عبده وازن في لعبة التماهي مع الأب المفقود

مايا الحاج

 

في روايته الصادرة حديثًا بعنوان غرفة أبي (منشورات ضفاف، بيروت. ومنشورات الاختلاف، الجزائر)، يقدم الشاعر والكاتب عبده وازن تجربة روائية جديدة، تقترب من عمله الروائي الأول قلب مفتوح (2009) وتختلف عنه في الوقت عينه. في كتابه السابق، يسترجع الكاتب/الراوي ماضيه وذكرياته من على سرير المرض في غرفة ضيِّقة في المستشفى. وفي روايته الجديدة، تبدأ رحلة الراوي في البحث عن أبيه، وبالتالي عن ذاته، انطلاقًا من المساحة المُغلقة التي تُشكلها «غرفة أبيه».

الفضاء المكاني في العملين هو نفسه تقريبًا. مكان داخلي ضيِّق ومُقفل، لكنه يتسع شيئًا فشيئًا بالحلم والتأمُّل والتخيُّل والتذكُّر، فتتولَّد منه فضاءات واسعة وكثيرة، ترتبط كلُّها بالشخصية الروائية التي يُمثِّلها الكاتب نفسه.

ومع أنَّ عبده وازن اختار أن ينشر قلب مفتوح من غير أن يُصنِّف جنسها الأدبي (وهي رواية بامتياز)، اختار أن يضع عمله الجديد غرفة أبي تحت مُسمَّى "رواية سير-ذاتية"، علمًا أنَّ العملين يستجيبان شروط "الرواية" بمفهومها الحديث طبعًا، والناقد المنفتح على النقد الغربي لا يُمكن أن يتعاطى مع العملين إلا باعتبارهما "رواية". لماذا؟ لأننا إن سألنا اليوم عن تعريف محدَّد لمفهوم الرواية، لوجدنا أنَّ من الصعب أن نكتفي بالتعريف الكلاسيكي للكلمة. فالانقلاب الذي عرفته الرواية في العالم على القوالب التقليدية منذ النصف الثاني من القرن العشرين، أدَّى إلى سرعة تطورها وتعدُّد أنواعها واختلاف أساليبها وتدرُّج مستوياتها. هكذا، أزالت الرواية حدودًا كثيرة كانت تفصلها عن بقية الأنواع السردية، وصارت تستوعب الكثير من عناصر الفنون.

في غرفة أبي، يجد القارئ نفسه أمام نصٍّ يجمع مختلف أنواع الكتابة وفنون النثر وتقنيات الرواية من خلال سردٍ يُزاوج بين السيرة والتخييل. إنها رواية ذات بُعد تجريبي ينطلق فيها الكاتب من تجربته الخاصة، كاسرًا أُسس السيرة الذاتية القائمة على السرد الكرونولوجي، أو المتسلسل زمنيًا، مُستخدمًا لعبة زمنية تقوم على تقطيع المشاهد والفلاش باك... ولعبة سردية موازية ترتكز على فنِّ الرسالة والمونولوغ والسرد داخل السرد... من هنا يُمكن القول إنَّ الاكتفاء بمُسمَّى الرواية يصحُّ في رواية ذاتية من هذا النوع.

اليتم "الوجودي"

يمثِّل "الأب"، برغم غيابه، الشخصية الرئيسة في هذه الرواية، وهو يحضر في عنوانها أيضًا. وليس عبثًا أن يختار الكاتب غرفة أبي عنوانًا لروايته، فالغرفة كما هو معروف تحمل في معناها الكثير من الترميز أو التضمين. فهي تحمل أولاً معنى الوطن والأمان، ويستشهد الكاتب في هذا السياق بمقولة جميلة للشاعر الألماني نوفاليس: "لا يشعر الفتى بالأمان إلا في غرفة أبيه". والغرفة تعني أيضًا الداخل أو الذات، وهذا المعنى يتوضَّح صفحة تلو أخرى، من خلال سعي الكاتب (الابن) إلى معرفة المزيد عن والده، وبالتالي تعميق معرفته بذاته.

لكن شخصية البطل-الغائب، الأب، لا تشبه في هذه الرواية شخصية "الأب غوريو" في طيبته وحبِّه لأولاده في رائعة بلزاك الشهيرة، ولا هو يُشبه والد ادريس الشراييبي في الماضي البسيط المُرعب في قسوته وتسلطه البسيط. بل إنه لا يُشبه أيَّ أب آخر، لأنه في الأصل ليس أكثر من طيف أب، أو ربما هو شيء مثل الخيال بقي في ذاكرة الطفل/الكاتب الذي عاش تجربة اليتم باكرًا، وإنما في بُعدها الفلسفي والميتافيزيقي.

الأب الذي مات شابًا ظلَّ حاضرًا باسمه، وبصورته المعلقة على الحائط بالأبيض والأسود، ومن هذه المفارقة في حياة الراوي الذي هو الكاتب نفسه، يرسم وازن حضور الأب وغيابه. فهو يروي حكاية "اليتم" بمفهوم مغاير، قلَّما صادفناه في روايات وأعمال فنية أخرى. إنه يُتم لذيذ يبعد كلَّ البعد عن ميلودرامية القصص والروايات، ومعه شعر الابن بأنه متحرِّر من السلطة الأبوية التي كانت تشدُّ وثاقها على أعناق رفاقه وأبناء جيرانه. فاليتم الذي بدا مُخيفًا أول ليلة، إذ هلع الراوي (ابن العشر سنوات) من فكرة الموت، يتحوَّل إلى ميزة يتباهى بها أمام أصحابه وأبناء سنِّه. ولكن بعدما شبَّ الراوي اختلفت نظرته إلى هذه الفكرة، فلم يعد غياب الوالد هو الحدث الجميل في حياته، بل استحال أزمة وجودية، سعى الراوي إلى التخلُّص منها عبر استحضار صورة الأب المفقود. فعمل على تجميع صورة الأب كما في لعبة "البازل"، مُعتمدًا على بعضٍ من ذكرياته عنه وأخبار أمِّه والقليل من صوره الفوتوغرافية. هكذا، سعى الكاتب إلى بثِّ الروح في صورة الأب الميت، على عكس معظم "الذكور" الذين يسعون في مرحلة معينة من عمرهم إلى قتل صورة الأب الحاضر، ولو مجازًا، وفق التعبير الفرويدي.

مع بلوغ الراوي واكتمال وعيه اختلفت نظرته إلى الأب، وأضحى حضوره ضروريًا في حياة الابن ليس بالمعنى السوسيولوجي للكلمة، وإنما بمعناها الوجودي، كأنَّ البحث عن الأب هو بحث عن الذات نفسها.

"لم أعرف إلا القليل القليل عنك يا أبي. ما أصعب أن يعرف الابن القليل عن أبيه. لكان أرحم لو أنَّه لم يعرفه البتة، فيبقى أبًا مجهولاً، أبًا لابن يجهله أيضًا" (ص 94)... إنها حرقة ابن عرف أباه معرفة ضبابية أو ربما "شبحية"، إذا صحَّ التعبير، وبه توق لمعرفة المزيد عنه. وفي خط مواز لسيرته الشخصية يُحاول وازن جاهدًا أن يجد له صورةً في مرآة الآباء الذين عرفهم في نصوص وسِيَر الكتَّاب العالميين والعرب من دوستويفسكي إلى نيتشه ومن كيركيغارد وكافكا إلى سارتر وبول أوستر ومن محمد شكري إلى سهيل إدريس وأدوارد سعيد... ولا يقف الكاتب عند حدود الاستشهادات بتلك الأعمال، بل يتقصَّد تعميق التناص كتقنية روائية يوظِّفها في السياق الروائي بأسلوب سلس يُغني النصَّ ويُقوِّي بُعده الثقافي.

رسالة ومونولوغ

واضح أنَّ رحلة البحث عن الأب لم يكن مُخطَّطًا لها، بل إنها جاءت كردِّ فعل تلقائي بعد أربعين عامًا على غياب الأب، أي بعدما أصبح الابن أكبر من أبيه سنًا. فالأب ظلَّ شابًا كما عرفه ابنه في الصورة، لكن الطفل كبُر وصار أبًا، وربما أحسَّ فجأة أنَّه أضحى هو "الأب" لأبيه. فالطفل الصغير تجاوز والده سنًا وتفوَّق عليه في معركته الشرسة مع مرض القلب الذي أورثه إيَّاه. ولهذا نراه وهو يتوجه إليه بنبرة الأكبر والأقوى:

الآن أصبحت أكبر منك يا أبتِ. لقد انتصرت على الموت وانتقمت لك منه. الآن أعيش حياتي انتقامًا، أعيش حياتي وحياتك معًا... (ص 116).

هكذا يجد الراوي نفسه منكبًا على كتابة رسالة طويلة تتبدَّل فيها أنواع السرد وتقنياته، من غير أن يؤدي هذا التبدُّل في الأساليب والإيقاعات إلى خلخلة وحدة السرد وديناميته. هي رسالة يُشكل الأب والابن الطرفين الأساسيين فيها. الابن هو المتكلِّم، والأب هو المخاطب، لكن كليهما موجود داخل الحكاية بالمقدار نفسه. فالكاتب لا يتوانى أبدًا عن مخاطبة أبيه، فيتوجه إليه مرَّة بطريقة حميمية باسم المنادى "أبي"، ومرَّات أخرى بعبارة حيادية "أيَّها الأب". ومع أنَّه على المستوى الوجودي "غائب"، لكن تأثير الأب يظلُّ حاضرًا حتى يتشكَّل النص، الذي هو في الأساس رسالة.

لكن الرسالة هنا ليست تقليدية كبقية الرسائل التي نقع عليها في روايات المراسلات أو romans epistolaires كما تُسمى بالفرنسية، لكونها رسالة من أنا "حقيقية" إلى مخاطب "مجازي". فالابن "المُرسِل" يعلم مُسبقًا أنَّ رسالته لن يقرأها أبوه "المُرسَل إليه":

ليس ما أكتبه رسالة إليك، فأنا أعرف جيدًا أنك لن تقرأها ليس لأنك لم تكن تُجيد القراءة، مثل أمي، بل لأنها لن تصلك. هل يكتب امرؤ رسالة إلى شخص يعرف أنها لن تصله؟ (ص 13)

ومن هذا السؤال يتبدَّى أمام القارئ الوجه المخفي من هذه الرسالة التي تكاد تكون مونولوغًا لا يتوجَّه فيه الكاتب سوى لنفسه. والمعلوم أنَّ الرسالة من دون مخاطب هي كالمونولوغ، إن لم نقل كالسيرة.

يتخذ الراوي من صورة الوالد بالأبيض والأسود وسيلة تُعيده إلى زمن الأبيض والأسود، إلى زمن الأب الضائع. يسترجع الماضي بذكرياته وأمكنته، بمقاهيه التي ارتادها مراهقًا وأزقَّته التي لعب فيها طفلاً. يستعيد "أيام الراديو" والكاسيت والتلفزيون أو "العلبة السحرية" كما يسميها الكاتب. وبعد أن يُمعن في رثاء ذاك الماضي ومديحه، بصفته زمن الأب الغائب، ينتقل الراوي إلى استعراض زمن الحاضر ليُطلع والده على الحياة في زمن لم يُمهله العمر كي يعيشه. يحكي له عن تحولات الأمكنة التي له صور فيها مثل ساحة البرج وحرج الدكوانة والجميزة... فتتقاطع سيرة الأب مع سيرة بيروت وضاحيتها الشرقية وحرب العام 1958، منذ الستينات حتى الحرب الأهلية، التي يرصد مأساتها والمآسي الأخرى التي تلتها.

غرفة أبي هي إذًا رواية السيرة المزدوجة، سيرة الأب وابنه، التي تقوم على التخييل والتوثيق. وهذا الخليط بين الحقيقة والمجاز ساهم في بناء نصٍّ قد يبدو كأنه هو الصورة المتخيلة عن الأنا.

بعد تجربتين روائيتين متتاليتين قلب مفتوح وغرفة أبي قد يتساءل القارئ إن كان عبده وازن قد اعتزل الشعر لمصلحة الرواية التي ركب موجتها الكثير من الشعراء العرب في الفترة الأخيرة. إلا أنَّ قراءة متأنية في هذين العملين توضح أنَّ عبده وازن مازال مسكونًا بالشعر، وقد يصحُّ وضع نصيَّه السرديين تحت مسمى "الرواية الشعرية". فهل يكتب عبده وازن رواية مُقبلة لتُكمل ثلاثية رواية الذات؟

*** *** ***

الحياة، الأربعاء 18 سبتمبر 2013

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني