المقاصد بشكل أو بآخر. سأعود لاحقًا إلى ذكر بعض الأمثلة المهمة في الوقت الحالي.

أما بالنسبة لوجهة النظر الثانية المعاكسة فتقترح أن قضية التوحيد تلك موجودة فعلاً، لكن التشكيك بها غيرُ مرحبٍ به، وذلك لأن توحيد الدماغ وعلوم الاستعراف/المعرفة cognitive sciences ليس بأمرٍ بعيد المنال، كما أنه يتجاوز الثنائية الديكارتية. وقد أكد عالم الأحياء التطوري إدوارد أوزبورن ويلسون E. O. Welson بكل وضوح على هذه النظرة المتفائلة عندما نشر مقالاً له حول الدماغ في مجلة الأكاديمية الأمريكية للآداب والعلوم، يلخص به أحدث التطورات في هذا المجال: "أصبح بإمكان العلماء اليوم أن يتحدثوا بكل ثقة عن وجود حل لمشكلة العقل-الدماغ"[3]. وقد استمر آخرون بالتعامل مع هذا الموضوع بثقة مشابهة منذ نصف قرن إلى يومنا هذا، حيث أكدت بعض الأسماء اللامعة على التوصل إلى حل لمشكلة العقل والدماغ.

يمكننا الآن، إذًا، أن نُحدد عدة وجهات نظر تجاه مشكلة التوحيد السائدة هذه:

1.    ليس هنالك من معضلة أصلاً: فاللغة والقدرات الذهنية العليا لا تنتمي إلى ميدان البيولوجيا.

2.    يمكننا نسبتهما إلى البيولوجيا من حيث المبدأ، وإن أي مقاربة بناءة تُعنى بدراسة الفكر الإنساني وكيفية التعبير عنه، أو بتصرفات وتفاعل الإنسان، تعتمد على هذه الفرضية، أقلَّه ضمنيًا.

إذا ما تطرقنا إلى هذه النظرية الثانية سنجد أنها هي بنفسها تنطوي على وجهتي نظرٍ متغايرتين:

أ‌.       إن قضية التوحيد سهلة المنال.

ب‌.  لا يمكن لنا في الوقت الراهن تفسير كيفية ترابط أجزاء البيولوجيا معًا، كما أننا نعتقد بأن التبصرات الأساسية في هذا الصدد غير موجودة أساسًا.

وتبدو وجهة النظر الأخيرة (2ب) الأكثر عقلانية، وسأحاول أن أفسر اعتقادي هذا كما سأقوم بتوضيح بعض المعالم التي يجب دراستها بعناية وشمول في ضوء هذه المواضيع.

سأختار كإطار لهذا النقاش ثلاث نظريات لطالما ظننت أنها الأكثر معقولية. ولكنني لن أستخدم صياغتي أنا لها في السنوات المنصرمة، بل سأقوم باقتباس بعض العلماء الرائدين.

النظرية الأولى يبينها لنا عالم الأعصاب فيرنون ماونتكاسل Vernon Mountcastle في مقدمة للدراسة التي ذكرتها سابقًا (دراسة ويلسون في الأكاديمية الأمريكية للآداب والعلوم) حيث يرى ماونتكاسل أن أحد محاور البحث الرئيسية للإسهامات العلمية ولعلم الأعصاب عمومًا هو أن "الأمور الذهنية، أي العقول، هي خواص منبثقة عن الدماغ"، لكنه يتابع فيقول: "لا تعتبر هذه الانبثاقات أمورًا غير قابلة للاختزال فهي بطبيعتها صادرة عن المبادئ المسؤولة عن التفاعل ما بين حوادث المستوى البيولوجي الأدنى - مبادئٌ ما زالت عصية على فهمنا".

النظرية الثانية هي نظرية منهجية، وتظهر بشكل جلي عند عالم الإيثولوجيا مارك هاوزر في كتابه الشامل Evolution of Communication (تطور التواصل)[4]. فعلى خطى تينبرجن، يفترض هاوزر أنه علينا اتباع أربع وجهات نظر في دراسة "التواصل في مملكة الحيوان، ومن ضمنه لغة الجنس البشري". ولكي نفهم فحوى سمةٍ ما يجب علينا:

1.    أن نتفحص بإمعان آليات العمل التي تُفعِّل تلك السمة، سواء أكانت آليات فيزيولوجية أو سيكولوجية - وتلك هي وجهة النظر الميكانيكية.

2.    أن ندرس العوامل الجينية والبيئية كل على حدى، وهو أمرٌ يمكن تناوله أيضًا على نحو فيزيولوجي وسيكولوجي - تلك هي وجهة نظر علم تنشؤ الفرد.

3.    أن نوجد "نتائج كفاءة" السمة، بالإضافة إلى آثارها على البقاء والتكاثر - هذه هي وجهة النظر الوظيفية.

4.    أن نكشف عن "تاريخ تطور الجنس البشري لكي نتمكن من تقييم ماهية السمة في ضوء الخصائص التي يتسم بها أسلافنا - وجهة نظر علم تكون الأجناس.

النظرية الثالثة والأخيرة هي نظرية يقدمها لنا عالم الأعصاب الاستعرافي ك. ر. گاليستل C. R. Gallistel[5]، فيقول إن "النظرة التركيبية في التعليم هي المعيار السائد اليوم في علم الأعصاب". فوفقًا لهذه النظرية يُدمج الدماغ "أعضاء بيولوجية متخصصة" حوسبيا من أجل أن تَحل بعض المشاكل بسهولة كبيرة، بمنأىً عن "البيئات شديدة العدائية". إن تطور ونمو هذه الأعضاء المتخصصة (قد يطلق عليها أحيانًا عضو "التعلم") هو نتيجة لبعض العمليات التي يتم توجيهها من الداخل إضافة إلى التأثيرات البيئية التي تقدح بداية ذلك التطور وتُشكله. إذًا، عضو اللغة واحدٌ من مكونات الدماغ البشري.

وعلاوةً على ذلك، إن عضو اللغة هذا هو ما يُعرف بـ "المَلَكة اللغوية" the faculty of language، تُختصر بـ FL، وذلك وفقًا للاصطلاحات المستخدمة حديثًا. تسمى الحالة الأولية للمَلَكة اللغوية بـ النحو الكلي (أو القواعد النحوية الكلية) Universal Grammar أو UG اختصارا. ونقول إن كل حالة لغوية مكتسبة تمثل أنظمةً لغوية خاصة، وتُعرف تلك الحالات بذاتها باللغات الداخلية (أو "لغات" فقط من باب الاختصار) لكن بالطبع لا تكون المرحلة الأولية جلية عند الولادة كغيرها من الأعضاء، كالجهاز البصري مثلاً.

دعونا نبحث الآن بتمعن أكبر في هذه النظريات الثلاثة التي أجدها شخصيًا معقولة، وهي في الواقع ذات مؤهلات تجعلها كذلك. لنبدأ من النظرية الأولى: "الأمور الذهنية، أي العقول، هي خصائص منبثقة عن الدماغ".

تلقى هذه النظرية قبولاً واسعًا، وغالبًا ما تُعتبر إسهامًا علميًا مميزًا ومثيرًا للاهتمام في العصر الحالي، وإن تكن موضع جدال كبير. لكن رغم هذا، لقد وُصفت في السنوات القليلة المنصرمة بـ "الفرضية المدهشة"، وبـ "التوكيد الجريء على أنَّ الظواهر الذهنية التي تنبثق من النشاطات الفيزيولوجية العصبية للدماغ هي ظواهر طبيعية خالصة"، وأنَّ "قدرات العقل البشري هي في الواقع قدرات الدماغ". كما وُصفت في سياق فلسفة العقل بـ "الفكرة الجديدة الثورية" التي قد تستطيع أخيرًا أن تضع حدًا للثنائية الديكارتية - رغم اعتقاد البعض المستمر بأن ردم الهوة ما بين العقل والدماغ أمر غير ممكن.

تبدو هذه الصورة مضللة ويجب علينا أن نفسر ذلك. أولاً، إن هذه النظرية ليست بالأمر الحديث، ولا مبرر لاعتبارها موضع جدال، وذلك لأسباب سُلِّم بها منذ عدة قرون. ثانيًا، تعود هذه النظرية إلى القرن الثامن عشر وقد وُضعت في تلك الفترة لأسباب مُلحة، رغم أنها كانت موضع جدل بسبب معارضتها للمذاهب الدينية آنذاك. فبحلول عام 1750 وصف ديفيد هيوم الفكر بأنه "اهتياج طفيف في الدماغ"[6]. وبعد ذلك ببضع سنوات توسع الكيميائي الشهير جوزيف بريستلي في هذه النظرية حين قال: "إن القوى الكامنة وراء الإحساس أو الإدراك الحسي والفكر" هي خواص تابعة لـ "جهاز عضوي منظم"، وإن هذه الخواص التي "ننعتها بالذهنية" هي ليست سوى "ما ينتج عن هذه البنية العضوية" للدماغ و"الجهاز العصبي للإنسان" على حد سواء. إذًا يمكن القول إن هذه الرؤية تتوازى مع النظرية الأولى لماونتكاسل: "الأمور الذهنية، أي العقول، هي خواص منبثقة عن الدماغ". لكن بالطبع لم يتمكن بريستلي من تفسير تلك الانبثاقات الناتجة عن الدماغ، ولا نستطيع حتى نحن اليوم بعد مرور 200 عام فعل ذلك.

أرى شخصيًا أنه يمكن لعلوم الاستعراف والعلوم التي تدرس الدماغ أن تستفيد من أمرين اثنين. الأول هو الدروس التي قدمتها أطروحة الانبثاق في بدايات العلم الحديث، والثاني هو الكيفية التي تطورت فيها العلوم الطبيعية حتى منتصف خمسينات القرن العشرين جنبًا إلى جنب مع توحيد الفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء. إن الجدالات الحالية حول العقل والدماغ تتماثل بشكل ملفت مع النقاشات حول الذرات والجزيئات والتفاعلات والبُنى الكيميائية وبعض المسائل المشابهة التي كانت سارية المفعول في القرن العشرين. أرى شخصيًا أن هذا التماثل أمر بنَّاء.

إن الأسباب التي قادت في القرن الثامن عشر إلى ظهور نظرية الانبثاق (والتي تم إحياؤها مؤخرًا) كانت في الواقع مقنعة. فبدءًا من گاليليو ارتكزت الثورة العلمية الحديثة على نظرية العالم الأشبه بالآلة الضخمة التي يمكن بناؤها على يد حرفي بارع. يمكن وصفها بالنسخة المُطورة عن الساعات والهياكل الأوتوماتيكية التي كانت محط أنظار العالم في القرنين السابع عشر والثامن عشر، تمامًا مثلما حفزتنا الحواسيب باتجاه الفكر والخيال في السنوات المنصرمة. وكما وضح لنا آلان تورينگ منذ ستين سنة، إن لتغير المصطنعات الإنسانية نتائج محدودة فيما يخص القضايا الأساسية. وللفلسفة الآلية the mechanical philosophy جانبين: تجريبي ومنهجي. ترتبط الأولى، وهي النظرة الواقعية، يتعامل الجانب الأول مع طبيعة العالم بوصفه آلة مؤلفة من مجموعة أجزاء تتفاعل مع بعضها البعض. ويتعامل الجانب الثاني مع المفهومية intelligibility: يتطلب الفهم الصحيح وجود نموذج آلي للعالم، وهو ما يستطيع أن يصنعه الحرفي.

وإذا ما تطرقنا أكثر إلى نموذج گاليليو حول المفهومية نجد أن له لازمة واضحة: عندما تفشل الآلية ستفشل عملية الفهم. ولذلك عندما شعر گاليليو باليأس من القصور الملحوظ في التفسير الآلي خَلُصَ إلى أن الإنسان لن يستطيع التوصل إلى فهم أي شيء حتى إن كان "أثرًا وحيدًا في الطبيعة"، ذلك على عكس ديكارت الذي كان متفائلاً جدًا عندما اعتقد أن بإمكانه استخدام النظرية الآلية من أجل تفسير كيفية تجلي جميع الظواهر الطبيعية: العالم العضوي واللاعضوي بغض النظر عن البشر، إضافةً إلى الفيزيولوجيا البشرية والحس والإدراك والتصرفات أيضًا إلى حد كبير.

لكن النظرية الآلية لم تستطع تقديم المزيد من التفسيرات عندما توسَّط الفكر هذه الوظائف البشرية، لأن الفكر مبني على مبدأ لا يمكن للآلية أن تفسره بسبب كونه مَلكةً بشرية استثنائية. وهذا المبدأ "خلاق" بطبيعته ويشكل أساس الأفعال والخيارات البشرية التي تُعتبر "أغلى ما يملكه المرء" وأكثر الأمور التي "تنتمي بحق" لنا كبشر (حسب المصطلحات الديكارتية)، فنحن "ننزع ونجنح" إلى تصرفاتنا ولسنا "مجبرين" على فعل ما نفعله. نحن في هذا المنظور، إذًا، نختلف عن الآلات، أي ما يحيط بنا من العالم. وقد يبدو استخدام البشر للغة بشكل طبيعي هو أكثر ما يلفت انتباه الديكارتيين. فنحن نستطيع أن نعبر عن أفكارنا بوسائل شتى تتقيد بوجود الجسم الإنساني من دون أن تكون ناتجة عنه، وهي وسائل تناسب السياقات الاجتماعية من دون أن تنتج عنها، كما تُثير في الآخرين أفكارًا بمقدورهم هم أن يعبروا عنها بطرق أخرى - وهذا ما نستطيع تسميته بـ "الجانب الخلاق لاستخدام اللغة" the creative aspect of language use.

يجدر بنا أن نضع في الحسبان أن هذه الاستنتاجات صحيحة، على الأقل هذا ما يهمنا في الوقت الراهن.

إذًا، نجد أن العلماء الديكارتيين بهذه الطريقة استطاعوا تطوير بعض الإجراءات التجريبية من أجل الكشف عن إمكانية وجود مخلوقات أُخرى تتمتع بالذهن/العقل مثلنا (إجراءاتٌ مثل الصيغ المطورة عن اختبار تورينگ Turing Test الذي أعيد إحيائه في نصف القرن المنصرم، باستثناء بعض المغالطات الحساسة التي أحاطت بهذا الإحياء، كتجاهل تحذير تورينگ الواضح) ولكن هذا الموضوع على أهميته هو أمرٌ لن أتطرق إليه[7]. وبالطريقة ذاتها استطاع ديكارت أن يستنبط صيغة واضحة لمشكلة العقل/الجسم:

بعد ترسيخ مبدأي الطبيعة الآلي والذهني، يمكن الخوض في كيفية تفاعل هذين المبدأين، وهي قضية حيرت العلماء في القرن السابع عشر ولكنها لم تدم طويلاً. فكما هو معروف انهارت هذه الصورة برمتها عندما أكد نيوتن على فشل الفلسفة الآلية في تفسير العقل وكل شيء آخر في الطبيعة وصولاً إلى حركة في الأرض والكواكب.

وكما أوضح لنا أليكسندر كويري Alexander Koyré أحد أهم مؤسسي التاريخ المعاصر للعلم، فإن نيوتن أظهر للجميع "أن فيزياء مادية أو آلية بحتة هي أمر مستحيل"[8]. وبناءً على ذلك يفشل العالَم الطبيعي في استيفاء المعايير التي تتطلبها المفهومية التي أحيت الثورة العلمية المعاصرة. فالنسبة لكويري، يتحتم علينا تقبل "ما يدخل إلى ميدان العلم من (الوقائع) غير القابلة للتفسير التي يفرضها علينا المنهج التجريبي".

لكن نيوتن نفسه اعتبر دحضه للآلية أمرًا "عَبَثيًا"، رغم عدم قدرته على إثبات عكس ذلك، الأمر الذي عجز عنه أعظم العلماء منذ عصر نيوتن إلى يومنا هذا. أضف إلى ذلك أن الاكتشافات العلمية التي توالت آنذاك قد ولدت "عبَثيات" أكبر. فلم يستطع أي من المستجدات في تلك الفترة أن يواجه فاعلية ما قاله ديفيد هيوم عن نيوتن، حيث رأى هيوم أن نيوتن، برفضه للحقيقة البديهية للفلسفة الآلية، "أعاد أسرار الطبيعة إلى الغموض الذي كانت وستبقى فيه إلى الأبد".

بعد مرور قرن على عصر نيوتن بين لنا فريدريك لانج في نظريته الكلاسيكية عن المادية أن نيوتن قد دمر بفاعلية كبيرة المذهب المادي ومبادئ المفهومية وكل ما كان مُنتظرًا منها. فيقول لانج أن العلماء منذ نيوتن "قد أَقلَموا أنفسهم على تلك الفكرة المجردة عن القوى الطبيعية، أو بالأحرى قد أقلموا أنفسهم على غموض باطني يحوم ما بين الفهم التجريدي والفهم الواقعي"، وهو أمرٌ يراه لانج كـ "نقطة تحول مفصلية" في تاريخ المادية، لأنه يزيل بطبيعته كل ما تبقى من المذهب جاعلاً منه أمرًا بعيدًا عن متناول "الماديين الحقيقيين" في القرن السابع عشر، كما يحرمهم من اكتساب الأهمية التاريخية.

إن كلاً من النظريتيين التجريبية والمنهجية قد انهارتا بشكل كلي ولا يمكن إعادة النظر فيهما مجددًا.

ففي الجانب المنهجي نرى أن معايير المفهومية قد ضَعُفت كثيرًا كما تم التخلي عن المعيار الذي ألهم الثورة العلمية الحديثة: لأن الهدف المنشود هو مفهومية النظريات وليس العالم، وهو فرقٌ شاسع قد يكون من شأنه تفعيل مُختلف قدرات العقل - موضوعٌ قد يهتم به العلم الاستعرافي يومًا ما. وعلى لسان أ. برنارد كوهين I. Bernard Cohen العالم النيوتني العبقري فإن هذه التغيرات "مهدت الطريق لتوجه جديد في العلم" لا يكون المقصد فيه "السعي وراء التفسيرات النهائية" المتأصلة في مبادئَ تبدو جلية لنا، بل البحث عن وإيجاد الوصف النظري الأنسب لظواهر الخبرة والتجربة. وعمومًا، يمكن القول إن الامتثال للفهم الفطري البديهي ليس هو المعيار الذي يجب اتباعه في عملية البحث العقلاني.

أما من الجانب الواقعي، نجد أنه ليس هناك من مفهوم واضح للجسم أو المادة أو ما يمكن تسميته بـ "العضو الفيزيائي". ما يحيط بنا هو العالم فقط بشتى مكوناته الآلية الكهرومغناطيسية الكيميائية البصرية العضوية الذهنية... إلخ، وجميع ما لا يمكن تعريفه أو تحديده بالاعتماد على المُسلمات. وإن مكونات العالم هي في أفضل حالاتها أمورٌ تلائم حاجاتنا فقط: فلا أحد يستفسر إن كانت الحياة كيميائية أو بيولوجية سوى من أجل حاجة مؤقتة. ففي كُل من المجالات المتغيرة ضمن عملية البحث البناء كل ما يستطيع الفرد فعله هو أن يطور نظريات تفسيرية واضحة ومن ثم أن يوحدها. ما عدا ذلك يبدو صعب المنال.

نصل الآن إلى الحدود الجديدة في البحث العلمي التي توصل إليها العلماء الذي يعملون في الجامعات مثل عالم الكيمياء جوزيف بلاك Joseph Black في القرن الثامن عشر. رأى بلاك، على سبيل المثال، أنه "يجب أن نتقبل التآلف الكيميائي chemical affinity كمبدأ أول، رغم أنه ليس بمقدورنا تفسيره، تمامًا مثلما عجز نيوتن عن تفسير الجاذبية، ومن ثم نؤجل تفسير قوانين التآلف الكيميائي إلى أن نستطيع تأسيس مذهب شبيه بمذهب نيوتن حول قوانين الجاذبية". وهذا بالضبط ما حدث، حيث استمرت الكيمياء بالسعي نحو التحول إلى مذهب قوي. وحسب رأي أحد المؤرخين الرواد[9] في الكيمياء فإن "إنجازات المذهب الكيميائي لم تُبنى على أسس اختزالية بل بُنيت إثر انعزال الكيمياء عن التوجه العلمي الجديد الذي كانت تمثله الفيزياء". وفي الواقع لم يكن هناك أي أساس اختزالي أصلاً، فما تم التوصل إليه على يد لينوس بولينگ منذ خمسة وستين عامًا كان التوحيد وليس الاختزال. أما الفيزيائيون فقد اضطروا للمرور بتغيرات جذرية من أجل توحيد الفيزياء مع الكيمياء البسيطة، حتى أنهم وجدوا أنفسهم يبتعدون كليًا عن الفهم الشائع لما هو "فيزيائي". لقد أُجبرت الفيزياء حقًا على "تحرير نفسها" من "الصور الحدسية" والتخلي عن السعي وراء "تخيل العالم"، على حد قول هايزنبرگ[10]. وتلك قفزة نوعية أُخرى بعيدًا عن مبدأ المفهومية حسب منظور الثورة العلمية في القرن السابع عشر.

كما أن بدايات الثورة العلمية الحديثة أنتجت ما يمكن أن نسميه "الثورة الاستعرافية الأولى" - وقد تكون هذه المرحلة هي الوحيدة من مراحل العلوم الاستعرافية الجديرة بمسمى "الثورة". وضعت الآلية الديكارتية حجر الأساس للفيزيولوجيا العصبية. وعلاوةً على ذلك استطاع علماء القرنين السابع والثامن عشر تطوير أفكار غنية تنويرية فيما يخص الإدراك واللغة والفكر. وقد أُعيد اكتشاف هذه الأفكار منذ ذلك الوقت، وإن جزئيًا في بعض الأحيان.

أما علم النفس الذي كان يفتقر إلى أي تصور عن الجسم آنذاك، فقد استطاع - ويستطيع الآن - أن يتبع فحسب المسار الذي اتخذته الكيمياء. فبعيدًا عن إطاره اللاهوتي لم يكن هناك أي بديل عن التأمل الحذر لجون لوك الذي عُرف لاحقًا بـ "اقتراح لوك". يَفترض لوك في هذا الاقتراح ما يلي: من المحتمل أن يكون الله قد اختار "إضافة ملكة التفكير على المادة" تمامًا مثلما "أتبَعَ الحركة ببعض التأثيرات التي لا يمكن لنا نحن أن نتصور أن الحركة تُنتجها"، وإن أبرز تلك التأثيرات هي عامل الجذب من على بعد مسافة. وهو ما يعتبره العديد من العلماء الرائدين إحياءً لبعض الخاصيَّات الخفية (أمرٌ وافق عليه نيوتن جزئيًا).

في هذا السياق، تبدو نظرية الانبثاق لا مفر منها أبدًا ويتجلى ذلك بأوجه عدة:

بالنسبة للقرن الثامن عشر، كان مفاد النظرية الشائعة أن "القوى الكامنة وراء الإحساس أو الإدراك الحسي والفكر" هي خصائص "لجهاز عضوي منظم قوامه مادي"؛ وإن الخصائص التي "ننعتها بالذهنية" ليست سوى "ما ينتج عن هذه البنية العضوية" للدماغ و"للجهاز العصبي للإنسان" على حد سواء.

بعد قرن من ذلك، ظهر داروين ليطرح تساؤلاً حول الفكر، فيقول: لماذا يعدُّ "الفكر الذي يفرزه الدماغ أكثر روعة من الجاذبية التي ترتبط بالمادة"؟[11] وطبعًا، كان تساؤله بلاغيًا لا استفساريًا.

واليوم، فيُدرس الدماغ بناءً على النظرية التالية: "إن الأمور الذهنية، أي العقل/الذهن، هي خصائص منبثقة عن الدماغ".

وهذه النظرية يُراد لها أن تكون كما هي من دون تغيير تحت أي ظرف وفي أي زمن وأن لا يُختلف بشأنها: لأنه لا يمكن تصور أي بديل لها في العالم ما بعد النيوتني.

ولا يستطيع العالِم المشتغل إلا أن يحاول إنشاء "مجموعات من المبادئ" بشأن مختلف نواحي العالم ومن ثم أن يحاول توحيدها، واضعًا في الحسبان أن العالم ليس في متناول فهمنا كما كان يعتقد رواد العلم في العصر الحديث، وأن الهدف هو التوحيد لا الاختزال. ويكشف لنا تاريخ العلوم بكل وضوح أنه لا يمكن التنبؤ بالمفاجآت التي تنتظرنا في المستقبل.

إنه لمن المهم جدًا الإقرار بأن الثنائية الديكارتية كانت أطروحة علمية معقولة لكنها اختفت منذ ثلاثة قرون، ولم تعد مشكلة العقل-الجسم موضع سجال منذ ذلك الحين. لكن هذه الثنائية لم تنتهِ بسبب قصور في مفهوم العقل عند ديكارت، بل لأن مفهوم الجسم قد انهار بعدما قوَّض نيوتن الفلسفة الآلية. لذلك نجد أنه من الشائع اليوم السخرية من "خطأ ديكارت"[12] عندما حاول وضع مفهوم للعقل على أنه "الشبح الذي يسكن الآلة". لكن هذه السخرية تُخطئ تمامًا في فهم ما حدث: عندما قَدِمَ نيوتن قام بتطهير الآلة، لكن الشبح ظلَّ سليمًا. وفي كتابهما The Matter Myth (أسطورة المادة) اقترب الفيزيائيان المعاصران بول ديفز وجون گريبين من هذه الفكرة مرة أخرى لكنهما يَنسُبان خطًأ حذف الآلة إلى الفيزياء الكمومية الجديدة.

وبكل تأكيد يضيف هذا الخطأ ضربة موجعة أخرى، لكن "أسطورة المادة" انهارت منذ مئتين وخمسين عامًا وهي واقعةٌ عرفها العلماء المشتغلون آنذاك وقد أصبحت المعيار الرئيسي لتاريخ العلوم منذ ذلك العصر. أجد شخصيًا أن هذه القضايا تستحق منا التفكر.

أما من ناحية العلوم الاستعرافية التي أُعيد إحيائها في القرن العشرين فأرى أنه من المهم أيضًا أن نتنبه جيدًا إلى أمرين: أولاً، ما تَبعَ توحيد الكيمياء، التي لم تتغير، مع الفيزياء التي حظيت بثورة استثنائية منذ عام 1930، وثانيًا، ما سبق ذلك التوحيد. فيما يخص الأمر الأول، يمكن القول إن أكثر حدثٍ دراماتيكي حصل هو توحيد البيولوجيا مع الكيمياء. تلك كانت قضية اختزال حقيقية، لكن فقط من ناحية الكيمياء الفيزيائية المُحدثَة. وقد كان بولينگ أحد المنخرطين البارزين في هذا الأمر. هذا الاختزال الحقيقي كان أحيانًا سببًا في تكهن بعض المتفائلين بأن جوانب العالم العقلية قد تحظى هي أيضًا باختزال شبيه بما حصل في العلوم المعاصرة التي تدرس الدماغ. ولا يمكننا نفي ذلك أو تأكيده على حد سواء. ولكن على أي حال لا يبدو أن تاريخ العلوم يقدم الكثير من الأسباب التي تدعم هكذا تفاؤل، فالاختزال الفعلي ليس بأمر شائعٍ في تاريخ العلوم، ولا يجب أبدًا أن يكونَ هناك افتراض عفويٌ بتحول هذا الأمر إلى نموذج لما سيحصل في المستقبل.

لا تزال لدينا القضية الثانية حول ما حصل قبل توحيد الكيمياء والفيزياء: كان من المعتاد عند العلماء الكبار أن ينظروا إلى الكيمياء على أنها أداة حسابية بحتة يُمكن من خلالها ترتيب التفاعلات الكيميائية أو التنبؤ بها. وفي بدايات القرن التاسع عشر تم التعامل مع الجزيئات بنفس الطريقة. وقد سَخر بوانكاريه ممن كانوا يظنون النظرية الجزيئية للغازات أعمق من مجرد نموذج حسابي. فعلى حد قوله، يقع الناس في هذا الاعتقاد الخاطئ لأنهم يعرفون لعبة البليارد.

لقد كان المعتقد السائد قديمًا هو أن الكيمياء ليست مَبحثًا حقيقيًا، وسبب تلك العقلية طبعًا هو عجز الجميع عن اختزال الكيمياء إلى الفيزياء. وفي عام 1929 قام برتراند رسل الذي كان على دراية جيدة بالعلوم بالإشارة إلى أن "الكيمياء لا تقبل الاختزال إلى قواعد الفيزياء"[13]. رغم أن هذا ليس بالأمر الخاطئ، لكنه كلام مضلل. فاتضح لنا في النهاية أن ما كان منقوصًا من العبارة هو جملة "في الوقت الحالي". نعم، كان الاختزال أمرًا من المستحيلات، لكن ذلك تغير كليًا عندما حصلت ثورة في فهم طبيعة وقوانين الفيزياء.

إذًا، إن الجدالات حول طبيعة الكيمياء كانت مبنية على سوء فهم كبير. كانت الكيمياء "حقيقية" و"متعلقة بالعالم" فقط من منظور المفاهيم التي كانت متوفرة آنذاك: لقد كانت جزءًا من أفضل تصور استطاع أن يبتدعه الإنسان بذكاءه من أجل فهم العالم. كان من المستحيل التوصل إلى أكثر من ذلك.

ولكن في السنوات القليلة المنصرمة وَجَدت النقاشات حول الكيمياء، ومن ضمنها الكيمياء النظرية، صدىً لها في فلسفة العقل والعلوم الاستعرافية حاليًا - لكن الكيمياء النظرية (وهي من العلوم الدقيقة) اندمجت بشكل غامض مع أُسس الفيزياء، وبذلك لا يمكن وضعها في محط اهتمام الدراسات العلمية كدراسات الدماغ والعلوم الاستعرافية التي تحاول أن تبحث في أنظمة معقدة جدًا لم تتلقَ فهمًا كافيًا. أعتقد أنه يجب أن تكون هذه النقاشات الحديثة حول الكيمياء إضافةً إلى نتائجها غير المتوقعة موضوعًا علميًا مفيدًا لدراسات الدماغ والعلوم الاستعرافية.

وتَطرح هذه النقاشات ثلاثة أمور: أولاً، إنه لمن الخطأ أن نفكر بـأن "النماذج الحاسوبية للعقل" منفصلة بطبيعتها عن البيولوجيا، أي أن هذه النماذج لن تتأثر أبدًا بأي اكتشافات قد تحصل في العلوم البيولوجية. ثانيًا، لا يصح أن نفكر باللغة متبعين مفاهيم "أفلاطونية" لا-بيولوجية بسبب كونها فاقدة للإثباتات الملموسة الأمر الذي يجعلها عرضة للشك. ثالثًا، لا يمكن القول إن علاقة الذهن بالجسم الفيزيائي هي علاقة تابعية لا اختزالية: أي الاعتقاد بأن كل تغير يطرأ على الحالة الذهنية يفترض أن يتبعه "تغير فيزيائي"، والعكس ليس بالصحيح.

يمكننا إعادة صياغة النقاشات التي سبقت توحيد الكيمياء والفيزياء على النحو التالي: كان من الممكن لهؤلاء الذين رفضوا حقيقة الكيمياء أن يقولوا بأنه لا يمكن اختزال الخواص الكيميائية إلى الخواص الفيزيائية رغم أنها تتبع لها. ولكن لو حدث ذلك لكان خطًأ لأن الخواص الفيزيائية الدقيقة لم تكن قد اكتُشفت بعد. وما إن اكتُشفت حتى أضحت قضية التابعية أمرًا غير مُجدٍ، لنتجه من بعد ذلك مباشرةً إلى عملية التوحيد.

يبدو لي شخصيًا أن هذا الموقف معقول في دراسة الجوانب الذهنية في العالم.

على العموم، أرى أنه من المنطقي أن نأخذ بنصيحة نيوتن نفسه والعلماء في المرحلة التي تلته، وأن نسعى إلى تشكيل "مجموعات من المبادئ" كيفما استطعنا، متحررين من بديهيات الفهم العام التي تحاول تفسير العالم ومتناسين حقيقة اضطرارنا في بعض الأحيان "إلى تأجيل وصفنا للمبادئ" المتناسبة مع الفهم العلمي العام، رغم عدم تناسب ذلك مع السعي نحو عملية التوحيد، فتلك هي الحال منذ ثلاثمائة سنة.

تبدو معظم النقاشات حول هذه المواضيع تائهة ونعزو ذلك إلى أسباب كهذه التي ذكرناها للتو.

يجدر بنا أن نذكر المزيد من التشابهات ما بين عملية توحيد الكيمياء والعلوم الاستعرافية حاليًا. لقد قدمت لنا "إنجازات الكيمياء" بعض العناوين العريضة القيمة فيما يخص إعادة بناء علم الفيزياء: أعطتنا الشروط التي يجب لأسس الفيزياء أن تستوفيها. وفي موضوع ذي صلة، نجد أن الاكتشافات حول التواصل ما بين أفراد النحل قد وضعت الشروط التي يجب مراعاتها في المستقبل عند الحديث عن الخلايا. وهاتان الحالتان هما كشارع ذو اتجاهين: فالاكتشافات الفيزيائية تُقيد بعض النماذج الكيميائية، كما يجب على الاكتشافات في أسس البيولوجيا أن تُقيد نماذج دراسة سلوكيات الحشرات.

يوجد في دراسات الدماغ والعلوم الاستعرافية تناظرات معروفة: مثلاً، نظريات ديفيد مار David Marr عن الحوسبة والخوارزميات والتنفيذ الحاسوبي. أو الأبحاث التي قام بها إريك كيندال Eric Kandel في التعلم عند الحلزونات البحرية حيث أراد أن "يترجم بعض الأفكار في المستوى المجرد لدى علماء النفس التجريبي إلى مصطلحات عصبية" من أجل أن يُبرهن على أنه من الممكن لعلم النفس الاستعرافي والبيولوجيا العصبية "أن يتقاربا بغرض إنتاج منظور جديد حول البحث في قضية التعلم"[14]. رغم عقلانية كيندال، يمكن القول إن المسار الطبيعي للعلوم سينبهنا إلى إمكانية فشل هذا التقارب بسبب قُصورٍ ما، ولكن يصعب علينا معرفة هذا الأمر إلى أن نكتشف حدوث هذا القصور.

حتى هذه اللحظة لا زلت أتكلم عن أول نظرية من النظريات الثلاث التي ذكرتها في استهلالي لهذا النقاش، ألا وهي أن "الأمور الذهنية، أي العقول، هي خواص منبثقة عن الدماغ". هذا صحيح بالطبع وقد يبدو أقرب إلى الحقيقة البَدَهية لأسباب عَرفها حق المعرفة داروين والعلماء البارزون بعده بمائة سنة، كما أن هذه البَدهية كانت نتيجة اكتشاف نيوتن لـ "عبثيات" كانت حقيقية رغم عبثيتها.

لننتقل الآن إلى النظرية الثانية ألا وهي النظرية المنهجية، ونقتبس من مارك هاوزر في كتابه "تطور التواصل": من أجل أن نصف أي سمة يتوجب علينا اتباع إيثولوجيا تينبرجن التي تَتَأتى عنها أربعة محاور:

1.    محور الآليات mechanisms

2.    محور التنشؤ ontogenesis

3.    محور نتائج الكفاءة fitness consequences

4.    محور التاريخ التطوري evolutionary history

بالنسبة إلى هاوزر وغيره، تُعتبر اللغة الإنسانية هي "الكأس المقدسة" المنشودة. فهدفهم هو برهنة الآلية التي تُفهم اللغة من خلالها عندما نبحث في اللغة مستعملين المحاور الأربعة المذكورة أعلاه. كما يجب أن تنطبق هذه العملية على أنظمة أخرى أبسط بكثير من اللغة، مثل "لغة الرقص" عند النحل، رغم إشكالية هذا الاعتقاد - حيث تعتبر هذه "الرقصة" المثال الوحيد في مملكة الحيوان الذي يُظهر بعض التشابهات السطحية مع لغة الإنسان: تشابهاتٌ مثل الأفق اللانهائي، وخاصية "انزياح الإشارة" - أي القدرة على الإشارة إلى شيء غير موجود في المحيط الحسي للمتكلم. يملك النحل دماغًا بحجم بذرة الأعشاب يحتوي على أقل من مليون خلية عصبية. ويوجد أصناف مشابهة في الطبيعة ذات نموذج تواصل مختلف. فليس هناك قيود عند القيام بتجارب توسعية. لكن يبقى لدينا بعض الأسئلة الأساسية العالقة، أسئلةٌ حول الفيزيولوجيا والتطور على وجه الخصوص.

لكن عندما استعرض هاوزر هذا الموضوع لم يتطرق إلى آليات العمل، ولا يمكن أن نصف الاقتراحات القليلة التي طرحها إلا بالغريبة.

نأخذ على سبيل المثال نظرية عالمة البيولوجيا والرياضيات باربرا شيبمن Barbara Shipman التي تقول إن سلوك النحل مَنوطٌ بقدرة دماغه على تحديد فضاء طوبولوجي معين ذي ستة أبعاد ومن ثم تحويله إلى فضاء ثلاثي الأبعاد بواسطة "كاشف كوارك"[15] quark detecor أو ما يشابه ذلك. أما بخصوص نظرية التطور فلم يقل هاوزر الكثير، وذلك هو المعتاد عند هاوزر في استعراضه لقضايا أخرى أيضًا، كقضية العصافير المغردة التي تُمثل "قصة النجاح في الأبحاث التطورية"، رغم عدم وجود أي سيناريو مقنع - أو غير مقنع، على ما يبدو - فيما يتعلق بالاصطفاء الطبيعي.

إذًا يجب علينا ألا نتفاجأ من الطبيعة التي لا تزال غامضة للآليات الفيزيولوجية والأصول الوراثية/الجينية في مبحث لغة الإنسان الذي يبقى الأصعب والأكثر تفردًا.

إذا ما دققنا أكثر في دراسة هاوزر سنجد أن الهدف الذي وضعه هو وآخرون أمرٌ بعيد المنال. نعم، إنه أمرٌ يستحق البحث، لكن يتعيَّن على هاوزر أن يكون واقعيًا حول رأي الآخرين بمبحثه هذا. أولاً، إن عنوان كتابه عنوان مضلل، لأنه لا يتطرق إلى تطور التواصل إلا قليلاً. وفي الحقيقة، يبدو كتابه كدراسة مقارنة ما بين أنظمة التواصل عند العديد من الأنواع الحية. وهذا يتضح مما ذكره ديريك بيكرتون بكل وضوح في مقالٍ له في مجلة Nature حيث اقتُبِست بعض الكلمات منه ووضعت على الغلاف الخارجي للمجلة؛ وكذلك من الفصل الأخير الذي حمل عنوان "التواصل المقارن" ويتساءل فيه حول"التوجهات المستقبلية".

ما قدمه هاوزر ليس فيه الكثير من التفكر في عملية التطور، الأمر الذي يختلف جذريًا عن المقارنة فقط. ويتبين لنا أن ما يصفه هاوزر وغيره بتاريخ الاصطفاء الطبيعي هو في الحقيقة ليس سوى وصفٍ للتكيف المدهش لكل كائن حي في المحيط البيئي الذي يلائمه، ويُقدم هذا الوصف حقائق مدهشة ومثيرة للتساؤل، لكنها لا تشكل تاريخًا تطوريًا، بل تطرح مشكلة يقع حلها على عاتق الطالب الباحث في التطور.

ثانيًا، يرى هازور أن هذه الدراسة الشاملة للتواصل المقارن "لا صلة لها بالدراسة الصورية للغة". وأعتقد شخصيًا أنه يبالغ في كلامه هذا. لأن ما يسميه "الدراسة الصورية للغة" ليس بالأمر البسيط أبدًا فهي تنطوي على الجوانب السيكولوجية لوجهتي النظر الأوليتين في النهج الإيثولوجي: أولاً، آليات اللغة، وثانيًا، كيفية تنشؤ هذه الآليات. ثم، إن كل ما لا يتصل بالسيكولوجيا فهو لا يتصل بالفيزيولوجيا أيضًا، لأن كل ما يؤثر على النواحي الفيزيولوجية يَفرِضُ بعض الشروط على النواحي السيكولوجية. وبالتالي، يمكننا التخلص من وجهتي النظر اللتين اقترحهما تينبرجين حول لغة الإنسان. ولأسباب مشابهة، قد تكون الدراسة المقارنة "غير ذات صلة" من وجهة نظر الأبحاث الحالية حول التواصل عند النحل، وهو ما أضحى فرعًا غنيًا مُفصلاً في اللسانيات الوصفية. قد يبدو هذا استنتاجًا مقبولاً، لأن النهج الوصفي كشف لنا الكثير من المعلومات عن بعض الأنواع الحية، كالحشرات والطيور والقردة إلخ، لكن لا يمكن إيجاد قاعدة عامة تشمل ما سبق.

إلا أن "اللا-صلة" مع لغة الإنسان هي أعمق بكثير. والسبب في ذلك أنه لا يصح تمامًا اعتبار اللغة نظامًا للتواصل، ويتفق هاوزر مع هذه النقطة؛ إن اللغة نظام للتعبير عن الفكر، وهو أمر مختلف تمامًا. يمكن طبعا استعمال اللغة للتواصل وحالها هنا كحال أي شيء يفعله الناس، كالمشي واختيار نمط اللباس وتصفيف الشعر. لكن التواصل ليس الوظيفة الرئيسية للغة، وقد يكون أمرًا خاليًا من الأهمية في دراسة وظائف اللغة وطبيعتها. ويَقتَبس هاوزر عبارة سومرست موم الحذقة حين قال: "لو أن اقتصر الكلام على قول الأمور المهمة... لخسر البشر سريعًا عادةَ النطق." ويبدو رأيه هذا دقيقًا بكفاية، حتى لو صرفنا النظر عن كون اللغة ترتبط بشكل كبير بعلاقة الفرد مع نفسه: فنجد "الحديث الداخلي" عند الكبار، والمونولوج عند الأطفال.

وعلاوةً على ما تقدم، مهما أُعطي من مزايا لعمليات الاصطفاء الطبيعي التي يُظن أنها صَقلت لغة الإنسان، فمن المؤكد أنها لا تعتمد على الاعتقاد السائد بأن النظام اللغوي هو حصيلة تطور لنمط تواصلٍ ما. يمكن لنا طبعًا أن نؤلف قصصًا أُخرى (عديمة الفائدة أيضًا) بغرض منح المزايا ذاتها لسلسلة من الطفرات الوراثية الطفيفة التي مهدت الطريق نحو تصميم الفكر وظهوره. طبعًا، لستُ هنا بصدد اقتراح قصة من أو غيرها - ولكن من باب الافتراض فقط، تبدو القصة هذه أقل جموحًا للخيال، لأنه من غير الضروري في هذه الحالة أن نقترح حدوث هذه الطفرات بالتوازٍ ضمن المجموعة الواحدة. وإذا ما نقبنا جيدًا سنجد قصصًا عديدة معقولة جدًا - قصصٌ ذات نهايات بائسة طبعًا - تروي لنا ما تم اكتشافه عن المجريات السابقة التي حدثت فعلاً، وبعض هذه القصص تتميز عن غيرها بالفهم العميق الذي تقدمه.

وفي موضوع مرتبط، يجب أن نذكر أن هاوزر لا يضع لغة الإنسان في ما أسماه "تصنيف المعلومات التواصلية" (كالتزاوج، والبُقيا survival، وهوية المُنادي). يمكن بكل تأكيد الانتفاع من اللغة للقيام، مثلاً، بنداءات تنبيه من أجل إيقاظ أحدهم، وللتعرف على هُوية المتكلم أيضًا، وغير ذلك. ولكن لا يمكن دراسة وظيفة اللغة بالاعتماد على أمثلة كهذه لأن ذلك سيكون كالسير في نفق لا ضوء في نهايته.

كذلك يتركنا هاوزر أمام صعوبة مماثلة لأنه يحصر النهج الوظيفي في نطاق "الحُلول التكيفية". وشأن هذا الأمر أنه يضيِّق منظور دراسة التطور، وهي حقيقةٌ أكد عليها داروين بشدة ونفهمها نحن اليوم بشكلٍ أعمق. في الواقع، إن هاوزر يذكر حالة تلو الأخرى عن سماتٍ ليس لها أي وظيفة تكيفية - وفق حِجاجه - وتظهر فقط في بعض الأوضاع المُبتَدعة الآنية ولا نجد لها نظيرًا في الطبيعة.

تبقى هذه المواضيع شبه مُهملة في محاور النقاش. وكل ما ذكرته حتى الآن ليس سوى ملاحظات وتعقيبات وجمل مبعثرة، لكنها مع ذلك توضح لنا عمق الفجوات التي يجب أن نتأملها إذا ما أردنا أن نأخذ النهج الإيثولوجي على محمل الجد. وبالطبع هذا ما يجب أن نفعله في رأيي الشخصي الذي كنت ولا زلت أبديه منذ أربعين سنة[16]. بالنسبة لهاوزر، من الواضح أن تساؤلاته حول البحث المستقبلي في تطور لغة الإنسان تسلط الضوء على هذه المعضلة. فيشير هاوزر إلى المشكلتين الأساسيتين في مبحث اللغة: إذ يجب علينا أن نفسر أمرين اثنين، أولهما، الانبثاق الهائل للمفردات المعجمية، وثانيهما، النظام التكراري الذي نستطيع بواسطته توليد عدد لانهائي من الألفاظ المعبرة المتنوعة. وفيما يخص هذا الأخير لا يقدم هاوزر شيئًا يحفز التفكر. أما بخصوص الأمر الأول، فيقول هاوزر إنه لا مثيل لذلك في مملكة الحيوان، متضمنًا مملكة اختصاصه هو (الرئيسيات غير البشرية). يلاحظ هاوزر أن الانبثاق هذا ناتج عن شرط مُسبق متأصل في الإنسان الذي يجنح بطبيعته إلي محاكاة الأشياء، وهو على حد قول هاوزر أمر يختلف جذريًا عن أي شيء في عالم الحيوانات، ويمكن القول إنه يقتصر على البشر فقط. لكنه استطاع أن يجد استثناءً واحدًا لدى القردة العليا الخاضعين للتدريب. وقد استنتج أن "تفعيل قدرة المحاكاة لدى القردة العليا يتطلب وجود بعض السمات من البيئة البشرية." وبفرض كان هذا الاستنتاج صحيحًا، فإنه يقتضي ضمنيًا أن القدرة ليست ناتجة عن التكيف الاصطفائي الذي أصر عليه هاوزر وغيره في دراسة التطور. أما بالنسبة إلى أصول قدرة الإنسان على المحاكاة فيقول هاوزر إنه لا معلومات لدينا، ومن المرجح أننا لن نستطيع يومًا أن نعرف متى أو كيف ظهرت هذه القدرة في سياق تطور السلسلة البشرية.

ضِف إلى ذلك أن هاوزر وكثرٌ غيره يقللون من أهمية اختلاف دلالات كلمات اللغة البشرية بنيويًا ووظيفيًا عن "الإشارات الدلالية" النادرة عند بعض الأنواع الحية كالقردة (بعض القردة العليا، رغم أن هاوزر غير متأكد من صحة الأدلة المتوفرة)، وتلك قضية تختلف كليًا عن حالات المرجعية الدلالية للبعيد وكل ما يُشار إليه بمعزل عن السياق الآني. ومن جانبٍ آخر، يُضخم هاوزر من حجم المعطيات الموجودة أصلاً. فعلى سبيل المثال، بعد ذكره لبعض تساؤلات داروين، يكتب هاوزر: "وبذلك نتعلم درسين مهمين" حول "تطور لغة الإنسان"، ويكمل ليقول: "يمكننا وصف بنية ووظيفة اللغة البشرية بالاستناد إلى الاصطفاء الطبيعي". ويضيف، "إن صلة الربط الأهم ما بين طرق التواصل عند الإنسان وباقي أشكال الحياة غير البشرية تكمن في القدرة على التعبير عن المشاعر." ويؤكد هاوزر في كتابه أن ستيفن بينكر "يبرهن كيف أن النظرية الداروينية هي السبيل الوحيد أمامنا في سعينا لتفسير ثورة اللغة... ذلك لأن عملية الاصطفاء الطبيعي هي الآلية الوحيدة التي يمكن لها أن تُعلل التركيبة المعقدة لصفات سِمَةٍ خاصة من قبيل اللغة".

وبكل تأكيد سيكون أمرًا مدهشًا لو أن هذه "البرهنة" حول تطور لغة الإنسان قد حصلت فعلاً، ناهيك عن هذا الادعاء المُبالغ فيه الذي ذكره هاوزر. كما أنه سيكون أمرًا مدهشًا لو استطعنا "تعلم" أي شيء عن هذا الموضوع فقط بمجرد التساؤل. فتساؤلات داروين ومثيلاتها تعجز عن تقديم أي برهان، وإن أقصى ما يمكن تعلمه منها هو احتمالية وجود سبيلٍ ما قد يكون - أو لا يكون - نافعًا في حال اتبعناه.

وفضلاً عن هذا، لا أرى قيمة كبيرة للاستنتاجات التي يزعم هاوزر التوصل إليها باستثناء أنها تمنح القارئ تجربة في القراءة غير النقدية. فمن دون أي شك، يعمل الاصطفاء الطبيعي ضمن حيز من الخيارات التي يَفرِضُها قانون الطبيعة (مع إمكانية تأثير الظواهر التاريخية والإيكولوجية)، وإنه لمن الدوغماتية الجامدة أن يقوم أحدهم بافتراضات مسبقة - وكأنها مسلمات - حول دور هذه العوامل في المجريات الاعتيادية. إن هذا صحيح، سواء أكنا ننظر في ظهور متتالية فيبوناتشي أو لغة الإنسان أو أي شيء آخر في العالم البيولوجي. والحقيقة هي أن ما تمت "برهنته" أو "مناقشته بشكل مقنع" مفاده أن الاصطفاء الطبيعي يشكل عاملاً مفصليًا في التطور، حسب رأي داروين، وهو أمرٌ لا يُشكك فيه أحدٌ من الأوساط التي يحترمها هاوزر. ولا يخبرنا هاوزر لماذا جزم بأن الجميع - ومن ضمنهم أنا - يصرون على أن "نظرية الاصطفاء الطبيعي عاجزة عن تفسير السمات التصميمية للغة الإنسان،" فهذا عارٍ عن الصحة. لكن هناك ما هو ما أهم من الفرضيات الشائعة حول الاصطفاء الطبيعي والآليات الأخرى في عملية التطور، إذ يجب أن نحاول حقًا فهم ما حدث فعلاً، سواء عند دراسة العين أو رقبة الزرافة أو عظام الأذن الوسطى أو جهاز البصر عند الثدييات، أو لغة الإنسان، أو أي شيء لا على التعيين. فالتصريحات الدالة على الثقة هي أمرٌ يجب عدم الخلط بينه وبين الإثبات أو حتى النقاش المُقنِع.

وأفترض أن هاوزر سيرفض وجهة نظري، لكنني أعتقد شخصيًا أن استنتاجاته الفعلية لا تختلف كثيرًا عن التشكيك المفرط عند زميله في جامعة هارفرد عالم الأحياء التطوري ريتشارد ليونتن الذي يجزم بأن العلوم المعاصرة عاجزة تمامًا عن فهم تطور الاستعراف/المعرفة[17].

يبدو إذًا أن الأهداف التي ينشدها هاوزر وغيره هي أهدافٌ بعيدة المنال، وأرى أنها بهذا الشكل تقود إلى اقتراحات غريبة: مثلاً، "يبدو وكأن الدماغ البشري والجهاز الصوتي واللغة قد تطوروا بشكل مشترك" لأغراض متعلقة بالتواصل اللغوي. يستعير هاوزر هنا نظرية عالم الأعصاب تيرينس ديكن Terrence Deacon عن التطور المشترك للغة والدماغ[18]. يرى ديكن أن الباحثين في اللغة وتنشؤها - المنظوران الأوليان في النهج الإيثولوجي - يرتكبون خطًأ فادحًا باتباعهم للطريقة التقليدية لعلم الأعصاب التي تسعى نحو اكتشاف العنصر الجيني/الوراثي في تركيبة الدماغ-العقل إلى جانب معرفة التغيرات التي تطرأ على هذه التركيبة من خلال الخبرة والنضج. وبهذا يكونون قد غفلوا عن بديل ذي أفق مستقبلي ألا وهو أن "هناك دعامة إضافية لتعلم اللغة،" - خارجة عن إطار ما نعرفه حول الخبرة - "لكن هذه الدعامة لا توجد في دماغ الطفل أو في أدمغة معلميه ووالديه، لأنها نابعة عن اللغة ذاتها بمنأىً عن الدماغ". إذًا، إن اللغة بحد ذاتها واللغات التي نتكلمها هي كيانات فوق-بشرية مستقلة تمامًا عن البشر تتمتع "بقدرة هائلة على التطور والتكيف مع متطلبات البشر الذين يلعبون دور المُضيف". يبدو أن هذه المخلوقات ليست فقط فوق-بشرية بل إنها تقبع خارج نطاق العالم البيولوجي كليًا.

ولكن ما طبيعة هذه الكيانات الغريبة ومن أين تأتينا؟ يرى ديكن أن كل ما نعرفه عن طبيعتها هو أنها تطورت زمنيًا من أجل أن تُضمِّنَ بداخلها خصائص اللغة التي نُسبت بالخطأ إلى الدماغ. ويبقى أصلها غامضًا أيضًا، ولكن ما إن ظهرت هذه المخلوقات حتى "تطورت لغات العالم البشري تلقائيًا" من خلال الاصطفاء الطبيعي "وبتأقلم سريعٍ اهتياجي أخذ مجراه خارج الدماغ البشري"، وبذلك تكون هذه الكيانات قد "أصبحت أكثر تكيفًا مع البشر بمرور الوقت"، حالها كحال الطفيليات ومضيفيها، أو هي أشبه بالحلقة المألوفة ما بين الطريدة ومفترسها في إطار التطور المشترك. أو ربما يكون التشبيه الأمثل حسب رأي ديكن هو الفيروسات. كما يمكن لنا أن نستنبط من ديكن وصفًا للكليَّات اللغوية: لقد "ظهرت هذه المخلوقات بشكل عفوي ومستقل في كل لغة قيد التنشؤ، فهي سمات متقاربة البنية في سياق تطور اللغة"، تمامًا مثل الزعانف الظهرية عند الأسماك والدلافين.

إن واحدة من هذه المخلوقات فوق-البشرية التي تطورت تلقائيًا مُكتسبةً الخصائص الكُلية للغة عبر الاصطفاء الطبيعي السريع - واحدةٌ منها قد أصابت حفيدتي في نيو إنغلاند، وأُخرى أصابت حفيدتي الثانية في نيكاراجوا التي "تعاني" من فيروسين اثنين من هذه الفيروسات العجيبة. أعتقد أنه لمن الخطأ أن نحاول تفسير النتائج في هذه الحالات ومثيلاتها بأن نستقصي التفاعل ما بين الخبرة والبنية الفطرية للدماغ. يُفضَّل أن نطرح الموضوع كالتالي: يحصل في بعض المجتمعات أنْ تقوم الطفيليات المُلائمة بإصابة المُضيفين مُنتجةً بداخلهم معرفتها باللغات، ويحدث ذلك بطريقة عجيبة، أو "بخدعة ساحر" وفقًا لمصطلحات ديكن التي يصف بها الافتراضات المعهودة في علوم المذاهب الطبيعية.

يوافق ديكن طبعًا على أن لدى الأطفال "قابلية فطرية لتعلم اللغة البشرية" وأنهم "متحيزون بشدة في اختياراتهم للقواعد التي تشكل اللغة" مُكتسبين بذلك خلال القليل من السنوات "نظامَ قواعدٍ معقد جدًا ومفردات غنية أيضًا" في وقتٍ لا يكون فيه بمقدورهم تعلم مبادئ الحساب. إذًا لا بد من وجود "عامل مميز في أدمغتنا يُمكِّنُنا من دون جهدٍ جبارٍ أو تدريبٍ على يد المتبصرين أن نفعل ما لا تستطيع سائر المخلوقات فعله حتى ولو بالحد الأدنى."

ولكن لا يمكننا أن ندرس جوانب أخرى في الطبيعة في ضوء هذه القابليَّات والبنية الخاصة للدماغ. لنأخد النظام البصري على سبيل المثال، فمن الصعب أن يقترح أحدهم أن الجهاز البصري عند الحشرات والثدييات قد تطور من تلقاء نفسه من خلال الاصطفاء الطبيعي السريع ومن ثم شرع في الالتصاق بالمُضيفين مُنتجًا بذلك القدرات البصرية في النحل والقردة. ولا يمكن أن نقترح أيضًا أن أصل رقصة النحل أو نداءات قردة الفيرفيت الإفريقية هو طفيليات مستقلة عن هذه المخلوقات تطورت بشكل مشترك مع المُضيف من أجل منحه قدرات معينة. ولكن بالنسبة إلى لغة الإنسان كقضية استثنائية، أرى أنه من غير المحبذ أن نسلك مسلك العلوم الطبيعية من أجل أن نحدد ماهية القابليَّات والبنيات الخاصة وكيفية وجودها في آليات عمل الدماغ (ففي هذه الحالة تتلاشى الكيانات فوق-العضوية التي تطورت بشكل مشترك مع اللغة).

ولكن بالعودة إلى "الفيروسات" التي تطورت تلقائيًا لتلصق نفسها بالمضيفين بالشكل المطلوب، نرى أنه يكفينا أن ننسب للأطفال "نظرية تعلم شاملة" فقط لا أكثر. ذلك هو ما نكتشفه بعد أن نتخطى الفشل الذريع لعلماء اللغة وعلماء النفس في إدراك حقيقة أن لغات العالم - بالأحرى، اللغات التي لم نتكلمها بعد - قد تكون فعلاً قد تطورت بشكل مستقل عن الدماغ البشري "مجسدةً القابليات في أذهان الأطفال" عن طريق الاصطفاء الطبيعي.

أعتقد أن هناك معنى ما للقول إن اقتراحات ديكن تقع على المسار الصحيح. ففكرة أن الأطفال لا يحتاجون أكثر "نظرية تعلم شاملة" من أجل اكتساب اللغة والحالات المعرفية الأخرى هي فكرة تتطلب مجهوداتٍ هائلة لدعمها. وتلك قضية تحفز النظرية الثالثة من النظريات التي طرحتها في الاستهلال كإطار للنقاش. نجد الاستنتاج نفسه بشكل جلي في كثرة من الفرضيات بشأن الفطرة ووجود قالب، فرضياتٌ راسخة في محاولات البعض لتطبيق طروحات مضللة حول نظريات تعلم شاملة غير منظمة. كما نجد الاستنتاج نفسه أيضًا في الفرضيات المدهشة عن كون البنية الفطرية مندمجة مع السيناريوهات التطورية التأملية التي تفترض صراحة وجود قالب تعليمي modularity[19].

المشكلة الحقيقية الوحيدة كما يرى ديكن هي "الدلالة الرمزية". لكن ما إن نفسرها باستخدام النهج التطوري حتى تأخذ باقي المشكلات مجراها الطبيعي، ولا يتطرق ديكن إلى كيفية حصول ذلك، ربما - حسب رأيه - لأن هذا غير مهم، ولأن "الدلالة الرمزية" تبقى أيضًا أمرًا في غاية الغموض، ويعزو ذلك جزئيًا إلى فشلنا في الإحاطة بخواصها الأولية في لغة الإنسان.

ما زلت إلى الآن أقدم اقتباسات من ديكن لأنني حقيقةً لا أعرف معنى هذه النظرية. ولا يبدو أن الأمر يسهُل في حال استندنا إلى نظريات علم اللغة - ومن بينها نظرياتي - وقدمنا تفسيرًا مبهمًا، خاصةً بوجود العديد من الإشارات الضمنية الغامضة جدًا إلى درجة أننا نصل إلى مرحلة نعجز فيها عن تقصي سبب سوء الفهم (في بعض الأحيان يكون فقط من السهل العثور عليه، كسوء الفهم لبعض المصطلحات التقنية مثل "الكفاءة" competence). على أية حال، مهما كان القصد من وراء نظرية ديكن، فالاستنتاج الذي نخلص إليه منها هو أنه من الخطأ البحث في الدماغ من أجل فهم طبيعة لغة البشر، بل يجب على الدراسات المعنية باللغة أن تبحث في الكيانات فوق-العضوية التي تطورت بشكل مشترك مع الإنسان و"علقت" به بطريقة ما.

لَقِيَت هذه الاقتراحات استحسانًا كبيرًا من قبل البارزين في علم الأحياء وعلم النفس التطوريين، ولكنني أعجز عن رؤية سبب هذا الاستحسان. فإذا ما أخذنا هذه الاقتراحات على محمل الجد حقًا سنجد أن ما تقدمه لا يزيد عن إعادة صياغة للمسائل العلمية الحالية لتجعل منها ألغازًا مطلقة، وبذلك تكون قد قضت على أي أمل متبق لنا في فهمها، معرقلةً جميع العمليات البحثية العقلانية التي استمرت كمسلمات منذ مئات السنين.

والآن لنعد قليلاً إلى النظرية المنهجية التي تقول إنه علينا اتباع الإيثولوجيا. يبدو هذا النهج منطقيًا من حيث المبدأ، ولكن السبل المتبعة في البحث الإيثولوجي تثير الكثير من التساؤلات. أعتقد شخصيًا أن الدعوة لإحياء هذا النهج التي بدأت منذ أربعين عامًا في الأدبيات النقدية المحيطة بـ "العلوم السلوكية" لا تضيف إلى فهمنا أي جديد. فيمكن أن ندرس الدماغ - أو ربما غير الدماغ - من حيث المكونات الجينية الخاصة ببنية واستعمال اللغة وسائر الأشكال التي تتخذها (أي اللغات العديدة) ومن ثم أن نبحث في الآليات التي تحصل فيها التغيرات في شكل المادة (اكتساب اللغة). يمكن أيضًا أن نحاول اكتشاف الآليات والمبادئ الفيزيولوجية والسيكولوجية من أجل توحيدها، تلك هي المسائل الحالية للعلوم. تشكل هذه المباحث المنظورين الأولين في النهج الإيثولوجي: دراسة الآليات والتنشؤ. وبالعودة سريعًا إلى النهج الوظيفي، وهو النهج الثالث، يمكن لنا أن نبحث في استعمال اللغة عند الشخص الذي اكتسب حالة/لغة محددة، رغم أن التقيد فقط بمفعولي البُقيا والتكاثر يبدو ذا أفق محدود إذا ما أردنا أن نتوصل إلى فهم عميق للغة. أما فيما يخص الأصول الوراثية/الجينية، وهو النهج الرابع، فإنه هدف صعب المنال في أفضل حالاته ولا يبدو أنه يحظى بتقدم في دراسة التواصل المقارن، الأمر المختلف كليًا.

وأخيرًا سنتجه في بحثنا إلى النظرية الثالثة وهي نظرية گاليستل التي يقترح فيها أن التعلم عند جميع الحيوانات يعتمد على آليات متخصصة، "غرائز للتعلم" بأساليب معينة، أو ما أسماه تينبرجين بـ "القابليات الفطرية للتعلم[20]." يمكن اعتبار "آليات التعلم" هذه كـ "أعضاء داخل الدماغ، وهي دارات عصبية تساعدها بنيتها على أداء نوع محدد من عمليات الحوسبة" بشكل لا إرادي تقريبًا، بصرف النظر عن "البيئات شديدة العدائية." وفقًا لهذا المنطق، يُعتبر اكتساب اللغة عند الإنسان أمرًا غريزيًا مبنيًا على "عضو لغوي" متخصص. ويرى گاليستل أن "نظرية التعلم القالبيَّة modular view of learning" هي "المعيار السائد حاليًا في علم الأعصاب"، وأن إطار العمل هذا يحتوي على كل ما هو مفهوم جيدًا، متضمنًا الإشراط، بقدر ما يمكن اعتبار هذه الظاهرة ظاهرةً حقيقية. "إذا تخيلنا وجود آلية تعلم ذات هدف عام بالإضافة إلى كل آليات التعلم الخاصة بحل المشاكل... سيكون ذلك أشبه بمحاولة تخيل بنية لعضو ذو هدف عام، وهو العضو الذي يُفترض به أن يحل المشاكل التي لا تتعامل معها الأعضاء المتخصصة المتكيفة مثل الكبد والكُليَة والقلب والرئتين،" أو أن نتخيل "عضوًا حسيًا ذو هدف عام يحل مشاكل الإحساس" التي لا تعالجها العين والأذن والأعضاء الحسية المتخصصة. ولكن لا توجد أي من هذه الأفكار في البيولوجيا: "إن التخصص التكيفي للآلية شائع جدا وواضح جدًا في البيولوجيا على أي مستوى من التحليل ولأي نوع من الوظائف الحيوية لدرجة أن ما من أحدٍ يفكر في الإشارة إليه كمبدأ عام للآليات البيولوجية." وفقًا لهذا، يرى گاليستل أنه "يبدو أمرًا غريبًا، رغم واقعيته، أن يكون معظم التنظير السابق والحالي حول التعلم،" منفصلاً جذريًا عن المسلمات المتبعة في دراسة الكائنات الحية، ويَعتقِدُ أن هذا الأمر خاطئ.

وبحسب معرفتي الشخصية يبدو نهج گاليستل نهجًا سليمًا. ففي الحالة الخاصة التي تمثلها لغة الإنسان، يجب اتباع هذا النهج في جميع البحوث الجوهرية، وإن ضمنيًا فقط، بالرغم من نكران هذه الحقيقة بكراهية من قبل بعضهم. ولكن من الصعب تفادي الاستنتاج المفيد بأن جزءًا من المواهب التي في بيولوجيا الإنسان هو "عضو لغة" متخصص، أو ما يسمى المَلَكة اللغوية، وتكون المرحلة الأولية لهذه المَلكة تجلٍّ للجينات - يمكن مقارنتها بالمرحلة الأولية للنظام البصري عند الإنسان - ويبدو أنها أمرٌ يمتلكه معظم البشر تقريبًا. ولذلك، إن أي طفل طبيعي سيكتسب أي لغة في ظل الشروط المناسبة، وحتى في "البيئات شديدة العدائية". تتغير الحالة الأولية وتُصقل تحت تأثير الخبرة وعمليات النضج الفطرية وبذلك تَنتُج لدينا حالات لاحقة تبدأ بالاستقرار على مراحل عدة آخرها يكون البُلوغ. يمكننا أن ننظر إلى مَلَكَة اللغة FL على أنها جهاز يقوم بتحديد الخبرة ليوصلها بعد ذلك إلى حالة اللغة L المكتسبة (إحدى اللغات). ونطلق على ذلك اسم "جهاز اكتساب اللغة LAD" Language Acquisition Device[21]. ويُعتبر هذا "الجهاز" أحيانًا قضية تثير الجدال، لكنه ليس أكثر مدعاة للجدال من الافتراض (المكافئ) الذي يقترح وجود "قوالب لغوية language modul" تُفسر تطور اللغة عند طفلة ما على نحو يختلف عن تطور اللغة عند هريرتها الصغيرة (أو الشيمبانزي، أو أي حيوان) في بيئة الاكتساب ذاتها. فحتى عند أكثر "السلوكيين تعصبًا" نجد أن تساؤلاتهم تفترض ولو بشكل ضمني أن الطفل يستطيع أن يميز المعلومات اللغوية من بين كل التشويش المحيط بها، وبذلك يكون النهج السلوكي قد سلم بوجود الملكة اللغوية/ جهاز اكتساب اللغة. وكلما تبلور النقاش عن اكتساب اللغة كلما انتقل إلى فرضيات أكثر غنىً ودقةً حول وجود عضو لغوي. يتضمن ذلك اكتساب المفردات - حتى البسيطة منها - التي تتضح أنها تحمل بنية دلالية غنية. وتتوفر معرفتنا لهذه الخواص حتى بوجود أقل البراهين، وبذلك يكون من المتوقع شيوعها في جميع اللغات، وهذا هو الحال حقيقيةً وفقًا للإثباتات الملموسة لدينا.

ننتقل عند هذه النقطة إلى أسئلة جوهرية في وجهات النظر الثلاثة الأولى ضمن النهج الإيثولوجي، ولكن من دون أن نقيد استعمال اللغة بنتائج الكفاءة، أي البقيا والتكاثر. يمكن لنا أن نبحث في الخصائص الأساسية للتعابير اللغوية واستعمالاتها من أجل التعبير عن الفكر أو من أجل التواصل أو التفكير أو التكلم عن العالم. وفي سياق كهذا لا بد من الإشارة إلى الأبحاث في علم الحيوان المقارن حيث نجد اشتغالاً على مسألة التمثيل representation عند مختلف الأنواع الحية. سبق أن قدَّم گاليستل تلخيصًا وافيًا لبعض المقالات حول قضية التمثيل هذه، وترى هذه المقالات أن التمثيل يلعب دورًا رئيسيًا في سلوكيات وإدراك الحيوانات. ويجب فهم "التمثيل" هنا على أنه تشاكل isomorphism، أي علاقة واحد-لواحد ما بين عمليات الدماغ-الذهن وبين "جانب من جوانب البيئة التي تقوم فيها هذه العمليات بأقلمة سلوك الحيوان"، مثلاً كقيام نملة بتمثيل جسم نملة أخرى من نوعها عن طريق رائحتها[22]. أرى أنه لمن المنطقي أن نتساءل حول ما إذا كانت هذه النتائج على صلة بالعالم الذهني لدى البشر، وكيف يحدث ذلك. وفي سياق اللغة تحديدًا، نتساءل حول صلة هذه النتائج بالتمثيل "الصوتي" والتمثيل "الدلالي".

من وجهة نظر علم اللغة البيولوجي، والتي يتم تبنيها بشكل ضمني في الأبحاث الجوهرية، يمكن أن ننظر إلى اللغة L على أنها حالة من حالات ملكة اللغة FL، حيث L عملية تكرارية تولد عددًا لا نهائيًا من التعابير التي يمكن اعتبار كل واحد منها مجموعة من المعلومات التي تنتمي لأنظمة أُخرى داخل العقل-الدماغ. وبالعودة إلى أرسطو، نتذكر أنه في الافتراض التقليدي تتوزع هذه المعلومات على شقين: صوتي ودلالي. وتُستعمل هذه المعلومات على التوالي (أي صوتيًا ومن ثم دلاليًا) عن طريق أنظمة حسية حركية وأنظمة تصورية مفهومية، وهذه الأخيرة تدعى "أنظمة الفكر" - كل ذلك من أجل تسمية شيء بالكاد نفهمه. إن نظرة كهذه إلى الموضوع قد تضعنا في خطر التبسيط المفرط، ولكن لنلتزم بهذا المعتقد بغرض النقاش. إذًا، إن كل تعبير هو عنصر داخلي يتألف من مجموعتين من المعلومات: صوتية ودلالية. وتدعى هذه المجموعات "تمثيلات" صوتية ودلالية، ولكن ما من علاقة تشاكلية تقوم ما بين هذه التمثيلات وجوانب البيئة. وليس هناك، في هذه النظرة، أي اقتران بين الرمز الداخلي والشيء المُمَثَّل.

ويعتبر هذا الاستنتاج أمرًا مسلمًا به بالنسبة للتمثيل الصوتي. رغم أنه ليس من الخطأ افتراض أن عنصرًا من التمثيل الصوتي - لنقل مثلاً العنصر الداخلي /ba/ في لغتي الإنجليزية - ينتقي شيئًا معينًا في العالم، أقصد، مثلاً، الصوت BA [أي Bachelor of Arts، إجازة في الآداب]. لكن هذا الافتراض غير مفيد ولا يمكن أن يحصل. فعلى العكس تمامًا، يسعى علم الصوتيات السمعي وعلم الصوتيات النُطقي اللذين إلى فهم كيفية استعمال الجهاز الحسي الحركي للمعلومات في التمثيل الصوتي من أجل توليد الأصوات وفهمها. قد يظن البعض أن التمثيل الصوتي هو عبارة عن مصفوفة من التعليمات التي تتلقاها الأجهزة الحسية الحركية، لكن العنصر في التمثيل الداخلي لا يقترن مع فئة معينة من الوقائع في العالم الخارجي، فربما يكون هذا العنصر تآلفًا من حركات الجزيئات في الدماغ. ومن ناحية المعنى، أجد أن استنتاجات مماثلة لهذه قد تكون ملائمة لنقاشنا. فمنذ عهد أرسطو توصل البشر إلى فهم أنه حتى أبسط الكلمات قد تتضمن معلومات شتى: عن البنية المادية، والتصميم والهدف من وراءها، والأصول، والخصائص الشكلية والسببية، والكثير غيرها. كانت هذه القضايا موضع نقاش معمق خلال الثورة المعرفية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، رغم أن معظم الأعمال في هذا الصدد - ومن ضمنها النهج التجريبي البريطاني المعروف ابتداءً من هوبز ووصولاً إلى هيوم - تبقى شبه مجهولة خارج نطاق الأبحاث التاريخية. تظل هذه الاستنتاجات المذكورة أعلاه ثابتة بالنسبة للأسماء البسيطة كـ"النهر"، والمعدودة كـ"المنزل" و"الشجرة"، والجامدة كـ"المياه"، إضافةً إلى الأسماء الشخصية وأسماء الأماكن، وما يسمى بـ "ألفاظ الإحالة البحتة" (الضمائر، المقولات الفارغة) إلخ. وتصبح هذه الخصائص أكثر إشكالاً عندما ننتقل إلى العناصر ذات البنية العلائقية (الأفعال، الزمن وصيغه...). وكلما انتقلنا إلى التعابير اللغوية الأكثر تعقيدًا كلما ازدادت إشكالية هذه الخصائص. أما فيما يتعلق بالوقت الذي ظهرت فيه هذه الأنظمة المعرفية المعقدة في سياق التنشؤ فلا نعلم إلا القليل. ولكن جميع المعطيات التي لدينا تسمح لنا بافتراض أن العناصر الجوهرية فيها تنتمي إلى المَلَكة البيولوجية الفطرية تمامًا مثل ما تنتمي إليها القدرة على الرؤية المجسَّمة أو بعض الأنواع الخاصة من التخطيط الحركي، مواضيعٌ موضحة بغنىً ودقة في اصطلاحات الثورة العلمية الحديثة.

إذا ما نظرنا إلى عالم الحيوان لا يمكن أن نجد أي تشابه مع ما سبق، حتى في أبسط المستويات. لا شك أبدًا في أن التمثيل الرمزي والانبثاق الهائل للمفردات يمثلان أجزاءً رئيسية في لغة الإنسان، ولكن لا يبدو أننا نحصل على أي نتيجة قيمة عند الاستشهاد بالمحاكاة أو الترابط ما بين الشيء والرمز، وفي كثير من الأحيان تكون هذه الخطوات مضللة. وعندما نتجه نحو تنظيم وتوليد التمثيلات نجد أن جميع التشابهات تتحطم سريعًا حتى عند أكثر المستويات سطحية.

تتضح هذه الخصائص اللغوية على الفور عندما نستقصي في اللغة، ولكن هذا لا يعني أن أحدًا ما قد توصل إلى فهم عميق لهذه الخصائص، فذلك غير صحيح. وبكل تأكيد سنجد مزيدًا من الخصائص المحيرة كلما تبحرنا في البحث. مثلاً، مكونات التعابير اللغوية - التي تدعى سمات features وفقًا لعلم الدلالات والألفاظ القياسي - يجب أن تكون قابلة للتفسير من قِبل الأجهزة التي تصل إليها: حيث أن صيغ التمثيل عند مرحلة الربط بينها وبين الأنظمة الحركية الحسية والفكر يجب أن تتكون من سمات قابلة للتفسير. لذلك نتوقع أن تكون السمات التي تدخل عملية الحوسبة قابلة للتفسير أيضًا، كما هو الحال في أنظمة الترميز الاصطناعية، مثل الأنظمة/الأنساق الصورية في نظرية الرياضيات، ولغات الحواسيب. ولكن ذلك لا يمكن أن يحصل في اللغات البشرية، خصوصًا من ناحية الأصوات. أمرٌ آخر ذو أهمية كبيرة هو السمات الإعرابية التي ليس لها تفسير دلالي. نذكر أيضًا حالات النصب والرفع، والسمات التي تدل على التوافق الإعرابي مثل حالة الجمع (والتي تقبل التفسير في الأسماء لا في الأفعال أو الصفات). يُدلَّل تمامًا على هذه الحقائق وبشكلٍ معقول رغم عدم وضوحها في الصيغ (البنيات) السطحية. لكن الأبحاث في العشرين سنة المنصرمة زودتنا بسببٍ وجيه للتفكير بأمرين اثنين. أولهما أن السمات الإعرابية غير القابلة للتفسير[23] شائعة بين جميع اللغات التي يتكلمها الإنسان، لكن يجدر بنا التنويه إلى أن هذه السمات تختلف فيما بينها من ناحية الطريقة التي تَتمثل بها في هذه اللغة أو تلك. وثانيهما أن الكثير من التصنيفات التي تحفل بها اللغة ترجع إلى هذا المكون اللغوي الثانوي شديد المحدودية. فمن المحتمل إذًا أن يكون النظام التكراري الحاسوبي لعضو اللغة متأصلاً في الجينات إلى جانب البنية الأساسية للمفردات المحتمل توليدها. ويجوز القول إن حالةً ما من حالات مَلَكة اللغة FL - أي حالة معينة من اللغة في الدماغ - تتكوَّن نتيجة الاختيار ما بين العديد من المفردات دقيقة التركيب، إضافةً إلى ضبط الباراميترات المتعلقة بالسمات الإعرابية غير القابلة للتفسير وتمظهراتها. يُحتمل حقيقيةً أن نعتبر هذه الطروحات مُقاربةً منطقية جدًا.

ويبدو أن هذه السمات غير القابلة للتفسير مُتضمنة في ما يُسمى بـ خاصية الإزاحة dislocation property في لغات الإنسان. ويُقصد بهذا المصطلح أنه غالبًا ما تفسَّر العبارات اللغوية في غير موضع لفظها الأصلي أي في تعابير أُخرى مشابهة: مثلاً، الفاعل المُزاح في صيغة المبني للمجهول يفسَّر وكأنه في موضع المفعول به وذلك من خلال الارتباط الموضعي السياقي مع الفعل الذي يُسنِدُ لهذا الفاعل دورًا دلاليًا[24] Semantic role. بكل تأكيد يوجد في مبدأ الإزاحة خواص دلالية مثيرة للاهتمام. ومن المحتمل أن الأنظمة "الخارجية" للفكر (أي أنها خارجية بالنسبة لمَلَكة اللغة FL، لكنها داخلية بالنسبة للعقل–الدماغ) تتطلب من FL أن تولد تعابير لغوية تحتوي على هذه الخصائص بغرض تفسيرها بشكل صحيح. كما أن هناك دلائل ملموسة تدفعنا نحو الاعتقاد بأن السمات غير القابلة للتفسير تعمل على شكل آلية غرضها تفعيل مبدأ أو خاصية الإزاحة، وقد تكون هذه الآلية هي الأمثل في تلبية الشرط المَفروض على ملكة اللغة من قبل العوامل الخارجية. وإذا كان هذا صحيحًا فلا يمكن اعتبار خاصية الإزاحة والسمات غير القابلة للتفسير على أنها تشكل "قُصورًا" في مَلَكة اللغة، أو "عيوبًا في التصميم" (استعمالي لكلمة "تصميم" هنا هو مجازي فقط). تُثير هذه الاعتبارات وغيرها تساؤلاتٍ أكثر عمومية حول ماهية التصميم الأمثل: فهل يمكن أن تكون مَلَكة اللغة FL هي الحل الأمثل لشروط التفاعل البيني ما بين الأنظمة الحسية الحركية والفكر، تلك الأنظمة أو الشروط التي تفرضها أجهزة العقل-الدماغ التي تتأصل بداخلها هذه المَلَكة؟

لم تُطرح تساؤلاتٌ كهذه إلا منذ أعوام قليلة، حيث لم يكن بالإمكان طرحها سابقًا بسبب تعذر الوصول إلى فهم معمق للمبادئ الراسخة لمَلكة اللغة والخيارات المحدودة جدًا التي تُنتج التصنيفات/الأنماط typological variety اللغوية الغنية، تصنيفاتٌ نعلم حقيقة سطحيتها بالرغم من الهيئة التي تظهر عليها، ويمكن أن نعزو ذلك إلى الظروف التجريبية لاكتساب اللغة. وبالرغم من عدم اكتمال إدراكنا لهذه القضايا، نراه إدراكًا في حالة تزايد ملحوظة في العشرين سنة الفائتة. فيمكننا اليوم أن نستفسر بكل جدية عن حقيقة التصميم الأمثل، وقد نتوصل أحيانًا إلى بعض الأجوبة. كما أن اعتبار أن اللغة يمكن أن تكون حلاً أمثليًا لشروط التفاعل المذكورة آنفًا يبدو حاليًا أكثر معقوليَّة مما كان عليه منذ بضعة سنوات. كما تُثار اليوم تساؤلاتٌ عن نظرية العقل، وتصميم الدماغ، ودور قوانين الطبيعة في تطور أعقد ما يمكن تصوره من الكيانات، مثل ملكة اللغة. وهذه التساؤلات سارية المفعول في نظرية التطور في المستويات الأولية، وسبق أن كان دارسي تومبسون وآلان تورينگ من روادها لكن أبحاثهما ظلَّت مُهمشة حتى الأعوام الأخيرة. وقد يكون من الوارد تدعيم النهج الإيثولوجي المطروح سابقًا من خلال هذه الاصطلاحات، لكن ذلك يبدو أُفقًا بعيد المنال.

وتتبقى لدينا التساؤلات الأساسية صعبة المراس التي حفزت النظرية الكلاسيكية في العقل - أي، الجانب الخلاق لاستعمال اللغة، والتفريق ما بين التصرفات المتناسبة مع السياق المحيط والتصرفات التي يتسبب بها السياق، أو ما بين "الإكراه" على القيام بتصرفاتنا و"الجنوح" نحوها؛ وبشكل عام، هذا هو تساؤل نيوتن حول "كيفية انصياع مجموعات من أفراد الحيوان لأوامر الإرادة"، وهو ما طرحه عندما ناقش بعض الألغاز التي لا تزال عالقة، من بينها: أسباب التفاعل ما بين الأجسام، والتنافر والتجاذب الكهربائي، إضافةً إلى قضايا أساسية أخرى لا تزال غير مفهومة بالاستناد لمعايير الثورة العلمية.

لقد أحرز العلماء في بعض ميادين مسألة الدماغ-العقل تقدمًا هائلاً. كما أن هناك الكثير ممن يتحمسون للتكنولوجيا الحديثة وما قد تنتجه، كما يتطلعون نحو الكم الغني من الأبحاث المثيرة للاهتمام التي يُنتظر إنجازها من أجل استكشاف الجوانب الذهنية وانبثاقها في عالمنا. ولكن لا ضير في أن نحتفظ في أذهاننا بالاستنتاجات الحصيفة للأسماء اللامعة التي ظهرت في مطلع الثورة العلمية الحديثة مثل گاليليو ونيوتن وهيوم وغيرهم، هؤلاء الذين اعتقدوا أن "أسرار الطبيعة ستبقى غامضةً إلى الأبد"، وربما كانت أسباب اعتقادهم هذا متأصلةً في الطبيعة البيولوجية للمخلوق الفضولي والوحيد القادر على التأمل في هذه المسائل.

*** *** ***

نقلاً عن: مجلة جسور ثقافية، العدد 10، الهيئة العامة السورية للكتاب


 

horizontal rule

*  المصدر:

Chomsky, Noam, "Language and the Brain", in The Essential Chomsky, edited by Anthony Arnove, The New Press, New York, 2008, pp. 347- 67.

وقد ظهرت الدراسة أول مرة في كتاب تشومسكي:

On Nature and Language, Cambridge University Press, 2002, 61–91.

*  معيد في جامعة البعث -  كلية الآداب - قسم اللغة الإنكليزية.

[1] Ned Block, “The Computer Model of the Mind,” in D. N. Osherson and E. E. Smith, eds., An Invitation to Cognitive Science, vol. 3, Thinking (Cambridge, MA: MIT Press, 1990).

[2]  العلم الذي يدرس سلوك الحيوانات، ومن موضوعاته مثلاً التعلم والتواصل والجنس. [المترجم]

[3] “The Brain,” Daedalus, Spring 1998.

[4] Mark Hauser, The Evolution of Communication (Cambridge, MA: MIT Press, 1996).

[5] C. R. Gallistel, “Neurons and Memory,” in M. S. Gazzaniga, ed., Conversations in the Cognitive Neurosciences (Cambridge, MA: MIT Press, 1997); “The Replacement of General-Purpose Learning Models with Adaptively Specialized Learning Modules,” in M. S. Gazzaniga, ed., The Cognitive Neurosciences, 2d ed. (Cambridge, MA: MIT Press, 1999).

[6] David Hume, Dialogues Concerning Natural Religion, ed. Martin Bell (New York: Penguin, 1990).

[7] Noam Chomsky, “Language and Cognition,” welcoming address for the Conference of the Cognitive Science Society, MIT, July 1990, in D. Johnson and C. Emeling, eds., The Future of the Cognitive Revolution (New York: Oxford University Press, 1997). Chomsky, “Language and Nature,” Mind 104, no. 413 (January 1995): 1–61, reprinted in Chomsky, New Horizons in the Study of Language and Mind (Cambridge: Cambridge University Press, 2000). See the latter collection for many sources not cited here.

[8] Alexandre Koyré, From the Closed World to the Infinite Universe (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1957).

[9] Arnold Thackray, Atoms and Powers (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1970).

[10] Cited by Gerald Holton, “On the Art of Scientific Imagination,” Daedalus, Spring 1996,183–208.

[11] Cited by V. S. Ramachandran and Sandra Blakeslee, Phantoms in the Brain (London: Fourth Estate, 1998).

[12]  الإشارة هنا تخص الكتاب الشهير Descartes' Error: Emotion, Reason, and the Human Brain (خطأ ديكارت: العاطفة والعقل والدماغ البشري) الذي أصدره عام 1994 عالم الأعصاب البارز أنطونيو داماسيو António Damásio وأثار سجالات واسعة. [المترجم]

[13] Bertrand Russell, The Analysis of Matter (Leipzig: B. G. Teubner, 1929).

[14] R. D. Hawkins and E. R. Kandel, “Is There a Cell-Biological Alphabet for Simple Forms of Learning?,” Psychological Review 91 (1984): 376–91.

[15] Adam Frank, “Quantum Honeybees,” Discover 80 (November 1997).

[16] Noam Chomsky, review of B. F. Skinner, Verbal Behavior, Language 35, no. 1 (1959): 26–57.

[17] R. C. Lewontin, “The Evolution of Cognition,” Thinking: An Invitation to Cognitive Science, vol. 3, ed. Daniel N. Osherson and Edward E. Smith (Cambridge, MA: MIT Press, 1990), 229–46.

[18] Terrence Deacon, The Symbolic Species: The Co-evolution of Language and the Brain (New York: Norton, 1998).

[19] For current discussion of these topics, see, inter alia, Jerry Fodor, The Mind Doesn’t Work That Way: Scope and Limits of Computational Psychology (Cambridge, MA: MIT Press, 2000); Gary Marcus, “Can Connectionism Save Constructivism?,” Cognition 66 (1998): 153–82.

[20] See Chomsky, review of B. F. Skinner, Verbal Behavior, and for more general discussion, focusing on language, Chomsky, Reflections on Language (New York: Pantheon Books, 1975)

[21] On the non-triviality of this rarely recognized assumption, see Fodor, Mind Doesn’t Work That Way.

[22] C. R. Gallistel, ed., Animal Cognition, Cognition, special issue, 37, no. 1–2 (1990).

[23]  السمات غير القابلة للتفسير Uninterpretable Features في نظرية النحو وخصوصًا عند تشومسكي هي كالتالي: person الدالة على الأفراد، number الدالة على العدد، case الدالة على حالة الإعراب. [المترجم]

[24]  مقارنة بالأدوار الموضوعية Thematic Roles. [المترجم]

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني