أحاديث في جامعة ستانفورد 3

 

جدّو كريشنامورتي
ترجمة: وفيق فائق كريشات

 

من الأشياء الكثيرة التي يمكننا التحدث فيها معًا، شيء هو من أوضحها وأهمها وهو لماذا لا نتغير؟ لعلنا نتغير قليلاً، هنا وهناك، في أجزاء صغيرة، لكن لماذا لا نغير كامل طريقة سلوكنا، طريقة حياتنا، طبيعتنا اليومية، تغييرًا جوهريًا؟ من الناحية التقانية، يتقدم العالم حولنا بسرعة استثنائية، أما داخليًا فما نزال على هذا النحو أو ذاك على نحو ما كنا قرونًا بعد قرون. وإذ نحن عالقون في هذا الفخ - وإنه لفخ مهول - فإن المرء ليعجب لماذا لا نكسره ونخرج، لماذا نبقى مهمومين وأغبياء، فارغين، ذوي عقول ضحلة، سطحيين، وبليدين؟ هل لأننا لا نعرف أنفسنا؟ لو نحينا جانبًا أفكار شتى المختصين، مع شاذ تقريراتهم وعقائدهم، لرأينا أننا لم ننظر بعمق في أنفسنا نظرًا حقيقيًا البتة، لم نبحث في أنفسنا عميقًا لنكتشف ما نحن فعليًا. هل ذلك هو السبب في أننا لا نتغير؟ أم لأن المرء ليس عنده طاقة؟ أم لأننا مللنا - ليس من أنفسنا بل أيضًا من العالم الذي ليس فيه إلا القليل جدًا مما يقدمه سوى السيارات، الحمامات الأكبر حجمًا وكل البقية؟ نحن، إذًا، قد مللنا خارجيًا ومللنا أيضًا، على الأرجح، من أنفسنا لأننا عالقون في الفخ ولا ندري كيف نخرج منه. من المحتمل أيضًا أننا كسولون جدًا. أضف إلى ذلك أنه ليس في معرفتنا لأنفسنا فائدة، ولا مكافأة في خاتمتها، بينما أكثرنا هو مشروط بباعث الفائدة.

لعل هذه، إذًا، بعض الأسباب في أننا لا نتغير. إننا نعلم ما هو الفخ، نعلم ما هي الحياة، ومع ذلك نمضي مجهدين برتابة وضجر إلى أن نموت. ذلك، على ما يظهر، هو قدرنا. ومع ذلك، هل البحث في أنفسنا عميقًا وإحداث تحول في أنفسنا هو أمر صعب على هذا النحو العظيم؟ إنني لأعجب هل نظر أحد ذات يوم إلى نفسه، هل عرف نفسه؟ منذ الأزمنة الغابرة كُرر هذا القول مرارًا: "اعرف نفسك". في الهند سُلِّم به، وأهل اليونان الأقدمون رددوا النصيحة، أما الفلاسفة الحديثون فهم يحاولون أيضًا قوله، فما كان منهم إلا أن زادوه تعقيدًا بلغتهم الاصطلاحية ونظرياتهم.

هل يمكن للمرء معرفة نفسه - ليس فقط في المستوى الشعوري بل أيضًا في مستويات العقل السرية الأكثر عمقًا؟ من المؤكد أنه من غير المعرفة بالنفس لا يكون للمرء أساس لأي عمل حقيقي، جادّ، لا قاعدة يشيد عليها بوضوح. إن لم يعرف المرء نفسه تكن حيواتنا حياة سطحية جدًا. قد تكون ذكيًا جدًا، قد تعرف كل الكتب في العالم وتكون قادرًا على إيراد الاقتباسات منها، لكن إذا لم تعرف نفسك فكيف يمكنك تجاوز ما هو سطحي؟ هل من الممكن أن يعرف المرء نفسه معرفة تامة بحيث إنه يكون في نفس الملاحظة لتلك الذات الكلية يكون إطلاق للسراح؟ ربما يمكننا البحث في هذه المسألة معًا عصر هذا اليوم، ولعلنا أيضًا، ونحن نفعل ذلك، نمر صدفة على ما هو الحب وما هو الموت.

أعتقد أنه لا بد أن نكون قادرين، بصفتنا كائنات إنسانية، على اكتشاف ما هو الموت ونحن لما نزل أحياء؛ وكذلك ما هو الحب، لأن ذلك جزء من حياتنا، عيشتنا اليومية. هل يمكننا الاستعلام داخل أنفسنا من غير خوف أو تحيز، من غير أية صيغة أو استنتاج، من أجل اكتشاف ما نحن؟ إن استعلامًا كهذا يتطلب حرية. لا يمكن للمرء أن يستعلم ما في داخله، أو ما في داخل الكون الذي هو جزء منه، ما لم تكن حرية - حرية من الفرضيات والنظريات والاستنتاجات، حرية من الانحياز. أضف إلى ذلك أن المرء يحتاج، في الاستعلام، إلى عقل حاد، عقل قد جُعل حساسًا. لكن العقل لا يكون حساسًا متى كان أي شكل من أشكال الانحياز، إذ يجعله ذلك غير قادر على أي استعلام حقيقي لما في داخل بنية الذات، هذه البنية بأكملها. دعونا، إذًا، نبحث في هذه المسألة معًا، ليس فقط بواسطة التواصل اللفظي بل أيضًا على نحو لا لفظي، وهو أكثر إثارة بكثير ويتطلب من طاقة الانتباه قدرًا أعظم بكثير. متى يكن المرء حرًا في الاستعلام تكن له الطاقة. لا يكون للمرء الطاقة، الدافع، التركيز الضروري عندما يكون قد وصل للتو إلى استنتاج، صيغة. وعليه، في الوقت الحاضر، هل يمكننا أن ننحي جانبًا كل صيغنا واستنتاجاتنا وانحيازاتنا بشأن أنفسنا - ما نحن وما ينبغي أن نكون وما لا ينبغي أن نكون وكل البقية - ننحي هذه جانبًا ونلاحظ ملاحظة فعلية؟

يمكن للمرء أن يلاحظ نفسه فقط في العلاقة. ليس عندنا وسيلة أخرى لنرى أنفسنا والسبب هو (باستثناء حال الذين هم عصابيون على نحو تام) أننا لسنا كائنات إنسانية معزولة: بالعكس من ذلك، إننا في علاقة مع كل ما حولنا. وفي تلك العلاقة يمكن للمرء أن يرى، بملاحظته لردود فعله ولأفكاره وبواعثه، أن يرى، لا لفظيًا، ما نحن.

الآن، ما أداة الملاحظة، ما الشيء الذي يلاحِظ؟ هذا أمر يجب أن نكون واضحين فيه جدًا. هل هي ملاحظة من خارج النافذة نظرًا إلى الداخل، مثل النظر من نافذة دكان، أم إنك تراقب نفسك من الداخل وليس من الخارج؟ إن تكن تراقب نفسك من الخارج تكن غير ذي علاقة مع "ما هو كائن". أعتقد أنه ينبغي على المرء أن يكن واضحًا جدًا في هذا الأمر. يمكن للمرء أن يلاحظ نفسه ناظرًا من فوق السور، إذا جاز التعبير، وفي هذه الحال تكون هذه الملاحظة سطحية نسبيًا، غير ذات علاقة، غير مهمة وغير مسؤولة. عندما يحلل المرء نفسه يكون دائمًا المحلِّل والشيء المحلَّل. المحلِّل هو المرء الناظر من فوق السور، القائم بالحكم، بالتقويم، بالسيطرة، بالكبت وهلمجرا. لكن هل يمكن للمرء أن يراقب نفسه. مراقبة حميمية، فعلية على نحو ما هو المرء؟ أعني هل يمكن للمرء أن يراقب نفسه من غير المفكِّر، الملاحِظ؟ - الملاحِظ الذي هو دائمًا في الخارج، الذي هو الرقيب، الكيان الذي يقوِّم قائلًا: "هذا صواب"، "هذا خطأ"، "هذا مما ينبغي أن يكون"، "هذا مما لا ينبغي أن يكون" - كل هذا يحكم على ملاحظة المرء بأنها محدودة جدًا وأنها حادثة فقط بحسب حال المشروطية الاجتماعية والبيئية والثقافية.

عندنا، إذًا، هذه المشكلة الحقيقية جدًا: كيف يلاحظ المرء - ليس كملاحِظ خارجي قد استنتج للتو بشأن نفسه استنتاجات معينة - بل يلاحِظ ملاحظة مجردة. أن يكون واعيًا بلا اختيار، من غير توجيه، من غير أخذ قرار ما ينبغي فِعْله وما لا ينبغي، بل أن يلاحِظ فقط ما هو جارٍ فعليًا. لفعل ذلك يجب أن تكون حرية من كل شكل من أشكال الاستنتاج والالتزام. وعليه، من أجل الملاحظة لا لفظيًا، من أجل الملاحظة من غير الحاجز الذي يعمله شخص خارجي ناظر إلى الداخل، يجب أن تكون حرية من كل خوف ومن كل حس بالتصويب. إن يكن للمرء أداة كهذه يمكنه المضي في الاكتشاف. لكن ما دام المرء قد نَبَذ للتو كل ما يُحدث مركزًا ينظر منه الملاحِظ إلى الملاحَظ، فما الكائن ليُكتشف؟

يريد المرء أن ينظر إلى نفسه بعينين صافيتين، بعينين ليس فيهما قذى، من غير تدخل الأخلاقية الاجتماعية التقليدية، المحترمة - وهي غير أخلاقية البتة. متى ينحِّ المرء جانبًا الاستنتاج والصيغة، الخوف، كل رغبة في أن يكون شيئًا سوى ما هو، فماذا يكون موجودًا؟ إن ما نحن عليه هو سلسلة من الاستنتاجات. ما نحن عليه هو فعليًا سلسلة من الخبرات القائمة على اللذة والألم، الذكريات، الماضي. إننا نحن الماضي؛ ليس فينا شيء جديد. وعليه، متى يلاحظ المرء نفسه بحرية - وعلى المرء، ليكون حرًا، أن ينحِّي كل هذه الأشياء جانبًا - فما هو المرء فعليًا؟ إنني لأعجب هل سألتم أنفسكم ذات يوم هذا السؤال؟ ما العلاقة بين المرء وبين كامل هذه القضية، قضية ما يدعى بالعيش؟ وما هو العيش، في الواقع؟ يستطيع المرء، بالطبع، أن يرى فورًا ما هو كائن فعليًا: كفاحٌ دائمٌ، أرضٌ للمعركة التي ندعوها العيش، ٌصراع - ليس فقط مع الآخر بل أيضًا داخل أنفسنا - ألمٌ، لحظاتٌ سريعة الزوال من عظيم البهجة، الخوف، اليأس وسلسلة من الخيبات؛ التناقضاتُ في أنفسنا في المستويين الشعوري والأعمق منه كليهما؛ حالٌ من عدم العلاقة؛ حزنٌ عظيمٌ - وهو عمومًا شفقة على النفس - وحدةٌ ومللٌ. من بعد ذلك الهروب من كل هذا إلى الاعتقادات الدينية: إلهك وإلهي. تلك هي حياتنا كما هي فعليًا. الذهاب إلى المكتب أربعين سنة - تعلمون، تفخرون جدًا بهذا كله؛ عدوانيون، تنافسيون، وحشيون. تلك هي حياتنا وإننا ندعو ذلك عيشًا. ولا ندري كيف نغيرها. إننا متلهفون لتغيير البنية السطحية للمجتمع - بيروقراطية جديدة مكان القديمة، وهلمجرا. لكن التغيير الخارجي يكون له معنى فقط عندما تكون ثورة داخلية عميقة: حينئذ يكون الخارجي والداخلي هما نفس الحركة، وليس حركتين منفصلتين.

وعليه، إذ أننا نرى هذا كله، جنونه، لماذا لا نغيره؟ إنني لأعجب هل يرى المرء هذا حقًا، هل يرى عيشتنا كما هي فعليًا؛ أم إنه يراها لفظيًا فقط - ويجب على المرء هنا أن يدرك أن الوصف، الشرح، ليس هو الموصوف، المشروح البتة. إذ إننا نعرف هذا كله، نرى كل هذه الحيرة الواسعة والتعاسة والعذاب، فلماذا نقبل بذلك، لماذا نستمر معه؟ هل نتطلع إلى الآخر ليمد لنا يد العون على الخروج منه؟ لقد مضى معلمون، مرشدون، مخلِّصون - أوه، عدد من هؤلاء لا يحصى - وما نزال نحن كما نحن. وعليه، إن المرء ليفقد، أو قد فَقَد، كل إيمان بالآخر. وإنني آمل أنكم قد فعلتم ذلك. ليس معنى هذا أن يصبح المرء هازئًا من الطبيعة البشرية، لاذعًا وقاسيًا، بل أن يرى الحقيقة الفعلية وهي أنه لا يمكن لأحد أن يمد لنا يد العون، داخليًا. إذ إن المرء يميز هذا كله، فعلية الحياة نعيشها يوميًا، التعذيب ومبرح تعاسته، فلماذا لا يكرس نفسه تكريسًا تامًا ومطلقًا لفهمها كلها ولكسر طوقها والخروج منها؟ ما الغاية من التعليم إن كنا لا نفعل هذا؟ ما جدوى أن تصبح من حملة الدكتوراه وكل البقية إن لم يتغير هذا كله تغييرًا جوهريًا؟

يجب أن نتساءل الآن عن طبيعة الطاقة التي يحتاجها الخروج من هذا الفخ، هذه الحلقة المفرغة التي علق فيها المرء. ما الذي يأتي بالدافع الضروري؟ من الواضح أنه لا يمكن أن يكون لفظيًا، ولا يمكن أن ينبثق من تقريرات الآخر أو استنتاجاته. طبيعة هذه الطاقة هي الحرية - طلب التحرر. لسنا نعني بالحرية أن تفعل ما تحب، الخلاعة، التمرد، الفعالية غير المنضبطة وهلمجرا. الحرية ليست هي عدم الانضباط: بالعكس من ذلك، تتطلب الحرية انضباطًا عظيمًا. لاحظوا هنا، رجاءً، أن كلمة "انضباط" مع أنها قبيحة عند أكثر الناس فإن معناها فعليًا هو التعلُّم. ذلك هو معنى جذر الكلمة: التعلُّم، لا الامتثال؛ ليس المحاكاة بل التعلُّم؛ ليس الطاعة بل الاكتشاف. إن التعلُّم أو الاكتشاف، بحد ذاته، يجلب انضباطه الخاص. لذلك، الانضباط، وهو التعلم، هو حركة دائبة وليس مجرد الامتثال لنمط ما. متى يفهم المرء ذلك - ليس لفظيًا بل فعليًا، يرى حقيقته، شاعرًا به في نفس عظامك - حينئذ تكون لك الطاقة على الاقتحام والخروج من حال مشروطية الخوف هذه، من هذا الهم، هذه الأحزان المؤلمة.

في فهم البنية النفسية لأنفسنا، هذه البنية بأكملها، فيه هاتان المسألتان الضروريتان: ما العيش - وهو ما قد حاولنا اكتشافه - وكذلك ما الحب والموت. لأن ذلك هو جزء من عيشنا، ولأن قداسة العيش قائمة في اكتشاف ما الحب وما الموت. هذه القداسة تأتي فقط من العيش في الآن - لا في أننا قد عشنا أو أننا نعيش في المستقبل - وفي ذلك ربما يمكننا اكتشاف ما الحب وما الموت. حينئذ مرة أخرى، لن يمكننا، من غير معرفة ما الحب والموت، أن نعرف ما العيش.

ما الموت، الذي أكثرنا مذعور منه جدًا؟ هل يمكن لكائن إنساني حي، سليم العقل، عقلاني، صحيح البدن، وغير مريض، أن يكتشف ما معنى الموت؟ ونحن لسنا نعني هنا عندما يكون المرء مسنًا وعاجزًا ومريضًا وعلى شفا التسرُّب من غير يُعلم به. هل لهذه المسألة أي تشويق البتة؟ إنها ليست كذلك عند الجيل الأكبر سنًا، ربما، على نحو ما كانت هي عندنا في معظم أيامنا، لكنها مسألة تنطبق حقًا على كل إنسان - الصغير والمتوسط والمسن والمحتضر. كما حاولنا أن نكتشف ما العيش - والذي، لكونه ليس أرض المعركة هذه، هذا الصراع، هذه التعاسة، الذي قد أصبح بسبب ذلك شيئًا مقدسًا قداسة استثنائية (إن جاز لي استعمال تلك الكلمة من غير أن تحاولوا تصغيرها) - بنفس الطريقة، أن نكتشف ما الموت.

إنني لأعجب ما هو رد فعلكم على هذه المسألة. أنتم إما خائفون، أو عندكم نظريات، أو تؤمنون: تؤمنون بحياة بعد هذه - مثال ذلك التجسد مرة أخرى، الذي يؤمن به المشرق بأكمله. إنهم يؤمنون بالتجسد مرة أخرى، لكنهم لا يسلكون سلوكًا حسنًا في هذه الحياة؛ إنها فقط نظرية مريحة جدًا لأنها تعطيكم فرصة أخرى. لكن إذ ينحي المرء ذلك جانبًا، فإنه يجب عليه حتى يفهم الآن، أن يفهم الماضي. لا يمكنكم قول: "سوف أعيش في الآن" - ليس له معنى لأن الآن هو معبر الماضي نحو المستقبل. متى تقل لنفسك: "سوف أعيش في الحاضر"، يكن الـ"أنت" الذي سوف يعيش هو نتيجة للماضي. قد ترسم حولك دائرة قائلًا: "هذا هو الآن أو الحاضر"، لكن الكيان الذي يعيش في الآن هو نتيجة للماضي: إنه الماضي كليًا. إن معنى العيش الآن، في الحاضر - ليس إيديولوجيًا، ليس من استنتاج ولا بصورة تقرير - بل العيش فعليًا عيشًا تامًا في الحاضر، معناه أنه يجب على المرء أن يكون غير مشروط وحرًا.

إن تساؤل المرء في نفسه ما معنى أن يموت المرء، ما الموت، ليس هو تساؤلًا عصابيًا: بالعكس من ذلك، إنه يبين أن المرء موفور العافية، عاقل ومتزن، ولولا ذلك لم يسأل ذلك السؤال. إن معناه هو أن المرء لم يعد مذعورًا من الاكتشاف. من الواضح أن البدن يضعف، المتعضية تنهار من دائب اللبس والخلع. من الممكن جعلها تدوم مدة أطول من ذلك بقليل إذا عاش المرء عيشة حكيمة جدًا، من غير كبير ضغط أو إجهاد أو إثارة. أو إن الأطباء والعلماء قد يخترعون حبةً أو شيئًا يعطيك أربعين سنة أخرى أو خمسين – علمًا بأنني لا أرى ما جدوى العيش خمسين سنة أخرى في هذا الفخ. بسؤال المرء ما الموت، يجب أن يسأل أيضًا ما معنى العيش فعليًا - لو كان بمقدور المرء العيش هكذا - من غير العذاب كله: أعني إنهاء طريقة العيش كما نعرفها. لأن ذلك ما سوف يحدث عندما يموت المرء: نهاية كل شيء. النفس، أو الآتْمَن كما يدعوها الهندوس، هي مجرد كلمة. لا يدري المرء هل توجد نفس، "شيء" دائم. هل فينا أي شيء دائم، أم إننا فقط نتمنى أن يكون شيء دائم؟ عندما يلاحظ المرء نفسه يجد أنه ما من شيء دائم: كل شيء في حركة، في حال من التدفق. وعندما يموت المرء فإنه يصبح لا مباليًا بكل شيء قد عرفه: الأسرة، الأولاد، الوظيفة، الكتب التي أراد أن يؤلفها أو قد ألفها، الخبرات، كل المركومات التي كومها، والمسؤوليات. تكون النهاية نفسيًا وبدنيًا أيضًا، لكل المعلوم. ذلك هو الموت. أعتقد أن أكثرنا يوافق على ذلك.

الآن، هل يمكن للمرء أن يصبح كل يوم لا مباليًا بكل شيء يعرفه - ما عدا، بالطبع، المعرفة التقانية، الجهة حيث منزلك، وهلمجرا؛ أعني أن ينتهي ذلك، نفسيًا، كل يوم، بحيث يبقى العقل منتعشًا وفتيًا وبريئًا؟ ذلك هو الموت. وللوصول إلى ذلك يجب ألا يكون ظل للخوف. الاستسلام من غير حجاج، من غير مقاومة. ذلك هو الموت. هل جربتموه ذات يوم؟ الاستسلام من غير غمغمة، من غير كظم، من غير مقاومة، الشيء الذي يعطيك أكبر اللذة (الأشياء المؤلمة، بالطبع، يريد المرء أن يتخلى عنها بكل الأحوال). الصرف من الذهن فعليًا. جربوه. إن تجربوه تروا أن العقل يصبح يقظًا، نشيطًا وحساسًا، حرًا وغير مثقل بالأعباء على نحو استثنائي. حينئذ تتخذ الشيخوخة معنى مختلفًا إلى حد بعيد، فلا تكون شيئًا يُخشى.

على المرء أيضًا أن يكتشف بنفسه ما الحب. تلك الكلمة هي إحدى أكثر الكلمات المحشوة؛ كل واحد يستعملها ويتراوح استعمالها من الأكثر مكرًا إلى الأكثر بساطة. لكن ما هو فعليًا؟ ما حال القلب والعقل الذي يحب؟ هل الحب لذة؟ رجاءً، اسألوا أنفسكم هذه الأسئلة. هل الحب رغبة؟ إن يكن رغبة فإن الألم يرافقه حتمًا. كما تتذكرون، لقد رأينا أن اللذة هي نتاج للفكر. التفكير بالتجربة الجنسية التي كانت لك - مضْغُها، بناءُ الصورة - يثبت لذة تلك التجربة. يولد الفكر اللذة ويولد أيضًا الخوف: الخوف من الغد، الخوف من الماضي، التفكير في ما فعله المرء، التفكير في الألم البدني الذي مرَّ به المرء والخوف من وقوعه مرة أخرى. الفكر، إذًا، يولد اللذة والخوف والألم فهل هذه تدعى حبًا؟ لكن ذلك هو كل ما نعرفه. ذلك هو ما ندعوه حبًا. أحب زوجتي وعندما تلتفت تلك الزوجة، التي أتكل عليها في أمر الجنس، في طبخ طعامي وإدارة الأسرة، عندما تلتفت وتنظر إلى الآخر، أغضب وأهيج وأغار - وهذا يدعى حبًا. ثم إن الإنسان يخترع حبًا لإله - إله لا يطلب أي شيء، لا يوليك ظهره. يكون معك في جيبك وتكون متأكدًا من أنه هناك يحميك في غيرتك، في همومك، يقودك إلى قسوة أعظم قدرًا.

هذا كله يدعى "حبًا"، فهل هو كذلك؟ من الواضح أنه ليس كذلك، لأن الحب ليس هو شيئًا نتاجًا للفكر. لا يمكن للحب أن يُتعهَّد. لا يمكن للحب أن يشترى باللذة. كيف يمكن لرجل عدواني، طموح، تنافسي أن يحب؟ وإذا كان يريد أن يكتشف ما هو - فعليًا وليس نظريًا - فعليه أن ينهي طموحه، طمعه، كراهيته للآخر، أن ينحي جانبًا على نحو تام كل ما ليس هو حبًا. لكن، كما ترون، إننا نلعب بهذه الأشياء كلها ومن ثم نتحدث في الحب. حقًا إننا لسنا بالناس الجادين، ولأننا غير جادين فإن حياتنا على ما هي. وعليه، من غير الموت لا يكون حب، لأن الحب دائمًا جديد وليس أمرًا روتينيًا من الجنس واللذة. عند أكثرنا، في سائر أرجاء العالم، أصبح الجنس مشكلة استثنائية، بل مشكلة نُسَرُّ بها. ألا تتساءلون متعجبين لماذا هو كذلك؟ يبدو الأمر كما لو أنه قد اكتُشف للتو لأول مرة، فتراه مبرزًا في كل مجلة وكل البقية. لماذا أصبح مشكلة ثابتة ومستمرة إلى هذا الحد، تُقرن به كلمة "حب"؟ من الراجح أن الأذكياء سيقدمون الكثير من الحجج لماذا يستثار الإنسان بهذا الشيء إلى هذا الحد. لكن، ولننح جانبًا كل الخبراء والمرشدين الفكريين، هل يمكن للمرء أن يرى لماذا قد علق في هذا الأمر إلى هذا الحد؟

سيكون لزامًا عليكم الجواب على هذا السؤال؛ لا يمكنكم كنسه جانبًا، لأنه جزء من حياتنا، جزء من هذا الشيء الذي يدعى الحياة التي أصبحت معركة كبيرة وتعاسة كبيرة. لماذا صار الجنس مشكلة؟ أم ينبغي أن نتساءل لماذا هو على ما يظهر الشيء الوحيد الذي تُرك للإنسان وهو حر فيه؟ هنالك يفقد نفسه كليًا: في تلك اللحظة لا يكون بعدُ هو كل التعاسة، كل الذكريات، التعذيبات، التنافس، العدوان، العنف والتقاتل. إنه ببساطة ليس هناك. وعليه، ولأنه غائب، فقد أصبح مهمًا؛ حينئذ لا تبقى التفرقة بين "أنا" و"أنت"، "نحن" و"هم". إن تفرقة كهذه تنتهي وفي تلك اللحظة ربما تجدون حرية عظيمة. من الراجح أنه قد صار مهمًا على هذا النحو الاستثنائي فقط بسبب أنه الشيء الوحيد الذي تُرك لنا بحيث أننا نجد فيه هذا القدر من الحرية. في كل ما عداه، لسنا أحرار. فكريًا وعاطفيًا وبدنيًا، نحن أناس مستعمَلون مكبوحون ومقيدون، مقولبون قولبة شاملة بمجتمعنا التقاني. وإذ لم تبقَ حرية إلا في الجنس، فلقد صار الجنس مهمًا، وبسبب ذلك، مشكلةً. إننا لا نقول لا يجوز أن تمارسوا الجنس - سيكون ذلك أمرًا سخيفًا. لكن هل يمكننا أن نكف عن كوننا عبيدًا، كائنات إنسانية مستعملة تُردد بلا حد ما قيل لنا عن أشياء ليست ذات أهمية كبيرة فعليًا، نعيش بلا حد في عالم إيديولوجي - أعني أننا نعيش مع الصيغ وبالتالي نحن لا نعيش عيشة فعلية البتة؟ وعليه، متى يتحرر الإنسان تحررًا شاملاً، فكريًا وفي قلب المرء، فإن هذه المشكلة ربما لن تكون خطيرة جدًا.

إذ يلاحظ المرء هذا كله، من البداية إلى النهاية ويلحظ أننا لا نتغير البتة، فإنه يجب عليه أن يتساءل لماذا ليس لديه الطاقة للتغير. لدينا الطاقة الهائلة والاستثنائية اللازمة للذهاب إلى القمر لكنها غير كافية، على ما يظهر، لتغيير أنفسنا. ومع ذلك فأنا أؤكد لكم أن فِعل ذلك هو من أسهل الأشياء، وأنه يصبح سهلًا متى تعرفون كيف تنظرون. متى يمكنكم رؤية "ما هو كائن" فعليًا، من غير أن تحاولوا تغييره، كبته، تجاوزه أو الهروب منه، فإنكم ترون أن "ما هو كائن" يطرأ عليه تغيير عظيم. أعني متى يكن العقل صامتًا صمتًا تامًا في الملاحظة يكن تغيير جذري. ومراقبة هذا كله، ملاحظة بعمق في ذات المرء، يأتي بنا إلى مسألة أخرى، ألا وهي: ما التأمل؟ - لأن العقل الذي ليس تأمليًا لا يمكنه فهم كامل بنية حياتنا وأغلالها. ربما يمكننا أن نناقش غدًا في حال العقل الذي هو ديني، لا ينتمي إلى تنظيم غبي ما بل هو باقٍ حرًا وبالتالي دينيًا؛ أعني حال العقل الذي هو في فعلٍ للتأمل. ليست هذه دعوة لكم لتأتوا غدًا (ضحك).

ربما تكون عندكم الآن، إن كنتم ترغبون، بعض الأسئلة.

سائل: لماذا عند كل واحد منا بنية الـ"أنا"؟ ما أصلها؟

كريشنامورْتي: يسأل السائل عن سبب وجود "أنا" منفصلة. ما سبب وجود هذا الكيان المميز الذي يعتقد أنه مختلف جدًا عن الكيانات الأخرى؟ ما السبب في وجود هذه الـ"أنا" مع كل مشاكلها والـ"أنت" مع كل مشاكلك - وهي أيضًا الـ"أنا"؟ ليست الـ"أنا" مختلفة عن الـ"أنت" لأن عندك نفس المشاكل، فقط أنت تكسوها بكلمات مختلفة، مستعملاً طرقًا للتعبير عنها. لكنها تظل الـ"أنا" معبِّرة عن نفسها بصورة مختلفة. أنا، المولود في الهند والمتعلم في الخارج، وأنت هنا والمتعلم هنا، مع مشاكلك؛ وإذا كان لي مشاكل، فما الفرق بينك وبيني؟ - ليس بدنيًا، بالطبع: قد يكون لك حساب مصرفي أكبر حجمًا وسيارة جميلة. قد يكون لك وفرة كثيرة من الأشياء بالمقارنة مع غيرك، لكن، ما عدا عن التعليم السطحي الأحسن وعن الفرصة للتعبير عنه، عن الوظيفة الأحسن وكل ذلك، هل من اختلاف أساسي؟ إن لم يكن اختلاف، فلماذا كل هذا اللغط بشأنه - أنت وأنا، هم وأنا، نحن وهم، الأسود والأبيض، الأصفر والبني - لماذا؟ إن في كون المرء منفصلاً لذة عظيمة، مع كل خيلائها: أنا أصيل، فريد، رائع، وتقول أنت نفس الشيء، فقط أنت تضعه في طبقة صوتية ثانوية. هذه الخيلاء، كل واحد منا فريد جدًا على نحو استثنائي، تعطي لذة عظيمة.

هل نحن فريدون؟ عندك حزن، وكذلك الآخر؛ أنت حائر مثل الآخر؛ مرتاب، مهموم، عدواني، وحشي، شكاك، مذنب، مثل الآخر. وعليه، متى نحرر أنفسنا من هذه التفرقة الأساسية تفرقة الـ"أنا" والـ"أنت" والـ"نحن" والـ"هم"، هل تكون تفرقة البتة؟ ألا يكون الملاحِظ حينئذ هو الملاحَظ، وهو أنت؟ إن في ذلك رحمة واسعة. فقط عندما شيدت سورًا حول نفسي وشيدت أنت سورًا حول نفسك، فأفضى ذلك إلى المقاومة، عندها ابتدأت التعاسة بأكملها. إن البنية الاجتماعية، أيضًا، تشجع هذه الـ"أنا" وهذه الـ"أنت". ألا يمكننا التحرر من هذه التفرقة في أفكارنا وفي مجتمعنا، التي تعهدتها خيلاؤنا؟ حينئذ إن تبلغ ذلك الحد تكتشف، على الأرجح، ما الحب.

سائل: هل عندك ما تقوله في الجهد الذي يعترض أحيانًا طريق المرء وهو يحاول أن يكون واعيًا؟

كريشنامورْتي: ما الجهد؟ لماذا علينا أن نبذل جهدًا؟ أعلم أن التقليد المقبول يقول بأنه يجب عليك بذل الجهد، وإن لم تفعل تكن لا أحد، تكن ما لا يعلمه إلا الله. وعليه، ابذل جهدًا مهما كلفك الأمر: تلك هي حال المشروطية، التقليد، المعيار المقبول. الآن، يا سيدي، ما الجهد ولماذا علينا أن نبذل جهدًا؟ هذه مسألة مهمة جدًا. هل يكون أي جهد عندما لا يكون تناقض؟ رجاء، تابع هذا. عندما يكون الـ"أنا" هو "أنت" - وهذا يتطلب حقًا عمقًا هائلًا في الشعور والفهم: لا يمكنك فقط أن تقول: إن الـ"أنا" هو "أنت"، لأنه سيكون بلا معنى - عندما يكونان واحدًا في العلاقة وبالتالي من غير تناقض، فما الحاجة إلى الجهد؟ لا يكون جهد. يكون الجهد فقط عندما يكون تناقض نفسي، أعني:  الـ "ما هو كائن" فوق الـ "ما ينبغي أن يكون"، الضد، وقبالته - الضد الذي هو التناقض. الـ "ما هو كائن" محاولاً أن يصبح الـ "ما ينبغي أن يكون"، العنف محاولاً أن يصبح اللاعنف - في هذا يقوم التناقض وبالتالي الجهد، السعي إلى الصيرورة شيئًا ما ليس هو كائنًا. وعليه، ينطوي الجهد، من الناحية الأساسية، على تناقض: أنا هو هذا لكن سوف أصبح ذلك؛ أنا فَشَلٌ لكن، بالحب، سوف أصبح نجاحًا؛ أنا غضبان لكن سوف أكف عن كوني غضبان، وهلمجرا. سلسلة من مسالك الأضداد وبالتالي صراع.

نتحدث من الناحية النفسية، هل من ضد؟ أم إنه دائمًا "ما هو كائن"؟ لأن العقل لا يدري كيف يتعامل مع "ما هو كائن"، فهو يخترع الضد الـ "ما ينبغي أن يكون". لو كان يدري كيف يتعامل مع "ما هو كائن" لما كان صراع. لو أن العقل يكف عن قياس نفسه بالبطل، بالكامل، بالمجيد وكل ذلك، إذًا لكان ما هو كائن. حينئذ يصبح الـ "ما هو كائن"، وقد تحرر من كل مقارنة، تحرر من الضد، يصبح شيئًا مختلفًا على نحو كلي. في ذلك لا يكون للجهد دخل البتة. الجهد معناه التشويه والجهد هو جزء من الإرادة، التي تشوه. لكن الإرادة والجهد، عندنا، هما خبزنا وزبدتنا؛ لقد ربينا عليه: يجب أن تكون أحسن من ذلك الولد في الامتحان - كل ذلك. وفي تربيتنا على ذلك النحو يقوم ضرر وتعاسة عظيمان. وعليه، إن رؤية "ما هو كائن" والوعي لذلك من غير أي خيار يحرر العقل من تناقض الأضداد.

سائل: قلت بالأمس إنه لو أمكن للمرء التخلص من الدائرة حول الأسرة لحدث شيء استثنائي. أحب كثيرًا أن أفهم ذلك.

كريشنامورْتي: أولًا، هل يعي المرء - لا لفظيًا - أن حول نفس المرء سورًا؟ لكل واحد منا سور حوله: سور من المقاومة، من الخوف والهم. الـ"أنا" المشيدة حول نفسي، صانعةً بذلك السور؛ هذه الـ"أنا" هي الأسرة، كل عضو منها يحاط به أيضًا بسوره الخاص. بعد ذلك، الأسرة بأكملها لها سور حول نفسها وعلى نفس النحو، الجماعة والمجتمع. الآن، هل المرء واعٍ لهذا؟ ألسنا نشعر أن العيش في هذا العالم، أنه ضروري، ولولا ذلك لدُمِّرت الـ"أنا" وكذلك الأسرة؟ لذلك نحتفظ بالسور باعتباره أقدس الأشياء. الآن إن يكن المرء واعيًا له، فماذا يحصل؟ لو أن المرء يزيل كليًا هذا السور حول نفسه، حول الأسرة، فهل تنتهي الأسرة؟ فماذا يحصل حينئذ للتنافس بين الـ"أنا"، الأسرة، وبقية العالم؟ نعلم جيدًا ماذا يحدث عندما يكون سور - حينئذ يكون عندنا مقاومة، صراع، معركة وألم دائمين، لأن كل حركة انفصالية، كل فعالية متمركزة حول الذات، تولد الصراع والألم. عندما يكون وعي لكامل الطبيعة والبنية لهذه الدائرة، هذا السور، ويكون فهم لأمر كيف حدث ذلك - أعني الإدراك الفوري للشيء بأكمله - فماذا يحصل؟ عندما نزيل التفرقة بين الـ"أنا" والـ"أنت"، الـ"نحن" والـ"هم"، ماذا يحصل؟ حينئذ فقط وليس قبله ربما يمكن للمرء استعمال كلمة "حب". والحب هو الشيء الأكثر استثنائية الذي يحدث عندما لا تكون الـ"أنا" مع دائرتها أو سورها.

سائل: عندما أحاول ملاحظة نفسي، لماذا أجد نفسي ملاحظًا من خارج، كما هو الأمر؟

كريشنامورْتي: هل لاحظت ذات يوم غيمة؟ إن تكن قد راقبتها فلقد رأيت أنه ليس يوجد فقط الفاصل المادي عنها، مع المسافة والزمان، بل أيضًا أنه توجد داخليًا تفرقة. معنى هذا هو القول إن عقلك مشغول جدًا بأشياء أخرى لا تعطيها انتباهًا حقيقيًا؛ إنك تعلم كل الكلمات التي يستعملها المرء: "ما أجملها"، "ما أبدعها"، لكن هذه الأقوال اللفظية تقوم مقام الحاجز الذي يمنعك من النظر إلى الغيمة نظرًا حقيقيًا. صحيح؟ الآن هل يمكن للمرء أن ينظر إلى تلك الغيمة نظرًا غير لفظي، أعني من غير الصورة التي هي عند المرء عن الغيوم؟ بما أن الشيء المذكور آنفًا هو شيء موضوعي فلربما يمكن للمرء فعله بسهولة كبيرة، لكن هل يمكن للمرء النظر إلى نفسه نظرًا غير لفظي؟ معنى هذا أن يزيل حواجز النقد والحكم والإدانة ويكتفي بالملاحظة. بعقل حر من الإدانة والحكم وكل البقية، فمن المؤكد أن المسافة بينك وبين الشيء الملاحظ تختفي: حينئذ لا تكون هناك، ناظرًا من فوق السور. أنت هو ذلك. ومتى تكن ذلك تأتِ صعوبة. لقد لاحظته، قبلاً، بصفته شيئًا منفصلاً عن نفسك، أما الآن فأنت تلاحظه من غير انفصال. لكن أي حركة تتخذها بالنسبة إلى ذلك فإنها تظل، ولابد، حركة من الخارج. لكن إن تنظر إليه من غير أية حركة - أعني إن تنظر إليه بصمت تام - يكن الملاحَظ عن صمت ليس هو نفسه كما كان عندما نظرت إليه من فوق السور.

سائل: (الصوت على الشريط ضعيف غير مسموع).

كريشنامورْتي: من الواضح أن الرجل الفقير الذي عليه أن يعمل عشر ساعات في اليوم هو مشروط، ومع أنه قد يتغير تغيرًا طفيفًا فلن تكون ثورة داخلية لأنه ممهور بطابع المجتمع الذي يعيش فيه. الآن ما عسى ذلك الرجل يفعل؟ هل ذلك هو سؤالك، يا سيدي؟

سائل: ما عساي أفعل في ما يتعلق بذلك الرجل؟

كريشنامورْتي: تسأل ما علاقتك بذلك الرجل، هل لي أن أضعه على نحو مختلف؟ ما العلاقة بينك وبيني؟ لقد تحدثت، على نحو ما فعلت في أكثر مدة عمري، وبعد غدٍ أنصرف. الآن ما هي علاقتنا؟ هل لنا أية علاقة؟ من الواضح أنه ستكون لك صورة عن مكلمك: ما قاله أو ما لم يقله، سواء عليك وافقته أم لم توافقه وهلمجرا. هل توجد أية علاقة البتة؟ وهل من علاقة، فعليًا، بين إنسان هو نشيط، يقظ، فعَّال، متَّقد داخليًا وبين الإنسان الذي يقول: "أرجوك أن تدعني وحدي، كرمى لله، إنني عالق في فخ المجتمع ولا يمكنني أن أتغير"؟ إن علاقة المرء برجل كهذا يمكن أن تكون إما ودية أو شفوقة - لن تكون علاقة تأييد. إن يكن المرء نشيطًا وواعيًا لكل هذه الأمور الحاصلة داخلاً وخارجًا فإنه يغير نفسه. والأمر هو دائمًا أن الأقلية الذكية هي، بدورها، التي تغير بنية المجتمع والعالم. حينئذ ربما تكون فرصة للآخر.

سائل: هذه الثورة الداخلية التي قد تحدَّثت عنها: إنها لم تحدث داخلي أو في أي من أصدقائي، ولا في كثير من الناس في التاريخ بحسب ما تمكنني رؤيته. عندما أحاول أن أنظر إلى" ما هو كائن" وعندما أرى "ما هو كائن"، إنه ما يزال غير حادث. مع ذلك إنك على ما يبدو لديك أمل في أنه قد يحدث وأملك هذا يبدو لي، إذًا، في تناقص مع "ما هو كائن".

كريشنامورْتي: أملي هو أنني لا أقدم أي أمل لأي أحد (ضحك). سوف يكون ذلك أكثر الأمور فظاعة. إذا كنت باحثًا عن الأمل - من عندي أو غيري - فأنت تتحاشى اليأس الذي هو كائن فعليًا. رجاءً، تابع هذا. هل يمكنك أن تنظر إلى ذلك اليأس الذي هو ما هو كائن فعليًا - ليس الأمل الذي هو مجرد فرضية، شيء ترغب فيه - لكن أن تنظر فعليًا إلى الخوف واليأس؟ هل يمكنك أن تنظر إليه من غير أمل ومن غير إدانة؟ هل يمكنك أن تراه فعليًا كما هو، أن تكون في اتصال مباشر معه؟ معنى هذا هو النظر إليه نظرًا غير لفظي، من غير خوف، من غير تشويه. هل يمكنك فعله؟ إن يمكنك النظر إلى "ما هو كائن" نظرًا مطلقًا من غير تشويه يمكنك رؤية أن الشيء بأكمله يطرأ عليه تغيير هائل: إنه لم يعد يأسًا، إنه شيء مختلف كليًا. لكن أكثرنا، لسوء الحظ، مشروط ونحن دائمًا نأمل في المثل الأعلى، وهو هروب. إذ تنحي جانبًا كل أنواع الهروب، كل الآمال - ليس بمرارة ولا بسخرية بل لأنك قد رأيت أنه لا يوجد سوى هذا الخوف واليأس - فإنك تُترك حرًا لتنظر. وعندما يكون العقل حرًا، هل يكون يأس؟

سائل: هل الجنس هو دائمًا هروب؟

كريشنامورْتي: لا أعلم. (ضحك) هل هو كذلك عندك؟ كما ترى، هو هكذا: إنه يصبح هروبًا عندما يكون هو الشيء الوحيد الذي تشعر به أنك حر مما تعانيه يوميًا من تعاسة وجهد وتناقض؛ وبذلك يصبح بابًا يمكنك منه الهروب. فإن تهرب يولِّد نفسُ الهروب الخوفَ. أمَّا إن تكن واعيًا لكونه هروبًا فإن كل شيء يتغير.

*** *** ***

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني