تحديات النص الراهن

 

مؤمن سمير*

 

أولًا: النص الراهن

لنبدأ أولًا بالتحديد المفهومي. أعني بالنص: كل مادة إبداعية تنجح في خلق تفاعل حقيقي ومعرفي وديناميكية عقلية أو روحية وحراك فكري وجمالي، مع وفي، وعي متلقٍ ما في لحظةٍ معينة من الزمن. وهو بهذا يشتمل على النص المكتوب والمسموع والمشاهد والملموس... الخ. وكذا الأشكال المستحدثة من النصوص، كالنص المتعدد - الهايبر تكست - والنص الرقمي ونص الهاتف المحمول والنصوص المصاحبة لـ، أو المنضغمة في، الأعمال الفنية التشكيلية أو الموسيقية.. الخ. وسواء كان التعاطي معه بشكل مباشر أو عن طريق وسائط أساسية أو تابعة، كان في بنية مباشرة وبسيطة وسهلة التعاطي أو معقدة، باستخدام أكثر من وسيط وطريق وغاية وآلية.. آلة أو بشر أو مفهوم.. الخ الخ... وهو بهذا الاتساع – أو بسببه - يتعرض لتحديات ويجابه إشكالياتٍ جمة، سواء كان في إنتاج النص ذاته أو في تعاطيه وتلقيه أو في تجلياته وتفريعاته غير المحدودة، وسواء في طريقة عرضه أو في شكل وإطار وصوله للمتلقي، وكذلك مدى سلبية أو إيجابية ذلك المتلقي في عملية التلقي ذاتها، ناهيك عن مدى فاعلية هذا النص وانتباهه لموقع المتلقي وكونه في موقع المشارك الفعلي في إنتاج النص، يعني الإيمان بكونه طرفًا أصيلًا في الإبداع هو الآخر، من عدمه...

أما كلمة الراهن فهي كلمة غامضة مفاهيميًا لأنها ستفتقر حتمًا – فلسفيًا وفيزيقيًا – للتحديد، حيث أن الزمن قيمة سيالة وغير متجمدة ومحدودة وبالتالي تفتقر للتموضع داخل قوسين. فكلما أمعنا النظر في لحظةٍ ما بتجلياتها واشكالياتها وتعقيداتها وتفريعاتها، باعتبار أننا نقرأ الواقع أو الراهن أو الآني، تكون اللحظة قد مرت ونكون – والأمر هكذا - نقرأ ونفك شفرات الماضي وليس الحاضر! لكن، وبغض الطرف قليلًا عن الأبعاد القَدَرية البعيدة عن الحيز الفكري المتناوَل، فإننا يمكن بربط مفهوم الراهنية بالدال السابق وهو "النص"، أن نستطيع ولوج الحقل الذي نقارب ونناور، وكذا التعامل معه، ولو بالتساؤل.

إن نصنا الآني – بهذه الكيفية الأقرب للتداخل منها لمفهوم النقاء - لهو الأصعب على الإطلاق. صعوبة تكاد تماثل شائكية المخاض والبدايات. حيث أن انفتاحه غير المحدود يمنحه أجنحة مَوَّارة ويمنع عن فضاءاته فكرة الـ "مفاهيم"، التي تنحو منحى الرسوخ أو الثبات النسبي حتى - لأنها، فيه ومعه، تأخذ كل يوم أكثر من شكلٍ وتوجه وتتخذ كل ساعةٍ وسائلَ وغاياتٍ غير محدودة. تتلون وتتغير باستمرار وباضطراد. لكنها بالفرز الدائم المرتبط بـ: هذا الانفتاح وهذه السرعة المهولة في الاختراع والتطوير - تصبح غير مناسبة ولا مطروقة، ناهيك عن الأفكار التي تغدو منطقية ولا محل لها ولا يجب إعادة النظر فيها فقط بل دحضها وإزاحتها.

هل يملك النص الجديد، أقصد المتجدد الدائم، ذلك؟ نعم يملك، وتلك إحدى سماته وميزاته الرئيسة - مثل "الرقابة" مثلًا. وهي الكلمة والمفهوم السلطوي الذي تَنَاسبَ مع أغلب فترات التاريخ أو جُلَّهَا حتى طَبَعَها بطابعه، والذي يجابَه حاليًا وطول الوقت بضرباتٍ مُوجَّهه ومُركَّزة ومباشرة في نعشه – لتؤكد بالتكرار على قيمة قتل المفهوم وتدشنها - أكثر حدة مما كان يتخيل ويتوهم ذلك المفهوم في عز سطوعه التاريخي، قدرته على عد دقات قلوب البشر وخلجاتهم ورسم كتالوجات لأنفاسهم.

يحيا النص الجديد في متاهة عدم التحديد، ويستمد منها ذاتيته وفورانه وكنهه ومعناه ومبناه في نفس الآن - وهذه هي المفارقة. لا خلاف أبدًا على فتح الأبواب والنوافذ لآخرها، حتى عصير التكوين الأول. لكن في ظل تهميش دور المبدع والمثقف عمومًا - لأسباب تتعلق بتنامي الأصوليات في العالم، وكذلك ميل العالم نحو تفكيك مفاهيمه والميل لإعادة الرسم من جديد، على مسرح الواقع، مبتعدًا عن تنظيرات النخبة التي ابتعدت أو ابتعد ذلك الواقع عنها قاصدًا وبقسوة كذلك - هل يستفيد هذا المبدع وذلك المثقف من فضاءاته المعرفية والإبداعية الثعبانية وحرياته المتتالية المتعددة التي انتزعتها له التكنولوجيا؟ ثم يخاطب مَنْ في هذا الهيولي؟ وفي ظل هذا الضجيج والزحام الدائم، من يستطيع أن يصنع لنفسه عينًا ووعيًا لا يلتهب من إشعاعات العالم الافتراضي، وقدرة على متابعة إصدارات ونبضات وجنون وتجريب وتفكيك العالم بأسره، ويشارك في مؤتمرات وحلقات رأي وبالأساس يكتب ويجد من يتابع نصه بالتعليق والدرس النقدي، وكذلك يذهب لعمله ويؤمن لنفسه المعيشة اللائقة، ولا ينفصل أيضًا عن الأحداث المؤثرة بشكل مباشر وغير مباشر في حياته؟ هل كان تركيزي من قبل، وأنا لست المتخصص في علم النص وعلم التلقي والنقد عمومًا ومتابعتي للتغييرات الدائمة والدائبة ومدى فاعليتها في صنع حساسيات جديدة وكتاباتٍ تمتح من أنهارٍ جديدة وتُعَبِّد طرقًا ومسارب جديدة، هو نفس التركيز والنظر المدقق الآن وأنا ألاحق بالكاد كل ما حولي وأكاد لا أتذكر الكتاب الذي كنت أحبه جدًا حتى الأمس؟!!

النص الكبير، الذي هو كل هذا الفضاء، مفتوحٌ أمامك وأنت معه وفيه، تلهث وتلهث. وأنا باعتباري كاتبًا أستفيد فعلًا من التكنولوجيا، سواء في إنتاج النص أو في توصيله أو في تلقي أشكال التفاعل معه. لكنني بتُ أشك في تأثير كتابتي في موقعٍ ما أو مدونةٍ ما أو توفير كتبي على الشبكة العنكبوتية. بتُ لا أستوثق من أي معلومة أو توجه لأن النقيض موجود وله شرعية وحياة ومريدون هو الآخر.

الحرية أعظم الأشياء والقيم والإطارات التي تحيط بالنص الجديد. حرية أن ينتجه بقيم وطرق ووعي وطلاقة مختلفة وجديدة ومختلفة كلية عن القيم والثوابت القديمة. وحرية أن يوصله للعلم أجمع بضغطة زر. حتى علاقات التثاقف بين المبدعين والمثقفين باتت تأخذ أشكالًا جديدة فعلًا وفيها من الجرأة مالا تستطيع تجاهله.

أمام النص الراهن تحدياتٌ جسامٌ حقًا لأنها متبدلة على الدوام. وعليه، حاليًا على الأقل، أن يبتكر أشكالاً جديدة ومتجددة كل لحظة. عليه أن يرسم لغة أكثر قربًا من الحياة. عليه أن يقترب من "الإنساني" المتسع الخالد ويبتعد عن كل ماهو شوفيني ضيق. عليه أن يستوعب حقوق البشر في كل مكان ويدعمها بالموقف وبتكوينات الجمل والحروف. عليه أن يحافظ على خصوصية وفرادة وتميز لنفسه، لأسلوبه ووعيه الذي يبثه في النص، أيًا كان شكل وتوجه وقيمة ذلك النص، وفي خضم بحرٍ لا قرار له ولا ثبات فيه. النص الراهن يتبلور طول الوقت وأنا ألهث وراءه وألهث... وأتغير أنا الآخر.

ثانيًا: هل أفاد الفيسبوك والمدونات وما شَاكَلَهم الإبداعَ الأدبي والفني؟

هل أفاد الفيسبوك والمدونات وما شاكلهم الإبداعَ الأدبي والفني؟ نعم أفاد. وهل أضرَّ الإبداع؟ نعم في نفس الوقت أضر الإبداع! تعد شبكة الفيسبوك بمثابة مجتمع مصغر وحديث وحالي وبالتالي فهو يحمل كل إيجابيات وسلبيات وتناقضات الفسيفساء الحضارية المكونة لأي تجمع بشري. وإذا دلفنا من بوابة الإبداع بالذات سنجد من استفاد من طبيعة هذه الشبكة في التدريب اليومي على الكتابة ومن انجرف بسبب نفس هذه الطبيعة وفقدت كتابته خصوصيتها. من أصيب بحب الظهور وأقتنع أن العالم يراقب سكناته وحركاته بالذات فأقام في هذه المتاهة ونسى القراءة وذهل عن إبداعه وبات يبهر العالم! بصوره واقفًا وقاعدًا وطائرًا! وهناك من بات يلهث لهاثه الإيجابي الذي يتيح لوعيه أن يمتلأ بالكتب الأحدث أو الأثمن وباللوحات الأحدث أو الأغنى وبأخبار الندوات وبالفيديوهات النادرة ومتابعة الأحداث عمومًا. يكتب الكاتب الواعي وينحي المجاملات جانبًا فيستفيد من بعض التعليقات. يوصل إبداعاته لمناطق أخرى ويتفاعل. تعلمه الحرية المتاحة أن ينسى فكرة التأطير الضيقة فيتسع النص ويصير مطعمًا بأشكال أخرى دون خوف من مؤاخذة من يبحث عن النظرية والانضباط الصارم. تجرك الحرية وتكشفك أيضًا... لا لا تكشفك بل للأسف تزيد من وهمك بأنك عظيم لأنك لن تعدم المعجبين بأي تفاهة مهما كانت. وهذه طبيعة المتاهة ومأزقها في الآن ذاته. فكرة اللاقانون - أقصد إعادة النظر في أفكار من مثل القانون والرقابة والاكتمال ودحضهم طول الوقت - هي فكرة مبهرة وتعني الفوضى في نفس اللحظة. وفي النهاية لا سبيل أمامك للتعالي على عطايا التكنولوجيا وعلى رأسها الحرية - لكن لا بأس من الهرب من كل هذا اللهاث والتقاط الأنفاس بين لحظة وأخرى لاختبار إبداعك بشكل أهدأ وكذلك لتشم أنفاسًا حية ودافئة وليست افتراضية.

إني فرق هنا بين المبدأ وبين الوسائل. المبدع يخاف ويخشى دائمًا على مكون أساسي في منظومة الفعل الإبداعي وهو الحرية. إنها الفعل الرئيس الذي لا يتصور انبلاج الطاقة الخلاقة المسماة بالإبداع إلا عن طريق وجوده هو وتجلياته الرحبة. يخاف المبدع مبدئيًا كيلا تنقص أدوات إبداعه أو تختنق. لكن هذا لا يعني ألا يتعامل واقعيًا وبسرعة إذا غابت هذه الحرية أو نقصت بابتكار رموز وصنع إشارات واللعب والاستمتاع أحيانًا - بصنع الفخاخ للرقيب أو للمتلقي ضيق الأفق. وفي ظل الثورة المتنامية للتكنولوجيا يصبح من العبث الإيمان بأفكار تنتمي لعصور قديمة كان البشر يختنقون فيها بالعجز الذاتي مما يضطرهم للمقاومة والابتكارات البسيطة الرمزية للخروج من الشرنقة، أفكار مثل الرقابة والسيطرة وغلق الأبواب وتقنين الاتجاهات ورسم المسارب وتحديدها... الخ. لا يجب أن يخاف المبدع على الوسائل لكنه يظل حزينًا دائمًا لغياب المبدأ.

*** *** ***


 

horizontal rule

* ايميله: momensamir76@yahoo.com

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني