french arabic

خواطر في البطولة

 

دارين أحمد

  إلى الأمامِ الأمام

حيثُ الميدالياتُ والمقابر

ومنصَّاتُ البطولةِ الملمَّعةُ بالدموع

والمربوطةُ إلى قرونِ الآلهةِ

بأنفاسِ الخائفين وغُصَّاتِ القتلى.

إلى الأمام، حيثُ المجد...

هيا... تقدموا، تقدَّموا، وتقدموا...

: الموتُ وقتُه ضيِّق

ولا يطيق الانتظار.

نزيه أبو عفش، "أنشودة حربية" (من ذاكرة العناصر)

 

لماذا تريد أن نهدم بأنفسنا

ما نحن صنعناه؟

نعم، تصرفاتهم بغيضة جدًّا

فلنتحلَّ بالصبر والتسامح!

يَرِدُ هذا المقطع في قصيدة التكوين البابلية ("الإينوما إيليش") على لسان تيامات[1]، في أثناء ردِّها على شريكها وزوجها أپسو[2] الذي كان يحرِّضها على إفناء الآلهة – أبنائهما – من جراء ما يسبِّبونه من إزعاج عبر ألعابهم وسلوكياتهم.

في هذه القصيدة بالذات، يَرِدُ ذكرُ البطل الأول (وفقًا لما هو مكتشَف حتى الآن)، الذي كان "ذو القامة الأكثر علوًّا" و"ضخمة هي أعضاؤه"، مردوك، والذي، بعد ولادته، يُسمَّى تسامحُ الأم تيامات "خَرَسًا" وينقلب موقفُها الهادئ الصبور إلى موقف عدواني، لتبدأ بإعداد العدة للحرب التي ستخرج منها – وفقًا لمصطلحات "البطولة" – مهزومةً وقد شُطِرَتْ شطرين بفضل مردوك، "البطل–الإله" ذي الخمسين اسمًا.

* * *

يقول مردوك لوالده أنشار في الملحمة إياها:

أريد الذهاب لتحقيق كلِّ ما ترغب فيه

أي ذَكَرٍ قام حتى الآن

بخوض القتال من أجلك؟

نحن ضمن لعبة متوارَثة، وفي حوزتنا أربعة آلاف عام تقريبًا من تاريخ البطولة–الذكورة، المكتوب عمومًا بأيدي الرجال. وأمامنا، على مختلف الأصعدة، بزوغُ وعي جديد يحض على اكتشاف ممكنات الجانب الآخر – الأنثوي – في هذا الموكب البشري الذي يسير نحو هاوية محققة في حال استمرار اتِّكائه على صروحه "الأكثر علوًّا ومجدًا"، الأكثر سيطرة وانتهاكًا لأبسط قوانين الطبيعة وأعمقها، وهو حقها في الحياة، لا في الموت – حقنا في الحياة، لا في الموت.

* * *

نحن ضمن لعبة متوارَثة، ولدينا أبطال كُثُر في ذاكرتنا المشتركة، وأبطال كُثُر في جيوشنا، وأبطال كُثُر على منابرنا السياسية، وأبطال كُثُر في اقتصاد ينزع إلى التمركز حول الأكثر قدرةً وتحديًا ودهاء.

لدينا ترسانات نووية تكفي لتدمير الكوكب عشرين مرة، ومُثُلٌ "أخلاقية" تكفي لحجب الإنسان ذاته.

لدينا رجل "مهمش–ضعيف" يحمل جثة طفلته باعتداد البطل، وامرأة "مهمشة–ضعيفة" تنتصب في صلابة البطل وتلقي خطبةً حماسيةً تمجِّد النصر وتلغي المتخاذلين.

لا، "لسنا في حاجة إلى بطل آخر" (تينا تيرنر).

شاخ البطل... وهو مَن يحتاج الآن إلى أيدٍ حنونة، متسامحة، تنظف جراحه وتزيل الدم المتخثر الحار العالق بجسده وتهيِّئ مكانًا مناسبًا للدفن.

* * *

في ثقافة البطولة، تتحول الحياة إلى هدف يجب بلوغه – وكأن الحياة ليست حاضرة هنا/الآن! وفيها يكون الصراع طريقًا أوحد ومقولة "أنا أو الآخر" مثلاً أعلى.

في ثقافة البطولة، لا مكان للحلول الوسطى: فالحلول الوسطى سمة من سمات الضعف الأنثوي، وهي تتناقض مع "المبدئية" ذائعة الصيت. كما لا مكان للتردد الذي هو سمة ثانية من سمات الضعف الأنثوي، ويتناقض مع الجسارة التي يحرص كل منتمٍ إلى ثقافة البطولة على تأكيدها – حتى على حساب حياته.

في هذه الثقافة، لا وجود للحياة، بل للهدف؛ لا وجود للإنسان، بل للفكرة.

* * *

أن يكون الإنسان أداة أفكاره (أو أفكار غيره)، لا أداة إنسانيته، يعني أن يقع في دوامة نفي الآخر: فالفكرة ميتة، والإنسان حي؛ ويعني أن يقع في دوامة نفي نفسه: فالفكرة خالدة والإنسان فانٍ.

* * *

في كتابها عاشق الشيطان، أشارت روبن مورغان إلى الحبَّة الأخيرة من عنقود البطل، الحبَّةِ القاتمةِ الحُمْرة، مُسكِرَةِ العقول بالخوف، الفاردةِ ظلَّها على أنواع أخرى من الانتصارات المرتجاة: الإرهابي. وتضيف:

نعم، القتل موجود، والخوف موجود، والأسى موجود. ولكن، نعم، إن الإرهابي هو تلفيق من خيالنا – وأكثر من ذلك، هو تلفيق من نقص خيالنا.

إن الإرهابي هو التجسيد المنطقي للسياسة البطريركية في عالم تقني.

لنتذكر الآن أنه مع طول "قامة" هذا الإرهابي تطول "قامة" أفراد أسرته – ولا يهم مَن ابتكر مَن؛ بل... أين ينفث هذا المصنع دخانه وأين يلقي بمخلَّفات "التبييض" الناصع جدًّا!

لنتذكر أننا ضد "الإرهاب"، لكننا مع "البطولة"، وأن هذا التقسيم قائم على انتمائنا المفترَض إلى قالب فكريٍّ ما.

ولنتذكر، أخيرًا، – من خلال تاريخنا البشري القصير، – أن بطل الأمس هو مستبدُّ الغد، وأن جلَّ ما نفعله في انتمائنا إلى ثقافة البطولة هو نَحْرُ أنفسنا والتباكي عليها.

* * *

للأحلام ثمن باهظ. وللأوهام ثمنها أيضًا. الفرق بين الاثنتين أن الأولى دم ووليد، أما الثانية فدم وقتلى. الأولى اكتفاء والثانية اعتداء.

* * *

ليكن كعبك، يا أخيل، تاجُ رأسك.

ليسَ ممَّا عَلِقَ بها من بقايا بارودٍ يابس

ينظِّفُ الرماةُ سبطاناتِ بنادقهم...

بل ممَّا يتوهمون

أنه غُصَّاتُ موتى غابرين

ما تزالُ آلامُهم

تعبقُ

في ذاكرةِ المعادن.

نزيه أبو عفش، "عار الطين" (من ذاكرة العناصر)

*** *** ***


[1] العنصر الأول للمياه البدئية، عنصر الأمومة.

[2] العنصر الثاني للمياه البدئية، عنصر الذكورة.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود