مفهوم الشكل في المنطق الحيوي

 

حمزة رستناوي

 

الحيوية هي فهم الوجود الإنساني كطريقة تشكل ديناميكية، وليس كوجود جوهراني ثابت بغض النظر عن تسمية هذا الجوهر الثابت: روح – مادة- مطلق- جنس- أخلاق – جوهر قومي – طائفي- ديني – أو حتى شخصي.
رائق النقري

 

أوَّلاً: ملخَّص مفهوم الشكل الحيوي:

الوجود شكل، كل كينونة هي شكل، ولكن ماذا نعني بالشكل؟ الشكل يعني طريقة تشكُّل، كل كينونة تتشكل في شكل وفقًا لضرورات وصيغ منطقية وقانونيَّة. كل الكائنات تتماثل في كونها شكلاً، ولكنها تختلف عن بعضها البعض، حيث لكل كينونة طريقة تشكُّل مختلفة، وفقًا لظروفها المُحدَّدة. وهذا الاختلاف لا ينفي وجود قانون عام، ولكنه يبرِّر القول بوجود تعبيرات مُحدَّدة ومختلفة للقانون العام، تعبيرات مُحايثة للكينونة ومُفسِّرة لاختلاف الكائنات.

يمكن تلخيص مبادئ القانون الحيوي في خمسة بنود:

-       أولاً: مبدأ الشكل: كلُّ كائن هو شكل، وإن بدا من دون شكل، من حيث أنَّه طريقة تشكُّل وليس بجوهر ثابت.

-       ثانيًا: مبدأ الشكل حركي: كل كائن هو شكل حركي وإن بدا ساكنًا، من حيث لا يوجد شكل غير متغير.

-       ثالثًا: مبدأ الشكل احتوائي: كل كائن هو شكل احتوائيٌّ، وإن بدا فارغًا، حيث لا يوجد كائن دون أبعاد أو كائن أحادي البعد.

-       رابعًا: مبدأ الشكل احتمالي: كل كائن هو شكل احتمالي وإن بدا حتميًّا، من حيث أنَّ كل كائن هو متعدد المسارات والقيم.

-       خامسًا: مبدأ الشكل نسبي: كل كائن هو شكل نسبي وإن بدا مطلقًا، من حيث أنَّهُ متعدد المنظور.

إنَّ القوننة الحيوية الاجتماعية ليست سوى تعيين للقوننة الحيوية الكونية ضمن الشكل الاجتماعي البشري. في الحقيقة إنَّ الكينونة الاجتماعية (البشرية) هي أيضًا شكل، طريقة تشكُّل، تتشكَّل من الأبعاد المختلفة للكينونة الاجتماعية (البشرية) نفسها. وهي - وفقًا لرائق النقري - ثمانية أبعاد هي: الزمن- الأرض- السكان- العمل- العلم- العقيدة - الإدارة – القيادة، والتي بدورها يمكن توزيعها في ثلاث فعَّاليات: هي الفعالية العضوية والفعالية العقلية والفعالية الروحية.

ثانيًا: الشكل من الإطار الخارجي... إلى طريقة التشكُّل:

الخشب قابل لأن يكون كرسيًا، طاولة، عصا، نشارة خشب،.. الخ. الخشب هو خشب لأن له شكل خشبيٌّ؟ ما هو هذا الشكل الخشبي؟! هل هو شكل خارجي وإطار فقط؟ أم أنه طريقة تشكُّل للمادة فيزيائيًا وكيميائيًا وهندسيًا.. الخ، في شكل، صيغة، طريقة، أسلوب... معيَّن!

بدل من أن نُعرِّف الكائن بأنه يتألَّف من شكل ومُحتوى، سنقترح التعريف التالي: الكائن هو شكل يتشكَّل في طريقة معيَّنة. ولكن طريقة تشكُّل لماذا؟ هو طريقة تشكُّل لأبعاد هذا الكائن، لكن ما هي أبعاد الكائن، أبعاد وجود الكائن؟ هي أبعاد متعددة أبسطها الزمان والمكان، وقد تكون أبعادًا فيزيائية، كيميائية، بيولوجية مورفولوجية، جمالية، سياسية، اقتصادية، لغوية، اجتماعية، نفسية، .. الخ. التفاحة مثلاً هي شكل تفَّاحي، وهي شكل يتشكَّل في طريقة معيَّنة، تختلف عن الشكل الأجاصي أو أشكال الفاكهة الأخرى.

الوطن هو شكل يتشكَّل في طريقة / طرائق معيَّنة، وهو يتشكَّل من أبعاد وجوده المختلفة في الزمان والمكان، إضافة لأبعاد أخرى سكانية جغرافية سياسية تاريخية نفسية.. الخ، وليس ثمَّة مضمون ثابت أو حتى مُتغيِّر للوطن - مستقلٌ عن ابعاد وجوده - لا يخضع للتشكُّل، أو غير مُحتوى في شكل.

لكن هل نحن نستخدم كلمة الشكل استخدامًا مواربًا مزدوجًا، بمعنى الشكل: الإطار الخارجي، والشكل: طريقة التشكُّل؟! لمحاولة الإجابة على ذلك، سنرجع إلى اللغة: تَشَكَّلَ على وزن تَفَعَّلَ، والمصدر منه تَشَكُّلْ على وزن تَفَعُّلْ، وهذا المعنى يفيد الصيرورة والحركة، على النقيض من شَكَلَ على وزن فَعَلَ، والمصدر منه شَكْلْ الذي يفيد السكون والثبات. فالكائن في أية لحظة، هو كائن يتشكَّل ويتغيَّر حقيقةً، بما يُلزمنا باستخدام الصيغة الحركية، فهو يتشكَّلُ في شكل، وهذا الشكل ليس بثابت. استخدام الشكل بهذا المعنى يدعمهُ ما يلي:

أ‌-     يحق للباحث افتراض ما يشاء من المصطلحات وتقييد دلالتها، كجزء من منهج البحث الذي نستطيع اكتشاف كفاءته بالتطبيقات والمردود المعرفي النظري والعملي.

ب‌- لغويَّا وقاموسيًا، الشكل لا يعني كما أسلفنا الشكل الخارجي على سبيل الحصر، لنراجع هذا المعنى في لسان العرب: "الشكل: الطريقة. الشاكِلةُ: الناحية والطَّريقة والجَدِيلة. وشاكِلَةُ الإِنسانِ: شَكْلُه وناحيته وطريقته. وفي التنزيل العزيز: قُلْ كُلُّ يَعْمَل على شاكِلَته؛ أَي على طريقته وجَدِيلَته ومَذْهَبه"[1]. وسوف نستخدم مصطلح الشكل – في المنطق الحيوي – بمعنى الشكل الذي يتشكَّل في طريقة معيَّنة، وفي كلام العرب ثمَّة تأسيس وتقعيد لمفهوم الشكل كشكل وكطريقة تشكُّل، فمن دلالات كلمة شكل في لسان العرب نجد: الشكل: الصورة والهيئة، الشكل: الشبه والمثل، الشكل: الطريقة، الشكل: التقييد وإزالة الالتباس.

ثالثًا: مفهوم الشكل برواية رائق النقري:

لنتوقف عند هذا النص لرائق النقري- مؤسس مدرسة دمشق للمنطق الحيوي- يشرح فيه مفهوم الشكل:

إنَّ الكائنات الموجودة وغير الموجودة، هي أشكال بالفعل.. ولكنها مختلفة بطرق تشكُّلها.. ولكلٍّ تشكُّله المختلف عن الآخر باختلاف أبعاد وظروف هذا التشكًّل. لذلك فكون الكائنات كلها الموجودة وغير الموجودة أشكالاً لا يعني أنها متماثلة. فطريقة التشكل مختلفة من كائن لآخر. وبما أن ظروف وأبعاد التشكل لامتناهية، فإن الكائنات مختلفة الأشكال بشكل لامتناهٍ، وهذه الاختلافات اللانهائية بين الأشكال تظهر وتزول، تترابط وتتعارض، تتنافر وتتجاذب.. الخ، بحسب طريقة تشكلها فقط!! ولذلك فإن تعبير الشكل، يشمل كل تعبير، وكل كائن آخر. ويفيدنا التعرف عليه في أشياء كثيرة منها:

أ- ضرورة أن ننظر إلى الكائنات بوصفها موحَّدة، في قانون تشكِّلها، ومختلفة في هويَّة تشكُّل كل منها، بحسب اختلاف وخصوصية طريقة تشكُّلها. والاختلاف قد يكون قليلاً أو كثيرًا، ولكنه اختلاف. وحتى في عملية الاستنساخ عن ورقة مطبوعة، أو خلية عضوية... فإن ثمة اختلاف بين الأصل والنسخة، على الأقل من حيث صيرورة تشكُّله التاريخي، السابق لنسخه، أو من حيث طريقة الإنتاج، والنسخ، وما تمثله من أبعاد يمكننا حساب اختلافاتها بالنسبة للنسخة الجديدة. إذًا، القول بالشكل، لا يعني القول بالتماثل، في هوية الكائنات، بل يعني، القول بتماثل قانون تشكل الكائنات في هوية مختلفة باختلاف ظروف تشكلها، وبخصوصية تلك الظروف.

ب- القول بالشكل يفيدنا – أيضًا - من خلال زيادة قدرتنا على التحكُّم بتحوُّل الكائنات المرتبطة بمصالحنا، بحيث نفهم أنَّ التحوُّل من الظاهرة الدينية إلى سياسية وبالعكس إنما يكون بسبب وحدة تشكُّلهما كقانون في صيغ مختلفة. وهكذا بالنسبة إلى التحوُّل بين العضوي واللاعضوي، بين المادي والطاقي.. الخ، وأية عملية تحوُّل بين الكائنات إنما تنطُق بالشكل! وهكذا فالمعرفة هي أيضًا شكل مختلف في صيغ تكوِّنها بحيث نعرف شيئًا أو نجهله، نعرفه معرفة معينة، ويعرفه غيرنا في صيغة أو مستوى آخر. والجهل شكل أيضًا- ولكن بما أن المعرفة والجهل هما معًا مشمولان بالشكل، فإن عملية التحول من المعرفة إلى الجهل ممكنة!! ومن معرفة إلى معرفة أخرى مُغايرة هو أمر ممكن أيضًا[2].

لكن هل مفهوم الشكل جديد أم أنه قديم؟ وهل هو اكتشاف أم اختراع؟ لنتابع مع النُقري:

مفهوم الشكل، إذًا ليس جديدًا، الكلُّ يعرفه، الكل ينطقه، الكل يعيشه، وباستمرار.. وإذا كان معروفًا وشائعًا، فلماذا نصرُّ عليه؟! لأنَّ وعي الشكل، يسمح باستخدامه كأداة معرفية وعملية، لنجعله مفتاحًا بيدنا لنقيس، ونفهم ونغير، ونعالج أمورنا الصحية، والفردية، والعائلية، والاجتماعية، والسياسية والاقتصادية والدينية.. الخ[3].

الشكل يعطينا إمكانية معرفة قانون الكون، دون اللجوء إلى أي تعبير من خارجه، ومن تعبير الشكل - نفسه- يمكن إدراج مفهوم "اللاشكل" لأنه هو أيضًا شكل. فإذا، أقررنا أن الكون شكل، فهذا يعني أننا سنقرُّ أنه حركة لأن طريقة التشكل كطريقة ليست سكونًا. والسكون نفسه- شكل!! والسكون- نفسه بوصفه شكلاً وطريقة تشكل، فهو- أيضًا- حركة. وقد تكون "حركة ساكنة"، "حركة مستقرة"، "حركة سريعة"، "حركة غير منظورة أو منظورة"، "حركة استعمالية"، "حركة ذريَّة".. الخ. ولأنَّ أية كينونة هي شكل حركي، فهي في صيرورة!! بمعنى أنها تاريخية، ومتغيرة ولا توجد كائنات لا تاريخية. وقد يكون التغيير أو الحركة ثابت المنحى، ولكنه تغيير! هل نحن نلعب بالألفاظ؟! الإجابة هي النفي. ولذلك، فإننا هنا، لا نتلاعب بالألفاظ، بل نقدِّم معانٍ وألفاظ جديدة وضرورية في عصر العولمة الحيوية! بحيث تكون مدخلاً للهندسة المعرفية التي تشمل كل المعاني الموجودة في السماء والأرض! والله (سبحانه وتعالى) نفسه وهو الثابت الدائم والذي لا يحول ولا يزول، هذا الإله - نفسه- يوصَف في القرآن بأنه "كل يوم هو في شأن" (الرحمن 29). ويمكننا من خلال استعمال تعبير "الشكل"، بوصفه مفهومًا، يشمل كل طرق التشكُّل، أن نعرف - أيضًا وضمنًا - أن السحر هو بدوره شكل، والغيب شكل، والعلم شكل، والمشاهدة شكل أيضًا.. وهذا مرَّة أخرى ثانية وثالثة وعاشرة.. لا يعني أنَّ هذه الأشكال متشابهة!! ولا يعني أن السحر هو العلم. ولا يعني أن الغيب هو المشاهدة. ولكن يعني أن "طريقة الشكل" يمكن أن تحوِّل العلم إلى شعوذة، وتجعل المشاهد مغيبًا. نعم، وطبعًا، يمكن أن يصبح الشكل جهلاً، ويمكن أن يؤدي شكل معين للتعليم إلى الجهل والجهالة! ولكن الشكل مختلف في هذه الحالات. ومن المعروف، أنَّ العرب الذين كانوا يحاولون تغيير المعادن الخسيسة إلى ثمينة. لم يكونوا يعملون بالسحر! أو "السيميا" بل كانوا يعملون وفق "مفهوم الشكل" أيضًا. وعندما تم اكتشاف صيغة الشكل الذري للمعادن، أمكن تحويل المعادن، وأمكن تحويل ما كان يُنظر إليه أنه سحر ليصبح علمًا.. وهكذا، فإن الشكل يسمح بمعرفة قانون تشكُّل الكائن، بوصفها حركة وصيرورة، وبالتالي احتمالية ونسبية[4].

بالوقوف عند النص السابق نلاحظ:

أ‌-      على المستوى النظري: حضور مفهوم الشكل كصيغة قانونية تحكُم وجود الكائنات وتفسِّر تنوُّعها واختلافها.

ب‌-على المستوى العلمي: مفهوم الشكل يستهدف زيادة قدرتنا على التحكم بالكائنات والمصالح المرتبطة بها، ويوفِّر الأساس النظري لتقنيات الهندسة المعرفية الضروريَّة لهندسة وإدارة وتسويق المصالح، وتقييم مقدار صلاحها وحيويَّتها.

ت‌-لا يخفي النقري الطبيعة الأداتيَّة لمفهوم الشكل ومردوده المعرفي، إضافة لكونه صيغة قانونية تشمل الكون وطرائق تشكُّل الكائنات.

رابعًا: مفهوم الشكل في المنطق الحيوي:

الكون شكل بدلالة معماريَّته المضادة للجوهر الثابت [رائق النقري]

المنطق الحيوي لا ينظر إلى الكينونة كوجود عيني، بل كطريقة تشكُّل لأبعاد وجودها المختلفة، أي كأسلوب، صيغة، طريقة، علاقات مُحَدِّدَة للكائن وشروط وجوده.

الشكل هو طريقة تشكُّل، إذ إن القول بأن الكائن هو طريقة تكوين، لا ينفي أن يكون للكائن شكل خارجي ومضمون داخلي، ولكن طريقة النظر – هذه - إلى الكينونة لا تعطي تعريفًا دقيقًا وشاملا ً للكائن، إذ إن الشكل الخارجي يبدو مخالفًا للمضمون الداخلي، مع أن لهما في الحقيقة الكينونة نفسها[5].

فالكائنات تتماثل في كونها أشكالاً وتختلف في طريقة تشكُّلها، فالكائنات لا تتطابق، والاختلاف هو بداهة وجودها كأشكال. إنَّ مفهوم الشكل يشمل الحسي والمعنوي معًا، الشكل الإنساني على سبيل المثال لا يعني فقط الشكل المادي للإنسان واختلافه عن بقية الكائنات من ناحية الشكل، بل يعني أيضًا شكلاً اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا ومعرفيًا ونفسيًا للإنسان. الشكل الإنساني ليس شكلاً ماديًا عينيًّا فقط، بل هو شكل/طريقة تشكُّل لكل هذه الأبعاد، فالشكل الإنساني اجتماعيًا يختلف عن الشكل السمكي مثلاً.. الخ.

خامسًا: خصائص الشكل في المنطق الحيوي:

أولاً - الشكل حركي:

الشكل حركة بدلالة فرق الجهد المحرك والمتحرِّك بآن واحد [رائق النقري].

لا وجود لشكل ثابت، ولا وجود لجواهر ثابتة، بل هناك شكل يخضع لفعل الزمن وتأثيره، وما نراه سكونًا إنما هو شكل حركي ولكن وفق صيغة معيَّنة، أعاقنا عن إدراك حركيَّتة عائق ما. وحركة الكينونة تؤثر وتتأثر بشكلها وليست بمستقلة عنها

الحركة والتأثير متبادلان إذًا. ولا يوجد صفة مميزة جوهرية للمحرك تجعله يختلف نوعيًا عن الحركة.. والمجال الحيوي هو المجال الديناميكي الحركي حيث كل شيء فيه حركة ومحرك في آن واحد. ولا انفصال بين المحرِّك والحركة[6].

فالإنسان - على سبيل المثال - شكل حركي: طفولة – شباب – كهولة.. الخ. والشكل الإنساني يتغير بين ثانية وأخرى أقله بيولوجيًا ونفسيًا والإحداثيات بالنسبة للمكان.

ثانيًا- الشكل احتوائي:

الشكل احتوائي بوصفه تحَوِّي مُحَدَّد، وبوصفه محصِّلة لتحوِّيات متعدِّدة المستويات والأبعاد، تتحوَّى بعضها بعضًا، بحسب صلاحيات كل منها تجاه نفسها وغيرها. وتعبير الاحتواء لا يُقدَّم هنا بالمعنى القاموسي، بل بالمعنى المنطقي القانوني المفسِّر لأية كينونة بوصفها تَحَوِّي لشكل. فالإنسان ككائن يَحْتَوِّي أبعادًا ومستويات متعدِّدة متفاعلة مع بعضها: فيزيائية وبيولوجية ونفسية واجتماعية جمالية.. الخ وكلٌّ منها بدوره يحتوي أبعادًا أخرى، وهو، أي الإنسان، في الوقت نفسه كذلك مُحْتَوَى في شكل قانوني عام للإنسان والكائن. فكل شكل مُحتوَى في شكل، ويَحتوي على شكل أيضًا، في دلالة على التَحَوّي المتجِّدد الديناميكي الضروري لتفسير وتحقيق صيرورة الكائن. ويمكن ملاحظة أنَّ الصياغة السابقة عن "الشكل الاحتوائي" هي تطوير لصيغة شبيهة أخرى اعتمدها رائق النقري عن الشكل بوصفه "صيرورة حيوية" عبَّر عنها في كتابه المنطق الحيوي: عقل العقل الصادر 1987م بما يلي: "الشكل صيرورة حيوية: بدلالة التفاعل الكلي والتشخيص الحي الذاتي" أي الشكل كمحصلة تفاعل كلي متبادل يحقِّق العام في الخاص والخاص في العام.

ثالثًا - الشكل احتمالي:

الشكل صيرورة احتمالية بدلالة تنوع أبجدية التكون والاتساق بإرادة الحياة [رائق النقري].

الشكل كصيرورة احتمالية لا يتنافى مع الصيغة القانونية التي تضبط هذه الاحتمالية ومفهوم الشكل عامةً، إنما يتنافى مع الحتمية الغائية الفلسفية التي تفسِّر حركيَّة الكون والمجتمع بناء على العلَّة الغائية، فالشكل الحركي للإنسان مثلاً يأخذ في مساره صيغًا احتماليَّة تتأثَّر بظروف داخلية وخارجية متعددة ومعقَّدة، فعلى سبيل المثال ثمَّة احتمالات هائلة لطرائق تشكُّل الإنسان وراثيًا، واحتمالات أخرى تتحكَّم في اتخاذ أي قرار شخصي لأي منا.. الخ.

رابعًا- الشكل نسبي:

الشكل صيرورة نسبية بدلالة الجملة التي يقترن بها ويتحوَّل بدلالتها [رائق النقري]

لكلِّ كينونة أبعاد تشكُّلها الخاصة المُختلفة في تاريخيَّتها وحيويَّتها عن كينونة أخرى، فالإنسان شكل نسبي حيث أن الشكل الإنساني يوجد من خلال صيغة إنسان محدَّد، وضمن شروط محدَّدة، وليس ثمَّةَ مقاييس مطلقة بل يوجد مقاييس نسبية متباينة متعددة تبعًا للمُقاييس وجملة المقارنة.

إن نسبية القانون - أي قانون - هي شرط لكونه مُحكم تجريبيًا وليس ذلك تقليلاً من صلاحياته، ولكن تدقيقًا في لغة عرض مصالحه، ولكون الشكل حركي احتوائي احتمالي فهو نسبي بالضرورة، حيث لكل معادلة ظروفها ودلالتها وقيمها التي تتحوَّل بدلالتها، ولكون التعبير عن القانون الحيوي للكون هو نسبي، فإن الكون يعبر عن قانونه بكل اللغات والممارسات.

سادسًا- قانون الشكل الحيوي (القوننة الحيوية الكونية):

الكينونة ليستْ بجوهر ولا يوجد جوهر في الكون، الكينونة شكل والكون شكل، وكل كينونة تتشكَّل في شكل وفقًا لصيغ وضرورات منطقية قانونية، فالكائنات تتماثل في قانون تشكُّلها، ولكنها تختلف في طرائق وظروف وخصوصيات تشكُّلها، وهذا الاختلاف لا ينفي وجود قانون عام، ولكنه يبرِّر القول بوجود تعبيرات وصيغ خاصة للقانون العام مُحايثة للكينونة ومُفسِّرة لاختلاف الكائنات. فالشكل قانوني بمعنى أنَّه مُقَونن بما يشمل كل كينونة، بوصفها شكلاً حركيًا، احتوائيًا، احتماليًا، نسبيًا.

إنَّ اختلاف الكائنات يعود لاختلاف طرائق وظروف وخصوصيَّات تشكُّلها، ولا يوجد كائنان متطابقان أو متماثلان في الوجود، فكل شيء هو هذا الشيء الفريد، فوفقًا لمبدأ ليبتز في التطابق:

شيئان لا يمكن التميز بينهما، أي شيئان متماثلان، لا يمكن أن يكونا شيئين اثنين، يجب أن يكونا الشيء نفسه، أي شيئًا واحدًا[7].

ويميِّز رائق النقري بين المطابقة بالمعنى الفيزيائي - أي كطريقة تشكُّل - وبين المطابقة بالمعنى الوظيفي "على سبيل المثال فإن الكومبيوتر الذي اكتبُ فيه وكذا موقع الويب الذي انشر فيه وكذا محطة راديو BBC التي استمع للأخبار منها.. الخ تتطابق وظيفيًا مع كل لحظات تاريخها ما لم يطرأ تعديل على وظيفتها. ولكنها مع ثبات وظيفتها فإنها تشهد وباستمرار، ورغمًا عنها وبشكل تجريبي مفتوح ومقونن حركات وتحوُّلات وتجديدات ومساهمات وأعطال مختلفة.. الخ"[8]. فالمطابقة الوظيفيَّة لا تنفى قانون الشكل العام، ولا ينبغي تفسيرها بوجود ماهيَّة جوهرانيَّة للكائن، فالماهيَّة أو هوية الكائن ما هي إلا شكل يظهر ويتغير ويزول ويختلف ويتماثل وفقًا للقانون الحيوي العام. ولكن هل القوننة المشار إليها تخصُّ الكائن أم مفهوم الشكل؟ الإجابة: القوننة تخصُّ الكينونة من حيث أنَّها شكل (قانوني).

القانون الحيوي بين العام والمُحَدَّد

سأثبتُ نصَّين هما خلاصة نقاشات بين كاتب السطور مع رائق النقري لتوضيح هذه الفكر:

النص الأوَّل: "القانون الحيوي لأي كائن هو نفسه القانون الحيوي العام، أما القانون الحيوي المُحدد بكائن معيَّن فهو قانون خاص بشكل هذا الكائن، ويتعلَّق بطريقة وأبعاد واحتمالات تشكُّل هذا الكائن، وحتَّى الأشكال والتعبيرات الممكنة بما فيها القاصرة والخاطئة للقانون الحيوي المحدَّد مشمولة بالقانون الحيوي العام، في سياق وظيفة احتمالية نسبية لم تتوفَّر لها حيوية كافية لتجاوز القصور الوظيفي الخاص بهذا الكائن، ومثالها موت البشر أو الشجر وكذلك الفكر والسلوك الجوهراني الأحادي للبشر فهذه في قصورها تبقى شكلاً حركيًا احتوائيًا احتماليًا نسبيًا أي شكلاً ذا خصوصيَّة ظرفية يشملها القانون الحيوي العام، ويمكن قياس حيويَّته المصالح التي يعرضها. لذلك لا يجوز القول بقانون حيوي ظرفي أو مُتغير، بل هناك قانون حيوي عام، وآخر مُحدَّد يشمله العام. القانون الحيوي العام هو نفسه ولكن ظروف تطبيق وظهور وتنوع وزوال الكائن الخاص لا يمكن تعميمها على كائنات أخرى ليس لها أبعاد وطريقة تشكُّل مماثلة. فمثلاً القانون الحيوي الخاص بالحجر ليس نفسه القانون الحيوي الخاص بالشجر وليس هو نفسه الخاص بالبشر، رغم كون الشجر والحجر والبشر وغيرهم مشمول بالقانون الحيوي العام.

إنَّ معرفة وممارسة القانون الحيوي العام لا تغني عن قوانين التعين والتحديد الخاص، وإنَّ القول بالقوننة الحيوية الكونية، يعادل تمامًا القول بمرجعيَّة البداهة الحيوية الكونية - أي مرجعيَّة الشكل - وبوصفها لا تتعلق لا بالبشر ولا بالمعرفة البشرية ولا يستطيع أحد أن يعيش خارجها إلا بها. وفيها وعبرها ومنها"[9].

النص الثاني: "القوننة الحيوية تعبِّر عن نفسها في كل الأشكال الواعية وغير الواعية وسواء أكانت صائبة أو خاطئة، لكون الوعي وغيابه، يحدث ويتنوع ويزول بقانون، والصواب وغيابه يحدث ويتنوع ويزول بقانون، وبالتالي فإن وعي القانون الحيوي وصوابيَّة الوعي أو برهانيَّته يخضع للقانون الحيوي نفسه، ولذلك سمي المنطق الحيوي بعقل العقل، فهو الذي يحتوي الوعي والجهل والصدق والكذب والصواب والخطأ والبرهاني والمنافي للبرهان.. والعادل والمنافي للعدل.. الخ بوصفها – جميعًا – أشكالاً مقنونة وملزمة التحقق، بضرورة منطق صيرورتها كأشكال متعددة القيم[10].

سابعًا: قانون الشكل الاجتماعي (القوننة الحيوية الاجتماعية):

إن القوننة الحيوية الاجتماعية ليست سوى تحديد وتعيين للقوننة الحيوية الكونية ضمن الشكل الاجتماعي البشري. فالبشر جميعًا يعيشون ويمارسون القانون الحيوي العام بدرجات وأشكال مختلفة ربطًا بخصوصيات الشكل الاجتماعي البشري ومُحدِّداته. لتوضيح ذلك سنقارن بين الحجر والبشر، فإذا كان الحجر هو تعين ضمن وحدة شكل فيزيائي كيميائي بيئي محدَّد مشمول بالقانون الحيوي العام، ولكن أبعاد وطريقة تشكله تختلف عن وحدة الشكل الاجتماعي البشري، وإنَّ الشكل الفيزيائي - بحدود علمنا - ليس شكلاً اجتماعيًا بشريًا، ولكن البشر يَتَحَوّنَهُ ضمن وحدة أبعاد شكلهم والذي يشمل بُعد الأرض بالإضافة لأبعاد أخرى يمكن التعرُّف عليها لاحقًا. إنَّ الشكل الفيزيائي الكيميائي البيئي ليس هو نفسه الشكل البيولوجي العضوي الحيواني، مع كون الشكل البيولوجي العضوي الحيواني المحدَّد يشمل البعد الفيزيائي الكيميائي البيئي، وإن القوانين الحيويَّة الخاص بالأشكال السابقة هي تحديد للقانون الحيوي العام، بما يلائم طرائق التشكُّل الخاصَّة بكل منها.

الكينونة الاجتماعيّة social being

"الكينونة الاجتماعية ليست مجرَّد مجموعة بشرية بل هي الفعاليات التي تنطلق من المجاميع البشرية، وبالتالي، فإن التعرُّف على ماهية الكينونة الاجتماعية يقتضي التعرُّف على أبعادها كفعاليات اجتماعيَّة"[11]. تتشكَّل الكينونة الاجتماعية من أبعاد متعدِّدة، ثابتة، تتحوَّاها الكينونة كمصالح فردية وجماعية تضمن استمرار الكينونة وإعادة إنتاج نفسها، ولا يوجد كينونة أحادية البعد.

البُعد: هو ثابت تتحوَّاه الكينونة - أية كينونة - كالبعد الزمكاني مثلاً. والمقصود بالكينونة الاجتماعية هنا فقط الكينونة الاجتماعيَّة الإنسانية، وليس الكينونة الاجتماعية للقرود مثلاً فهي أيضًا تعيش في مجتمعات، ويكفي التذكير هنا بأنَّ أية كينونة تحتوي لزومًا - على الأقل- بُعدي الزمان والمكان. وفقًا لرائق النقري هناك ثمانية أبعاد للكينونة الاجتماعية هي: الزمن- الأرض- السكان- العمل- العلم- العقيدة - الإدارة – القائد[12]. يمكن إجمالها في ثلاث فعَّاليات:

-       الفعالية العضوية: وهي الفعالية التي ليس ثمَّة وجود اجتماعي بدونها، حيث يشبه الإنسان فيها أي كائن عضوي آخر مع اختلاف النوعية، وتشمل أبعاد: الزمن- الأرض- السكان.

-       الفعالية العقلية: هي الفعالية التي يعقل بها البشر شروط وجودهم وينظِّمون استمراره، أي قدرة الإنسان على التبصر بشؤونه وتنظيم حياته، وتشمل أبعاد: العلم– العمل.

-       الفعالية الروحية: هي الفعالية التي يضبط المجتمع بها كينونته، ويبدع حيويتها ككينونة اجتماعية حيَّة، وتشمل أبعاد: العقيدة – الإدارة – القائد.

بالطبع عدد أبعاد الكينونة الثمانية ليس نهائيًا أو مُقدَّسًا، ولكنَّه وفي حدود معيَّنة صالح لفهم وتفسير الكينونة الاجتماعية.

البعد الزمني: هو الشكل التاريخي للكينونة الاجتماعية، كإيقاع وسمة وحركة، ولا وجود لكينونة اجتماعيَّة لاتاريخية.

البعد الأرضي: هو الشكل البيئي الجغرافي كموقع وتضاريس ومناخ للكينونة الاجتماعية.

البعد السكاني: هو الشكل الجنسي والعرقي والعمري والهجري - المتعلق بالهجرة - للكينونة الاجتماعية.

البعد العملي: هو الشكل الإنتاجي والاقتصادي للكينونة الاجتماعية.

البعد العلمي: هو الشكل الثقافي الرمزي للكينونة الاجتماعية.

البعد العقائدي: هو الشكل الأيديولوجي المعرفي والأخلاقي والجمالي للكينونة الاجتماعية.

البعد الإداري: هو الشكل السياسي والفئوي للكينونة الاجتماعية.

البعد القيادي: هو الشكل النفسي والبشري المفرد للكينونة الاجتماعية.

الكينونة الاجتماعية تختلف عن كينونة أخرى فقط تبعًا لاختلاف طرائق التشكُّل، وليس ثمَّة صفة جوهرانية تخصّْ الكينونة

فهذه الأشكال الفئوية المتباينة لا تُعاش كسمات مستقلة بل تُعاش معًا، وقد تكون إحدى هذه السمات أكثر بروزًا على صعيد فرد أو جماعة ضمن الكلية الاجتماعية، كبروز السمة الدينية أو الاقتصادية أو العشائرية أو اللغوية أو السياسية أو النفسية.. الخ. نقول إن بروز إحدى السمات لا يعني عدم وجود السمات الأخرى، ولا يعني أن لها صفة جوهرانية دائمة، بل إن ذلك متغير بتغير طرائق التشكّل الاجتماعي وأولويتها، والسمة الأهم تأخذ سمات اللحظة التاريخية[13].

ثامنًا: مفهوم الشكل في لمحة تاريخية:

إن مفهوم الشكل هو مفهوم جديد، ولقد ظهر لأول مرة مع رائق النقري في كتابه الإنسان شكل الصادر عام 1974 وبصيغة "الكون شكل، الإنسان شكل"، وإن كنَّا نجد إرهاصات مفهوم الشكل في كتابه الأيديولوجيا الحيوية الصادر عام 1970، حيث في معرض حديثه عن القانون الحيوي للكائنات، وقوانين الحركة يرد: "حركة الكائن هي تعبير عن بنية الكائن، فالكائن هو عمارة من العناصر مُعمَّر بصيغة معيَّنة.. أي إنَّ عمران الكائن يحدِّد عمره، حركته"[14]. وفي هذا الكتاب لم يُذكر مفهوم الشكل كمفهوم ومصطلح، ولكن بعد ذلك استخدام مبدأ الشكل - بوصفه طريقة تشكُّل - كتطبيق معرفي في كتابهِ القانون الحيوي للكون الصادر عام 1975م، وفي كتابهِ النظرية الحيوية في المعرفة الصادر عام 1976 م. ولكن مع أطروحته للدكتورة في جامعة باريس 1983م، والمعنونة بـ المبادئ الحيوية في الفكر الفلسفي والسياسي العربي المعاصر، تطبيقًا للقانون الحيوي على الدراسات الاجتماعية[15]، والمنشورة في كتاب المنطق الحيوي: عقل العقل الصادر عام 1987م، سوف نجد توسيعًا لمفهوم الشكل وتطبيقاته نظريًا وعمليًا على المادية الديالكتيكية والقومية العربية والإسلام السياسي، استنادًا إلى المبادئ الخمسة التالية للمنطق الحيوي:

-       المبدأ الحيوي الأول: الكون شكل بدلالة معماريته المضادة للجوهر الثابت.

-       المبدأ الحيوي الثاني: الشكل حركة بدلالة فرق الجهد المحرك والمتحرك بآن واحد.

-       المبدأ الحيوي الثالث: الشكل صيرورة حيوية بدلالة التفاعل الكلي، والتشخيص الحيِّ الذاتي.

-       المبدأ الحيوي الرابع: الشكل صيرورة احتمالية بدلالة تنوُّع أبجدية التكوُّن، والاتساق بإرادة الحياة.

-       المبدأ الحيوي الخامس: الشكل صيرورة نسبية بدلالة الجملة التي يقترن بها ويتحوَّل بدلالتها[16].

في أواخر تسعينيات القرن الماضي – في جامعة جورج ميسون/ الولايات المتحدة الأمريكية - تم تطوير تطبيقات مفهوم الشكل في حقول الهندسة المعرفية والذكاء الاصطناعي، وانتقل المنطق الحيوي من صيغة مبادئ فكرية إلى منطق رياضي متعدِّد القيم، مُستخدمًا تقنيَّة وحدة مربع المصالح ISU) Interest Square Unity) حيثُ تمَّ توثيقها في مجلة الوقائع السنوية للجمعية الكمبيوترية العالمية للمنطق متعدد القيم في 2000م[17]، وكذلك في الجمعية الأمريكية للرياضيات 2003م[18]، عُرضتْ تقنية وحدة مربع المصالح باللغة العربية لأوَّل مرة في كتاب فقه المصالح لرائق النقري 1999م[19]. ومن ثمَّ قدَّم كاتب السطور في كتابه أضاحي منطق الجوهر: تطبيق مقايسات المنطق الحيوي على عينات من الخطاب الإسلامي المعاصر، الصادر 2009م أوَّل تجربة موسَّعة لمقايسة النصوص باستخدام هذه التقنية، بمرجعيَّة مفهوم الشكل والمنطق الحيوي.

تاسعًا: حوار عن الإشكالية اللغوية في مفهوم الشكل:

سأثبت هنا إحدى الاعتراضات المُثارة حول "مفهوم الشكل" في المنطق الحيوي يثيرها  د. محمد عبد الله الأحمد في إحدى مقالاته في نقد المنطق الحيوي ومن ثمَّ سأعقِّب عليها:

محمد عبدالله الأحمد:

عندما يعرِّف المنطق الحيوي الشكل يبدِّل عمليًا تعريفًا تعلمناهُ في السابق عن (الشكل)، ولذلك فإن قارئ هذا الإنتاج الفكري سيكون أمام إشكالية لغوية ليس إلا، وكان من الممكن استبدال كلمة شكل بكلمة جديدة تمامًا على اللغات كلها، فلقد استمتعت في حوار شفهي مع الصديق رائق إلى ترجمة الكلمة للإنكليزية والفرنسية بعبارة (Form) المعروفة، التي تعني (الشكل) أو (الصورة الخارجية) ليس إلا، ونعرف مدارس فكرية تستخدم تعابير تخصها دون أن تغيِّر مصطلحات بديهية معروفة.. (الشكل) عند الحيويين هو: طريقة التشكل في صيرورتها الاحتمالية النسبية، وعليه يمكن تسميتها بشيء آخر. ولقد كنتُ دائمًا وأنا أقرأ مبدأ الشكل أتذكر فيلمًا أمريكيًا عن عالم أمريكي اخترع دواءً يعجِّل النمو البيولوجي، فشربت منه صديقته بالخطأ فصارت عجوزًا خلال بضعة أيام[20].

تعقيب كاتب السطور:

أ‌-     كلمة شكل لا تعني قاموسيًا – كما بيَّنا سابقًا، وكما هي متداولة على الألسن كذلك- الشكل بمعنى الصورة الخارجية فقط. فنحن نقول: "أكلهُ غير شكل" "إنسان غير شكل" "كلٌ على شاكلته"، ونقول أيضًا "تضرب بهل الشكل" "شكلك ما رح تشتغلْ اليوم".. الخ، وليس المقصود الشكل بمعنى الصورة الخارجية فقط. ونجد هذا في لغات أخرى كالإنكليزية، حيث يجد الباحث ثلاث عشر دلالات لكلمة form كما وردت مثلاً في معجم: Longman[21].

ب‌-ليس ثمة إشكالية لغوية بالمعنى الدقيق للكلمة حول مصطلح "الشكل"، طالما أننا قمنا بتعريف هذا المصطلح وضبطه ضمن "قاموس المنطق الحيوي".

ت‌-الشكل الخارجي ما هو إلا إحدى طرائق التشكُّل المُمكنة للكينونة من حيث كونه وكونها صيرورة حركية احتوائية احتمالية نسبية، مقوننة تعرض لمصالح يمكن مقايسة صلاحيتها. فأي شكل هو بالضرورة طريقة تشكُّل: شكل/طريقة تشكل.

إن مفهوم الشكل في المنطق الحيوي لا يقتصر على الشكل الفيزيائي، بل يحتوى الشكل الميتافيزيقي الذي يشمل الوهم والإيمان والروح والفكرة والحقيقة أيضًا، فما هو شكل الفكرة؟ وما هو السطح الخارج لها؟! ومفهوم الشكل في المنطق الحيوي يحتوي الشكل المنطقي الذي يشمل العدم، فما هو الشكل الخارجي للعدم وما هو داخله ومضمونه؟ والشكل الحيوي يحتوي أيضًا الشكل الرياضي، فما هو السطح الخارجي للصفر؟ وما هو الوجه الخارجي للناقص واحد؟

فكل هذه الأشكال الميتافيزيقية والرياضية والمنطقية لا يصلح لها تعبير الشكل التقليدي. فالشكل في المنطق الحيوي هو مفهوم منطقي يوحِّد بين طرائق التشكل المختلفة للكائن الفيزيائية والميتافيزيقية والمنطقية والرياضية.. الخ بوصفها تتماثل من حيث كون كل منها طريقة تشكُّل، وتختلف في طرائق تشكلها. ولعل إحدى الصعوبات التي تواجه الناس في فهم الشكل هي في إحالته للشكل الفيزيائي "حجم وكتلة.." أو إحالته إلى الشكل: بدلالة الإطار الخارجي.

محمد عبدالله الأحمد:

هذه مشكلة عميقة أن تعتبر المضمون شكلاً. هذه أكبر معضلة وهي (قلت سابقًا) إما خطأ لغوي أو خطأ فلسفي فلابد من شكل، ولابد من مضمون، وإذا وافقت على هذه الطريقة في تغيير المفاهيم والتعاريف أستطيع تكريس حياتي كلها لإقناع العالم أن (الكرة الأرضية) هي من كان يجب تسميتها (عطارد) والعكس بالعكس... خصوصًا أنني وبكل احترام عندما قرأت غاية الفكرة، أي تعريف الشكل بأنه طريقة التشكل وجدت أنه من الممكن عدم سرقة كلمة شكل من جيب اللغة لوضعها في غير موضعها، لأن هذه السرقة أثرت كثيرًا على تطور الفكرة فيما بعد وقبول الناس بها[22].

تعقيب كاتب السطور:

الشكل لا يعني الشكل الخارجي على سبيل الحصر، لنراجع هذا المعنى في لسان العرب: "الشكل: الطريقة، الشاكِلةُ: الناحية والطَّريقة والجَدِيلة. وشاكِلَةُ الإِنسانِ: شَكْلُه وناحيته وطريقته. وفي التنزيل العزيز: قُلْ كُلُّ يَعْمَل على شاكِلَته؛ أَي على طريقته وجَدِيلَته ومَذْهَبه"[23]. الشكل المقصود هنا هو مفهوم الشكل في المنطق الحيوي، بما يتجاوز ثنائية المضمون والشكل، وهو ليس حدًّا فيها، والمضمون بهذا المعنى هو طريقة تشكُّل، وكل مضمون يتشكَّل في شكل. لنتساءل مع الدكتور الأحمد أليس من الممكن إهمال كلمة شكل تمامًا، واستخدام كلمة تشكُّل أو تعبير "طريقة تشكُّل" تفاديا للُّبس، طالما أن المنطق الحيوي يقصد بالشكل: طريقة التشكُّل؟! إجابتي هي أنَّ كل شكل هو عبارة عن طريقة تشكُّل، ولكل طريقة تشكُّل هي شكل، أي تتظاهر في شكل، فالكينونة هي طريقة تشكُّل حركية، يتحوَّها شكل، والشكل الذي نقصده يشمل الشكل الخارجي ولكن لا يقتصر عليه.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1]  لسان العرب، ابن منظور، مادة: شكل.

[2]  فقه المصالح، رائق النقري، دار الأمين، القاهرة، ط1، 1999، ص 12-13.

[3]  فقه المصالح، مرجع سابق، ص 14.

[4]  فقه المصالح، مرجع سابق، ص 14-15.

[5]  المنطق الحيوي: عقل العقل، رائق النقري، باريس 1987، من دون تحديد للناشر - ج3، ص 342.

[6]  المنطق الحيوي: عقل العقل، مرجع سابق، ج3، ص 410.

[7]  السؤال عن الشيء (حول نظرية المبادئ الترنسندنيالية عند كنت)، مارتن هايدجر، ترجمة اسماعيل المصدق، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت، 2012م، ص 57.

[8]  موقع مدرسة دمشق للمنطق الحيوي والحوار، من حوار بين كاتب السطور ورائق النقري، تاريخ 26-2-2012م.

[9]  النص الخام لرائق النقري، ولكن بصياغة وتنقيح كاتب السطور، موقع مدرسة دمشق للمنطق الحيوي والحوار، تاريخ 2-5-2012 م.

[10]  موقع مدرسة دمشق للمنطق الحيوي والحوار، تاريخ 4-8-2010.

[11]  المنطق الحيوي: عقل العقل، مرجع سابق، ج3، ص 353.

[12]  الأيديولوجيا الحيوية، رائق النقري، دمشق، مطبعة دار الثبات، 1970 م، الصفحات من 25 إلى 27.

[13]  فقه المصالح، مرجع سابق، ص 54.

[14]  الأيديولوجيا الحيوية، مرجع سابق، ص 17.

[16]  المنطق الحيوي: عقل العقل، مرجع سابق، ج1، الصفحات 341-407-477-533-607.

[17]  الجمعية الكمبيوترية العالمية للمنطق المتعدد القيم، مجلد الوقائع السنوية 2000م، وهي مسجلة في مكتبة الكونغرس تحت الرقم:  ISBN:0-7695-0692-5يمكن العثور على ملخص عنها  في

A Four-Valued Logic B(4) of E(9) for Modeling Human Communication
IEEE Computer Society Washington، DC، USA
Proceedings of the 30th IEEE International Symposium on Multiple-Valued Logic (ISMVL 2000)  Page: 285
Year of Publication: 2000
ISBN:0-7695-0692-5

[18]  الجمعية الأمريكية للرياضيات عام 2003.

[19]  فقه المصالح، مرجع سابق، الصفحات 44-45-46

[20]  موقع كلنا شركاء، تاريخ 21 - 12- 2009،  قراءات حول منطق الحيويين (تكرار الهمس الصاحي )، محمد عبد الله الأحمد.

[21]  قاموس:Longman  وهو من المعاجم الانكليزية الأكثر شهرة، على الرابط: http://www.ldoceonline.com/dictionary/form_1

[22]  موقع مدرسة دمشق المنطق الحيوي وللحوار، تاريخ 31-12-2009م، عنوان الرابط: المحامي ياسر السليم: ما بعد صدمة المنطق الحيوي- رج على د. محمد عبدالله الأحمد ج1/ 2.

[23]  لسان العرب، ابن منظور، مرجع سابق، مادة: شكل.

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني