خصائص الوعي الإيكولوجي*

 

معين رومية

 

تتصف كل أنساق الوعي بالطابع التاريخي، كما يقول الفيلسوف هنريك سكوليموفسكي Henryk Skolimowski، فهي تنبثق عند لحظة معينة وتختفي أو تتعدل بعمق عند لحظة أخرى. فثمة تحدد متبادل بين الوعي والتاريخ. ونحن في زماننا شهود على اخضرار الوعي الذي يبزغ تدريجيًا[1].

إن اخضرار العلوم* علامة على استهلال علاقة معرفية جديدة بالطبيعة، كما أن اخضرار الدراسات الإنسانية علامة على إدراك جديد للجوانب المتعددة للإنسان في علاقته بالطبيعة. وهذان الاخضراران خطوتان في اتجاه اخضرار النظرة إلى العالم بما هي حقيقة تتفتح على ضفاف الزمان وتحتاج إلى الوعي من أجل روائها واكتمالها. ولما كان الوعي الإيكولوجي يمثل، برأينا، مرحلة جديدة في التاريخ فيجب وضعه في سياق يربطه بما قبله.

ينظر سكوليموفسكي إلى الوعي الإيكولوجي بما هو

تأليف. فقد كان الوعي الديني هو القضية وكان الوعي التقاني هو القضية الناقضة، أما الوعي الإيكولوجي فهو التأليف بينهما، بما هو يشير إلى العودة إلى الروحاني بدون الانصياع للسنن والعقائد الدينية، وبما هو يسعى إلى التحسين الاجتماعي والعدالة للجميع من غير تعبد للسلطان المادي وبدون الاحتفال بالطبيعة العدوانية للشخص البشري[2].

ويوضح سكوليموفسكي كيف تناقض الوعي التقاني مع الوعي الديني. ففي العصور الوسطى كان البشر يقودهم الوعي الديني مقترنًا بالكوسمولوجيا المسيحية وواقعًا تحت سلطانها. وكان الناس يسيِّرون شؤونهم والله حاضر في تفاصيل حياتهم سواء عبر إيمانهم به أو عبر حضور خلفائه بينهم، أي رجال الدين. فكان حقل وعي الإنسان في العصر الوسيط تشكله وتتخلله صور الله والمسؤولية أمامه والرغبة في الخلاص. وقد بدأ هذا الوعي الديني يتقوض مع بزوغ كوسمولوجيا جديدة واكتسابها الزخم اعتبارًا من القرن السابع عشر. ثم بدأ يتشكل وعي علماني/دنيوي كخطوة أولى باتجاه وعي لاديني. وبدأت الذاتية تبرز من خلال توكيد الأنا إلى أن جاءت الخطوة الحاسمة نحو انبثاق الوعي التقاني من تكميم الكوزموس وحلول النظرة الميكانيكية إلى العالم التي نُظر بوساطتها إلى الكون باعتباره آلة أشبه بالساعة. وقد تطلبت هذه الكوسمولوجيا الجديدة وجوب كون جميع الظواهر مادية أو قابلة للإرجاع إلى ظواهر مادية والتعبير عنها بقوانين كمية. وبذلك أصبح المادي والكمي في مقام التقديس مما نجم عنه عبادة المعرفة الموضوعية والتكميم المتزايد لكل الظواهر وتضييق بؤرة رؤيتنا وبحثنا واستبعاد المقدس[3].

فما هي سمات الوعي الإيكولوجي بما هو تأليف جديد؟ إننا نرى الخاصية الأساسية للوعي الإيكولوجي، أي الخاصية التي تنبع منها أي سمات أو خصائص أخرى، تتمثل في كون الوعي الإيكولوجي وعي علائقي. وهو كذلك لأنه يدرك الطابع الأنطولوجي للعلاقات، هذا أولاً، وثانيًا، لأنه يدرك أن وجودنا–في–العالم يتحدد أنطولوجيًا بواسطة جملة العلاقات التي تربطنا بذواتنا وبالكون والطبيعة والحياة. كما أنه يدرك أن النظرة الإيكولوجية إلى العالم هي، على صعيد المعرفة الفلسفية، نظرة علائقية تتفتح في سياق وجودنا–في–العالم، وفي أفق التاريخ. فما هي المواقف التي تنجم عن الخاصية العلائقية للوعي الإيكولوجي؟

يذهب سكوليموفسكي إلى أنه ثمة ستة خصائص للوعي الإيكولوجي تقابل الوعي التقاني ويضعها كما يلي:

الوعي الايكولوجي

الوعي التقاني

كلاني holistic

ذراني

نوعي

كمي

روحاني

علماني

إجلالي

موضوعي

تطوري

آلاتي

تشاركي participatory

انسلابي

وتتآزر خصائص الوعي الايكولوجي عند سكوليموفسكي بحيث تحيل إلى بعضها بعضًا لذلك فهو يضعها ضمن مخطط[4]:

فهل تتفق هذه الخصائص مع الخاصية العلائقية للوعي الإيكولوجي؟

لنرى كي تترابط هذه الخصائص، والفحوى الكامن في كلٍّ منها.

لقد حفز الوعي التقاني سيرورة انسلابية/اغترابية كنتيجة مباشرة لسياق من الذرذرة والتكميم، فعندما ننظر إلى الأشياء ونجزِّئها إلى ذرات منفصلة يغيب الإحساس بالكلانية ليحل محله إحساس بالعزلة والانفصال والانقطاع – أي اغتراب نفسي كنتيجة للاغتراب المفهومي[5].

على الصعيد الإيكولوجي، إن الاغتراب المفهومي كان نتيجة، ليس للانفصال عن الطبيعة، بل عن الوهم بإمكانية الانفصال، ولقد بينا في الفصل السابق أن الاغتراب بين الإنسان والطبيعة هو من قبيل الخلل في العلاقات، وبالتالي فإن الإحساس بالعزلة، أو الاغتراب النفسي الذي يتحدث عنه سكوليموفسكي ناجم عن كون الوعي التقاني والمجتمع التقاني لا يتيحان الإمكانية لإقامة علاقة سليمة على صعيد المجتمع، وحميمة على صعيد الأفراد، مع البيئة الطبيعية، لأن ما يسيطر في المجتمع التقاني هو الانشغال والانهماك بالبيئة المصطنعة ونمط الإحالة السائد فيها، بينما ينحسر الاهتمام بالبيئة الطبيعية ويغيب نمط الإحالة الذي تتسم به. ولذلك قلنا بالانسجام والتوافق بين الإنسان والطبيعة.

إن نشدان الانسجام والسعي في طلبه هو بحث عن معنى جديد نثري به حياتنا، وإن "نشدان المعنى مطلب روحي بلا ريب"[6]. وهذا هو مضمون الروحانية التي يتسم بها الوعي الإيكولوجي. نحن كائنات منتجة للمعنى بالتساوق مع كوننا حيوانات صانعة للأدوات، وإن الكلانية تضعنا على درب نرى فيه المعنى من خلال كلية وجودنا وليس من خلال نثراته.

وتضعنا كلانية وجودنا في السياق التطوري باعتبارنا نشارك الطبيعة في خاصية الخلق الذاتي. إن تعالينا الوجودي، أي قدرتنا على تجاوز ذاتنا باستمرار، ما هو إلاّ أسلوب الخلق الذاتي الخاص بنا، وبهذا الفحوى يكون الوعي الإيكولوجي تطوري. لكنه تطوري بمعنى آخر أيضًا!

إن الوعي الإيكولوجي تطوري لأنه يتبنى إدراكًا جديدًا لتطور الحياة يركز على أهمية التعاون والتكافل، وليس التنافس فقط، في سيرورة تطور الحياة. فلنوضح ذلك.

ترى النظرة الكلاسيكية للتطور (الداروينية والداروينية الجديدة) أنه في سياق التغير التطوري، عبر الطفرة والانتخاب الطبيعي والصراع من أجل البقاء، تتكيف الكائنات الحية تدريجيًا مع بيئتها إلى أن تصل إلى ما هو أنسب للبقاء والتكاثر. أي كأننا أمام كائن حي، في جهة، يتكيف مع البيئة في الجهة المقابلة. لكنْ، وفق الإدراك الجديد لا يمكن حد التطور بهذا المفهوم الضيق للتكيف لأن البيئة ذاتها تتشكل بواسطة منظومات الأحياء وقدرتها على الإبداع (أي الخلق الذاتي)، بما يعني أن الكائن الحي والبيئة يشكلان سيرورة تطورية واحدة. ثمة إذن، تطور مشترك co-evolution عبر التفاعل الحاذق بين التنافس والتعاون، وبين الإبداع والتكيف المتبادل[7].

يمكن أن نفهم هذا التفاعل في ضوء الإيكولوجيا بأنه سيرورة لإنشاء شبكات من العلاقات ضمن المنظومات الإيكولوجية يعبر عنها مفهوم التطور عبر التكافل evolution through symbiosis في إطار نظرية النشوء التكافلي symbiogenesis التي ترى أن الحياة لم تسد الكرة الأرضية عبر الصراع بل من خلال التشبيك networking[8].

يذهب سكوليموفسكي إلى أن الوضع الطبيعي للشخص البشري هو الافتتان بالعالم (الطبيعة، الكون) وأن الإجلال هو إقرار بهذا الافتتان[9]. فما الذي في الطبيعة والكون كي نجلَّه؟ إنه الإبداع المتمثل في سيرورة الخلق الذاتي والتي رسمت في إحدى مراحلها لوحة الحياة. ينبع الإجلال في وعينا عن الحذق والتناغم والتناسق البديع الذي نراه في اللوحة، والذي يذكرنا بأصولنا الكونية وبأننا أعضاء في مجتمع الحياة، وبالتالي فنحن مشاركون في تطوره وتطور الكون ولسنا مجرد متفرجين. فما هو فحوى السمة التشاركية؟

يذهب سكوليموفسكي إلى أن الوعي الإيكولوجي بما هو تشاركي يعني الإقرار بأن العقل تشاركي يسهم في سيرورة الإبداع الكوني. ويقتبس عن العالم الأستروفيزيائي جون أرشيبالد ويلر John Archibald Wheeler قوله:

الكون غير موجود "هناك" بمعزل عنا. فنحن منخرطون لا محالة في إحداث ما يقع. نحن لسنا مراقبين وحسب، نحن مشاركون. وإن هذا الكون كون تشاركي بوجه عجيب من الوجوه[10].

ويفسر سكوليموفسكي طبيعة المشاركة بين العقل والكون بأنها تعني حضور العقل في جميع نواتج معرفتنا وفي جميع صورنا عن العالم/الكون. إن جميع ما نستقبله في وعنا يترشح من خلال العقل ولو كنا ممتلكين بنية عقلية مغايرة فإن صورنا عن العالم/الكون ووعينا به سوف يكونان مختلفين. وبالتالي فنحن لا نصف الكوسموس كما هو، إنما نشارك في الوصف من خلال الملكات والحساسيات التي بحوزتنا، أي من خلال العقل الذي يعالج ويقولب ويشكل المعطيات عديمة الشكل التي تصله، وبالتالي يبدع صور الكون[11].

من الواضح أن هذه المشاركة هي من طبيعة معرفية، بمعنى أننا لا نشارك في تكوين الكون، بل في تكوين صور عنه وهي تضاف إلى المشاركة مع الكون في خاصية الخلق الذاتي أي الإبداع.

إن النوعية، بما هي سمة للوعي الإيكولوجي، تنبع عن الكلانية بما هي نقيض الاختزالية في منزعها التكميمي. فعندما نختزل الكل إلى أجزاء، أي نقسمه ونحلله كميًا فحسب، نخسر الوعي بالخاصية النوعية (الكيف) للظواهر بما هي خاصية مميزة لها إلى جانب خاصية الكم، أو على الأقل سوف نفهم الكيف أو النوع بأنه جمع للكميات وليس خاصية مستقلة للكل.

*** *** ***


 

horizontal rule

* من كتاب: من البيئة إلى الفلسفة، تأليف معين رومية، يصدر قريبًا عن دار معابر للنشر، دمشق.

[1] هنريك سكوليموفسكي، الفلسفة البيئية، تعريب: ديمتري أفييرينوس، دار الأبجدية، دمشق، 1992، ص 150.

* راجع مقال اخضرار العلوم في معابر على الرابط التالي: http://www.maaber.org/issue_august11/editorial.htm

[2] سكوليموفسكي، مرجع سابق، ص 149.

[3] سكوليموفسكي، مرجع سابق، ص 144-45.

[4] سكوليموفسكي، مرجع سابق، ص 151.

[5] سكوليموفسكي، مرجع سابق، ص 146.

[6] المرجع نفسه، ص 152.

[7] Capra, The Web Of Life, op. cit., pp.222, 227.

[8] Ibid., p. 232.

[9] سكوليموفسكي، مرجع سابق، ص 152.

[10] سكوليموفسكي، مرجع سابق، ص 161.

[11] المرجع نفسه، ص 162.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود