الجهاد الحق

 

إليزابث ديبولد

 

قال نبيُّنا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم وقد رجعنا من غزوة بدر: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر." فسألناه: "وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟" قال: "جهاد النفس!" – حديث شريف

 

عندما تقوَّض أول برجَيْ مركز التجارة العالمي وانهار على ذاته كاللعبة المجوفة، أبصرتُ، مع الملايين، مرعوبةً غير مصدِّقة، كيف تفجَّر الجهاد على الأرض الأمريكية. لقد قفز الجهاد "المقدس" (المولود مع الإسلام عندما صارت الإمبراطورية الرومانية "مقدسة" بتبنِّيها المسيحية) قفزة مُحرِقة إلى القرن الواحد والعشرين، وحَلَّت التغطية المتلفزة لطائرات نفاثة توقد صروح الحجر الحديثة محلَّ الرسوم القديمة للسيوف تتقارع في الصحراء.

مجاهِدةً للتعرف إلى حقيقةِ ما كنت أبصر سألتُ سؤالاً كان يسأله الكثيرون منَّا: "كيف يمكن لبشر أن يفعلوا شيئاً كهذا؟" وألفيت في نفسي إقراراً قطعياً بأني كنت أعرف فعلياً كيف يمكن لشيء كهذا أن يحدث. لا، لم أحْيَ قط حياة سرية كمُشعِلة حرائق وليست لي سوابق في الإجرام المسلَّح. لكن كلمة "جهاد" لا تشير فقط إلى حرب الإسلاميين الأصوليين على "الكفار". فالمعنى الأصح، الأعظم، للجهاد يشير إلى الكدح في سبيل العتق الكامل للروح من "النفس الأمَّارة بالسوء" – المنزع اللاواعي في النفس البشرية الذي يصرُّ على الفصل والتجزئة. إن النفس – أو الأنيَّة – هي الإرهابية القصوى، إذ تبدِّل أزياءها بيسر مخاتل، وتلوص في متاهة العقل، مطلقةً تفجيرات من الرعب والغضب، غيرَ مرئية أبداً بوضوح حتى تُعلَنَ عليها الحربُ وتُستصدَرَ مذكِّرةٌ بالقبض عليها، حية أو ميتة.

لماذا تستغربون؟ صدِّقوني، لم تكن عندي أدنى فكرة عن وجود مثل هذا الكيان في ثنايا النفس البشرية – ناهيك عن نفسي أنا. فمع أني كنت أهزُّ رأسي بالموافقة في الأوقات المناسبة كلما تكلَّم شيخي أو آخرون سواه عن الأساليب الشريرة للأنيَّة، لم أكن، بصراحة، آخذ وجود أنيَّة في نفسي على محمل الجد. كذا هو الغرور البشري: مهما حذَّر النبي محمد وكل المنقولات الدينية الكبرى، وحتى شيخي نفسه، من حبائل الأنيَّة ونصح بضرورة الأخذ بالسيف، كنت أتجاهل التحذير. فمن الربِّ كرشنا يقود أرجونا في المعركة في البهغفدغيتا إلى معلِّمي الزن الشرسين في الصين واليابان، من صراع زرادشت الداخلي بين الخير والشر إلى النسخة المسيحية من الصراع عينه، ومن القديسة تيريزا الآفلية إلى دون خوان، معلِّم كارلوس كستنيدا، تعج ساحة الوغى المجازية بصور، بوصايا، وبإلهامات تراث غني من المقاتلين الروحيين الذين خلَّفوا بصمتهم الأسطورية على صفحات تاريخنا الديني. يبيِّن كل من هذه التعاليم والأمثولات بوضوح لا لبس فيه أن الحياة الروحية قتال حتى الموت، حرب بين الخير والشر، معركة دموية حقة تستعر في نفس المريد. لكني كنت أهمل هذه القصص بوصفها بالية، مجازية بحتة، تتكلم بلغة ربما لاءمت العصور الوسطى، لكنها تكاد لا تمتُّ بصلة تُذكَر إلى عالَمنا المتفقِّه بأسرار النفس، ولا إلى وضعي أنا.

ولكن لماذا يصف كلُّ منقول ديني كبير المجاهدةَ الروحية بمثل هذه العبارات العنيفة القاطعة؟ افترضت، في عنجهيَّتي المابعدحداثية، أن المنقولات الكبرى كانت تفتقر إلى حذاقة فهمنا النفساني الحديث. لكني ما لبثت أن بدأت أفهم، على نحو مطَّرد، أن نظرتنا المعاصرة هي التي تفتقر إلى العمق لأنها كثيراً جداً ما تثلِّم حدَّة التمييزات التي تشرِّف كفاحنا الإنساني. لقد كتب أندرو دِلبانكو في موت الشيطان: كيف فقد الأمريكيون الإحساس بالشر أن إزالة إبليس، أو الشر، من اللغة والفلسفة والمجاز يعني في الوقت نفسه فقدان الله والخير: "إذا الشرُّ [...] تملَّصَ من متناول مخيِّلتنا فسوف يوطِّد هيمنته علينا جميعاً." لقد استُبدِلَتْ بمفهوم "الشر" وباختباره كحكم أخلاقي قائمةٌ لا تنتهي من الأدواء التي تسوِّغ السلوك التدميري كنتيجة للأضحوية وليس للخيار. ويتساءل دِلبانكو: "ماذا يعني قولنا إن مخترع معسكرات الاعتقال، أو الغولاغ، كان ضحية "خلل"؟ [...] لماذا لم نعد نستطيع أن نسميهم شريرين؟" إن حجة المنقولات الدينية – وإيضاحها عبر الرسوم الوحشية للأبالسة التيبتيين، والأرواح الشيطانية، وتشخيص الخطايا المميتة السبع – هي أن في كلٍّ منَّا شيئاً أساسياً ينبغي أن يُسمَّى، ويواجَه، ويُفاز به من أجل عتق النفس الإنسانية. لم تكن خطايا أسلافنا مجرد جَرْدٍ لمحتويات الظلمة البشرية؛ إنما كانت تشير إلى ما ينبغي تجاوزه، تخطِّيه، من أجل تحقيق مجد الله الصادح من خلال جمال الخليقة والخير فيها.

وبما أننا نعيش وسط ثقافة روحية معاصرة غالباً ما يكون فيها "التعاطف" ذريعة لتجنب الصدق والحميمية، ويكون جرح مشاعر الآخر خطيئة أعظم من الكذب على غير استحياء، لا عجب مطلقاً أن يكون الحديث عن الجهاد الحق وعن رباطة الجأش الضرورية لخوض المعركة الروحية في سبيل تحرير النفس الإنسانية بهذه القلة. إن مثل هذا الكذب المؤدَّب بيننا غالباً ما يقنِّع مقدار كذبنا على أنفسنا. ففي خسارتنا الجماعية للإيمان بالسلطة التقليدية، وفي رغبتنا في إلقاء شبكة شَمْلٍ أوسع في المجتمع، ضاع، على نحو ما، التباين الحاد بين الخير والشر، مع صيرورة الحقيقة باطِّراد مسألة نسبية. وإذ لم نعد نريد أن نخالف أولئك الذين تختلف بيئتهم الثقافية عن بيئتنا، بتنا نتجنب قبول تحدي الغوص أعمق في التجربة الإنسانية والتصدي للكلِّيات الحقيقية لما يعنيه كونُنا بشراً. لكن واقع شرطنا البشري لم يتغير، حتى ونحن نطمس باللون الرمادي التمييز أسود/أبيض الذي كان يشحذ تقليدياً إدراكَنا للحياة واختبارنا لها. ما من منقول، على ما يبدو، يقيم تمييزات أوضح، فيما يخص الخصيم الداخلي الذي يستبقي الروح أسيرة، من التي يقيمها التصوف الإسلامي. في جوابه على سؤال "ما هي الأنيَّة؟" يخبرنا الشيخ رجب فريغر بأن الحكمة الصوفية النقلية تشرح أجندة الأنيَّة، أو النفس، بوصفها مثناة: "أحد [وجهيها] هو النجاة بنفسها. فالأنيَّة يرعبها التغيير، ترعبها حتى الموت الخبرة الصوفية والتحول الروحي العميق، لأن هذا النوع من التغيير، من وجهة نظرها، فيه مقتلها. [...] إنها الجزء منَّا جميعاً الذي يريد أن يبقى على حاله، نوع من المكوِّن العطالي فينا جميعاً يردِّد: "لا تتغير!" الوجه الآخر للأنيَّة هو ما يتكلم عليه الصوفية مراراً بوصفه متعلقاً بالشيطان، إبليس. [...] ولا أحد يود الحديث عن هذا. إنه ليس حديثاً شعبياً. [...] كما أننا لا نجانب الدقة، على يبدو، عندما نشير إلى النفس أحياناً وكأنها تكاد تكون ذات منازع، مثلها كمثل شخص." ذلك لأن النفس هي منزع أساسي – المنزع إلى الفصل، إلى النأي عن كلِّية الحياة وكمالها.

والنفس المتلوية أبداً لا تكشف عن وجهها الحقيقي إلا في شروط الحرب، عندما يعقد المرءُ العزمَ على خوض الجهاد الحق، وعلى مبايعة شوق القلب إلى الانعتاق، وليس نزوع الأنيَّة اليائس إلى الحفاظ على ذاتها. فقط عندما يصر المرء كل الإصرار على معرفة منازعه الأعمق وعلى مواجهتها تطلق الأنيَّة العنان لسُعارها وتحدِّيها المُعْمِيين، غير مقنَّعين، في ساحة الوعي. يعلِّمنا الشيخ رجب فريغر بأن النفس، حين نباشر استدراجها خارج كهوفها، تتزيَّا بأزياء مختلفة – ينصرف كلٌّ منها إلى إبعادنا عن المحبة التي تحرِّك الخليقة. وتظهر اللمحات الأولى للـ"نفس الأمَّارة"، التي تشكل المنزع النفساني اللاواعي إلى حماية النفس وإلى الفصل، حين نبدأ جدياً بالسعي إلى كلِّية أعظم وإلى أن نحيا حقيقة أعمق. وككل الإرهابيين، الخوف هو حيلتها الكبرى. لكن الأنيَّة تتنكر أيضاً في رغبتنا أن نكون دوماً على حق، أن نربح أو نخسر، أن نتلاءم أو ننشز، أن نستيقن أو نتظاهر بالعته، أن نتمايز عن الآخرين، أن نعاني مشكلة، أية مشكلة [...]؛ باختصار، تكمن الأنيَّة في أية وسيلة وفي كل الوسائل التي تمكِّن العقل البشري من أن يدرك نفسه منفصلاً. والأشد صفعاً – حيث تكشف الأنيَّة عن نفسها تماماً – هو أن لهذا التوهم النفساني بالفرادة من الزخم في النفس ما يجعلها تفعل أي شيء للنجاة بنفسها – حتى إذا جازفت فعلاً بتدمير الإنسان نفسه. حقاً إن الإرهابية الانتحارية القصوى – الأنيَّة – إذ تُحاصَر وتُرغَم على التخلي عن ألاعيب الفصل الخاصة بها، لا تبالي في الواقع حتى ببقائنا نحن على قيد الحياة.

ومع ذلك، يعسر علينا أن نعتقد – حتى مع معرفتنا بما يقوله الصوفية، وحتى بموافقتنا على تماسكه المنطقي، أو حتى بإقرارنا بأن فينا شيئاً يبقينا بمنأى عن انفجار الانعتاق المروِّع – بوجود النفس حقاً حتى تكشف عن ذاتها حقاً. ومن جانبي، مع أن رعب التلاشي كان مألوفاً لي من جراء الجلوس في الخلوات التأملية، لم تبدأ حربي على الإرهاب فعلياً إلا عندما واجهني شيخي بطلبه الحازم مني أن أختار بين الحرية والأنيَّة. وجهاً لوجه أمام شيخي الوهاج وطلبه مني التحرر من المحدودية، شعرت بنفسي، فجأة، مشطورة من وسطي: كانت ثمة صرخة مسعورة منطلقة من قلبي تطلب الانعتاق، بينما، في الوقت نفسه، بدأ عقلي المحكوم بالأنيَّة يحذِّرني من أن الإفصاح عن مكنون قلبي كان باطلاً، خطراً، غير حقيقي. جاء في مقال للعالم في الإسلاميات تشارلز آبتون بعنوان عقيدة النفس: "عندما يصبح الله هو المركز الواعي لحياة المرء، إذ ذاك – كما في زمن حرب أهلية – يضطر مختلف مواطني النفس إلى الانحياز. ولا تكشف النفس الأمَّارة عن ذاتها "أمَّارةً" إلا عندما نبدأ بعصيانها." وإذ دفعني شيخي إلى الاختيار، إلى الانحياز، اخترت أن أوُلي انتباهي إلى الأنيَّة المقلِّدة صوتَ المنطق بدلاً من أن أنشد توق القلب اللامنطقي أبداً إلى الحرية. في تلك اللحظة الحاسمة، سلَّمت أمري للعدو، صرت أسيرة للإرهابي في الداخل. تلت ذلك شهور من الحصار. ولكن حتى مع خسارتي هذه المعركة الكبيرة الأولى، عاهدت الله معاهدة أصدق على الفوز بالحرب.

بم نتسلَّح ضد مثل هذا الإرهابي المراوغ الخطير؟ بم نستعد للمعركة؟ بلا شيء. يتطلب الجهاد الأكبر [الباطن] أن نكون صفر الأيدي. فهذه حرب نخوضها بشجاعة كياننا نفسه وحدها، تقودنا عبر الحقل الذي زرعه بالألغام عقلُنا المستلَب للأنيَّة. ليس في وسعنا أن نجلب إلا خيرة ما في نفسنا الـ"مسلمة"، أي التي "أسلمت وجهها إلى الله". فأعجب ما في الأمر أن هذه الحرب لا تُربَح إلا بالتسليم. أجل، فالتسليم يعني النزول – دوماً وفعلاً – عن عقولنا لقلوبنا وإسلامها لها. وبالإسلام إلى شوق قلوبنا، وباختيارنا الجذبة التي تقودنا فيما يتعدى الذات، يبدأ تيارٌ بحملنا إلى حقيقة ما نحن إياه فيما يتعدى الأنيَّة. متخلِّين، فمتخلِّين، ومتَّكلين على ثقة هي من السعة بما يستعصي على الفهم، تنادينا إمكانيةٌ واسعة للحياة الإنسانية إلى نبذ صغارة الاهتمام بالنفس من أجل روعة المجهول الذي لا يتجلَّى إلا ونحن نخطو قُدُماً. يتطلب الجهاد الحق إصراراً متعمقاً أبداً، ومعاهدة على عدم الفرار من المعركة أبداً، على الوقوف عندما نُصرَع، وعلى المضي قُدماً فقدُماً. وتتحول الحياة بمعرفتنا على أي مَجْدٍ وطيبة عظيمين نراهن، كما وبمعرفتنا أن المسؤولية عن الحرية الإنسانية هي مسؤوليتنا نحن. بتحمل هذه المسؤولية، وبهذا فقط، يُبعَثُ قلب الانعتاق الحق في الحياة ويدفع بنا قُدُماً. إن تحقيق قدرة خياراتنا – بين الخير والشر، بين الخلق والتدمير – يتطلب يقظة المحارب، وبصيرة هي تيار الحياة نفسها. وبالوقوف باستعداد في ميدان وغى المأزق البشري، يُرأَب الصدعُ بين الذات والحياة. وهنا يتلاشى إرهاب الفصل والتدمير في النار الخلاقة الحقة للكمون الإنساني المتفجر عما نحن إياه حقاً.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود