الصفحة التالية                  الصفحة السابقة

الزمان والآخر: تمهيد

 

إيمانويل ليفيناس

 

تُعدُّ كتابةُ تمهيدٍ لإعادة نشر صفحات نشرناها منذ ثلاثين عامًا وكأنها تمهيد لكتاب مؤلِّفٍ آخر، باستثناء أننا وعلى الفور نرى ونستشعر نواقصه بمرارةٍ. النص الذي سنقرؤه موجزٌ لمحاضرات أربع ألقيت عامي 1946 و1947 تحت عنوان الزمان والآخر، وذلك خلال السنة الأولى من عمل الكوليج فيلوسوفك التي أسسها جان وول في قلب الحي اللاتيني. نُشر للمرة الأولى ضمن مجموعة مشتركة عام 1948 تحت عنوان الاختيار، العالم، الوجود؛ أولى منشورات الكوليج فيلوسوفك. كنَّا حينها مسرورين للعمل مع جان إيرش، وألفونس دو ويلينس، إضافة إلى جان وول. لا شك في أنَّ الأسلوب (أو اللاأسلوب) المحكي لهذا النص، خصوصًا في انعطافات محددة، كان حادًا وغير متقن. يوجد أيضًا في هذه المحاولات طروحات لم تكن سياقاتها قد اكتملت بعد، ولم يتم المضي ببداياتها حتى النهاية، ولا تنظيم شتاتها. كنا قد أشرنا في ملاحظة تمهيدية عام 1948 إلى كل هذه العيوب التي ربما أدانها تقدم هذا النص في الزمن.

وإن كنا قد قبلنا فكرة نشره في كتاب وتخلِّينا عن فكرة إعادة صوغ أطروحاته، فذلك لأننا مازلنا متمسكين بمشروعه الأساس، أي، بالولادة والصوغ الأولي الذي يتوطد عرضه مع تقدمنا في هذه الصفحات البِكر.

هل الزمان هو تحديد الكينونة المتناهية أم علاقة هذه الكينونة المتناهية مع الله؟ العلاقة التي، إذ ذلك، لا تضمن للكينونة لاتناهٍ في تعارض مع التناهي، ولا كفاية ذاتية في تعارض مع العوز؛ لكنها تعني، بعيدًا عن التمام أو اللاتمام، فائضًا عن الحالة الاجتماعية. تبدو لنا هذه الطريقة الأخيرة في تفحص الزمان، إلى اليوم، المشكلة الأساس. يقوم الزمان والآخر بتحديد الزمان، ليس كأفق أنطولوجي لكينونة الكائن، وإنما ككيفية لما وراء الكينونة، وكعلاقةِ الـ "فكر" بالآخر Autre – من خلال أشكال متعددة للحالة الاجتماعية أمام وجه الآخر الإنساني: كالإيروسية والأبوية والمسؤولية إزاء القريب prochain – وكعلاقة بالآخر الكلي le Tout Autre، وبالمتعالي وباللامتناهي، علاقة أو دين ليس منبنيًا كمعرفة قصدية. إذ إنَّ هذه الأخيرة تخفي التمثُّل في ثناياها وتُعيد الآخر إلى الحضور والحضور–معًا. غير أنَّ الزمان يشير في دياكرونيته (تعاقبيته) dia-chronie إلى علاقة لا تعرِّض غيرية الآخر إلى الخطر، ضامنةً في الوقت نفسه لا-عدم اكتراثه non-indifférence بـ"الفكر".

حريٌّ بالزمان – إذا ما نظرنا إليه ككيفية للكينونة المتناهية – أن يشير إلى تشتت كينونة الكائن في لحظات يُقصي بعضها بعضًا، وتُستبعد إلى الماضي كونها لحظات غير مستقرة وغير مخلصة لذاتها [أي لحظات لا تتصف بالديمومة]. تُستبعد إلى خارج حضورها الذاتي، مزوِّدةً مع ذلك الفكرة البرَّاقة لهذا الحضور، ومحدِّدةً معناه ولامعناه، موته وحياته. لكن، وفق هذا المعنى، ألا تخاطر الأبدية – التي يزعم العقل امتلاك فكرتها مسبقًا من دون أي استعارة من المدة المعيشة؛ فكرة عن نمط وجودي تكون فيه الكثرة واحدًا ويمنح الحاضرَ معناه المليء – أقول، ألا تخاطر الأبدية بألا تخفي إلا لمعان اللحظة (وبالتالي، حقيقة غير مكتملة)، فيمسك بها خيالٌ قادرٌ على العمل خارج الزمان وإقامة أوهامٍ حول تجميع ما لا يقبل تجميعًا؟ ألن تكون هذه الأبدية وهذا الإله العقلي – في نهاية المطاف – تركيبات فحسب من هذه اللحظات من التشتت الزماني غير المكتملة والمجرَّدة وغير الثابتة، والوصول، بالتالي، إلى أبدية مجردة وإله ميت؟

يقوم الطرح الأساس المأمول في الزمان والآخر على تناول الزمان ليس كتحلل للأبدية، وإنما كعلاقة بما لا يمكن مماثلته عبر الخبرة كونه، في ذاته، غير قابل للمماثلة وآخر بشكلٍ مطلق؛ أو، كعلاقة بما لا يمكن وعيه، كونه لامتناهيًا في ذاته، وذلك حتى وإن أمكن وأجاز هذا اللامتناهي أو هذا الآخر أن نشير إليه بالإصبع من خلال اسم الإشارة هذا، أي، كمجرد موضوع، أو أن نُلحق به أداة تعريف أو تنكير تُعيِّنه؛ علاقة مع اللا-مرئي In-visible لا تَنتج فيها اللامرئية من قصور المعرفة الإنسانية، وإنما من عدم أهليتها كما هي، أي، من عدم تعادلها مع لامتناهي الآخر الكلي؛ لا تنتج من العبثية التي يمكن أن يكتسيها هنا حدثٌ مثل التطابق coincidence. استحالة التطابق هذه وهذا اللاتعادل ليسا هنا مجرد فكرتين سلبيتين، وإنما لهما معنى داخل ظاهرة عدم التطابق المعطى في تعاقبية الزمان. الزمان يعني هذا الدوام لـِ اللاتطابق، لكن أيضاً هذا الدوام لـِ العلاقة، أي، التوق والانتظار: خيطٌ أكثر صلابة من خط فكري، ولا تقوم التعاقبية بقطعه، وإنما تحفظه داخل علاقة متناقضة تختلف عن سائر العلاقات الأخرى في المنطق والسيكولوجيا التي، باعتبارها المتَّحد الاجتماعي الأخير، تعهد بالساينكرونية (التزامنية) synchronie إلى حدودها. نحن هنا أمام علاقة من دون حدود termes، وانتظار من دون مُنتظر، وتوق لا يمكن إشباعه. بُعدٌ هو قربٌ أيضًا، ولا يعني مجرد تطابق أو وحدةٍ كانت قد أخفقت، وإنما يعني – كما قلنا – فائض أو خير حالة اجتماعية أصيلة. أن تكون التعاقبية أكثر من تزامنية، وأن يكون القُرب نفيسًا أكثر من واقعة الكينونة المنعطية، وأن يكون الولاء لغير القابل للتساوي أفضل من وعيٍ ذاتي: ألا يشكل كل هذا صعوبة وعلو الدين؟ من ناحية أخرى، لا يمكن توصيفات هذا "البعد-القرب" أن تكون إلا تقريبية أو مجازية، لأن تعاقبية الزمان تشكل معناها غير المجازي، معناها الحقيقي ونموذجها[1].

إنَّ "حركة" الزمان من حيث هي تعالٍ لامتناهٍ لـ "الآخر الكلي" لا تتزامن على نحو خطي، ولا تشبه استقامة شعاع القصدية. تقوم طريقتها في العَنِي – الموسومة بلغز الموت – بانعطافةٍ لَحظةَ دخولها في المغامرة الأخلاقية للعلاقة بالآخر الإنساني[2].

لم نصف التعالي الزماني في هذه المحاولة إلا عبر لمحات تبقى في مجملها تمهيدية، قادتها المماثلة بين التعالي الذي تدل عليه التعاقبية وبين المسافة التي تُوجدها آخرية الآخر. كما قادها الإصرار على الرابطة التي تجتاز فسحة هذا التعالي، والتي لا يمكن مقارنتها بالرابطة التي تقوم بين حدود علاقة، أيًا كانت هذه الأخيرة.

لم نرغب بتعديل المخطط الذي رسمه التعبير عن هذه الأفكار في هذا الكتاب. فقد لاح لنا أنه يشهد على مناخ منفتح أتاحه حيُّ مونتان سانت جنفييف صبيحة التحرير. كانت الكوليج فيلوسفك انعكاسًا لهذا المناخ وبؤرة من بؤره. فهنا سمعنا الرنين الفذَّ للقول الأنوف لـِ فلاديمير جانكيليفتش وهو يتلو جدَّة الرسالة البرغسونية، ويصوغ ما يمتنع وصفه أمام قاعة ممتلئة حيّا فيها جان وول تعددية الاتجاهات في "الفلسفة الحية"، منبهًا إلى القرابة بين الفلسفة وأشكال الفن، ومستمتعًا بتتبع التحوُّلات داخل هذه القرابة. كان يدعو من خلال مواقفه إلى "التجريب الفكري" الجريء وإلى التنقيب المحفوف بالمخاطر. كانت فينومينولوجيا هوسرل وفلسفة الوجود عند سارتر وميرلوبونتي، وحتى المقولات الأولى للأنطولوجيا الأساسية عند هيدغر، تَعِدُ بإمكانات فلسفية جديدة. كانت الكلمات التي تشير إلى ما كان يشغل بال الناس من دون أن يتجرؤوا على قولها في خطاب تأملي تأخذ مرتبة المقولات. وكان بإمكاننا من دون مراوغة، وغالبًا من دون حيطة، وبحرية أمام القواعد الأكاديمية – لكن أيضًا، من دون الخضوع إلى طغيان الكلمات في استخدامها الدارج – أن نمنح أنفسنا وأن نقترح على الآخرين أفكارًا "للحفر"، و"للتعميق" أو "للتفحص"، كما كان يقول غير مرة غابرييل مارسيل في يوميات ميتافيزيقية.

من الملائم قراءة الموضوعات المتنوعة لِـ الزمان والآخر ضمن روح سنوات الانفتاح هذه. وعبر هذه الموضوعات يتقدم طرحنا الأساس: عن الذاتية كتمكُّن للأنا من الـ "هنالك" المُغفَل للكينونة، وعودة فورية للذات Soi إلى الأنا Moi، وإثقال لها عبر الذات نفسها يؤدي إلى المادية الواقعية وعزلة التحايث. وِزْرُ الكينونة هذا عديم الرحمة، ويظهر في العمل والعذاب والمعاناة. وعن العالم، كتعالي الأغذية والمعارف، وكتجربة في خضم اللذة، وكمعرفة وعودة إلى الذات، وعزلة في نور المعرفة المستغرِقة لكل آخر، عزلة العقل الواحد جوهريًا. وعن الموت، ليس كمجرد عدم، وإنما كلغز لا يمكن الاضطلاع به، وبهذا المعنى، هو احتمالية حدث يوشك على إحداث هيجان في ذات التحايث، وإحداث قطيعة مع رتابة اللحظات المنفردة وانتظامها. الموت احتمال الآخر الكلي والمستقبل وزمانيةٌ للزمان تعبِّر فيها الدياكرونية عن العلاقة مع ما يبقى خارجًا أبدًا. وفي النهاية، عن العلاقة مع الآخر الإنساني، ومع المؤنث، ومع الطفل، وعن مولودية fécondité الأنا، أي، الكيفية الملموسة للدياكرونية. هذه العلاقات كلها تمفصلات أو حيدانات حتمية لتعالي الزمان. وهي ليست وَجدًا extase، حيث تُستغرق الذات في الآخر؛ ولا معرفةً، حيث يصبح الآخر عنصرًا من عناصر الأنا. إنها علاقة من دون علاقة، ورغبة لا يمكن إرواءها، أو، قُربُ اللامتناهي. هذه الطروحات لم نتناولها في كتاباتنا اللاحقة في شكلها الأولي، وتبيَّن أنها لا يمكن فصلها عن المسائل الأكثر تعقيدًا وقدمًا. منها ما تطلَّب تعبيرًا أكثر دقة وفكرًا مختلفًا.

نودُّ الإشارة إلى نقطتين مهمتين في الصفحات الأخيرة من هذه المحاضرات، تتعلق بالطريقة التي تناولنا وفقها فينومينولوجيا الآخرية وتعاليها.

لم نتناول الآخرية الإنسانية انطلاقًا من مجرد آخرية-شكل منطقية تتمايز عبرها حدود الكثرة عن بعضها البعض، لسبب أنَّ كلَّ حدٍ هو مسبقًا آخرُ باعتباره حاملاً لصفات مختلفة، أو، لسبب أنَّ، في كثرة حدود متساوية، كل حد هو آخرُ الآخر من خلال تفرُّده. بُحثت فكرة الآخرية المتعالية – تلك التي تفتتح الزمان – انطلاقًا من آخرية-مضمون: انطلاقًا من الأنوثة. تبيَّن لنا أنَّ الأنوثة (وينبغي أيضًا أن نفكر بأي معنىً يمكن أن يقال ذلك عن الذكورة أو الفحولة، أي، عن فصل الأجناس على العموم)، فصلٌ difference يعلو على الفصول كافة – ليست مجرد كيفية تختلف عن بقية الكيفيات، وإنما هي كيفية الفصل. تشكل هذه الفكرة إمكان فكرة الاجتماع الثنائي التي هي شرط فكرة الزوج couple، المختلفة عن كل ثنائية عددية، والضرورية ربما لظاهرة ظهور épiphanie الوجه الاستثنائية – كعريٍ مجرد وعفيف – المتفرعة من الاختلافات الجنسية؛ لكن، الجوهرية للإيروسيَّة أيضًا، حيث تُحمل الآخرية (ككيفية هنا أيضًا وليس كمجرد تمييز منطقي) عبر وصية الـ "لا تقتل" التي يقولها صمت الوجه ذاته. نحن هنا أمام لمعان أخلاقي مهم في الإيروسية والليبيدو اللذين تدخل عبرهما الإنسانية في الاجتماع الثنائي. لمعانٌ يسمح لنا – ربما – بالشك في النزعة التبسيطية لكل الخطابات المعاصرة حول الإيروسية.

نودُّ نهايةً الإشارة إلى بنيةٍ للتعالي صُوِّرت في الزمان والآخر انطلاقًا من الأبوية. إنَّ الإمكان المقدَّم للابن، والمصنَّف خارج ما يمكن الأب الاضطلاع به، يبقى خاصته sien بمعنى محدَّد. وبدقة، يبقى خاصته بمعنى القرابة. خاصته – أو، ليس غير مكترث – ذلك الإمكان الذي يضطلع به آخرُ: عبر الابن، إمكان فيما وراء الممكن! لا-عدم اكتراث ليس يأتي من القوانين الاجتماعية التي تشيِّد القرابة، وإنما يؤسس ربما هذه القوانين. لا-عدم اكتراث يصبح من خلاله ما وراء الممكن ممكنًا بالنسبة للأنا.

ترجمة: د. جلال بدلة

*** *** ***

 


 

horizontal rule

[1] لا تنحصر أنواع السلب المستخدمة لوصف هذه "العلاقة باللامتناهي" بالمعنى الشكلي والمنطقي للسلب، كما لا تفضي إلى تيولوجيا سلبية! فهي تقول كل ما يمكن لغة منطقية كلغتنا أن تعبر عنه – عبر القول ونقيض القول – حول الدياكرونية التي تظهر في صبر الانتظار، والذي هو امتداد الزمان ذاته. هذا الامتداد لا يمكن اختزاله إلى الاستباق (الذي هو، مسبقًا، طريقة من طرق "جعل الشيء حاضرًا") ولا يخفي تمثُّلاً للمنتظر أو المرغوب (حتى وإن كانت تمثلاً خالصًا). لأنه في هذه الحالة، سيكون المنتظر والمرغوب أطرافًا؛ والانتظار والتوق نهايات وليسا علاقة باللامتناهي.

[2] CF. notre "Autrement qu'être ou au-delà de l'essence" (1974), plus spécialement, notre étude "Dieu et la philosophie" parue en 1975 dans le Nouveau Commerce n 30/31.

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني