رحمة
إلى ديفيد وآن ماري بورنمان رفيقاي في النِّعمة

 

حسن شوتام

 

- آنسة رحمة... إدارة المركز استحضرتك لسبب واحد لا شك أنك تعرفينه!

- عاودته الحالة؟

- أجل. تخلَّى عن أخذ الدواء والبارحة كاد صراخه يشق سقف البيت!

- يا أستاذ عبد القادر، اللجنة ناقشت حالة زكرياء وفريق العمل يدرك تمامًا حاجاته الجديدة والحسَّاسة!

- فريق العمل جزء من المشكلة. جميعهن يتهربن من خدمته ويطلبن تحويله إلى مركز يُعنى بذوي الاحتياجات الخاصة من المراهقين!

- يا للحمق! وكأننا نجهل إمكانيات المدينة! لولا تدخل مؤسسات أجنبية ما افتُتح مركز للترويض الطبي أصلاً يهتم بذوي الاحتياجات الخاصة من الأطفال! ثم ما المشكلة في خدمة زكرياء والمسكين عاجز تقريبًا عن تحريك يديه ورجليه؟

- نظراته كما قالت إحداهن لم تعد بريئة!

- يا لدقة تلك الآلة! التقطتْ وصنَّفتْ ولربما قريبا ستدينه بتهمة التلصُّص والتحرش!

- كذلك تصفهن زوجة السيد باتريك وهي تكزُّ على أسنانها أثناء حصص الترويض: آلات عديمات الحسِّ!

- للأسف حزمُها تمكَّن مني أنا فقط وفُصِلتُ من العمل!

- للأمانة يا آنسة رحمة، هي تُقدِّر عطاءك في المركز وحسُّك الانساني العالي. لكن مشكلتك الوحيدة هي التأخر المتكرِّر في الدخول وأحيانًا كثيرة الإبكار المفاجئ في الخروج!

- صدقت يا أستاذ عبد القادر. لكن أنا بين وَيْلَيْن: الاهتمام بأمي المريضة وتدبير مصاريف المعيشة!

- إن شاء الله ستُشفى والدتك وتدبِّرين أمور البيت ومعها الوقت. الوقت الوقت يا آنسة رحمة!

- طيب طيب يا أستاذ عبد القادر سأبذل قصارى جهدي، ومن جهتك اشرح ظروفي العائلية للسيد باتريك.

- سأفعل ذلك، لكن دبِّري أمورك مع زميلاتك لو حصل أي طارئ لا قدَّر الله!

- حاضر.. أين الفارس زكرياء؟

- ينتظرك في مركبته الخاصة يا أميرة المركز! الله يكثر من أمثالك يا آنسة رحمة!

- لو عدَّد الله أمثالي ما استحضرني موسيو باتريك! أراك لاحقًا!

تركتْه يضحك بملء شدقيه، ثم دفعت مصرعي الباب الزجاجي الذي يفصل مكتب السيد عبد القادر عن فضاء الترويض؛ مُوزِّعة التحايا وإشارات الودِّ كلَّما مرَّت بأحد أجزاء ومرافق الممرِّ العريض الذي يُفضي مباشرة إلى قلب المركز، حيث الإدارة وغرفة فريق العمل والفسحة المتوسطة التي زُيِّنت جدرانها برسومات ومشغولات فنية وزخرفيَّة، بالإضافة إلى معلَّقات من صور الأطفال وجداول الزمن وشهادات التكوين والتقدير المحفوظة في ألواح من الزجاج والخشب.

الأجواء في المركز هادئة في أكثر الأحوال، والحركة هنا، الحركة التي يأتيها ذوو الاحتياجات الخاصة عزيزة في أعين ذويهم، صعبة المنال. بيد أنهم يحضرون حصص الترويض والقلب مُؤمَّل في التحسن والتقدم. يتراءون في صبر واستسلام لوضع غالِب قرَّروا احتماله بالقبول والدعاء وتغييره نسبيًا بالمواظبة على التمارين وحصص الترويض الطبي.

- أخيرًا وصلتِ حبيبتي!

- مرحبا أم زكرياء! يا الله كم افتقدتك!

- والله العظيم المركز بدونك بارد قاتم. أما ابني فمدَّة غيابك وهو يعيش حالة قلق وضياع! البارحة زارنا السيد باتريك وأحضر له قميص منتخبه المفضل فلم يُبد أي اهتمام بالهدية. لكن عندما ذَكَرَ اسمك مُتحدِّثًا عن عودتك للخدمة في المركز، كاد يُجن من فرط الغبطة.

- زكرياء يمرُّ بفترة جدَّ حسَّاسة وحرجة ويحتاج الكثير من الحنان والكثير من اللَّمس. إنه عاجز تمامًا عن التحكم في جسده، لكن قواه العقلية سليمة وعواطفه جيَّاشة لا تتوقَّف عن التعبير وطلب الإشباع.

- السيد باتريك وزوجه أعطيانا شروحات مفصَّلة عن حاجاته النفسية والجسدية لكن لا نستطيع تطبيق كل تعليماتهم في كيفية تحقيقها لاسيَّما تلك المتعلقة بـ ........

- تقصدين الجانب الحميمي من شخصيته؟

- نعم. أنا ووالده في ورطة ولا نملك الجرأة والشجاعة للتعامل مع هذه المشكلة الجديدة. لم يخطر ببالنا أن له رغبات من ذلك النوع!

- زكرياء إنسان من لحم ودم. له مشاعر وعواطف ورغبات مثلنا تمامًا. لكن احتياجه لنا ولذويه واقع يجب تقبُّله. لو كانت لزكرياء بعض المهارات الحركية لخلَّص نفسه بنفسه من هذه المشكلة لكن أمام وضعيته المعقَّدة ليس في وسعنا غير تسخير أيدينا وحواسنا لخدمته.

- كيف عزيزتي؟ من فضلك أشيري عليَّ ببعض الأفكار المفيدة!

- في جعبتك عشرات الطرق والأساليب حبيبتي، امزجيها بكثير من الصبر والقبول والمحبة وسترين بنفسك تأثيرها الجميل على ابنك. عذرًا أم زكرياء سأتركك اللحظة لأطمئن على البطل الذي ينتظرني هناك!

- تفضلي ابنتي.. ربنا يباركك ويعينك!

شبه مُمدَّد كان زكرياء جالسًا على كرسي مُتحرِّك. وقفت رحمة قُبالته فأشاح بوجهه نحو الحائط. راوحت مكانها ولم تنبس ببنت شفة لأن الكلمة لحظتها كانت لزكرياء ليُعبِّر عن احتجاجه وغضبه ويئسه واحتياجه لرحمة حجبتْ وجهها عنه ما شاءت الأحوال والتقلبات العائلية. ولولا أن ظهرت من جديد، لارتدت عظامه الرقيقة وعضلاته الواهنة إلى اليباس!

اعتصم بالسكون فيما ظلت هي هادئة صامتة؛ صابرة تنتظر التفاتة منه لتستقرَّ في قلب سمائه وتغسل ببساطة قلبها وعبير محبَّتها تلك الهالات السوداء حول عينيه الغائرتين. أمعن زكرياء في تقوقعه وعتابه وألحَّت بدورها في انتظاره وتفهُّمه وما هي إلاَّ أن لانت قناته وانبسطت أسارير وجهه ففوَّحت في الغرفة رائحة المصالحة. كان قلبه يهتزُّ طربًا تحت صدرها كأنه حبَّة خردل أزف وقت اندفاعها؛ نبتة تعانق الشمس فتينع بسرِّ ضيائها!

مسحتْ على رأسه فتنهَّد ملء اشتياقه. واستمرَّت تداعب شعره الناعم مُستحضرة قصة تلك العجوز التي أعطت حياة جديدة ليتامى الحرب العالمية الثانية، إذ كانت تواظب على تفقُّد أحد العنابر في ملجأ وتُكثر من لمس أطفاله واحتضانهم في الوقت الذي كانت فيه باقي العنابر تشكو من تأخر نموِّهم وتدهور حالتهم الصحية بل وارتفاع عدد وفياتهم رغم أن جميع العنابر تأخذ الطعام نفسه والرعاية الصحية ذاتها دون مفاضلة أو اصطفاء في توزيع الاهتمام. صنع هذا النموذج الإنساني الذي عرضه أحد المؤطرين إبَّان ورشة في المركز؛ كمصدر للإلهام والتشجيع، فرقًا في أسلوب عمل رحمة وكيفية تسخيرها لحاسة اللمس خدمة لذوي الاحتياجات الخاصة. ولعلَّ هذا ما شدَّ انتباه السيد باتريك وزوجته للمهارة التي حصَّلتها مثلما شدَّ ذلك العنبر الاستثنائي انتباه أحد الأطباء فاكتشف بعد ملاحظة وتجريب الحنانَ الكامن في جلدنا.

سُرَّ زكرياء بعودة مروِّضته أيَّما سرور، وفي غمرة فرحه راح يخبرها بكلمات قليلة متقطعة وإيماءات عريضة مُعبِّرة بكل تفاصيل زيارة السيد باتريك وزوجه مُشيرًا بكل رأسه إلى القميص الرياضي الجديد تحت السُّترة ثم إليها لتكتشف هدية جديدة خلف مقعده المتحرك؛ تلقَّاها دقائق فقط إثر ولوجه فضاء الترويض.

- فوفوزيلا! لشدَّ ما هي جميلة زكرياء! إنها هدية مُميَّزة.

- وصلـ... تني من جــ... نــوب اففريــ....ـــكيا.

- من الزائر الجنوب إفريقي؟! جيِّد!

أومأ بالإثبات ثم أضاف بنبرة مُشبعة بالرَّجاء:

- جرِّبيها.. جرِّبيها!

- لا أجيد العزف أيها الذكي..

- نففــ... ـخة واااحدة ففـــ...ــقط الله يرحم والديك!

حرَّكت توسُّلاته شغاف قلبها، ولولا أن تماسكت لانهارت عند قدميه باكية مُتشفِّعة بعجزه إلى السماء. لكنها ما لبثت أن تناولت المزمار وطفقت تُرسل في جعبته كل الهواء المضطرب في رئتيها. تنفخ هنا وهناك بحماس طفولي جعل زكرياء ينتشي فرِحًا مُشجعًا رحمة على الاستمرار في التزمير والرقص. كانت ملامح وجهه الدقيقة وإيماءاته اللافتة العريضة تعلن توحُّده وتماهيه المطلق مع حركات رحمة؛ يشهق مع شهيقها ويزفر مع زفيرها وتدمع عيناه من الضحك عندما تنفخ في الفوفوزيلا المزعجة. فأما هي فكانت تتصنَّع حركات دورانية وأخرى جانبية كي لا تقف على حافة بئريه العميقتين حيث ترقد جميع أحلامه وحاجاته فتهوي عند قدميه المُتيبِّستين منتحبة متشفِّعة بعجزه إلى الرحمة التي وسعت كل شيء!

*** *** ***

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني