english arabic

 

النية العلاجية وفن الرصد

 

ستيفان أ. شفارتس

 

ما هي النية العلاجية؟ إن فكرة أن الوعي يمكن أن يؤثر مباشرة على المتعضِّيات الحية هي معتقد قديم موجود لدى الثقافات كلِّها. وتقدِّم الفنون الكهفيَّة الشامانية في ألطيميرا وتريس فريريس ولاسكو شهادة دامغة على أنه كانت لأسلافنا الجينيين نظرةٌ مركَّبة إلى التجدد الروحي والجسدي – نظرةٌ نَجَتْ دون أن يطرأ عليها تغيير حتى اليوم في مجال أساسيٍّ واحد على الأقل. فلطالما ساد الاعتقاد بأن النية في الشفاء، شفاء الذات أو شفاء الآخرين، سواء دُعيَتْ الله أو قوة أو طاقة أو أحد الآلهة، قادرةٌ على التمخض عن نتائجَ علاجية. لماذا؟

الجواب هو بالتأكيد أنه لا مفرَّ لنا من الاعتقاد بالنتائج الظاهرة للنية العلاجية، بغضِّ النظر عن الإيديولوجيا أو الدين، الثقافة أو العرق. لقد بقيت هذه الفكرة على قيد الحياة واستُخدمَت لآلاف السنين لأن صحة الناس تحسنت بفضلها، وبالتالي تم تناقُل ممارساتها المتنوعة من جيل إلى جيل. نقول هذا بينما نعترف بأن صحة العديد من الناس قد تحسنت بفضل طبيعة الطبيعة المصحِّحة ذاتَها بذاتِها أو، على مستوى أضيق، بفضل الانتظام الذاتي النفسي–الجسمي. كما أن صحة أعداد أكبر قد تحسنت، ابتداءً من الألفية الثالثة قبل العصر المسيحي، بفضل النهج الصحي لحضاراتهم. فالحضارات الراقية، ماضياً وحاضراً، سلَّحت نفسَها بترسانات معقدة. أما كيفية بناء مثل هذه الترسانات فمن المفيد اليوم أن نتعلَّمها.

توصَّل العلماء والأطباء السريريون العصريون إلى ما توصلوا إليه من فهم بفضل أدوات قياس للكم؛ فالقياس الموضوعي هو السمة المميزة لعصرنا الحالي. أما في الماضي فقد اعتمدت النُّهج الطبية على رصد الإنسان الدقيق وعلى الخبرة السريرية المتوارَثة من جيل إلى جيل؛ ففي الطب القديم كان الطبيب هو الأداة.

وعلينا ألا نسخر من هذه المقاربة. فبرديَّات إيبرس وسميث وكاهون – وهي نصوص طبية تعود إلى 2500 سنة قبل العصر المسيحي – تبرهن على التعقيد الدوائيِّ المدهش الذي عرفتْه النُّهج القديمة. فعلى الرغم من أن الصحراء غطَّت معظم مساحة مصر، تاركة شريط حياة أخضرَ وحسب على طول النيل، فقد عرف الأطباء المصريون، بفضل التجارة والزراعة المتأنية، ثلثَ النباتات المُدرَجة في الأَقْرَباذين [دستور الأدوية] الحديث؛ لا بل استخدموها أيضاً لنفس الأهداف التي من أجلها نستخدمها اليوم؛ كما فهموا المضادات الحيوية الطبيعية وأدرجوها في ممارساتهم.

ولم يكن المصريون الوحيدين في التوصُّل إلى هذا الإنجازات. إذ كان للسومريين، فيما يُعرَف اليوم بالعراق، على سبيل المثال، نهجٌ صحيٌّ عمليٌّ معقد، كما تُظهِر السجلاتُ المسمارية في وادي نِفَّر. ومن الخطل بمكان أن نعتقد أنه قبل أن يتطور الطب التكنولوجي الغربي لم تكن هناك فنونٌ علاجية ذاتُ معنى.

إليكم مثالان، كلاهما من مصر، يعطياننا لمحة عن روح وحذاقة الإنجازات التي أحرزتْها فنونُ العلاج القديمة. فعمال مصر تحت حكم السلالات كانوا يتبعون حمية غذائية تعتمد على الفجل والبصل والثوم. ولقد كانت هذه الحمية مُعقدة طبياً إلى درجة لم يستطع فيها الطب الغربي فهمَها حقَّ الفهم، حسب رأي علماء الآثار وعلماء آخرين درسوا خلال العقود الأولى من القرن الماضي البَردياتِ التي تنصح بها؛ فنُبِذَت على أنها سحرٌ غريب غيرُ علمي أكلَ الدهرُ عليه وشرب. بيد أن انفجار البحث العلمي على المستوى العالمي، الذي أتى نتيجة لمتطلبات الحرب العالمية الثانية، بدأ بالكشف عن قصة أخرى. فقد فسَّر البحث العلمي، على الرغم من عدم إشارته إلى النصوص المصرية، صحة تلك الحمية القديمة وصلاحيَّتَها وأبرز أهمية استكشاف المصادر الإثنية–التاريخية من منظور بَيْنَمناهجي.

في سنة 1944 بلَّغ الباحثان الأمريكيان بيدرسون وفيشر عن الخواص المضادة للبكتيريا التي يتمتع بها البصل؛ إذ تبيَّن أنه يحتوي على المضاد الحيوي الطبيعي أليستان، مثله كمثل خضار أخرى. وفي سنة 1946 نشر الباحثون راوْ وراوْ وفِنْكاتارامان من الهند وتورِّسكاسانا من إسبانيا مقالات عن خواص الثوم الطبيعية المضادة حيوياً. وفي السنة التي تَلَتْ، وصف الباحثون إيفانوفيتش وهوفاث من المجر وشميد وكارِّر من سويسرا مادة طبيعية مضادة للبكتيريا موجودة في الفجل سماها المَجَريَّان رافانين، لها خواصُّ مضادة حيوية فعالة، خصوصاً ضد بكتيريا المكوَّرات والعُصيَّات. أما اليوم فنحن نستطيع أن نرى إلى ما لم يستطع أطباءُ بداية القرن العشرين أن يروا إليه. فمثل هذه الحمية كان بالضبط ما احتاجتْه القرى المكتظة بالعمال في هضبة غزة لتخفيض حالات اضطرابات الجهاز الهضمي.

أما بَردية بتري فتصفُ إجراءً اعتمده الأطباءُ المصريون لتحديد فيما إذا كانت امرأة ما حُبلى أم لا، مع تعيين جنس الجنين غير المولود بعد؛ نقرأ فيها:

ضع حنطة وشعيراً في كيس من قماش ولتبول المرأة عليه يومياً [...] فإذا نبتَ كلاهما فهي حُبلى. وإذا نبتت الحنطةُ فستلد ولداً. وإذا نبت الشعيرُ فستلد بنتاً. وإذا لم ينبت أي منهما فالمرأةُ ليست بحامل.

للوهلة الأولى يمكن أن يبدو هذا النص والتعاويذ التي ترافقه هراءً فارغاً. ولكن في سنة 1927 طوَّر الطبيبان النسائيان الألمانيان آزهايم وتسوندك اختباراً يستخدم بولَ المرأة، ادَّعَيا أن نسبةَ دقَّته تصل إلى 95% في تحديد الحمل خلال الأسابيع الثمانية الأولى. وفي سنة 1933 برهن ألمانيٌّ آخر اسمه مانغر، من معهد فورتسبورغ الدوائي، أن بولَ النساء الحوامل واللواتي ولدن ذكوراً قد سرَّعَ من نمو القمح؛ أما بول اللواتي ولدن بناتٍ فقد سرَّع من نمو الشعير.

وكما يُظهِر هذان المثالان فإن الحقيقة هي أنه لدى ترجمة هذه المخطوطات الطبية المصرية القديمة، لم يكن الوسط العلمي، بمن فيه خبراء الطب الذين تم اللجوء لنصحهم حول هذه المخطوطات، متقدماً كفاية في فهم ذاته ليستطيع فهم ما كان يقرأ. وهذا خطأ صَبَغَ التقييم الحديث إلى يومنا هذا – الأمر الذي يقترح، في هذا السياق، أمرين يتعلقان بالنية العلاجية وبأهمية الرصد المتأنِّي في الكشف عن كيفية عمل الطاقة الشافية: أولهما، هو أن فكرة النية العلاجية لم تكن السبيلَ اليائس الأخير المفروض على الشعب الذي لم تكن أمامه خياراتٌ أخرى غير الارتماء في أحضان السحر والآلهة الوهمية؛ وثانيهما هو أنه في غياب أدوات قياس التغير الفسيولوجي لم يكن بإمكان النُّهج الطبية التي تحدثنا عنها أن توجد إلا بفضل منهاج رصد ذي كفاءة وبنية استثنائيتَين تم تشاطرُه بشكل واسع عبر مراكز التعليم والمؤتمرات. والشبيه العصري الوحيد هو الطب التَّجانُسي من خلال عمليتي البرهنة والتصنيف الدؤوبتين اللتين يقوم بهما.

وهذا مهم لأنه إذا كان المصريون والسومريون على صواب في علاج الجسم وعلم العقاقير المُطَوَّران اعتماداً على الرصد – وهذا ما تم التوصل إليه اعتماداً على البحث التكنولوجي الحديث – فسيترتب علينا ربما أن نكون أكثر احتراماً لأرصادهم المتعلقة بقدرة الوعي العلاجية. فنظرتهم للعالم سادت آلاف السنين؛ وعلى الرغم من أن معتقداتهم حول العلاقة بين طاقات المريض والطبيب والقوة (التي تُدعى آلهة في هذه الحالة) يمكن أن تبدو غريبة بعض الشيء في نظر العديد من الماديين فمن الصعب أن نتخيل أن يكون هؤلاء الراصدون البراغماتيون قد استمروا في ممارسات لم تتمخض عن أية نتائج. وتصبح هذه خلاصة أكثر إدهاشاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ثلاثة نُهُج طبية قديمة لا تزال قائمة وحيَّة حتى اليوم، ألا وهي: الصينية والتيبتية والأيورفيدية [الهندية].*

يكمن التنافس والصراع في المحور من الطب التكنولوجي. وترى هذه النظرة إلى المرض باعتباره مجموعة من القوى الخارجية الغريبة التي تقهر الجسم وليس، كما في النظرة الشرقية، على أنه نتيجة لاختلال التوازن بين طاقات الحياة، مع تمييز بسيط بين الذهن والجسم.

والحق إن الطبيعة في الغرب لم تُعامَل كشريك إلا مؤخراً وبصورة جزئية وحسب؛ إذ إن فكرة وجود طاقات لا يمكن قياسها في وقتنا الحالي هي قفزة يصعب على العديدين القيام بها. فالعلاج الغربي قد طُوِّر اعتماداً على القياس الكمِّي وعلى ردة الفعل الكمية على تعاطيه. وفي المقابل، هناك نظرة الطب الصيني التي تقول، على حدِّ ما ورد على لسان الطبيب النفسي وخبير الطب الشرقي ليون هامِّر: "وستُعرَف تشي [طاقة الحياة] فقط عندما تُظهِر ذاتَها، إذ تتبلور فسيولوجياً أو مَرَضِياً." وإنه لذو مغزى أن يعكس هذا الرأي حقاً نظرةَ الفيزيائيين بخصوص الطاقة التي لا نعرفها سوى عبر قياس مظهرها، أي قدرتها على العمل.

لم يكن أمام كل الاستراتيجيات الناجحة وغير التكنولوجية للإبقاء على الحياة من خيار سوى الإصرار على الرصد الدقيق لكلِّية الشخص للتوصل إلى الفهم، دوائياً كان أم طاقياً. وتأتي الثقافة لترسخ هذه النظرة إلى العالم. فهذه النُّهج الطبية العظيمة التي دامت حتى عصر الأدوات الراهن تتجذَّر جميعاً في ثقافات تتدرب فيها نسبةٌ كبيرة من المتعلِّمين على نوع من الانضباط في الرصد والتنظيم الذاتيَّين.

وإذن، ففي الطب التكنولوجي، المعتمد على ثقافة لا تصرُّ على التنظيم الذاتي، لا عجب أن يكون فرع العلوم الصحية الوحيد الذي يشدد على الرصد، أي العلاج النفسي، هو الفرع الذي يرحِّب بفكرة التفاعلات بين الطاقات على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة. ولا عجب أيضاً أن نسبة كبيرة – هذا إذا لم نقل الأغلبية المطلقة – من العاملين في المِهَن الصحية والمهتمين بالطبابة بالطاقة تأتي من أوساط العلاج النفسي.

ومنذ النقاش الذي أطلقه فرويد حول الليبيدو في كتابه العُصابات الحَصَرِية على الأقل، حيث اقترح وجود طاقة يؤدي نشاطها العاطفي في اللاوعي إلى تغيرات في توازن الفرد الذهني والبدني، لطالما كانت فكرة الطاقة جزءاً صريحاً من الأدبيات المرجعية. وفي مجال العلاج النفسي، وحدهم الميَّالون للسلوكية الآلتية لا يعترفون بضرب من التفاعل الطاقي بين الطبيب والمريض.

فالنظرة الاختزالية ترى، حصراً من خلال انحيازها، إلى أعضاء مريضة ومنظومات مختلَّة وانعدام في الترابط. والمعالِج، وفقاً لهذا السيناريو، محاربٌ مدرَّب على المعارك. إذ يفتخر ممتهنو الصحة الغربيون الذين يمارسون الطب التكنولوجي الحديث – وهذا معتقدٌ جوهري في أدبيَّاتهم – بالتأكيد على ألاَّ يكون الطبيب المعالِج جزءاً من سيرورة الشفاء. وفي إطار هذه النظرة، سيكون من الغريب أن يُولَى اهتمامٌ كبير للتفاعلات الطاقية. فالطب التكنولوجي، بطبيعته، يشدد على نظرية المرض، متحاشياً أية نظرية شاملة للصحة؛ فما بالك بالحديث عن أية شبكة حيوية تكون فيها المتعضيَّات الفردية كخلايا في بنية سامية هي شبكةُ الحياة؟ وهذا بالذات ما ترى إليه النُّهُج الطبية الشرقية.

فبدل الأعضاء ترى النُّهج الشرقية إلى الشخص بكلِّيته؛ وبدل انعدام الترابط ترى إلى ترابط طاقيٍّ مُركَّب بين الطبيب والمريض وشبكة الحياة؛ وبدل أن يكون الطبيب فيها محارباً في معركة يكون وصيفاً يساعد على عودة التوازن إلى نصابه. وتكون طاقاتُه الحيوية مقترنة تواشجياً مع طاقات مرضاه، كما يشدد على الوقاية وعلى نظرية للصحة.

نحن في الغرب نقف على عتبة تفهُّم هذه التفاعلات، ونحن في صدد تطوير بروتوكولات للقياس الإيهامي، وعلى درب فهمٍ أفضل للتأثيرات الفسيولوجية. وسيكون من فادح الغلط أن نتخلَّى عن المكاسب الفكرية التي توصَّلنا إليها بفضل تكنولوجياتنا أو أن نستبعد الطريقة العلمية التي تقدم الآلية الضرورية لأفكارنا. ولكن هذا لا يعني أنه لمجرد أن بيتنا هو البيت البرَّاق الإضاءة اليوم أننا محلُّ الإقامة المهم الوحيد في قرية القصة الإنسانية. وإذا كان العديد من الراصدين، عبر آلاف السنين، المنتمين إلى ثقافات مختلفة، قد تحدثوا عن هذه التفاعلات الطاقية وبرهنوا على فائدتها العلاجية، فلعل مساهمتنا، على غرار ما حصل مع الحنطة والشعير في بَردية بتري، هي في اكتشاف الأسباب الدقيقة الكامنة وراءها بهدف التعظيم من تأثيراتها.

وسوف نزدهر، مثلنا كمثل القدماء، باتباع السبل التي يقترحها الرصد اللصيق، بشرط ألا نضع النتائج سلفاً نصب أعيننا. إذ إن المزاوجة بين مهارات التكنولوجيا الاختزالية وإنجازاتِها وبين البصيرة الرصدية، في إطار نظرة كلانية ثبتتْ نجاعتُها عبر الزمن، من شأنه أن يؤدي إلى ظهور تعاون ستكون ثمارُه أطيبَ بكثير من ثمار عمل كلِّ نظرة إلى العالم على حدة.

*** *** ***

ترجمة: موسى الحوشي


* سبق لنا في الإصدارين السابع والتاسع من معابر أن نشرنا دراستين للدكتور قيصر زحكا في الطب الصيني على صفحات "طبابة بديلة"، ونحن ننوي تناول الطبابتين الهندية والتيبتية بالدراسة في إصدارات قادمة. (هيئة التحرير)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود