french arabic

 مستقبلُ المخِّ البَشَري

 

بول شوشار

 

شغل الدكتور بول شوشار (1912-2004) منصب الرئيس الفخري للمدرسة العملية للدراسات العليا EPHE في باريس ووضع عددًا كبيرًا من المؤلَّفات. وقد ظلَّ معروفًا حتى وفاته بوصفه واحدًا من علماء الألفية الثالثة، المنفتحين على المنظورات الجديدة للعلوم التي لا تستبعد الوعي الإنساني. وهو، في هذا النص الذي يحتفظ حتى الآن براهنيَّته، يقدِّم اختصاصه: الفسيولوجيا العصبية من منظور كلاني.

إن فهم الجسم، عِبر الأحاسيس المعيشة في صفاء البصيرة، هو درب محرِّرة. والانتباه من غير توتر يجلو أخلاقًا تختلف اختلافًا جوهريًّا عن أخلاق الصراع الداخلي العقيم: فالأمر هاهنا عبارة عن تربية عصبية جديدة، علم جديد يعاود اكتشاف الرياضات الروحية النقلية لمعلِّمي اللااثنينية.

كان د. بول شوشار على معرفة جيدة بالرياضات الروحية الشرقية: إذ كان صديقًا لمعلِّم الزِنْ تايزن دِشيمارو، وقد وضعا معًا كتابًا بعنوان الزِنْ والمخ؛ كما كان يعلِّم في مدرسة اليوغا التي تديرها ميشلين فلاك، بالإضافة إلى ممارسته لمنهج فيتوز في التربية العصبية.

***

يعود تفوُّق الإنسان على الحيوان إلى تعقيد مخِّه، بما هو ذروة تعضِّي المادة. ففي مواجهة فتوح الفسيولوجيا العصبية في مضمار آليات السلوك ومستويات الوعي، لم يعد بالإمكان التنكُّر للروحانية الإنسانية، المدرَكة علميًّا بوصفها وظيفة مخِّية، ولا عزوها إلى روح خارجية تؤثر في المخ تأثيرًا مجهولاً، كما كان ديكارت يعتقد.

كما وأنه لم يعد بالوسع فصل الإنسان عن الحيوان؛ فالأمر لم يعد عبارة عن "حَيْوَنَته" بإنكار تفوُّقه، بل جعله تتويجًا للسلسلة الحيوانية بفضل مخِّه. الحيوانات ليست آلات، بل لديها درجة من الوعي ترتبط بمستوى مخِّها، وتوجد حتى قبل المخ لدى وحيدات الخلية، بوصفها خاصيَّة من خواص الخلية الحية: أبسط الأفراد؛ وهو وعي تفتقر إليه بطبيعتها أكثر الروبوطات إتقانًا. ولئن كان بإمكان الحيوان أن يتفوَّق في جوانب معينة على الإنسان، من حيث إتقان عدد من الأعضاء–الأدوات، بما يجعله يتكيَّف مع نمط معيشي أو وسط من الأوساط، وبالتالي يحد منه، فإن التفوق الوجودي للإنسان، البدائي نسبيًّا مع ذلك، ليس إلا في مخِّه، ذلك العضو لا كالأعضاء، الذي يسمح له بابتكار أدوات بدون أن يعدِّل من جسمه. هو تفوُّق مخِّي من شأنه أن يجحف بالإنسان في الصراع من أجل الحياة لأنه يمنحه حرية تفضيل مسالك سيئة، ممتنعة على الحيوان من جرَّاء جمود غرائزه.

تكشف لنا الباليونتولوجيا عن منشأ المخ البشري الذي يجعل الإنسان – ذلك الحيوان لا كالحيوانات – حيوانًا متقنًا. وإن تاريخ الحياة في مجمله إنما هو ارتقاء نحو المخ البشري، وتقدُّم في التعضِّي – تلك المقدرة السرية للحياة – الذي سيكتشف علم الوراثة الجديد آلياته المادية، والذي يتعذَّر تفسيره بالمصادفة والانتخاب، كما يظن أنصار المذهب الداروِني الجديد الكلِّيو القدرة.

الإنسان، مع كونه من الرئيسات primates وكونه يشترك مع القرود في بعض الأسلاف، لا يتحدَّر من القرد. فكما بيَّن لوروا–غوران[1] Leroi-Gourhan، كان البحث يجري عن "قرود ضِخام المخ" فتمَّ العثور على "بشر صِغار المخ" ينتمون إلى سلالة بشرية مميزة، يصفها كأحسن ما يكون الوصف مصطلحُ "ما قبل بشري" préhumain، أي بشري غير مكتمل. إن تقدُّم المخ عبر مراحل متوالية هو الذي ييسِّر العبور من القرد الجنوبي Australopithèque (الإنسان الجنوبي Austalanthrope بالأصح) إلى الإنسان المنتصب Homo erectus، ثم إنسان نياندرتال العاقل Homo sapiens neandertalensis، وصولاً إلى إنسان كرومانيون العاقل Homo sapiens de Cro-Magnon، فيما تتقدم التقنية وتظهر عبادة الموتى والفن المقدَّس، بما هما علامتا التفكير المجرَّد والروحانية. فهل اكتمل هذا التطور؟

أمام القصورات الحالية، يحلم بعضهم بإنسان متفوق ذي مخٍّ أغنى. لكن هذا يبدو ضئيل الاحتمال من الوجهة العلمية، من حيث إن تطور الأنواع يجري باتجاه محدد وله هدف (النشوء المستقيم[2] Orthogénie): فتطوُّر الحصان المفضي إلى إصبع وحيد لا يستطيع أن يقطع شوطًا أبعد في هذا الاتجاه، أما تطور الإنسان فيفضي إلى عتبة مخٍّ ييسِّر التفكُّر والروحانية، ثم إلى بلوغه قطعًا مع إنسان كرومانيون، إن لم يكن قبله. فلا جدوى من الحصول على مخٍّ أضخم. فكما أشار تلار دُه شاردان Teilhard de Chardin محقًّا، أصبح التطور البيولوجي مع اكتمال المخ تطورًا اجتماعيًّا ثقافيًّا، يقتضي تعلُّم استعمال المخِّ استعمالاً أفضل. أما ترقُّب تعديله أو السعي إلى ذلك فهو عودة القهقرى إلى العضو–الأداة – وهو مَكْنَنَة للإنسان.

 

إذا كان بالوسع وضع التقدم الطبيعي للمخ موضع الشك، فإن تقدُّم علم الوراثة، في المقابل، بما هو أداة برمجة المخِّ، شأنه شأن تقدم كيمياء المخِّ الكهربائية، في سياق الغرور البروميثي[3] للروح العلمية الغربية، يمكِّنان من استهداف، لا شفاء مخٍّ مريض بحكمة أو درء المرض عنه، بل تحسين المخ لصنع إنسان متفوق. وهذا لمن قبيل المفارقة، لأنه يقال لنا إن العلم ليس له أن يطلق أحكام قيمة؛ فكيف إذًا يُميَّز بين ما هو تقدُّم وبين ما هو تراجُع؟ ألا كم يكون من الحكمة لزوم جانب الحذر، كما كان جان روستان[4] J. Rostand يطالب؟

إن الباحثين أنفسهم ليعجزون عن إخفاء قلقهم بإزاء القدرات الخارقة للبيولوجيا؛ وذلك بادٍ للعيان في مجال الأساليب الحديثة للتناسل ومصير الأجنَّة المجلَّدة. ولكن مَن ذا الذي سيقدِّم لهم التوصيات متى عجزت لجان أخلاقيات العلم عن ترسيخ يقين إجماعي يأخذ الإيديولوجيات المتناوئة بعين الاعتبار، مكتفيةً بالمطالبة بعدم التسرع للحيلولة دون صدم الرأي العام.

فلِمَ هذا النزوع إلى التأثير على مخِّ الإنسان السوي؟ ذلك مردُّه إلى أن الإنسان يُنكَر عليه سواؤه. فالإنسان، بما هو ثمرة هذا التطور البيولوجي الذي يسَّر له السيادة على الطبيعة، هو في الواقع، على حدِّ زعم بعضهم، رديء الصنعة، فاشل، مِسْخ، مجنون! تلك هي الأطروحة التي بسَّطها آرثر كوستلر[5] A. Kœstler في كتابيه المميَّزي العنوان جانوس Janus والشبح في الآلة The Ghost in the Machine، ذلك الصراع بين إنسان الفطرة والخبير التقني، الذي رمز إليه فوراستييه[6] Fourastié بالتضاد بين أتالا Atala وسيتروين Citroën. لقد وضعت الطفرات البيولوجية فوق دماغ الإنسان مخًّا بدائيًّا حيوانيًّا انفعاليًّا وغريزيًّا، وقشرًا جديدًا néocortex، أشبه ما يكون بكمبيوتر يسمح له بأن ينحبس في أفكاره ويتفكَّر ويطور العلوم والتقنيات. أما التساكُن فهو متعذر، على حدِّ زعمهم، من حيث إن المخ الحيواني يعطِّل الكمبيوتر الذي يجتهد في كبته أو يرضخ لإطلاقه مكبوتاته.

بذلك نكون بطبيعتنا مرضى عقليين، فصاميين! غير أن فتوح علم المخِّ السامحة بشفاء المرضى الذهنيين تحديدًا بمعالجات مخية ستتمكن – لحسن الحظ – من تخليصنا من ميراثنا الحيواني! ولقد باتت الوسائل عديدة، أفزعتْ يومذاك ألدوس هكسلي[7] A. Huxley في كتابه عالم جديد جَسور Brave new World وكتابه الأقل شهرة عودة إلى العالم الجديد الجَسور Brave New World Revisited، الأمر الذي لم يَحُلْ بينه – هو الذي فهم اليوغا حقَّ فهمه – وبين تنصيب نفسه، مع تِموثي ليري T. Leary، رسولاً للعقار – وهاهنا المفارقة: العقار؟ لم يعد الأمر اليوم يقتصر على المورفينيات والكوكائين والحشيش والحمض الليزرجي LSD أو الكحول والتبغ التقليديين، من حيث إن غالبية المتمدِّنين، حتى يستمروا ولا يُجَنُّوا في الحياة الحديثة، يلجؤون إلى المحرضات النفسية psychotropes: المنوِّمات والمثيرات والمهدئات إلخ.

ففي النتائج التي توصَّل إليها دلغادو Delgado (إشراط المخ وحرية الذهن) في تجاربه على التحريض المخِّي، بيَّن كيف يمكن، بالتحكم عن بُعد، إثارة هياج ثور بالتحريض الكهربائي، والتهدئة من روعه بعدئذٍ على النحو المباغت نفسه. هي أيضًا تشويهات الجراحة النفسية، التي دشَّنها مونيز[8] Moniz على مرضى ذهنيين، مستندًا إلى اختبارات فَلْتُن Fulton على الحيوان، بتلك الاستئصالات للفصوص التي ما فتئت تُجرى على أطفال عدوانيين يصيرون بعدها عاجزين عن الحب.

فهل من مسوِّغ لتطبيق كلِّ هذه المناهج المستهجنة على الإنسان، حتى في المعالجة الطبية النفسية؟ المخ البشري المطبَّع بالشرطة والسياسيين، تعميم التعذيب العلمي – ما تواضع الصحافيون على تسميته بـ"مصل الحقيقة" أو "غسيل المخ". لقد حال السخط بإزاء الطب النفسي السياسي السوفييتي دون فهم كم يبدو هذا الطب حسنًا وسويًّا في نظر سجين إيديولوجيا ما، بما يجعله يحكم بالمرض على الذين يعارضونها!

ليس في الأمر تنكُّر للأهمية العلاجية لفتوح علوم المخ، للتكهن بأن فتوح الوراثة والكيمياء العصبية ستقي من العَتَه الشيخي أو المنغولية. ولكن أليس من الأجدى أن تتحقق شروط حياة تحول دون الشيخوخة المبكرة أو دون ما يجعل حياة المنغوليين متعذرة، مع منظورات فظيعة من قتل الرحمة، قبل الولادة أو بعدها؟ إن دوبريه–رِتْزن Debray-Ritzen، وقد تبيَّن له أن للاضطرابات الطبية النفسية للطفل منشأ كيميائيًّا عصبيًّا لا يزال مجهولاً، خلص إلى العجز حاليًّا عن مساعدة هؤلاء الأطفال، ورمى بتِّلهايْم[9] Bettelheim بالدَّجل. إذ إن هذا الأخير، بوضعه هؤلاء الأطفال في جوٍّ عاطفي حسن، يعيد اجتماعيًّا إلى نصابه توازنَ كيميائهم العصبية التي هي عند الإنسان – بما هو كائن اجتماعي – "كيمياء اجتماعية".

وليس معروفًا بعدُ بالقدر الكافي أن المعالجة الطبية النفسية لا تقوم على المعالجات البيولوجية أو المعالجات النفسية وحسب، بل وعلى ذلك "الطريق الثالث" الأكثر إنسانية، الذي ينبغي إشراكُه مع المعالجات السابقة، والذي بالوسع تسميته مع سيفادون Sivadon بـ"التقويم البدني للوظائف الذهنية". فما من شيء أنفع من حُسْن فهم ماهية ما نحن بصدده: إن الذهن، بما هو كيمياء كهربائية مخية، جسماني إذن، بما يجعل أية معالجة تتخذ مظهرًا تربويًّا – مع تحفظ وحيد: ليس بالإمكان إطلاق تسمية "تقويم" على ما هو في واقع الأمر تربية، تتمثل في تعلُّم إجادة استعمال المخ، الأمر الذي لم يُقترَح قط علينا، نحن البالغين الكذبة.

 

الإنسان، بعكس ما يقول كوستلر، ليس رديء الصنعة، بل سيئ التنشئة، لأن التربية الغربيةَ النمطِ لم تألُ جهدًا في جعله "مخيًّا" بالمعنى الفكري (أو اليدوي المجرَّد من الإبداع)؛ أي، في نظر المختص بالفسيولوجيا العصبية، من يسيء استعمال مخِّه، ويخلُّ من جراء ذلك بتوازن نفسانيَّته وجسمه (اضطرابات نفسجسمية psychosomatiques) معصِّبًا نفسه. أليس لهذا السبب انتحر كوستلر العجوز المريض، جارًّا وراءه للأسف زوجه الأحدث سنًّا، مأخوذًا بإيديولوجيا رافضة للشيخوخة وللمرض، لم تسمح له، على الرغم من كلِّ شيء، بأن يشعر بشيء من فرح الحياة؟ إن هذا ليذكِّر بـ مُنترلان[10] Montherlant، عابد رجولة الشباب العدوانية الكاذبة، الهتلريين منهم أولاً ثم الأمريكيين، الذي انتحر هو الآخر في رفضه نقصانًا، ثمة فيه، بنظر الروحانيين – حتى الملحدين منهم –، العديد من مظاهر النموِّ الإيجابية – وإنْ لم يَرُقْ ذلك لأنصار قتل الرحمة euthanasie.

الإنسان سيئ التنشئة في الغرب الذي يود أن يكون نموذجًا يقتدي به العالم، أي هؤلاء "الآخرون" الهمج بالتعريف، وذلك لأنه نسي، أولاً، طبيعته البيولوجية النفسجسمية. فهو – مؤمنًا – يقابل بين جسد شبه حيواني وبين نفس شبه ملائكية؛ وهو – ملحدًا – يقابل بالمثل بين طبيعة مادية وبين ثقافة تخص الإنسان وحده. وحتى يحسن السلوك فإنه يُلقَّن إيديولوجيا أخلاقية اجتماعية ثقافية، لا تأخذ الجسد بالحسبان. فالماركسيون، الماديون من حيث الميتافيزياء، ينقفصون في إيديولوجيا ثقافوية culturaliste للهيمنة، لا تقيم احترامًا للمادة، وتلتقي في ذلك والمانوية والجانسينية وطُهرانية[11] أولئك المسيحيين المزيفين الذين ليس الجسد في نظرهم إلا إمكانية للإثم، متناسين تمامًا صوفية المادة، تلك التي ينطوي عليها الخَلْق والتجسُّد وقيامة الجسد الممجَّد وسرُّ الشكر الإلهي [القربان المقدس] Eucharistia.

إن الحكم المسبق الذي يُميتنا، ويدمِّر مخَّنا، ويجعل من مدنيَّتنا مدنية عُصابيين معصِّبة هو ذلك الفصل بين النفس والجسم الذي يجعل من الخُلُق مذهب آدابِ كبتٍ للجسد، لئن أحسن فرويد في التنديد به فقد اندفع في مجازفة لاأخلاقية، مُخِلَّة بالتوازن سواء بسواء، ترمي بنا في أحضان إطلاق لاإنساني لمكبوتات جسد أفسده انفصالُه عن نفس تائهة في سماء الملائكة.

التربية الآدابية هي، إذن، تعلُّم التحول عن الجسد، مع احتمال السير في الطريق المعاكس باسم حرية مزعومة قضتْ عليها الآداب. وإن ثمة جهل بما يحس به ضمنًا معلِّمو التربية، المدرِّسون في رياض الأطفال، من أن التربية – من حيث إن الإنسان متحرر من الغرائز الحيوانية الطيبة – هي تعلُّم الحياة الجماعية مع مدرِّسي الحياة، أي تعلُّم الحرية بالتحرر، بدلاً من جعل الحرية مطلَبًا بأن نفعل بحسب نزواتنا ما يحلو لنا، بما يجعلنا ننقاد لتلك التلقائية غير المهذبة التي هي، بحسب فرويد، العبودية المستلِبة للبواعث اللاواعية.

إن حسن السلوك من أجل التحرر لا يستند إلى إيديولوجيا تقوم على فلسفة أو على دين لا يحظى بموافقة الجميع، إنما على أخلاق طبيعية مشتركة هي "أخلاق مخِّية"، أو تربية عصبية. على أنه باستثناء بعض الاختصاصيين في التربية الجديدة، مَن مِن التربويين يهتم بالمخ؟ – الأمر الذي حدسه ذلك الرائد إيتار[12] Itard حدسًا عبقريًّا، مقوِّمًا "همجي الأفيرون" Sauvage de l’Aveyron، ذلك الطفل غير المتأنسِن من جراء عزلته في الغابات، الذي جعل منه الاختصاصيون آنذاك أبلهًا لقيطًا، بدلاً من أن يدركوا أن قصوره كان يعود إلى عدم اجتماعيَّته، أي عدم تثقُّفه باللغة.

إن الثقافات تُصنَّف تصنيفًا عرقيًّا بإضفاء التفوق كلِّه على الثقافة العلمية والتقنية للغرب الذي اكتسح العالم بتفوق التسليح والكذب والجشع. وأمام هذه المعاينة، يستنكر بعضهم هذه الثقافة بالتأسف على الماضي؛ لكن الحلَّ الحقيقي مرفوض، ألا وهو معاينة أن الإنسان يستطيع أن يخترع أية ثقافة ويُشبِع بها حاجته – مع العلم أنها قد تكون إدمانًا على مخدر سام، لأن ما كل ثقافة بثقافة صالحة.

ليست صالحةً إلا ثقافةُ تفتُّح للشخص، أي تحقُّق للفرد من أجله ومن أجل علاقاته مع الآخرين. فمَن ذا يرشدنا إلى الصالح والطالح إلا علم التوازن العصبي، علم حسن أداء المخ، الفسيولوجيا العصبية، بما هي علم معياري لا يربط الخير بإيديولوجيا قابلة للنقاش أو بأحكام مسبقة، بل بقوانين يكتشفها مدوَّنةً فينا – وبالأخص في برمجتنا الوراثية – تجعل من مخِّنا وسيلة لتفتحنا ولانعتاقنا، ولتعلُّم محبة أنفسنا محبة محدودة، فيما نحن نتعلَّم محبة الآخرين – ذلك البعد الأرفع للكائن الإنساني في حسن أداء مخِّه الذي تحتقره العقلانية الغربية بإرجاعه إلى عاطفية شهوية حيوانية وإلى عضو جنسي، بينما هو بُعد جوهري من أبعاد كياننا كلِّه، يُقلَّص إلى شهوانية تناسلية مجرَّدة عمليًّا من اجتماعيتها.

ينبغي إذن للمعرفة المعيارية الإنسانوية والأخلاقية للمخ أن تكون في الأساس من كلِّ تربية. بيد أنه مَن يعرف المخَّ اليوم غير أولئك الذين يستعدون لمزاولة مهن بيولوجية وطبية؟ والأمر في نظرهم موضوع دراسة ليس إلا؛ وهُم لا يخطر لهم في بال أبدًا أن الأمر يتعلق بمخِّهم من أجل حياة سعيدة وطيبة. إنهم يتعلمون التلاعب بالمخ بغرض علاجي يقابل بين المرضى والأصحاء. أما التبسيط العلمي حول المخ فليس إلا إشباعًا لفضول لا يدعونا إلى تربية عصبية شخصية.

هنالك إذًا مستقبل سويٌّ للمخ البشري، فيه خلاصه واستعماله السليم، وليس تطويعه لتيسير الحياة في عالم لا يُعاش فيه، إنما بالحري ضبطه بمراعاة قوانينه والتفتُّح بتفتُّحه، والمساهمة في نموِّه السليم في البداية، وإبطاء شيخوخته وجعله أكثر مقاومة، فيما يتم العمل بتبصُّر على بناء مجتمع قوامه احترام الحياة الإنسانية، وبالتالي، التوازن النفسي الاجتماعي باحترام القوانين المخِّية للمحبة المحرِّرة.

إن أساس هذه التربية العصبية إنما هو في التأييد العلمي لحدس الحِكَم النقلية ومسكونية œcuménisme تصوف المحبة. ولقد راهنت المسيحية على هذا الاتجاه، لكنها، لسوء الحظ، فصلت بين النفس والجسم بازدرائها الجسد. وبما أنها شدَّدت حصرًا على مظهر التعالي الإلهي transcendance، فقد وضعته، بكلِّ أسف، في غيب منقطع عن الواقع المادي، مبطِلة فيه كلَّ فاعلية غير عجائبية. نحن اليوم، إذن، بحاجة إلى الحوار مع الشرق الذي شدَّد أكثر على الحضور الجوهري للروح في العالم وفي الإنسان، أي على المظهر المحايث immanent لمتعالٍ لعلَّه مُدْرَك أقل في بُعده التام. فمن هذه الحكمة المشرقية، التي طالما ازدراها العلم قبل أن يشرع اليوم في اكتشاف صحَّتها (الفيزياء الحديثة بخاصة)، ننتظر أن يوضَع حدٌّ للتشويه التكنوقراطي للعلم وعودته إلى المعيار الأخلاقي الموضوعي. من المشرق أيضًا سيعود إلينا الفكرُ المسيحي الحق، ذلك الفكر النابت في غرب المشرق، الذي حافظ عليه، بعد زهَّاد سيناء، رهبان جبل آثوس[13]، في السكينية[14] hésychasme والفيلوكاليا[15] philocalie وصلاة يسوع – ذلك "اليوغا المسيحي"، حيث المادة والجسم يكشفان عن سرِّهما المكنون في الأيقونة.

لقد كان العلم الإوالي[16] يصر على أن يرى في التصوف تشويهه الطبي النفسي وحسب؛ بيد أن العلم العصبي للوعي وللحالات الأخرى للوعي altered states of consciousness، غير "المعدَّلة" قط، هو الذي يبرهن لنا اليوم على التوافق بين تصوف صحيح للصحوة الداخلية (ساتوري[17] satori) وبين التوازن المخِّي، بما هو حالة أكثر طبيعية من حالة مخِّنا المسكين، نحن المعصِّبين، العاجزين عن إعمال البصيرة الحقيقية في السلام الداخلي. ولقد عيش هذا التحول في المخ في اليابان عندما وافق علماء في الفسيولوجيا النفسية مدرَّبون على تقنيات الغرب على وصف حالة المخ إبان تأمل زِنْ[18] Zen، فلم يكتشفوا مرضًا نفسيًّا انسلابيًّا، بل حالة من الحضور الهادئ واستعمال أحسن وأجدى للمخ. والراهب اليسوعي جونستُن Johnston، المبشِّر في اليابان والمستخدِم تقنيات زِنْ، قد أولع بدراستها العلمية وجعل لكتابه موسيقى الصمت عنوانًا فرعيًّا هو "بحث علمي وتأمل"[19]، مبينًا فيه أن بوسع العلم أن يحدِّد لنا الطريقة الصالحة للتأمل وإحلال الصمت والاقتبال في السلام والسكينة، بدلاً من التعصيب في مجهود فكري إرادوي ولفظاني. هو نهل جديد من الذات، يفصح عن نفسه بتواضع أكبر، بوصفه صحة نفسجسمية للمخ، تيسِّر فهم وجهة نظر الكاردينال دانييلو Daniélou، الذي تحدث عن "الصلاة كمسألة سياسية"،[20] بوصفها وسيلة، لغير المؤمنين وللمؤمنين على حدٍّ سواء، لصنع سياسة صالحة قوامها تفتُّح الإنسان.

يزعم الغرب أنه شخصاني personnaliste؛ بيد أن المشرق كثيرًا ما يجد في هذا الزعم تسويغًا للأنانية، متمثلاً في عبادة أنيَّة ego مغرورة منقطعة عن الواقع وعن الآخرين، هي، من وجهة النظر العصبية، أنيَّة كاذبة مختلٌّ توازنُها ومُخِلَّة بالتوازن. ويخلص بعضهم من ذلك إلى رفض كلِّي للأنيَّة، ساعين إلى الفناء في الروح اللاشخصية للعالم، بما يشكل خطأ علميًّا، من حيث إن العالم في تطوُّره ُمشَخْصِن personnalisant. إنما المعيار المخِّي للأنيَّة هو مواحدتها بذلك التأليف للإحساسات الجسمانية لصورة الجسد أو المخطَّط الجسمي schéma corporel؛ هي أنا حقيقية، ليست مستعلية ولا متدنية، مساوية للأنيَّات الأُخَر التي تحتاج إليها لتكتمل بفضل الاختلافات فيما بينها.

إن الوظيفة الأساسية للمخ البشري هي الإرادة، والقصد من التربية العصبية هو تعلُّم الإرادة. لكن الاستغناء عنها اليوم، والوقوع في بلادة العبودية للشهوات، يعني أننا شوَّهنا إرادةً أمستْ مُخِلَّة بالتوازن، من حيث كونها وظيفة من وظائف النفس تقمع الجسد بكبته، بما هو والحرية على طرفي نقيض. أما الإرادة، في نظر الفسيولوجيا العصبية لـ"ضبط النفس السلوكي" behavioral self-control الحديث و"التغذية الحيوية الراجعة" biofeedback، فهي الحضور في اتجاه المسلك (التحكم بالنفس)، لا في بذل مجهود متشنِّج مذعور، بل في سكينة جلاء البصيرة والسلام الداخليين. فالإرادة، متعاليةً، ليست حقيقية إلا في المحايثة، بما هي وظيفة من وظائف الجسم الحي، وضبط مخِّي للنفس، بحسب تعبير معلِّم التربية العصبية القدير الدكتور فيتوز Vittoz، الذي كان يعلم "العصبيين" شفاء أنفسهم من خلال فنِّ حياة ينسجم مع قوانين المخ.

ما من شيء أكثر توضيحًا للإرادة الحق من الحوار بين الألماني هِرِّغِل[21] Herrigel ومعلِّمه في الزِنْ لدى ممارسة الرمي بالقوس. فكلما أراد الغربي المتشنج أن ينجح ازداد إخفاقًا. عندئذٍ نصح له المعلم بأن لا يريد، وبأن يشعر باسترخائه وبهدوء تنفسه، بما يجعل السهم يمضي إلى هدفه وحده. إن هذا الرفض لإرادوية volontarisme النجاح والرقم القياسي، الذي يبدو وكأنه رفض للإرادة، إنما هو في الواقع سرُّ الإرادة الحق في الضبط المخِّي، الذي قال فيتوز إن الطفل الصغير اللاهي في مهده هو نموذجه الأمثل.

تقضي الإرادة على المرء إذًا ألا يقيم في أفكاره وهمومه ومخاوفه، بل في جسمه ومخِّه، في الإحساس بمخطَّطه الجسمي، حاضرًا في العالم، لا أن يفنى في "الكل الأعظم"، بل أن يشغل الموقع الذي يتيحه له المخ في التطور المشخصِن لهذا "الكلِّ الأعظم". إن الفسيولوجيا العصبية تخبرنا، والحالة هذه،[22] أنه لا وجود في المخ لأفكار، بل لصور مخِّية حسية المنشأ، من حيث إن المخ لا يفكر إلا تخيُّلاً؛ وهو خيال ينبغي عدم التخلص منه بوصفه "نشاطًا عشوائيًّا" folle du logis، بل التحكم فيه لجعله "نشاطًا منسَّقًا"، إذا جاز التعبير؛ الأمر الذي اقترحه كُويه Coué في تمارينه التي أخطأ من سخر منها، بينما نمضي في الإخلال بتوازننا بممارستها مقلوبة في خدمة الكَرَب، لا في خدمة السلام.

إن الحضور لا يتم إلا بضبط الانتباه وبتعلُّم عدم التعلق بالفكرة الثابتة. إنما، هاهنا أيضًا، عبثًا نحاول أن نحقق اليقظة التي هي انتباه بمجهود متوتِّر. تبيِّن لنا الفسيولوجيا العصبية للانتباه، الذي تنهض به مراكز قاعدة المخ، أن الانتباه لا يكون إلا في السكينة والراحة والسلام، وأن الانتباه، بعكس المجهود المتشنج، يتطلب، بوصفه أساس الإرادة، الاسترخاء، ويتم التوصل إليه برياضات الاسترخاء، من نحو الصوفرولوجيا النوامية[23] hypnosophrologie واليوغا والزِنْ، التي كانت تبدو للغربي رفضًا لليقظة، بينما هي في الواقع السبيل إليها بما هي قد أصبح أساس كلِّ تربية عصبية.

لا يقل عن مثال الرمي بالقوس توضيحًا مثالُ طريقة التوليد الوقائية النفسية بلا ألم (التي تعلَّمها الدكتور لاماز Lamaze من البافلوفيين الروس) على رفض وعدم تفهم الأطباء الذين لا يزالون حتى اليوم يفضلون عليها التخدير النخاعي الشوكي. إن نساء من الشعب (مستوصف المعادن) هن اللواتي علَّمهن لاماز الفسيولوجيا العصبية للتطويعات الصالحة وللاستعمال الحسن للمخ، بحيث أحلَّ معرفة الجسم وضبطه محلَّ الخوف، ميسِّرًا بذلك القضاء على الألم بنشاط يقظ وفعَّال، الأمر الذي لم يُجْدِ في التوليد وحسب، بل وفي التبصُّر لضبط النَّفْس في الحياة بأسرها، إِنْ للمرأة أو للرجل، وبخاصة في السيطرة على آفة ركوب السيارة، كما في السيطرة على العدوانية وفي أنْسَنَة humanisation الجنس.

ولئن قيل إن الموسيقى تلطِّف من الطبائع، فإنه لا يُنظَر إليها إلا على صعيد جمالي بعيد عن الواقع، بينما تبيِّن لنا الفسيولوجيا العصبية أن التناغم الفني يضع المخ والجسم برمَّته في ارتياح متناغم يعيد التربية لصالح الجلاء والانضباط. هي فعالية العلاج بالموسيقى في مقابل التأثير المُخِلِّ بالتوازن للضوضاء؛ هي فعالية الغناء الواعي، المتمثلة في علم نفس الصوت psychophonie الذي درسه م.ل. أوشيه M.L. Aucher.

إن خلاص المخ البشري ومستقبله هما في هذا التوجُّه. فلو كان لمدرِّس التربية البدنية أن يفهم مع لوبولك Le Boulch مهنته، لأصبحت "التربية بالحركة" مهذِّبة لليقظة وللانضباط اللاإرادوي الذي ينبغي أن يتخلَّل حياة المرء كلَّها. بيد أن جميع المدرِّسين معنيون بهذا.

ومع البلغاري لوزانوف Lozanoff أصبحت "التربية بالإيحاء" suggestopédie وسيلة لتعلُّم لغة أجنبية بسرعة تعلُّمًا أفضل في جوٍّ من الارتياح، بالاستماع إليها، بدلاً من الخوف من الإخفاق في ذلك. ففي مدرسته أضحى اختصاصيون من نحو ج. راكل[24] G. Racle أو لوريد[25] Lerède أساتذة للتربية العصبية. أما ميشلين فلاك M. Flack، مدرِّسة الإنكليزية التي تطبِّق اليوغا في المدرسة الثانوية، فقد حقَّقت نجاحات لا يستهان بها.[26] وفي جهاده ضد الكرب المفضي إلى الانتحار، الذي يشجِّعه بعض الأشخاص غير الواعين، يعيد م. كارايون[27] M. Carayon مرضاه إلى الواقع والسلام بفضل تمارين فيتوز.

غلاف كتاب تلار دُه شاردان كيف أؤمن

إن لفي وسع البيولوجيا التي نخشاها محقِّين أن تصبح، في بعدها التام والحقيقي، مصدرًا للأمل. كذا ينبغي فهم رسالة الجهاد في سبيل الأمل التي نادى بها الباليونتولوجي تِلار Teilhard، واضعين جهودنا المترعة بالرجاء في خدمة تقدُّم بشريٍّ هو القدر السوي للعالم الذي نحن مؤتمَنون عليه. وإننا في هذا العام [1986] لنحتفل بالذكرى المئوية لولادة راهب يسوعي، مربٍّ عصبي آخر، هو الأب جوس Jousse المختص هو الآخر بالجسم والمخ بـ"أنثروبولوجيا الإيماء" Anthropologie du geste و"أكل الكلام"، تلميذ جدته الفلاحة الأمية من مقاطعة سارت، الذي كشف لنا عن دور التوقيع الإيمائي واللغوي في الاستذكار قبل الكتابة.

لقد أخطأ الغرب، إذ شدَّد على اللغة الداخلية بوصفها وسيلة التفكير البشرية، في جعله اللغة لفظانية verbalisme إيديولوجية منقطعة عن الجسم، متناسيًا الطبيعة المحسوسة للإيماءة اللفظية. ولما عُلِم أن المراكز المخِّية للنطق تقع في المخ الأيسر للأيمن وحسب – وهي خاصية بشرية – رُفِعَ من شأن المخ الأيسر المفكر والعقلاني، الأمر الذي سمح بالمقابلة بين المخ البدائي الشهوي والحسي الحيواني وبين المخ البشري، على غرار ما فعل كوستلر. لقد كان من فادح الخطأ تناسي المخ الأبكم، ألا وهو نصف الكرة الأيمن لليد اليسرى للأيمن. أما الثورة الكبرى، العظيمة الأهمية من وجهة النظر التربوية العصبية، بما هي خلاص البشرية، فهي ردُّ الاعتبار إلى المخ الأيمن الذي سمحت به في البدء أبحاث سْبِرِّي Sperry، الذي عزل المخ الأيمن بقطع الجسم الثفني corps calleux الواصل بين نصفي الكرة المخِّية. فلقد تبيَّن عندئذٍ أن ما كان مستخَفًّا به، بوصفه إرثًا حيوانيًّا، قد احتل المنزلة الإنسانية في المخ الأيمن، بما هو مخ ذو مستوى من الوعي غير منعكس، حيواني النمط، مخٌّ حسَّاس ووجداني، مسؤول عن موسيقى الصوت والغناء، يحدِّد موضعنا في المكان والزمان، مخ الحدس والتصوف. إن المخ الأيسر لا يحسن العمل ما لم يتصل بالمخ الأيمن كي يعبِّر تعبيرًا أفضل عما يستشعره هذا الأخير، بدلاً من أن يحبس نفسه في إيديولوجيات غير واقعية. وإن الدارَّات العلوية الأمامجبهية préfrontaux التي يختص بها الإنسان تيسِّر، بفضل الجسم الثفني، التنسيق بين نصفي الكرة المخية. ألا إن التفوق المخِّي الإنساني هو القلب، كما يعتقد الحدس الأنثوي الصادق؛ لكنه قلب واعٍ، وليس عاطفية عمياء، من حيث إنه يشتمل على نظرة الصواب raison الخاصة بالمخ الأيسر الفاقد، بفضل المخ الأيمن، جفافه اللاإنساني.

كذا فإن التربية العصبية تُفضي إلى تصوف المحبة، من حيث هي سرُّ العالم؛ السرُّ الذي به يعاود هذا العلم الجديد، من وجهة نظره، اكتشاف الروحانية بوصفها من خواص الجسم. أفهل ينبغي – والحالة هذه – أن نخلص مع الماديين إلى أن كلَّ شيء لذلك يتوقف ساعة الموت؟ لا شيء من هذا، لأنه إذا كانت للمخ المادي قدراتٌ تتخطَّى المادة فنحن في حاجة إلى تفسيره بفلسفة عصبية نقع عليها في الفلسفة التي بسطها أساتذة الروحانيات اللاإثنينية لـ"النفس صورة الجسم"، من نحو أرسطو وتلامذته ابن رشد وموسى بن ميمون أو توما الأكويني؛ فلسفة معلومات هي من التكيُّف المسبق مع علم المعلومات الحديث بما يجعلها توحيدًا بين مادية التعضِّي وروحانية المعلومات: الإنتروبيا السالبة، بما هي المظهر الترموديناميِّ للمحبة.[28]

*** *** ***

ترجمة: ديمتري أفييرينوس

تنضيد: نبيل سلامة


[1] أندريه لوروا غوران André Leroi-Gourhan (1911-1986) إثنولوجي وعالم بما قبل التاريخ فرنسي، سمحت له أبحاثه في الفن ما قبل التاريخي وفن الشعوب التي لم تعرف الكتابة، مترافقةً، في أثناء التنقيبات الآثارية، بملاحظة العُدَد المخلفة في المواقع، بمقاربة جديدة للعقلية ما قبل التاريخية. من مؤلَّفاته الهامة: ديانات ما قبل التاريخLes religions de la préhistoire (1964) والإيماءة والكلام Le Geste et la Parole (1964-65). (م)

[2] يقول تيار دو شاردان: "[...] وعلى نحو أعم وأعمق نشاهد أن التجدُّدات التي تيسَّرت بكلِّ توالد تنجز شيئًا ما أكثر من مجرد تعويض. فهي ينضاف بعضُها إلى بعض، بحيث يزداد مجموعُها باتجاه محدَّد، فيشدَّد على الترتيبات وتتكيف الأعضاء أو تتطابق. فهاهنا تنوُّع وهناك تخصص متناميين لعناصر تشكل تتابعًا نَسَبيًّا واحدًا – وبعبارة أخرى، ظهور السلالة بوصفها وحدة طبيعية متمايزة عن الفرد. وتطلق البيولوجيا اسم النشوء المستقيم Orthogénèse على قانون التعقيد هذا الذي تنضج فيه السيرورة عينها التي نشأت عنها الخلايا الأولى اعتبارًا من الجزيئات الصغيرة، والجزيئات الكبيرة من بعدُ.

"والنشوء المستقيم هو الشكل الدينامي وحده التام للوراثة. فأية حقيقة وأية أمداء كونية يخفي هذا المصطلح؟ [] بفضل القدرة المضافية التي تميِّزها تجد الهيولى الحية نفسها (على نقيض مادة الفيزيائيين) "مثقلة" بالتعقيد وعدم الاستقرار. فهي تهوي، أو بالأحرى تتصاعد، نحو أشكال أقل فأقل احتمالاً.

"بدون النشوء المستقيم ما كان ليكون ثمة إلا انبساط؛ أما معه فثمة تصاعد ما للحياة قطعًا." (ظاهرة الإنسان، ص 98 و99)

وفي حاشية ص 98 يضيف تلار قائلاً في مصطلح النشوء المستقيم: "[] هذه الكلمة جوهرية، ولا بديل عنها للإشارة إلى والتأكيد على الخاصية الظاهرة التي تتصف بها المادة الحية لتشكيل منظومة تتتابع فيها العناصر تجريبيًّا بحسب قيم متنامية دومًا من التعقيد المركزي." للمزيد من التعمق في مفهوم "النشوء المستقيم"، فليراجع الفصل الثاني ("توسع الحياة"، ص 93-133) من كتاب ظاهرة الإنسان لتلار دُه شاردان، بترجمة ندره اليازجي، دمشق 1971. (م)

[3] الموقف البروميثي (نسبة إلى البطل الأسطوري الإغريقي بروميثيوس) حيال الحياة والوجود هو الموقف الذي يسعى فيه الإنسان إلى اقتناص المعرفة من الطبيعة غلابًا واغتصابًا، وتنصيب نفسه بهذه المعرفة على عرشها إلهًا، مسخِّرًا قواها لمآربه الأنانية وحدها، متناسيًا أنه جزء من كل، وأنه يستحيل عليه أن يكون كلاً إلا بالتناغم مع الكل. (م)

[4] جان رُستان Jean Rostand (1894-1977) بيولوجي فرنسي كبير وعضو الأكاديمية الفرنسية، أجرى أبحاثًا هامة على النشوء العذري Parthénogénèse التجريبي وألَّف عددًا من الكتب حول مقام البيولوجيا من الثقافة الإنسانوية التي أخذ بها. (م)

[5] آرثر كوستلر Arthur Kœstler (1905-1983) كاتب مجري يهودي، ألف بالإنكليزية وحصل على الجنسية البريطانية. تناول في روايات المرحلة الأولى من حياته الفرد المناوئ للنظم السياسية والعلمية الحديثة، ليهتم في المرحلة الثانية منها بفلسفة العلوم من منظور النظرية العامة للمنظومات General Systems Theory. (م)

[6] جان فوراستييه Jean Fourastié (1907- ) رجل اقتصاد فرنسي ومحلِّل نفَّاذ البصيرة للمجتمع الصناعي المعاصر. (م)

[7] ألدوس هكسلي Aldous Huxley (1894-1963) وصَّاف وناقد ساخر للمجتمع الغربي المعاصر؛ نادى بالوحدة الجوهرية للأديان فيما اصطلح على تسميته بـ"الفلسفة الخالدة" Perennial Philosophy؛ كان من دعاة استعمال العقاقير المهلِّسة للمساعدة على تفتُّح الوعي. (م)

[8] إيغاس مونيز Egas Moniz (1874-1955) طبيب برتغالي، مؤسِّس تخطيط الأوعية الدموية المخِّية. نال جائزة نوبل على أعماله في المعالجة الجراحية باستئصال الفصوص المخِّية!

[9] برونو بتِّلهايم Bruno Bettelheim (1903- ) محلِّل نفسي أمريكي نمساوي الأصل، كرَّس نفسه لعلاج الذهانات psychosis الطفلية واهتم بقضايا الطفولة إجمالاً. من أهم مؤلفاته: الحصن الخاوي The Empty Fortress. (م)

[10] هنري ميُّون دو مُنترلان Henry Millon de Montherlant (1895-1972) كاتب فرنسي عضو الأكاديمية الفرنسية، ألَّف روايات في تمجيد القوة الجسدية والمعنوية (مصارعو الضواري Les Bestiaires)، أو تعبِّر عن رؤية أخلاقية متنوِّرة (الصبايا Les jeunes filles، العُزَّاب Les célibataires)؛ حاول في مسرحه العودة إلى صرامة المأساة الكلاسيكية. (م)

[11] الجانسينية عقيدة جانسينيوس Jansénius وتلامذته؛ بدأت كحركة دينية انتشرت بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولاسيما في فرنسا وإيطاليا؛ أظهرتْ، فيما يتعدى المهاترات اللاهوتية حول ماهية النعمة، معارضة لعسف الملَكية وأخلاق اليسوعيين الدنيوية. الطُّهرانية Puritanisme مذهب فئة منشقة عن الكنيسة الأنغليكانية، تتمسك بحرفية نصوص الكتاب المقدس؛ يشار بها كناية عن كلِّ متثبت على مبادئه، متشدِّد في تطبيقها حتى الغلو. (م)

[12] جان مارك غسبار إيتار Jean-Marc Gaspard Itard (1775-1838) طبيب ومربٍّ فرنسي شغل منصب مدير معهد الصم والبكم في باريس؛ كان من أوائل المهتمين بتربية الأطفال المتخلفين ذهنيًّا. (م)

[13] Athos جبل في مقدونية (اليونان) يقع جنوب شبه الجزيرة الواقعة أقصى شرق خلقيذيكية. مركز رهبنة نسكية تتبع طريقة آباء البرية منذ القرن السابع وبؤرة السكينية Hésychasme. جمهورية اتحادية تابعة لقضاء بطريركية القسطنطينية، وواقعة تحت حماية اليونان السياسية. في أديرته مخطوطات قيِّمة للغاية وأعمالاً فنية. دخولها محرَّم على الإناث من كلِّ نوع! (م)

[14] كلمة مشتقة من كلمة hésychia اليونانية التي تعني "السكينة". تشير في المسيحية المشرقية إلى "صمت" و"سلام" الاتحاد بالله؛ وهي منهاج زهدي صوفي يُعتبَر "فن الفنون وعلم العلوم". وتتلخص طريقته في "إخلاء" الذهن من دفق الصور والأفكار و"إنزالها" في "القلب"، بما هو مركز قدرة الكائن الكلِّي حيث تقيم "الطاقة الإلهية"، لتحقيق الاتحاد المذكور. تعتمد تقنية ترداد اسم يسوع على إيقاع التنفس، ثم على إيقاع القلب، من حيث إن الجسد خُلِقَ ليكون "هيكل الروح القدس". يقابلها في التصوف الهندوسي الجابا يوغا jāpa-yoga وفي التصوف الإسلامي "الذِّكر". (م)

[15] كلمة يونانية مركَّبة تعني "محبة الجمال": جمال الألوهة وجمال الوجود. تنطبق، إجمالاً، على مجموعة مختارات للآباء المشرقيين تتناول الحياة الروحية والصلاة والاتحاد الصوفي بالألوهة. (م)

[16] المؤمن بالمذهب الآلي القائل بأن جميع العمليات الطبيعية (بما فيها الحياة نفسها) قابلة للتفسير بقوانين الفيزياء والكيمياء. (م)

[17] المصطلح المقابل في بوذية زِنْ اليابانية للإشراق أو الكشف الروحي؛ وهو الوعي الذي يتجاوز ثنائية العارف–المعروف أو الذات–الموضوع في وحدة وجودية كلِّية. (م)

[18] من المدارس البوذية الصوفية في اليابان. يُشتق اسمُها من كلمة تشآن Ch’an الصينية (دهيانا dhyāna بالسنسكريتية) التي تعني "التأمل"، وتتميز بجرأة وحيوية فريدتين، إذ تقترح إمكان القيام بقفزة مباشرة إلى الإشراق بتحدِّي المنطق الخطابي discursive reason وتحطيم طغيان الفكر والكلمات. (م)

[19] Musique du Silence, recherche scientifique et méditation (éd. du Cerf).

[20] « L’oraison problème politique ».

[21] أويغن هِرِّغل Eugen Herrigel معلِّم زِنْ ألماني درس الزِنْ على أحد كبار أساتذة الرمي في اليابان. للمزيد راجع كتابه: الزن وفن الرمي بالقوس Zen and the Art of Archery. (م)

[22] راجع مؤلَّفات جان بيير شانجو Jean-Pierre Changeux، حيث يبيِّن وجود، من قمة المخ حتى قاعدة المادة الرمادية (السنجابية)، أعمدة من العصبونات neurons حسنة التنظيم، وأن الاختلاف بين عدد الخلايا بين شمبنزي، على سبيل المثال، وإنسان لا يتأتى من اختلاف في بنية الخلايا بما هي كذلك، بل من كونها موجودة بأعداد أغزر لدى الإنسان. (م)

[23] الصوفرولوجيا sophrologie تقنية وضع أساسها الطبيب الإسباني كايثيدو Caycedo، محاولاً تجاوز محاذير تطبيق التنويم المغنطيسي لدى بعض الأشخاص. وتضم الصوفرولوجيا بين مفرداتها جانبًا من التنويم المغناطيسي، بالإضافة إلى جملة طرق للاسترخاء، بما يجعلها مصطلحًا عامًّا يُعنى بدرس الوعي وحالاته. جرى تطبيقها في طبِّ النساء والتوليد بلا ألم وفي تناذرات عدة، مثل دوار مونييه والبدانة والغلوكوما، وفي طب الأطفال، وبعض نواحي طبابة الفم والأسنان. (م)

[24] راجع: التربية التفاعلية G. Racle, L’éducation interactive (éd. Retz).

[25] راجع: La suggestopédie (coll. « Que sais-je? » PUF)، و قطعان الفجر Les troupeaux de l’aurore (éd. Delachaux et Niestlé)، حيث يقابل المؤلِّف بين تربية بالإيحاء سيئة تقود إلى الانسلاب وأخرى حسنة تقود إلى التحرِّر.

[26] راجع: أطفال ينجحون Micheline Flack, Des enfants qui réussissent.

[27] راجع: النجدة، انتحار لوفان M. Carayon, SOS : Suicide Levain.

[28] إنتروبيا entropie جملة ترمودينامية تزداد كلما حصل فيها اضطراب ينجم عنه ازدياد الفوضى. فالإنتروبيا مقياس لحالة فوضى على السلم الجزيئي أي المادي. ومن وجهة نظر فلسفة التطور عند تلار دُه شردان تكون المحبة ضرورية في بدء التكوين لكسر التجانس والانسجام في حالة اللاتمايز الأولى الناتجة عن تحبحُب الطاقة الكونية السابقة لحالة التمايز؛ لكنها، بظهور الوعي، تصبح عملية "لاإنتروبية"، تعاكس الفوضى وتُحِلُّ النظام والتناغم من أجل التطور، أي التفتُّح المتنامي للوعي. للاطِّلاع على مفهوم المحبة بوصفها خاصية من الخصائص النفسية الأربع التي تتصف بها الإلكترونات، راجع دراسة نبيل محسن "المادة والوعي"، المعرفة، آب 1991، ص 17.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود