الشجرة المُعَمِّرة*

 

تيك نات هانه

 

كُتِبت في ذكرى تلميذتي نات تشي ماي، التي ضحَّت بنفسها من أجل السلام في 16 أيار 1967.

 

في غابة ممتدة في المرتفعات، انتصبت شجرة معمِّرة. ما من أحد كان يعرف كم ألف سنةٍ عاشت. كان جذعها كبيرًا جدًا بحيث لا يمكن لأذرع ثمانية عشر شخصًا أن تطوقها؛ جذورها الضخمة شقَّت طريقها عبر الأرض وانتشرت في نصف قطر يبلغ خمسين مترًا. كانت الأرض تحت ظل الشجرة  باردة عادة. وكان لحاؤها بصلابة الصخر؛ إذا ضغطت بظفرك عليه، سرى الألم عبر إصبعك. كانت أغصانها تحمل عشرات الآلاف من الأعشاش، وتحمي مئات الآلاف من الطيور، الصغيرة منها والكبيرة.

في الصباح، عند شروق الشمس، كانت الأشعة الأولى للضوء مثل عصا قائد فرقة موسيقية تستهلُّ سمفونية رائعة، أصوات آلاف الطيور، سمفونية بمهابة بزوغ الشمس خلف قمة الجبل. كانت كل مخلوقات الجبل والغابة تنهض، إما على قدمين أو أربعة، ببطء ودهشة...

وكانت هناك فجوة ضخمة في الشجرة العظيمة، كبيرة كثمرة الليمون الهندي في بيين هوا، على ارتفاع اثني عشر مترًا عن الأرض. في الفجوة هجعت بيضة سمراء صغيرة؛ لا أحد يمكنه القول فيما إذا كان طائرًا قد جلب البيضة الجميلة إلى الفجوة. كان البعض يعتقد أن البيضة لم تأتِ من طائر حي، بل تشكَّلت من هواء الغابة المقدس وطاقة حياة الشجرة العظيمة.

ثلاثون سنة مرت؛ وبقيت البيضة سليمة. في بعض الليالي، قد تُجفِّل الطيور من نومها غيمة تحوم فوق الفجوة وضوء مشرق هناك، ينير زاوية كاملة من الغابة. وأخيرًا، في إحدى الليالي، وتحت ضوء البدر، فقست البيضة ووُلِد منها طائر غريب. كان الطائر صغيرًا جدًا، يصدر زقزقة خافتة في الليلة الباردة. وكان القمر ساطعًا، والنجوم متلألئة. بكى الطائر طوال الليل. لم يكن بكاؤه مأساويًا ولا جسورًا. كان بكاء المفاجأة والاستغراب. بكى حتى بزغت الشمس. استهلت أشعة الضوء الأولى السمفونية، صدحت أصوات آلاف الطيور. ومنذ تلك اللحظة، لم يعد الطائر الصغير يبكي.

كبر بسرعة. فحبات البندق والحبوب، التي كانت الطيور الأمهات يحضرنها إلى الفجوة، وافرة دومًا. أصبحت الفجوة في الشجرة صغيرة جدًا، وكان ينبغي على الطائر أن يجد مكانًا أكبر ليعيش فيه. إنه يعرف الآن كيف يطير؛ ليبحث عن طعامه بنفسه، وليجمع أعواد القش ليغطي أرضية عشه الجديد. ومن الغرابة، رغم أن البيضة كانت سمراء، كان الطائر أبيضًا كالثلج. وعندما كان يطير، كان مدى جناحه واسعًا، وكان يتحرك ببطء وهدوء شديد. وكان يطير أحيانًا إلى أماكن بعيدة، حيث تتدفق مياه الشلالات البيض ليل نهار كالنفس المهيب للأرض والسماء.

أحيانًا، كان الطائر لا يعود لعدة أيام. وعندما يعود، كان يستلقي في عشه طوال الليل والنهار، مستغرقًا في التفكير بهدوء. كانت عيناه شديدتي اللمعان؛ لم تفقدا أبدًا نظرة الدهشة التي كانت عليهما منذ البداية.

في ذلك الحين، في غابة داي لاو القديمة، على منحدر تلَّة، كان يقوم كوخ صغير لناسك. هناك عاش راهب لخمسين سنة تقريبًا. وكان الطائر غالبًا ما يحلِّق عبر غابة داي لاو؛ ومن حين لآخر كان يرى الراهب يمشي هابطًا الطريق ببطء باتجاه النبع، حاملاً جرَّة ماء في يده. وذات يوم، كانت بقايا دخان تنتشر بخفة على سطح الكوخ المتواضع، وجو من الحرارة يلفُّ التلة، رأى الطائر راهبين يمشيان ويتحدثان معًا على الطريق المؤدي من النبع إلى الكوخ. في تلك الليلة بقي الطائر في غابة داي لاو، يراقب، وهو مختبئ بين أغصان شجرة، ضوء النار الذي كان يومض داخل الكوخ، حيث كان الراهبان يتحدثان طوال الليل.

حلَّق الطائر عاليًا، عاليًا فوق الغابة القديمة. طار في السماء لعدة أيام، جيئة وذهابًا، دون أن يحطَّ. في الأسفل، كانت تنتصب الشجرة المعمرة في الغابة العظيمة. في الأسفل، كانت مخلوقات الجبل والغابة مخفيَّة بالعشب والأجمات والأشجار. فمنذ اليوم الذي استمع فيه الطائر إلى محادثة الراهبين، ازدادت حيرته. من أين أتيت وإلى أين سأمضي؟ كم من آلاف السنين ستبقى الشجرة العظيمة؟

سمع الطائر الراهبين يتحدثان عن الزمن. ما هو الزمن؟ لِمَ جاء بنا الزمن إلى هنا، ولِمَ سيأخذنا بعيدًا؟ للبندق الذي يأكله الطائر طبيعته اللذيذة الخاصة. كيف يمكنني اكتشاف طبيعة الزمن؟ كان الطائر يرغب في التقاط قطعة صغيرة من الزمن والاستلقاء بهدوء معها في عشِّه لعدة أيام كي يتفحص طبيعتها. كان الطائر مستعدًا لذلك، حتى لو استغرق تفحصها شهورًا أو سنينًا.

حلَّق الطائر عاليًا، عاليًا فوق الغابة القديمة. كان مثل بالون كروي ينجرف في العدم. شعر الطائر بأن طبيعته فارغة كفراغ طبيعة البالون. كان فراغ طبيعته أساس وجوده، لكنه كان أيضًا سبب معاناته. فكر الطائر "أيها الزمن، لو كان بوسعي أن أجدك، يقينًا سوف أجد نفسي".

بعد عدة أيام وليالٍ، عاد الطائر لكي يستريح بهدوء في عشه. وقد جلب معه قطعة صغيرة من أرض غابة داي لاو. وبعد تفكير عميق، التقط قطعة الأرض ليتفحصها. لقد قال الراهب من غابة داي لاو لصديقه، "الزمن قابع في الأبدية. هناك الحب والمحبوب واحد. كل نصلة عشب، كل قطعة أرض، كل ورقة شجر، واحدةٌ مع ذلك الحب".

لكن الطائر كان لا يزال عاجزًا عن إيجاد الزمن. لم تُوحِ له القطعة الصغيرة المأخوذة من أرض غابة داي لاو بأي شيء. ربما كذب الراهب على صديقه: الزمن يكمن في الحب، لكن أين الحب؟ تذكر الطائر الشلالات التي ترشُّ مياهها المتدفِّقة بلا نهاية في الغابة الشمالية الغربية. وتذكر أيامًا كان يستمع فيها إلى صوت الشلالات منذ الصباح حتى المساء. كان الطائر يتخيَّل نفسه مُتدفِّقًا كشلال. كان يلعب مع الضوء المُشعِّ على صفحة الماء، ومع الشلال كان يلاطف الحصى والصخور في الجداول. في تلك اللحظات، كان الطائر يحسُّ بأنه الشلال نفسه، وأن الأصوات اللانهائية للمياه الهابطة صادرة عنه.

في ظهيرة أحد الأيام، كان الطائر يحلِّق عبر غابة داي لاو، فلم يرَ الكوخ. لقد احترقت الغابة بكاملها؛ لم يبقَ منها سوى كومة من الرماد حيث كان كوخ الراهب. حلَّق الطائر، برعب، باحثًا في أرجاء الغابة. لم يعد الراهب في الغابة. إلى أين ذهب؟ فقط جثث الحيوانات وجثث الطيور. هل التهمت النيران الراهب؟ كان الطائر في حيرة. من أنت، أيها الزمن؟ لِمَ تجيء بنا إلى هنا ولِمَ ستأخذنا بعيدًا؟ قال الراهب: "الزمن قابعٌ في الأبدية". إذا كان الأمر كذلك، فلربما أعاد الحب الراهب إلى نفسه.

فجأة، شعر الطائر بالقلق؛ حلَّق برشاقة عائدًا إلى الغابة القديمة. صيحات الكثير من الطيور كانت مليئة بالحزن. كانت انفجارات. وكانت الغابة القديمة، تحترق من بعيد. استمر الطائر يحلِّق أسرَع فأسرَع. لامست النيران السماء. وانتشرت قرب الشجرة العظيمة. وزعقت مئات الآلاف من الطيور رُعبًا.

اقتربت النار من الشجرة العظيمة. كان الطائر يذرو النار بجناحيه، آملاً إطفاءها، لكنها ازدادت قوةً. أسرع الطائر إلى الجدول، غط جناحيه في الماء، وانطلق عائدًا لكي يرش الماء فوق الغابة. ترذذت القطرات ولم تكفِ، لم تكفِ. كل جسد الطائر المنقوع بالماء لم يكن كافيًا لإخماد النار.

صرخات مئات الآلاف من الطيور. صيحات طيور صغيرة بلا ريش يُعينها على الطيران. وبدأت النار تلتهم الشجرة العظيمة. لماذا لم يكن هناك مطر؟ لماذا لا يتدفق الانهمار الذي يسقط بلا نهاية كشلال في الغابة الشمالية الغربية؟ أطلق الطائر صرخة حادة. كانت الصيحة مأساوية ومشبوبة بالعاطفة، وفجأة تحوَّلت إلى صوت مندفع لشلال. وفي الحال، أحسَّ الطائر بامتلاء وجوده. وتلاشت العزلة والوحدة كوهم. صورة الراهب. صورة الشمس خلف قمة الجبل. صورة اندفاع الماء منهمرًا بلا نهاية عبر ألف حياة. كانت صيحة الطائر الآن هي الصوت الكامل للشلال. وبلا قلق، غاص الطائر في نيران الغابة مثل شلال مهيب.

كان اليوم التالي هادئًا. أشرقت الشمس بأشعتها المدهشة، لكن لم تكن ثمّة سمفونية، ولا أصوات لعشرات الآلاف من الطيور. لقد احترقت أجزاء من الغابة بالكامل. لكن الشجرة العظيمة ما زالت منتصبة، رغم تفحُّم أكثر من نصف أغصانها وأوراقها. كانت جثث طيور كبيرة، وجثث طيور صغيرة. وكان صباح الغابة صامتًا.

دعت الطيور، التي ما زالت حيَّة، بعضها البعض بأصوات مرتبكة. وهي لا تدري بأية نعمة إلهية صبَّت السماء الصافية فجأة المطر، الذي أطفأ حريق الغابة ظهيرة اليوم السابق. وتذكروا مشهد الطائر وهو ينفض الماء من جناحيه. كانوا يعرفون أنه الطائر الأبيض من الشجرة العظيمة. فطاروا في كل أرجاء الغابة باحثين عن جثة الطائر الأبيض، لكنهم لم يجدوها.

لأنه ربما طار الطائر بعيدًا كي يعيش في غابة مختلفة. ربما التهمته النيران. أما الشجرة العظيمة، التي غطَّت جسدها الجراح، فلم تنبس ببنت شفة. رفعت الطيور رؤوسها إلى السماء وشرعت في إعادة بناء أعشاشها في جسد الشجرة العظيمة المثخن بالجراح. هل تفتقد الشجرة العظيمة الطفل الذي أنجبته أربعة آلاف سنة من طاقة الحياة وهواء الجبل المقدس؟ إلى أين ذهبت أيها الطائر؟! أصغِ إلى الراهب: أعتقد أن الزمن قد أعاد الطائر إلى المحبة التي هي منبع كل الأشياء.

ترجمة: غياث جازي

*** *** ***


 

horizontal rule

* الفصل السادس عشر من كتاب المحبة في العمل: كتابات حول التغيير الاجتماعي اللاعنفي، تايك نات هانه، ترجمة: غياث جازي، معابر للنشر، دمشق، 2008.

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني