english arabic

 العبرمناهجية والتعقيد:

مستويات الواقع كمصدر لعدم التعيين

 

بَسَراب نيكولسكو

 

1. الفيزياء الكوانتية ومستويات الواقع

إن الوَقْع الثقافي الأكبر للثورة الكوانتية يكمن بالتأكيد في التشكيك بالعقيدة الفلسفية المعاصرة القائلة بوجود مستوى واحد للواقع.*

فلنعطِ كلمة "واقع" معناها البراغماتي والأنطولوجي في آن معاً.

أقصد بالواقع réalité، أولاً، ما يقاوم تجاربنا وتمثيلاتنا وتوصيفاتنا وصورنا أو تصويراتنا الرياضية. لقد جعلتْنا الفيزياء الكوانتية نكتشف أن التجريد ليس مجرَّد وسيط بيننا وبين الطبيعة، أو أداة لتوصيف الواقع، بل بالحري واحد من الأجزاء المكوِّنة للطبيعة. في الفيزياء الكوانتية لا تنفصل الصورية formalisme الرياضية عن التجربة. إنها، بطريقتها الخاصة، تقاوم، في آن معاً، بحرصها على التماسك الباطن وبحاجتها إلى استدماج المعطيات الاختبارية بدون تدمير هذا التماسك الذاتي auto-consistance.

هذا وينبغي إضفاءُ بُعْدٍ أنطولوجي على مفهوم الواقع، بمقدار ما تشارك الطبيعة في كينونة العالم. الطبيعة منبعٌ هائل للمجهول لا ينضب، يبرِّر وجودَ العلم نفسه. الواقع ليس بناءً اجتماعياً وحسب، ليست إجماع جماعة أو اتفاقاً بينذاتياً intersubjectif. إذ إن له أيضاً بعداً عبرذاتياً trans-subjective، بمقدار ما تستطيع واقعةٌ اختبارية محضة تقويض أجمل النظريات العلمية.

المقصود بـمستوى الواقع niveau de Réalité جملة من المنظومات غير متغيرة، ينتظمها عددٌ من القوانين العامة: منها، على سبيل المثال، الكيانات الكوانتية الخاضعة للقوانين الكوانتية المقطوعة جذرياً عن قوانين العالم الماكروفيزيائي. أي أن مستويين للواقع يكونان مختلفين إذا كان ثمة، مروراً من أحدهما إلى الآخر، انقطاعٌ في القوانين وانقطاع في التصورات الأساسية (كالسببية، على سبيل المثال). لم يفلح أحد في العثور على صورية رياضية تسمح بالعبور الصارم من عالم إلى آخر. إذ إن الانزياحات الدلالية، والتعريفات التي هي من قبيل الحشو أو التقريبات لا يمكنها أن تحلَّ محل صورية رياضية صارمة. فنماذج عدم الاتساق الحديثة ليس لديها شيء دقيق تقوله عن العبور بين المستوى الكوانتي والمستوى الماكروفيزيائي: فالمشكلة الرئيسية، في الواقع، ليست عدم الاتساق بل الاتساق حصراً.

توجد مؤشرات رياضية قوية تجعل العبور من العالم الكوانتي إلى العالم الماكروفيزيائي أمراً متعذراً أبداً. لكنْ ليس في ذلك شيء كارثي. فالـلااتصالية discontinuité التي تجلَّت في العالم الكوانتي تتجلَّى أيضاً في بنيان مستويات الواقع. وهذا لا يحول دون العالمين والتواجد معاً.

إن مستويات الواقع مختلفة جذرياً عن مستويات التعضِّي organisation، كما عُرِّف بها في المقتربات المنظومية systémiques. فمستويات التعضِّي لا تفترض سلفاً انقطاعاً للتصورات الأساسية: فالعديد من مستويات التعضِّي ينتمي إلى المستوى الواحد نفسه للواقع. إذ تقابل مستوياتُ التعضي بَنْيَناتٌ structurations مختلفة للقوانين الأساسية نفسها. فعلى سبيل المثال، ينتمي الاقتصاد الماركسي والفيزياء الكلاسية إلى المستوى الواحد نفسه للواقع.

إن انبثاق مستويين للواقع مختلفين على الأقل في دراسة المنظومات الطبيعية حدثٌ رائس في تاريخ المعرفة.

وإن وجود مستويات للواقع مختلفة قد أكَّدت عليه منقولاتٌ وحضارات مختلفة، لكن هذه المقولة كانت مؤسَّسة إما على عقائد دينية وإما على استكشاف الكون الجَوَّاني.

في القرن العشرين، اكتشف إدموند هُسِّرل وبضعة بحَّاثة آخرين، في اجتهادهم للتساؤل حول أسس العلم، وجودَ مستويات مختلفة لإدراك الذات الراصدة للواقع. لكن هؤلاء المفكرين، في الواقع، وهم طلائع كشَّافة واقع متعدد الأبعاد réalité multidimensionnelle ومتعدد المراجع multiréférentielle، تعرضوا لتهميش الفلاسفة الأكاديميين، ولسوء فهم الفيزيائيين، المنغلقين في اختصاصاتهم.

والنظرة التي أعبِّر عنها منسجمة تماماً مع وجهة نظر كلٍّ من بوهر وهايزنبرغ وباولي.

والواقع أن فيرنر هايزنبرغ قد دنا كثيراً، في كتاباته الفلسفية، من مفهوم "مستوى الواقع". ففي نصِّه الشهير مخطوط عام 1942 (المنشور عام 1984)، طرح هايزنبرغ، الذي كان مطَّلعاً جيداً على هُسِّرل، فكرة ثلاث مناطق للواقع، من شأنها إفساح المجال لتلمُّس مفهوم "الواقع" نفسه: المنطقة الأولى هي منطقة الفيزياء الكلاسية؛ الثانية هي منطقة الفيزياء الكوانتية والبيولوجيا والظواهر النفسانية؛ والثالثة هي منطقة الخبرات الدينية والفلسفية والفنية. وهذا التصنيف يقوم على أرضية حاذقة: الارتباطية الأقرب فالأقرب بين الذات والموضوع.

وكما سنرى فيما يلي فإن مفهوم مستويات الواقع يقودنا إلى فهم فلسفي عام لطبيعة عدم التعيين. فلو كانت هناك منطقة أو مستوى واحد للواقع فقط لتعذَّر تصورُ ما يعنيه عدمُ تعيينٍ حقيقي، غير قابل للاختزال، من نحو عدم التعيين الكوانتي.

2. منطق الثالث المشمول

قادت معرفة التواجد بين العالم الكوانتي والعالم الماكروفيزيائي، على صعيدي النظرية والتجربة العلمية، إلى انبثاق ما كان يُعتبَر في السابق أزواج متناقضات يستبعد بعضها بعضاً (أ و لا–أ): الموجة و الجسيم، الاتصالية و اللااتصالية، الانفصالية و اللاانفصالية، السببية المحلِّية و السببية الشاملة، التناظر و كسر التناظر، عكوسية الزمن و لاعكوسيَّته، إلخ.

إن الفضيحة الفكرية التي أثارتها الميكانيكا الكوانتية تتمثل في كون أزواج المتناقضات التي بيَّنتْها متناقضة فعلاً عندما تُحلَّل من خلال قراءة المنطق الكلاسي. فهذا المنطق يتأسس على ثلاث مسلَّمات:

1.    مسلَّمة الهوية axiome d’identité: أ هو أ.

2.    مسلَّمة عدم التناقض axiome de non-contradiction: أ ليس لا–أ.

3.    مسلَّمة الثالث المرفوع axiome du tiers exclu: لا يوجد حدٌّ ثالث هو في الوقت نفسه أ و لا–أ.

وبفرض وجود مستوى واحد للواقع فقط تكون المسلَّمتان الثانية والثالثة بالطبع متكافئتين.

على أننا إذا قبلنا بالمنطق الكلاسي نستخلص فوراً ما مفاده أن أزواج المتناقضات التي تطرحها الفيزياء الكوانتية يستبعد بعضها بعضاً؛ إذ لا يمكن في الوقت نفسه تأكيد صحة شيء وضده: أ و لا–أ.

منذ التكوُّن النهائي للميكانيكا الكوانتية، حوالى الثلاثينيات، طرح مؤسِّسو العلم الجديد على أنفسهم طرحاً حاداً مشكلة منطق جديد، موسوم بـ"الكوانتي". وفي أعقاب أعمال بيركهوف وفان نويمَن سرعان ما ظهر ازهرار من المناطق [جمع منطق] الكوانتية. كانت هذه المناطق الجديدة تطمح إلى حلِّ المفارقات التي ولَّدتها الميكانيكا الكوانتية، وإلى محاولة التوصل، بقدر الإمكان، إلى مقدرة تنبُّئية أقوى من التي يتيحها المنطق الكلاسي.

إن غالبية المناطق الكوانتية قد عدَّلت المسلَّمة الثانية للمنطق الكلاسي – مسلَّمة عدم التناقض – بإدخال عدم التناقض ذي قيم الحقيقة المتعددة بدلاً من عدم التناقض ذي الزوجين الثنائيين (أ، لا–أ). هذه المناطق المتعددة القيم، التي ما تزال مكانتُها مثارَ جدل من حيث قدرتها التنبُّئية، لم تأخذ بالحسبان إمكانية أخرى: تعديل المسلَّمة الثالثة – مسلَّمة الثالث المرفوع.

يعود الفضل التاريخي إلى ستيفان لوباسكو في بيان أن منطق الثالث المشمول logique du tiers inclus منطق حقيقي، قابل للتصوير ومصوَّر، متعدد القيم (مثلث القيم: أ، لا–أ و ث) وعديم التناقض. وقد حرص الفيزيائيون والفلاسفة على تهميش فلسفته التي تنطلق من الفيزياء الكوانتية. ومن العجب أنها أحدثت وقعاً قوياً، وإن لم يكن علنياً، بين علماء النفس وعلماء الاجتماع والفنانين ومؤرخي الأديان. ولعل غياب مفهوم "مستويات الواقع" من فلسفته يجعل مضمونَها مبهماً: فقد ظن الكثيرون أن منطق لوباسكو كان يخرق مبدأ عدم التناقض.

إن فهمنا لمسلَّمة الثالث المشمول – هناك حد ثالث ث هو في الوقت نفسه أ و لا–أ – يتضح اتضاحاً كاملاً لدى إدخال مفهوم "مستويات الواقع".

للحصول على صورة واضحة لمعنى الثالث المشمول، سوف نمثل للحدود الثلاثة للمنطق الجديد – أ، لا–أ و ث – والديناميَّات المرافقة لها بمثلث يتوضع واحد من رؤوسه على مستوى للواقع بينما يتوضع الرأسان الآخران على مستوى آخر للواقع. فلو اكتفينا بمستوى واحد للواقع، فإن كل تجلٍّ يظهر كصراع بين عنصرين متناقضين (مثال: الموجة أ والجسيم لا–أ). تفعل الديناميَّة الثالثة، دينامية الحالة ث، على مستوى آخر للواقع، حيث ما يبدو مفرَّقاً (موجة أو جسيم) هو في الواقع موحَّد (كوانتون)، وما يبدو متناقضاً يُدرَك كغير متناقض.

إن خلع ث على مستوى الواقع الواحد نفسه هو الذي ينتج مظهر الأزواج المتناوئة التي يستبعد واحدُها الآخر (أ و لا–أ). إن المستوى الواحد نفسه للواقع لا يمكن أن يولد إلا تضادات متناوئة. وهو، بطبيعته نفسها، ذاتي التدمير إذا فُصل فصلاً تاماً عن كافة مستويات الواقع الأخرى. إن حداً ثالثاً – ولنقل ث0 – متوضعاً على مستوى الواقع نفسه الذي يتوضع عليه المتضادان أ و لا–أ لا يمكنه تحقيق الوفاق بينهما.

إن الحدَّ ث هو المفتاح لفهم عدم التعيين: فبما أنه يتوضع على مستوى واقع آخر غير مستوى أ ولا–أ فهو يحرِّض بالضرورة تأثيراً من مستوى الواقع الخاص به على مستوى الواقع المجاور والمختلف: إذ إن قوانين مستوى معطى ليست مكتفية ذاتياً لوصف الظواهر الحادثة على المستوى المذكور.

إن الفارق كله بين ثلاثية الثالث المشمول والثلاثية الهيغلية يتضح بالنظر إلى دور الزمن. فـفي ثلاثيةٍ للثالث المشمول تتواجد الحدودُ في اللحظة الزمنية نفسها. وبالعكس، فإن الحدود الثلاثة للثلاثية الهيغلية تتوالى زمنياً. لذا فإن الثلاثية الهيغلية غير قادرة على تحقيق مصالحة بين الأضداد، بينما تستطيع ثلاثية الثالث المشمول ذلك. الأضداد في منطق الثالث المشمول إنما هي بالحري متناقضات: التوتر بين المتناقضات يشيِّد وحدةً أوسع تشملها جميعاً وتتخطى مجموع الحدَّين. من هنا يتعذر على الثلاثية الهيغلية أن تعلِّل طبيعة عدم التعيين.

بذلك نرى المخاطر الكبرى لأسواء الفهم التي يولدها اللبسُ الشديدُ الشيوع بين مسلَّمة الثالث المرفوع ومسلَّمة عدم التناقض. إن منطق الثالث المشمول منطق غير متناقض، بمعنى حرصه التام على مسلَّمة عدم التناقض، وهو شرط يوسِّع مفهومي "الصحة" و"الخطأ" بحيث لا تعود قواعد التضمين المنطقي متعلقة بحدَّين (أ و لا–أ) بل بثلاثة حدود (أ، لا–أ و ث)، متواجدة في اللحظة الزمنية نفسها. إنه منطق صوري، مثله كمثل كل منطق صوري آخر: قواعده تترجَم بصورية رياضية بسيطة نسبياً.

نرى بذلك لماذا ليس منطق الثالث المشمول مجرد مجاز، أشبه بزينة اعتباطية للمنطق الكلاسي، تسمح ببعض الغارات الجريئة والعابرة في مجال التعقيد. إن منطق الثالث المشمول هو منطق للتعقيد complexité بامتياز، بمعنى أنه يسمح لنا باجتياز المجالات المختلفة للمعرفة اجتيازاً متسقاً، بما يتيحه من بساطة من نوع جديد.

منطق الثالث المشمول لا يلغي منطق الثالث المرفوع، بل هو يضيِّق مجال صحته وحسب. فلقد ثبتت صحةُ منطق الثالث المرفوع بالتأكيد على أوضاع بسيطة نسبياً؛ لكنه، على العكس، مؤذٍ في الحالات المعقَّدة، العبرمناهجية. وعندي أن مشكلة عدم التعيين تنتمي بالدقة إلى هذه الرتبة من الحالات.

3. الوحدة الغودلية للعالم

يقترح المقتربُ العبرمناهجي** علينا النظرَ في واقع متعدد الأبعاد، مبني على مستويات عديدة، يحل محل الواقع الأوحد البعد، ذي المستوى الواحد، للفكر الكلاسي. هذا الاقتراح لا يكفي، بحدِّ ذاته، لتبرير رؤية جديدة للعالم. إذ علينا بادئ ذي بدء أن نجيب على أسئلة عديدة بأكثر ما يمكن من الصرامة. ما هي طبيعة النظرية التي تستطيع توصيف العبور من مستوى للواقع إلى آخر؟ هل هناك اتساق، لا بل وحدة، لجملة مستويات الواقع؟ ما هو دور الذات الراصدة في وجود وحدة محتملة لكلِّ مستويات الواقع؟ هل ثمة مستوى للواقع ممتاز بالنسبة إلى كل المستويات الأخرى؟ ما هو دور العقل في وجود وحدة محتملة للمعرفة؟ ما هي، في مجال التفكُّر والعمل، القدرة التنبُّئية للنموذج الجديد للواقع؟ وأخيراً، هل فهمُ العالم الحاضر ممكن؟

يضم الواقع، بحسب نموذجنا، عدداً من المستويات. والاعتبارات التالية لا تتوقف على كون هذا العدد منتهياً أو غير منتهٍ. لكن من أجل الوضوح الاصطلاحي للعرض سنعتبر أن هذا العدد غير منتهٍ.

إن مستويين متجاورين مرتبطان بمنطق الثالث المشمول، بمعنى أن الحالة ث الحاضرة على مستوى معين مرتبطة بزوجين من المتناقضات (أ، لا–أ) للمستوى المجاور التالي. تتولَّى الحالة ث توحيدَ المتناقضين أ و لا–أ، لكن هذا التوحيد يتم على مستوى مختلف عن المستوى الذي يتوضع عليه أ و لا–أ. وبذلك تحتفظ مسلَّمة عدم التناقض بمنزلتها في هذه العملية. فهل يعني هذا الأمر أننا نستطيع بذلك الحصول على نظرية تامة يمكنها أن تعلِّل كل النتائج المعروفة والمقبلة؟

ثمة بالتأكيد اتساق cohérence بين مختلف مستويات الواقع، في العالم الطبيعي على الأقل. ويبدو أن هناك، بالفعل، تماسكاً ذاتياً – بوتستراب كوسمياً – ينتظم تطور الكون، من اللامتناهي في الصغر إلى اللامتناهي في الكبر، ومن اللامتناهي في الإيجاز إلى اللامتناهي في الطول. إن دفقاً من المعلومات ينتقل انتقالاً متسقاً من مستوى للواقع إلى مستوى آخر للواقع من كوننا الفيزيائي.

إن منطق الثالث المشمول قادر على توصيف الانسجام بين مستويات الواقع بالسيرورة التكرارية التي تضم الأشواط التالية:

1.    إن زوجين من المتناقضات (أ، لا–أ)، متوضِّعين على مستوى ما للواقع، يتحدان في حالةٍ ث تتوضع على مستوى للواقع مجاور للأول مباشرة؛

2.    هذه الحالة ث، بدورها، مرتبطة بزوجين من المتناقضات (أ‘، لا–أ‘)، يتوضعان على مستواها عينه؛

3.    زوجا المتناقضات (أ‘، لا–أ‘)، بدورهما، يتوحدان بحالة ث‘ تتوضع على مستوى للواقع مختلف، مجاور مباشرة للمستوى الذي يتوضع عليه المثلث (أ‘، لا–أ‘، ث). تستمر السيرورة التكرارية إلى ما لانهاية حتى استنفاد كل مستويات الواقع المعروفة أو القابلة للتصور.

بعبارة أخرى، يحرِّض فعل منطق الثالث المشمول، على مختلف مستويات الواقع، بنياناً مفتوحاً، غودلياً، لجملة مستويات الواقع. ولهذا البنيان عواقب لا يستهان بها على نظرية المعرفة لأنه ينطوي على تعذُّر وجود نظرية تامة، منغلقة على نفسها.

وبالفعل، فإن الحالة ث تحقق، بالانسجام مع مسلَّمة عدم التناقض، توحيد زوجي المتناقضات (أ، لا–أ)، لكنها مشترِكة في الوقت نفسه مع زوجين آخرين من المتناقضات (أ‘، لا–أ‘). وهذا يعني أن بالوسع، اعتباراً من عدد ما من الأزواج التي يستبعد بعضُها بعضاً، تشييد نظرية جديدة تلغي التناقضات على مستوى ما للواقع؛ لكن هذه النظرية ليست إلا مؤقتة لأنها سوف تقود حتماً، تحت الضغط المشترك للنظرية وللتجربة، إلى اكتشاف أزواج جديدة من المتناقضات تتوضع على المستوى الجديد للواقع. وهذه النظرية سيُستبدل بها بدورها، مع توالي اكتشاف مستويات جديدة للواقع، نظرياتٌ أكثر توحيداً أيضاً. وهذه السيرورة سوف تتواصل تواصلاً غير محدَّد بدون أن تنجم عنها نظرية موحَّدة تماماً. وبذلك إن مسلَّمة عدم التناقض تخرج من هذه السيرورة مؤزَّرة أكثر فأكثر. وبهذا المعنى، يمكننا الكلام على تطور للمعرفة، بدون التوصل يوماً إلى عدم تناقض مطلق، ينسحب على كل مستويات الواقع: فالمعرفة مفتوحة أبداً. المادة الألطف تتخلل المادة الأغلظ، مثلما تتخلل المادة الكوانتية المادة الماكروفيزيائية، لكن المقولة المعاكسة ليست صحيحة. إن درجات المادية degrés de matérialité تحرِّض سهمَ توجيهٍ لنقلِ المعلومة من مستوى إلى آخر. وهذا السهم ملازم بدوره لاكتشاف قوانين أكثر فأكثر عمومية وتوحيداً وشمولية.

إن البنيان المفتوح لجملة مستويات الواقع متوافق مع واحدة من النتائج العلمية الأهم للقرن العشرين الخاصة بالحساب: نظرية غودِل. تنص نظرية غودِل أن منظومة من المسلَّمات، غنية بما يكفي، تقود حتماً إلى نتائج إما غير قابلة للحسم وإما متناقضة. إن لمدى نظرية غودِل أهمية لا يستهان بها لكل النظريات الحديثة في المعرفة. إنها، بادئ ذي بدء، لا تخص مجال الحساب وحده، ولكن أيضاً كل رياضيات تشمل الحساب. والحال، فمن البيِّن أن الرياضيات، التي هي الأداة الأساسية للفيزياء النظرية، تتضمن الحساب قطعاً. وهذا يعني أن كل بحث عن نظرية فيزيائية تامة بحث وهمي.

الواقع أن البحث عن مسلَّمات تقود إلى نظرية تامة (بدون نتائج غير قابلة للحسم أو متناقضة) يمثل ذروة الفكر الكلاسي ونقطة بدء أفوله. فالحلم المسلَّماتي قد انهار بعد النطق بحكم قدس أقداس الفكر الكلاسي – الصرامة الرياضية.

على أن النظرية التي برهن عليها غودِل عام 1931 لم تحظَ إلا بصدى ضعيف جداً خارج حلقة ضيقة جداً من الاختصاصيين. إن صعوبة برهانه وحذاقته الشديدة يفسران لماذا استغرق فهمُ هذه النظرية مجتمعَ الرياضيين وقتاً غير قصير. وهي اليوم تتسرب بصعوبة إلى عالم الفيزيائيين. ولقد كان فولفغانغ باولي، أحد مؤسِّسي الميكانيك الكوانتي، واحداً من أوائل الفيزيائيين الذين فهموا الأهمية البالغة لنظرية غودِل في بناء النظريات الفيزيائية.

إن البنيان الغودِلي لجملة مستويات الواقع، بالتلازم مع منطق الثالث المشمول، ينطوي على تعذر تشييد نظرية تامة لتوصيف العبور من مستوى إلى آخر، وبالأولى لتوصيف جملة مستويات الواقع.

إن الوحدة التي تربط كل مستويات الواقع، إن وُجِدت، يجب بالضرورة أن تكون وحدة مفتوحة.

أجل، إن هناك اتساقاً لجملة مستويات الواقع؛ لكن يجب أن نتذكر أن هذا الاتساق موجَّه: إن سهماً يلازم كل نقل للمعلومة من مستوى لآخر. وبالتالي، فإن الاتساق، إذا اقتصر على مستويات الواقع وحدها، يتوقف عند المستوى "الأعلى" وعند المستوى "الأدنى". فإذا شئنا أن نطرح فكرة اتساق يتواصل فيما يتعدى هذين المستويين الحدِّيين، بحيث تكون هناك وحدة مفتوحة، يجب اعتبار أن جملة مستويات الواقع تستطيل في نطاق عدم مقاومة zone de non-résistance لتجاربنا وتمثيلاتنا وتوصيفاتنا وصورنا وتصويراتنا الرياضية. ونطاق عدم المقاومة هذا يقابل، في نموذجنا للواقع، "الحجاب" فيما يسميه برنار دِسبانيا "حجاب الواقع". المستوى "الأعلى" والمستوى "الأدنى" لجملة مستويات الواقع يتحدان عبر نطاق من الشفافية المطلقة. لكن بما أن هذين المستويين مختلفان، فإن الشفافية المطلقة تظهر كحجاب من وجهة نظر تجاربنا وتمثيلاتنا وتوصيفاتنا وصورنا أو تصويراتنا الرياضية. وفي الواقع، تستلزم الوحدةُ المفتوحةُ للعالم أن يكون ما في "الأدنى" كمثل ما في "الأعلى". إن التشاكُل isomorphisme بين "الأعلى" و"الأدنى" يُرَدُّ إلى نصابه بفضل نطاق عدم المقاومة هذا.

يعود عدمُ مقاومةِ نطاق الشفافية المطلقة هذا، ببساطة، إلى محدودية جسمنا وأعضاء حواسنا، بصرف النظر عن أدوات القياس التي تمدِّد أعضاء الحواس هذه. إن القول بمعرفة بشرية لانهائية (تستبعد كل نطاق عدم مقاومة)، يعترف في الوقت نفسه بمحدودية جسمنا وأعضاء حواسنا، يبدو لنا من قبيل الشعبذة اللغوية. إن نطاق عدم المقاومة يقابل القدسيَّ sacré، أي ما يستعصي على كل عقلنة.

إن جملة مستويات الواقع ونطاق عدم مقاومته المكمِّل هو الموضوع Objet العبرمناهجي.

إن مبدأ نسبية Principe de Relativité جديد يبرز من التواجد بين التعددية المعقدة والوحدة المفتوحة: ما من مستوى للواقع هو مكان بامتياز يمكن، اعتباراً منه، فهمُ مستويات الواقع الأخرى. إن مستوى ما للواقع هو ما هو لأن مستويات الواقع كلها موجودة في آن معاً. ومبدأ النسبية هذا يؤسِّس لنظرة جديدة إلى الدين والسياسة والفن والتربية والحياة الاجتماعية. في الرؤية العبرمناهجية، ليس الواقعُ متعددَ الأبعاد وحسب، بل هو أيضاً متعدد المراجع.

إن مختلف مستويات الواقع هي في متناول المعرفة البشرية بفضل وجود مستويات إدراك niveaux de perception مختلفة، هي على تقابل متواطئ مثنَّى biunivoque مع مستويات الواقع. ومستويات الإدراك هذه تسمح برؤية للواقع أعم فأعم، موحِّدة، شاملة، بدون استنفاده يوماً استنفاداً تاماً.

إن اتساق مستويات الإدراك يفترض سلفاً، كما هي حال مستويات الواقع، نطاق عدم مقاومة للإدراك.

إن جملة مستويات الإدراك ونطاق عدم مقاومتها المكمِّل هي الذات Sujet العبرمناهجية.

على نطاقَيْ عدم المقاومة للذات وللموضوع العبرمناهجيين أن يكونا متماثلين حتى تستطيع الذات العبرمناهجية أن تتواصل مع الموضوع العبرمناهجي. إن دفق الوعي الذي يجتاز اجتيازاً متسقاً مختلف مستويات الواقع يقابله دفقُ وعي يجتاز اجتيازاً متسقاً مختلف مستويات الإدراك. الدفْقَان على علاقة تشاكُل بفضل وجود نطاق عدم المقاومة الواحد نفسه. المعرفة ليست لا خارجية ولا داخلية، بل هي خارجية وداخلية في آن معاً. دراسة الكون ودراسة الكائن البشري تتعاضدان. ونطاق عدم المقاومة يسمح بتوحيد الذات العبرمناهجية والموضوع العبرمناهجي، على الرغم من اختلافهما.

العبرمناهجية هي خرق الثنوية التي تتضادد بها الأزواج الثنائية: الذات/الموضوع، الذاتية/الموضوعية، المادة/الوعي، الطبيعي/الإلهي، البساطة/التعقيد، الاختزال/الكلانية، التنوع/الوحدة. هذه الثنائية تنتهكُها الوحدةُ المفتوحة التي تشتمل على الكون وعلى الكائن البشري معاً.

للنموذج العبرمناهجي للواقع، بصفة خاصة، عواقب هامة على دراسة التعقيد. فبدون قطبه المناقض للبساطة (أو بدقة أكبر البساطة–التعقيد simplexité) يبدو التعقيد وكأنه مسافة متعاظمة بين الكائن البشري والواقع، مقحِماً استلاباً ذاتي التدمير للكائن البشري الذي يغرق في عبثية مصيره. التعقيد اللانهائي للموضوع العبرمناهجي يستدعي البساطة اللانهائية للذات العبرمناهجية.

احتلت مشكلةُ الذات/الموضوع موقعاً مركزياً في نظر الآباء المؤسِّسين للميكانيكا الكوانتية. ولقد دحض كل من بوهر وباولي وهايزنبرغ، مثلما فعل هُسِّرل وهيدغر وكاسيرر، المسلَّمةَ الأساسية للميتافيزياء الحديثة: التمييز القاطع بين الذات والموضوع. ونظراتنا هنا تندرج في هذا الإطار الفكري عينه.

4. موت الطبيعة وانبعاثها

الحداثة قتَّالة mortifère بصفة خاصة. فلقد ابتكرت كل ضروب "الموت" و"النهاية": موت الله، موت الإنسان، نهاية الإيديولوجيات، نهاية التاريخ، واليوم، نهاية العلم.

لكن ثمة موتاً آخر قلما يجري الحديث عنه، حياءً أو جهلاً: موت الطبيعة. ومن جهتي، أرى أن موت الطبيعة هذا هو أصل كل التصورات القتَّالة الأخرى التي جئنا على ذكرها لتوِّنا. وعلى كل حال، فإن كلمة "طبيعة" نفسها آلت إلى الاختفاء من المفردات العلمية. وبالطبع فإن رجل الشارع وحتى رجل العلم (في كتبه المبسِّطة) مازالا يستعملان هذه الكلمة، إنما بمؤدَّى مشوَّش، عاطفي، بوصفها استذكاراً سحرياً.

منذ ليل الأزمنة والإنسان لا يني يعدِّل رؤيته للطبيعة. يتفق مؤرخو العلوم على القول بأنه، على الرغم من المظاهر الدالة على العكس، ليس ثمة مفهوم عن الطبيعة واحد ظل هو هو عبر الأزمنة. فبماذا عساها تشترك طبيعة الإنسان المسمى "بدائياً"، وطبيعة الإغريق، والطبيعة في عصر غاليليه، والماركيز دو ساد، ولابلاس، أو نوفاليس؟ إن رؤية الطبيعة في عصر معطى تتوقف على الخيال imaginaire المهيمن على هذا العصر؛ وبدورها، تتوقف تلك الرؤية على حشد من الضوابط: درجة تطور العلوم والتكنولوجيا، التنظيم الاجتماعي، الفن، الدين، إلخ. ومتى تشكلت صورة الطبيعة فإنها تفعل في كل مجالات المعرفة. والعبور من رؤية إلى أخرى ليس متدرِّجاً ومتصلاً، بل يجري بالحري بانقطاعات مباغتة وجذرية وغير متصلة؛ حتى إن من الممكن لعدة رؤى متناقضة أن تتواجد معاً. إن التنوع الخارق لرؤى الطبيعة يفسر لماذا لا يمكننا الكلام على الطبيعة، إنما فقط على طبيعة معينة متوافقة مع خيال العصر المعتبَر.

لقد كان لصورة الطبيعة دوماً فعلٌ متعدد الأشكال: إذ لم يؤثر على العلم وحسب، بل وعلى الفن والدين والحياة الاجتماعية أيضاً. وهذا الأمر قد يفسِّر العديد من التزامنات العجيبة. حسبي أن أورد مثالاً واحداً: ظهور نظرية نهاية التاريخ ونهاية العلم قبيل بداية الألفية الثالثة. فعلى سبيل المثال، تطمح نظريات التوحيد في الفيزياء إلى صوغ مقترب تام، قائم على تفاعل أوحد من شأنه أن يتنبأ بكل شيء (من هنا اسم "نظرية كل شيء" Theory of Everything). من البين للغاية أنه إذا رأت نظرية كهذه النور في المستقبل لعَنِيَ هذا نهاية الفيزياء الأساسية لأنه لن يبقى ثمة شيء يُبحَث عنه. وإن لمن الطريف أن نلحظ أن فكرتي نهاية التاريخ ونهاية العلم قد اتفق لهما أن تنبثقا في آنٍ واحد من خيال "نهاية القرن".

بيد أن بالإمكان، على الرغم من التنوع الغزير والفاتن لصور الطبيعة، تمييز ثلاثة أشواط كبرى: الطبيعة السحرية، الطبيعة–الآلة وموت الطبيعة. الطبيعة بنظر الفكر السحري عضوية organisme حية تتحلَّى بالفطنة وبالوعي. والمصادرة الأساسية للفكر السحري هي مصادرة التواكل الكلِّي interdépendance universelle: لا يُستطاع تصورُ الطبيعة بمعزل عن علاقاتها مع الإنسان. كل شيء إشارة وأثر وسِمَة ورمز، والعلم بالمؤدَّى الحديث لهذه الكلمة نافل.

عند القطب الآخر يتصور الفكرُ الآلوي mécaniste والحتموي للقرن الثامن عشر وللقرن التاسع عشر بالأخص (الذي، بالمناسبة، ما يزال مهيمناً اليوم) الطبيعةَ ليس كعضوية، بل كآلة يكفي تفكيكُها قطعة قطعة لامتلاك ناصيتها بالكلِّية. المصادرة الأساسية للفكر الآلوي هي أن الطبيعة يمكن معرفتها والظفر بها بالطرائقية العلمية المعرَّف بها تعريفاً مستقلاً استقلالاً تاماً عن الإنسان ومنفصلاً عنه.

إن المآل المنطقي للرؤية الآلوية هو موتُ الطبيعة واختفاء مفهوم الطبيعة من حقل العلم. مع الإله الساعاتي أو بدونه، تفككتْ الطبيعة–الآلة، منذ بداية الرؤية الآلوية، إلى جملة من قطع الغيار. ومنذئذٍ انعدمت الحاجةُ إلى كلٍّ متَّسق، إلى عضوية حية، أو حتى إلى آلة تحتفظ، رغم كل شيء، بأثر من الغائية. لقد ماتت الطبيعة وبقي التعقيد complexité. هو تعقيد مذهل (كثيراً ما يلتبس بالـ"تعقُّد" complication) يتخلَّل كل مجال من مجالات المعرفة. بيد أن هذا التعقيد يُدرَك بوصفه طارئاً؛ إذ يُعتبَر الإنسان نفسه طارئاً من طوارئ التعقيد.

إن موت الطبيعة غير متوافق مع التأويل المتسق لنتائج العلم المعاصر، على الرغم من استمرار الموقف الاختزالي الجديد néo-réductionniste الذي يحصر اهتمامه في اللبنات الأساسية للمادة وفي التفاعلات الفيزيائية الأربعة المعروفة. وكل لجوء إلى الطبيعة، بحسب هذا الموقف الاختزالي الجديد، نافل، وحتى عديم المعنى. لكن الطبيعة، والحق يقال، لم تمت إلا عن رؤية معينة للعالم: الرؤية الكلاسية.

إن الموضوعية الصارمة للفكر الكلاسي لم تعد تصلح إلا في العالم الكلاسي. إن فصلاً كلياً بين الراصد وبين واقع يُفترَض مستقلاً استقلالاً تاماً عن هذا الراصد يقودنا إلى مفارقات يصعب تخطيها. بيد أن العالم الكوانتي يتصف بمفهوم للموضوعية أحذق بكثير: الموضوعية تتوقف على مستوى الواقع المعتبَر.

الزمكان espace-temps نفسه لم يعد تصوراً سرمدياً. زمكاننا المتصل الرباعي الأبعاد ليس الزمكان الأوحد القابل للتصور. فهو يبدو في بعض النظريات الفيزيائية بالحري كتقريب، كـ"مقطع" من الزمكان أغنى بكثير، بوصفه مولداً للظواهر الممكنة. والأبعاد الإضافية ليست نتاج مجرد نظر فكري. فهذه الأبعاد، من جهة، ضرورية لضمان التماسك الذاتي للنظرية وإزالة بعض المظاهر غير المرغوب فيها؛ وهي، من جهة أخرى، لا تتصف بخاصية محض صورية – إذ إن لها عواقب فيزيائية على سُلَّمنا نحن. فعلى سبيل المثال، بحسب بعض النظريات الكوسمولوجية، إذا كان الكون مرتبطاً في "بداية" البيغ بانغ بزمكان متعدد الأبعاد، فإن الأبعاد الإضافية تبقى أبداً مستترة، غير قابلة للرصد؛ لكن آثارها هي بالدقة التفاعلاتُ الفيزيائية المعروفة. وبتعميم المثال المذكور على فيزياء القسيمات، يصير من القابل للتصور أن يقابل عددٌ من مستويات الواقع زمكاناً مختلفاً عن الزمكان الذي يتصف به مستوانا نحن. علاوة على ذلك فإن التعقيد نفسه سوف يتوقف أيضاً على طبيعة الزمكان.

هنا يمكننا أن نخطو، على غرار هايزنبرغ، خطوة أبعد، فنؤكد بأن الزمكان الكلاسي الرباعي الأبعاد هو، في الواقع، مفهوم تأنيسي anthropomorphique يتأسَّس على أعضاء حواسنا.

المادة matière، بحسب التصورات العلمية الحالية، أبعد ما تكون عن التماهي مع الجوهر substance. في العالم الكوانتي، المادة مرتبطة بمركَّب جوهر/طاقة/معلومات/زمكان.

ثمة بعض الغموض يكتنف الدورَ المركزيَّ الذي تلعبه المسارات trajectoires في صياغة الفيزياء الحديثة. لقد بيَّن عدم التعيين الكوانتي بأن المسارات ليست مفهوماً أساسياً. وفي سنوات أقرب إلينا، ولد منهجٌ جديد من اللقاء غير المتوقَّع بين نظرية المعلومات والميكانيكا الكوانتية: النظرية الكوانتية للمعلومات. وهذا العلم الوليد يطرح سلفاً مسألة لُبِّية: هل قوانين المعلومات أعمُّ، وبالتالي أعمق، من معادلات الحركة؟ هل ينبغي التخلِّي عن المفاهيم المركزية للمواقع، والسرعات، ومسارات القسيمات، لصالح قوانين المعلومات التي يمكن أن تصح، في الواقع، ليس على الفيزياء وحسب، وإنما على حقول معرفية أخرى أيضاً؟ لقد تمت في الأعوام الأخيرة فتوح خرافية في حقول اللاانفصالية، والفكفكة، والكتابة الكوانتية السرية cryptographie، والنقل عن بعد teleportation، بالاشتراك مع القدوم الممكن للكومبيوترات الكوانتية. وهذا يبين أن مفاهيم من نحو "مستويات الواقع" أو "الثالث المشمول" لم تعد مجرد شطحات نظرية وحسب؛ إذ دخلت اليوم في حيِّز الاختبار، وستدخل غداً في الحياة اليومية.

يمكننا، في هذا السياق، أن نؤكد أن مفهوم قوانين الطبيعة نفسه يغير من فحواه بالكلِّية بالنسبة إلى الرؤية الكلاسية. ويمكن تلخيص الوضع بثلاث طرائح صاغها الفيزيائي الذائع الصيت فالتر تيرنغ:

1.    قوانين كل مستوى أدنى لا تتعين تعيناً تاماً بقوانين المستوى الأعلى. بذلك، فإن مفاهيم شديدة الرسوخ في الفكر الكلاسي، من نحو "أساسي" و"طارئ"، ينبغي أن يعاد النظر فيها. وما يُعتبَر أساسياً على مستوى ما يمكن أن يبدو طارئاً على مستوى أعلى وما يُعتبر طارئاً أو غير قابل للفهم على مستوى ما يمكن أن يبدو أساسياً على مستوى أعلى.

2.    قوانين مستوى أدنى تتوقف أكثر على ظروف انبثاقها منها على قوانين المستوى الأعلى. إن قوانين مستوى ما تتوقف بالدرجة الأولى على التشكيل configuration المحلِّي الذي ترجع إليه هذه القوانين. لكلِّ مستوى للواقع، بالتالي، نوع من الاستقلالية المحلية الخاصة به. لكن بعض المبهمات الداخلية الخاصة بالمستوى الأدنى للواقع تنحلُّ بأخذ قوانين المستوى الأعلى بالحسبان. إن التماسك الباطن للقوانين هو الذي يقلل من إبهام هذه القوانين.

3.    تراتبية القوانين تتطور مع تطور الكون نفسه. بعبارة أخرى، نشهد ولادة قوانين بالتزامن مع تطور الكون. وهذه القوانين سابقة الوجود على "بداية" الكون بوصفها ممكنات. وتطور الكون هو الذي يفعِّل هذه القوانين وتراتبيتها. وعلى نموذج عبرمناهجي للطبيعة أن يستدمج كلَّ هذه المعرفة الجديدة للخصائص المنبثقة عن الكون الفيزيائي.

إن وصف تيرنغ لقوانين الطبيعة على وفاق تام مع نظراتنا نحن حول البنيان الغودلي للطبيعة والمعرفة. لقد بات بالإمكان فهمُ مشكلة عدم التعيين الكوانتي فهماً تاماً بوصفها تأثير المستوى الكوانتي للواقع على المستوى الماكروفيزيائي الخاص بنا للواقع. وبالطبع فإن قوانين المستوى الماكروفيزيائي تتوقف أكثر، كما كتب تيرنغ، على "ظروف انبثاقها". ومن وجهة نظر المستوى الماكروفيزيائي، يبدو عدم التعيين طارئاً، غير قابل للفهم، أو كحدث نادر في أقصى الأحوال. لكن هذا يكشف، في الواقع، عن لبس داخلي لا يمكن حلُّه إلا بأخذ قوانين المستوى الكوانتي بالحسبان. فعلى هذا المستوى يكون عدم التعيين أساسياً.

ولربما تساءل المرء عما إذا لم يكن بالوسع منطقياً تصور عدم تعيين معمَّم، يتخطى كثيراً مشكلة مسارات القسيمات. ولقد نظر هايزنبرغ أصلاً في عدم التعيين اللغوي: ليس بإمكان الطبيعة أن تعبِّر بدقة اعتباطية عالية عن كلِّ عناصرها لأن طريقة التعبير تؤثر على نحوٍ جوهري في المعبَّر عنه. وإن عدم تعيين اللغة الطبيعية هو مجرد مثال على عدم التعيين المعمَّم الذي يولِّده البنيان الغودلي للطبيعة وللمعرفة.

وختاماً، يمكننا أن نميز ثلاثة مظاهر كبرى للطبيعة، متوافقة مع النموذج العبرمناهجي للواقع:

1.    الطبيعة الموضوعية Nature objective، المرتبطة بالخواص الطبيعية للموضوع العبرمناهجي؛ والطبيعة الموضوعية خاضعة لـموضوعية ذاتية objectivité subjective. وهذه الموضوعية ذاتية بمقدار ما ترتبط مستويات الواقع بمستويات الإدراك. بيد أن التشديد يتم على الموضوعية، بمقدار ما تكون الطرائقية المعمول بها هي طرائقية العلم.

2.    الطبيعة الذاتية Nature subjective، المرتبطة بالخواص الطبيعية للذات العبرمناهجية؛ والطبيعة الموضوعية خاضعة لـذاتية موضوعية subjectivité objective. وهذه الذاتية موضوعية بمقدار ما ترتبط مستويات الإدراك بمستويات الواقع. بيد أن التشديد يتم على الذاتية، بمقدار ما تكون الطرائقية المعمول بها هي طرائقية علم الوجود القديم الذي يتخلَّل كل منقولات العالم وأديانه.

3.    العبرطبيعة trans-Nature، المرتبطة بالطبيعة المشتركة بين الموضوع العبرمناهجي والذات العبرمناهجية. العبرطبيعة تختص بمجال القدسيِّ. ولا يمكن مقاربتها بدون اعتبار مظهرَيْ الطبيعة الآخرَيْن في الوقت نفسه.

للطبيعة العبرمناهجية بنيان مثلَّث (الطبيعة الموضوعية، الطبيعة الذاتية، العبرطبيعة) يعرِّف بـالطبيعة الحية Nature vivante. وهذه الطبيعة حية لأن الحياة حاضرة فيها على كافة مستوياتها ولأن دراستها تتطلب استدماج خبرة مَحْيِيَّة. على مظاهر الطبيعة الثلاثة أن تُعتبَر في الوقت نفسه في علاقتها الداخلية واقترانها في كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة الحية.***

تتطلب دراسة الطبيعة الحية طرائقية جديدة – طرائقية عبرمناهجية – تختلف عن طرائقية العلم الحديث وعن طرائقية علم الوجود القديم معاً. إن التطور المشترك co-évolution للكائن البشري وللكون هو الذي يطالب بطرائقية جديدة.

إن واحدة من المهمات العاجلة للعبرمناهجية هي محاولة صياغة فلسفة للطبيعة جديدة، تكون الوسيط بامتياز في الحوار بين كل مجالات المعرفة.

*** *** ***

ترجمة: ديمتري أفييرينوس


* للتوسع راجع: بَسَراب نيكولسكو، العبرمناهجية: بيان، بترجمة ديمتري أفييرينوس، "آفاق" 2، دار مكتبة إيزيس، دمشق 2000؛ و"مستويات التعقيد ومستويات الواقع: نحو تعريف جديد بالطبيعة"، معابر، الإصدار الأول، باب "إبستمولوجيا"؛ وهفال يوسف، "بيان العبرمناهجية"، معابر، الإصدار الخامس، باب "كتب وقراءات". (المحرر)

** مصطلح "عبرمناهجية" transdisciplinarité من نحت جان بياجيه الذي شعر، منذ عام 1970، بضرورة إيجاد مصطلح يؤدي معاني لا يستطيع مصطلح الـ"بينمناهجية" interdisciplinarité تأديتها. تختص العبرمناهجية، كما تشير بادئة "عبر" trans-، بما هو في آن معاً بين المناهج، عبر المناهج المختلفة، وفيما يتعدى كل منهج؛ وغايتها فهم العالم الحاضر، الذي من مستلزماته وحدة المعرفة.

*** إن مصطلح "الطبيعة الحية"، والحق يقال، من قبيل الحشو، لأن كلمة "طبيعة" Nature وثيقة الصلة بكلمة "ولادة" naissance. وكلمة natura اللاتينية مشتقة من جذر nasci (وُلِدَ) وتشير إلى فعل التوليد كما وإلى الأعضاء التناسلية المؤنثة.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود