بشأن مأساة شارلي إيبدو

 

جان-ماري مولِّر*

 

في عصر اليوم السابع من كانون الثاني/يناير [2015]، وبعد أنْ علِمتُ بأنَّ اعتداءً قد ارتُـــكِبَ في مقر [صحيفة] شارلي إيبدو Charlie Hebdo [الأسبوعية]، اكتشفتُ على الإنترنت أنَّ كابو Cabu كان مِنْ بينِ الصحفيين القتلى. وقد صدمني هذا الخبرُ. فقد قُـــيِّـــضَ لي خلال حياتي النضالية أنْ ألتقيَ به عدةَ مرات وقد نشأَتْ فيما بيننا علاقةُ صداقة. كانت الابتسامةُ التي تضيءُ وجهَه تَـــنُــــمُّ عن صفاءٍ كبير. كان يُظهِر قدرًا عظيمًا من الرِّقَّة. وكنتُ كلَّ أُسبوعٍ أفتحُ صحيفةَ لو كانار أونشينيه Le Canard Enchaîné [البطة المقيَّدة] وكلِّي توقٌ إلى اكتشاف رسومه.

وفي الوقت نفسِه اكتشفْتُ أسماءَ الأشخاص الآخرين الذين قُتِلوا في ذلك الاعتداء – من صحفيين ورِجال شرطة – وقدَّرْتُ حجمَ المأساة التي ضربَتْ فرنسا بأكملها. هذه الجرائمُ البشعة هي نفيٌ وإنكار للقيم الإنسانية التي تؤسِّسُ الحضارةَ. لقد تظاهرتُ يومَ الأحد 11 كانون الثاني/يناير [2015] في شوارعِ باريسَ لكي أؤكِّـــدَ مع مئات الألوف من الفرنسيين غيري إصرارَنا على رفضِ كلِّ خوفٍ إزاءَ التهديدات الإرهابية وعلى مواصلة النضال من أجل الحرية. يمكن لهذا الحِراك الشعبي الهائل أنْ يكونَ بارقةَ أملٍ من أجل الديمقراطية الفرنسية. لقد كانت الفكرةُ الرئيسيةُ التي أراد هؤلاءِ الآلافُ من الفِرنسيين التجمُّــعَ حوْلَها هي تأكيد إرادتهم بإقامةِ مجتمَعٍ يتجاوز كلَّ طائفيةٍ وبِعَيشِ عَلمانيةٍ حقيقيةٍ معًا، عَلمانيةٍ تَحترِم قناعاتِ الجميع تأكيدًا لأخلاقٍ عالمية يمكنها وحدَها أنْ تؤسِّسَ للمساواة والحرية والإخاء.

نشرُ الرسوم الكاريكاتورية لمُـحَــمَّـد موضع تساؤل:

مع ذلك، يجب أنْ أعترفَ بأنه لا يمكنني أنْ أتضامنَ تمامًا مع القرارات التي اتَّخذَتْـــها شارلي إيبدو بشأن نَـــشْرِ الرسوم الكاريكاتورية لمحمد.

لقد شاءت الأقدارُ أنْ أقيم في القدس خلال الفترة من 2 إلى 13 شباط/فبراير من العام 2006. وكانَ قد دعاني لزيارة غزة زياد مَـــدُّوخ أستاذ اللغة الفرنسية بجامعة الأقصى بغزة وذلك بهدف أنْ أقيمَ فيها دورةً في اللاعنف. وكان قنصلُ فرنسا قد أكَّدَ لي خلال إقامة سابقة في إسرائيل أنه يعطيني كلَّ الضوء الأخضر لكي أتمكَّنَ من الذهاب إلى غزة. ولكنْ هذه المرةَ أبلغَني أنه نظرًا لنشر الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية في فرنسا (حيث نشرَتْها صحيفةُ فرانس-سوار France-Soir في الأول من شباط/فبراير ونُشِرَتْ بتاريخ 8 شباط/فبراير في شارلي إيبدو) ونظرًا لمَظاهر العَداء التي سبَّــبَـــتْــها هذه الرسومُ بين العرب فإنه من غير الوارد أنْ أذهبَ إلى غزة. إذْ كانت كتائبُ شهداء الأقصى قد أكَّدَتْ في 2 شباط/فبراير أنَّ: "أي نرويجي أو دنماركي أو فرنسي موجود على أرضنا هو هدف".

إنه إذًا لفي الشرق الأدنى، وفي هذه الظروف الخاصة إلى حد ما، تلَــــقَّـــيتُ الأخبارَ عن نشر الرسوم الكاريكاتورية لمحمد في فرنسا. هذه المسافة عن مركز الحدث قادتني بلا أدنى شك إلى إدراكٍ للواقع إدراكًا يختلف اختلافًا كبيرًا عن الإدراك الذي بدا سائدًا في الغرب. فكتبتُ حالَما عُدْتُ إلى فرنسا مقالًا بعنوان: "صدمة الرسوم الكاريكاتورية". أنقلُ هنا بعضَ مقتطفات منه:

إنْ كان لا بدَّ مِن الحُكمِ مِنْ منظور الإيديولوجيا العَـلمانية الغربية على الأحداث الناجمة عن هذه الرسومُ التي نُـــشِرَتْ أولًا في الدنمارك فمِن المرجَّحِ ألَّا نرى في هذه المنشورات سوى تمرين مشروع على حرية التعبير. وعندئذٍ نصبح عاجزين عن فهمِ القراءة التي يقوم بها المسلمون لهذه الأحداث نفسِها. في الديمقراطية تكون حريةُ التعبير حقًا ثابتًا، ولكنها ليست حقًا مطلقًا. إذْ تتوقَّفُ حريةُ التعبير عند حدود احترام الآخرين. ولا تكون مشروعةً إلَّا عندما تقتـــرن بالفطنة والمسؤولية، وهما فضيلتان تشكِّلان أيضًا أساسَ الديمقراطية. فالخِطابُ المنمَّق عن حرية التشهير والذي يدَّعي تبريرَ نشْـرِ هذه الرسومِ يقدِّم للمسلمين صورةً كاريكاتوريةً عن الديمقراطية الغربية. وبالتالي فإنَّ جميعَ مَن يَسْعون جاهدين مِن النساء والرجال في العالَم الإسلامي لإعلاء قِـيَم العَلمانية الديمقراطية ومبادئها يجدون أنفسهم في موقف لا يُحسَدون عليه.

عندما ننظُر إلى غياب حرية التعبير في مجتمعات عديدة – وخاصةً في بلدانٍ تسيطرُ عليها أنظمةٌ ذاتُ مرجعية إسلامية – نُـــقَــدِّرُ تقديرًا أفضلَ القيمةَ الحاسمةَ لهذه الحرية من أجل بناء ديمقراطية حقيقية. فالذين قُـــيِّــــضَ لهم الاستفادةُ من هذه الحرية هم مسؤولون عن عدم تشويه سمعتِها بتجاوزات غير معقولة. (...)

"ينبغي بالتأكيد أنْ يخضعَ كلُّ دِينٍ لنقدِ العقل وخاصةً بالنسبة لعلاقته بالعنف. (...) ليس هذا النقاشُ المُــلِـــحُّ سهلًا، ولكنَّ إحدى أخطرِ نتائجِ نشْرِ هذهِ الرسومِ الكاريكاتوريةِ هي جعلُه أصعبَ.

يدعو الغربيون غيرَ مدركين لغرورهم المسلمين إلى تعلُّمِ إظهارِ روحِ الفُــــكاهةِ أمامَ وقاحةِ رسومٍ مِن شأنِها أنْ تكونَ فُـــكاهيةً. ولكنَّ الفُكاهةَ أثمنُ من أنْ يُساءَ استعمالُها. إذْ تنفي نفسَها عندما تتحوَّلُ إلى سُخريةٍ وذَمّ. في الواقع، لا تمثِّـــل هذه الرسومُ سوى صورةٍ كاريكاتورية عن الفكاهة.

لا داعيَ لأنْ يكونَ المرءُ عَرَّافًا لكي يتنبَّـــأَ بأنَّ مِثلَ هذه الأَهاجيِّ التي تَـسْــخَــر من النبي محمد سيفسِّـــرها المسلمون كإهانات كثيرة لدينهم. مع ذلك فإنَّ هذه الحشودَ من المسلمين الغاضبين الذين تستغلُّهم جماعاتٌ أو أنظمةٌ سياسيةٌ فيُـطلقون صرخاتِ الكراهية ضِدَّ الغربِ تصل أحيانًا إلى الدعوة لقتله تعطي بالتأكيد صورةً كاريكاتوريةً عن الإسلام.

الأكثرُ مأساويةٍ في الأمر هو أنَّ صدمةَ الرسوم الكاريكاتورية هذه جعلَـــتْـــنا نخطو خطوةً إلى الأمام في المنطق البغيض لِـــ"صِدام الحضارات". تنطوي العلاقاتُ بين العالَم الغربي والعالَم الإسلامي على تحدٍّ هائل. ولمواجهة هذا التحدِّي ينبغي امتلاكُ الجرأة في تمهيد الطريق لحوارٍ لا هوادةَ فيه يتيح لنا خَـــلْـــقَ مستقبلٍ مشتَركٍ من خلال اكتشافِ مراجعَ أخلاقيةٍ مشتركةٍ بغضِّ النظر عن أخطاءَ الماضي.

قد تبدو هذه الآراءُ قاسيةً على البعض، قاسيةً جدًا. أُذَكِّـــر أنها كُتِـبَـــتْ في عام 2006 وأنها تخصُّ الرسومَ الكاريكاتورية الدنماركية المنشورة في فرنسا. ربما نسيْنا الانفعالاتِ التي أثارتها وقتَــــئذٍ داخلَ المجتمعاتِ المسلمة في فرنسا وحول العالَم. بخصوص رسوم شارلي إيبدو المنشورة منذ ذلك الحين فلا بدَّ بالتأكيد مِن إدخالِ تعديلات طفيفة على هذه الآراء. فهذه الرسومُ يختلفُ بعضُها عن البعض الآخر ويجب الحُـكْـمُ على كلِّ رسمٍ على حِدة من خلال طيفٍ واسع من التقييمات.

للأسف، تتجاهل الأديانُ اللاعنفَ:

إزاءَ مأساة السابع والثامن من كانون الثاني/يناير [2015] حرصَ الزعماءُ الدينيون على إدانة هذه الجرائم مؤكِّدين أنَّ الأديان لا تدعو إلَّا للتسامح والسلام وأنها بريئة من هذه المأساة. ولكنَّ هذه اللغةَ الصحيحةَ من الناحية الدينية تكاد تتضمَّن إنكارًا للواقع.

تاريخُ البشرِ تاريخٌ إجراميٌّ. ويصلُ إلى حدِّ اليأس. فالعنفُ القاتل يبدو يُـــلقي بثقله على كاهل التاريخ وكأنه أمرٌ لا مفرَّ منه. إنَّ الفريضةَ العالميةَ للضمير العاقل تحرِّم القتلَ: "لا تقتل". رُغم ذلك، تُهيمنُ على مجتمعاتنا إيديولوجيةُ العنفِ الضروري والمشروع والشريف التي تبرِّر القتلَ. ولذلك ولأسباب عديدة أصبحَ الإنسانُ قاتِلَ الإنسانِ الآخَـــرِ. ويَظهَــــرُ الدينُ في غالب الأحيان جزءًا لا يتجزَّأ من المآسي الإجرامية التي تُـــدمِي العالَم.

وحتى وإنْ لم يقتلِ البشرُ "بِاسمِ الدين" فإنهم يقتلون مرارًا متوسِّلين بالدين. وفي كثير من الحالات، أتاحَ الدينُ للقتَـــلة أنْ يُـبرِّروا آثامَهم. وقدَّمَ لهم عقيدةَ العنفِ المشروع والقتلِ بالحق. وارتكبَ الدينُ مرارًا الخطأَ الحاسمَ بأنْ جَعلَ القتَـــلةَ يعتقدون أنَّ "الله معهم".

من الجدير بالملاحظة أنَّ الأديانَ، بِغضِّ النظرِ عن بعض الفوارق في النَّـــبْـــرة، تتمسَّــك في الأساس بعقيدة واحدة. ليس الأهمُّ ما تقولُه الأديانُ عن الله، بل الأهمُّ هو ما تقولُه عن الإنسان، وبالتحديد ما تقوله للإنسان وما لا تقوله له.

اتِّــخاذ غاندي حرفيًا:

يجب قطعًا أنْ نتمسَّـــكَ بما قاله غاندي حرفيًا عندما أكَّـــدَ أنَّ اللاعنفَ هو حقيقةُ إنسانيةِ الإنسانِ. ويؤكِّد أيضًا غاندي قائلًا: "الطريقة الوحيدة لمعرفة الله هي اللاعنف." فـبِتجاهُـــلِ اللاعنفِ تجاهلَتِ الأديانُ اللهَ الذي تكُونُ كينونتُه – في جميع الأحوال – نقيةً أساسًا من كل عنف. نقيضُ الإيمان ليس الكفرَ بل العنفُ. ولكنَّ الأخطر من ذلك هو أنه بتجاهُــلِ اللاعنفِ تجاهلَتِ الأديانُ الإنسانَ الذي تكتملُ كينونتُه الروحيةُ في اللاعنف. عندما تُـبرِّرُ الأديانُ العنفَ فإنها تَخُون الإنسانَ. وإنها تنفي إنسانيةَ الإنسان.

التعارض الجذري بين الحُب والعنف:

انتقدْنا غالبًا الأديانَ بسبب تبريرها لِلعنفِ. فذنْبُ الأديان بالطبع هو في ما قدَّمَـــتْه للعنف، لا بل بصورةٍ خاصة في ما لم تقدِّمْه لِـلَّاعنف. هذا يعني أنه لا يكفي ألَّا تُــبرِّرَ الأديانُ العنفَ؛ بل من الضروري ألَّا تتجاهلَ اللاعنفَ بعدَ الآن.

حتى وإنْ دعَتِ الأديانُ إلى الحُبِّ فإنها لم تجرؤْ على تأكيد التناقضِ الأصليِّ والتنافرِ الجوهريِّ والتضادِّ المُطْـــلَـــقِ والتعارضِ الجذريِّ بين الحُبِّ والعنف. فجعلَت البشرَ أيضًا يعتقدون أنه مِن الممكنِ اقترانُ الحب والعنف معًا في خِطاب واحد. هذا هو الخطأ الأساسي. لأنَّ مبدأ اللاعنف يلتغي في هذا الخِطاب. إنَّ سمو الإنسان يكمن في أنْ يخشى القتلَ أكثرَ من الموت.

العقائد الدينية تُــبرِّر القتلَ:

ارتفعَت أصواتٌ عديدةٌ تُــعلِن عاليًا وبقوَّةٍ أنَّ "الإسلام السياسي لا علاقةَ له بالإسلام". ينبغي طبعًا رفْضُ أي "خَلْط" وإغلاقُ الباب أمام إدانة المسلمين الذين لا بدَّ أنْ يكونوا جميعًا مسؤولين معًا عن الإسلام السياسي وانحرافاته الإجرامية. ويجب التنديدُ بالرُّهاب الإسلامي [الإسلاموفوبيا] وإدانتُه بحزم. بالمقابل، لا يمكننا أنْ نُنكِرَ إمكانيةَ لجوء الإسلاميين إلى عدة آيات قرآنية كضمانٍ من أجل تعزيز تصورهم الأصولي عن الإسلام بغضِّ النظر عن تسويات التاريخ وتساهلاته. بمعنىً أدق، تَــفرِضُ الشريعةُ الإسلاميةُ أشدَّ عقوبةٍ بحق الذين ينتقدون النبيَّ. ولا يستبعد الشرعُ الإسلاميُّ قتْـــلَ الكفَّارِ إطلاقًا. فمحمَّـدٌ نفسُه لم يتردَّد في اغتيال المعارضين الذين كانوا قد تحدَّوا سلطتَه. يمكن للإسلاميين أنْ يقولوا إنهم تابعون مستقيمون وأصوليون وبالتالي متشددون. إنَّ بين الإسلام التقليدي وإسلاموية الأصوليين جسورًا طالما أنَّ النص القرآني يتيح القراءةَ الأصولية التي يقوم بها الإسلاميون لهذا النص.

عندما يبدأ مثلُ هذا النقدِ على الإسلام فهذا يعني إمكانيةَ إجراء النقد نفسِه على أي دين. بكل الأحوال، القولُ بهذه الفكرة هو تأكيد [على ضرورة نقد الأديان] وليس العكسَ. بلا أدنى شكٍّ فإنَّ هذا التحليلَ المذكورَ آنفًا عن القرآن ينطبقُ أيضًا على الإنجيل الذي تُبرِّر آياتٌ عديدةٌ منه القتلَ. لقد تنوَّعَت تراخياتُ اليهوديةِ والمسيحيةِ مع العنفِ على مرِّ التاريخِ بحسب الزمان المكان. فيسوعُ مِن جِهتِه رفضَ قانونَ الثأر وطلبَ من أصحابه أنْ يعيدوا سيفَهم إلى غمدِه وألَّا يقاوموا الشرَّ بتقليد الشرِّير. مع ذلك، لم يمنع هذا الأمرُ محاكمَ التفتيش من أنْ تكونَ كاثوليكيةً قبل أنْ تصبحَ إسلاميةً، وليس للحروب المسيحية في القرن السادس عشر – "لنفكِّر في ليلة سان بارتيلمي[1]" – ما تحسده في الحروب الإسلامية الحالية.

الضرورة لا تعني الشرعية:

نعرف بالتأكيد أنَّ اللاعنف المطلق مستحيل في هذا العالَم. فقد يجد الإنسانُ نفسَه أسيرَ القانون القاسي للضرورة التي تجبره أنْ يلجأَ إلى العنف. ولكنْ حتى حينما يبدو العنفُ ضروريًا تظلُّ فريضةُ اللاعنف قائمةً؛ فضرورةُ العنف لا تلغي واجبَ اللاعنف. الضرورةُ لا تعني الشرعيةَ. وتبريرُ العنف تحت ذريعة الضرورة يعني جَـــعْـــلَ العنفِ ضروريًا بالتأكيد وحبْسَ المستقبلِ في ضرورة العنف.

عندما تحالفَت الأديانُ مع القتل فإنها لم ترتكب خطايا، بل ارتكبَت أغلاطًا [موضوعية]، أغلاطًا في العقيدة وأغلاطًا في الفكر وهي أغلاط كثيرةٌ ضد الروح. إنه لَمِن الواجبِ الأخلاقي الصارم، اليومَ كما في الأمسِ، أنْ تُـــقرِّرَ الأديانُ القيامَ بالقطيعة نهائيًا مع عقائدها في العنف المشروع والقتلِ بالحق واختيارَ اللاعنفِ بصورة قاطعة. في النهاية، يتوقَّف مستقبلُ البشرية، في جزء حاسم منه، على قرار الأديان هذا.

ويبقى الأملُ في أنْ يُجبِـــرَ تطرُّفُ العنفِ المرتكَب بِاسمِ الدين في فرنسا وفي بلدان عديدة مِن العالَم أيضًا الزعماءَ الدينيين على أنْ يقوموا بهذه القطيعة.

مكافحة معاداة السامية:

وجاء بعدَ ذلك مباشرةً مقــتـلُ أربعةِ فِرَنسيين يهودٍ يومَ الثامن من كانون الثاني/يناير [2015] في ﭙـــورت دو ﭬـــانسان Porte de Vincennes في متجر للمنتجات اليهودية ليزيدَ ضِـغْــثًا على إبَّالةٍ ويَـصُبَّ الزيتَ على النار في مأساةِ موتِ صِحَـــفِـــيِّــيْ شارلي إيبدو. وهنا أيضًا مِن المهمِّ أنْ نُدينَ قطعًا أيةَ رائحةٍ كريهة تشير إلى معاداة السامية. إلَّا أنه لا بدَّ من الإقرار بأنَّ أصل معاداة السامية يعود جزئيًا إلى سياسة دولة إسرائيل التي تمارَسُ بِاسمِ يهوديةٍ متطرفةٍ. الخطرُ الحقيقي يكمن في أنَّ إدانة العنصريةِ المعاديةِ للساميَّة تعني تبريرًا لسياسة الحكومة الإسرائيلية. ومِن وجهة النظر هذه فإنَّ حضور رئيس الحكومة الإسرائيلية في مظاهرة الحادي عشر من كانون الثاني/يناير أمرٌ مُريب. فمَنِ الذي يمكنه أنْ يقولَ إنَّ دولة إسرائيل تحترم حقوق الفلسطينيين؟

فرنسا في حالة حرب:

"فرنسا في حالة حرب ضد الإرهاب"، هذا ما أعلنه رئيسُ الوزراء [الفرنسي] مانويل ﭬـــالس Manuel Valls بتاريخ 13 كانون الثاني/يناير [2015] في الجمعية الوطنية. إنَّ التهديداتِ "الإرهابيةَ" التي تُـــلقي بثقلها على فرنسا هي بالتأكيد حقيقيةٌ، ولكنْ سيكون مِن الوهمِ الاعتقاد بأنَّ الإجراءاتِ الأَمنيَّةَ وحدَها، أيْ البوليسية والعسكرية، يمكنها أنْ تحدِّدَ هذه التهديداتِ وتقضي عليها.

إنَّ الكلام فقط عن الرعب والهمجية والبشاعة يكاد يضلِّلُنا بأنْ يؤدِّيَ بنا إلى طمْسِ الطبيعة السياسية لهذه الأعمال. لكي نفهمَ الإرهابَ، لا يكفي التلويح بلاأخلاقيته المتأصلة فيه. فبمجرَّدِ أنْ يتِمَّ الاعترافُ بالبعد السياسي للإرهاب يصبح مِن الممكنِ البحثُ عن الحل السياسي الذي يتطلَّبُه. إنَّ أنجعَ طريقةٍ لمحاربة الإرهاب هي حرمانُ المنفِّذين من الأسبابِ السياسية والاقتصادية التي يستندون إليها لتبريره. وبهذه الطريقة سيكون ممكنًا الإضعافُ الدائم للقاعدة الشعبية التي يكون الإرهابُ في أمسِّ الحاجة إليها. في كثير من الأحيان، يتجذَّر الإرهابُ في تُربة يُخصِبها الظلمُ والذلُّ والإحباطُ والبؤسُ واليأسُ. الطريقةُ الوحيدة لإيقاف الأعمال الإرهابية هي حرمان منفِّذيها من الأسباب السياسية المتذرَّعِ بها لتبرير هذه الأعمال. وبالتالي فللقضاءِ على الإرهاب ليست الحرب هي ما يجب القيام به بقدر ما هي العدالة التي يجب بناؤها. هنا وهناك.

هناك فكرةٌ أخيرةٌ ربما لا تزال تبدو غيْــرَ صحيحةٍ؛ إنَّ مأساة شارلي إيبدو لم تودي بحياة 17 ضحية بل 20 ضحية. فالقَــتَـــلةُ الثلاثةُ، وهم شبابٌ فرنسيون وُلِدوا في فرنسا ولكنَّ حياتهم لم يؤبَه بها، هم أيضًا ضحايا الإرهاب. فمهما كانت الفظاعةُ الإجراميةُ لأفعالهم يظلُّون بشرًا أيضًا. فبعد أنْ ماتوا، حَرِيٌّ بنا أنْ نعيدَ لهم إنسانيتَهم. وسيكون مِن الممكنِ لنا بعدَ ذلك الحِدادُ على هؤلاء الرجال الثلاثة ضمن إطار الاحترام لهم كأشخاص.

ترجمة: محمد علي عبد الجليل

*** *** ***

 


 

horizontal rule

* جان-ماري مولر: فيلسوف وكاتب ومؤلِّف عدة كتب منها: Désarmer les dieux [نزع سلاح الآلهة] وLe christianisme et l’islam au regard de l’exigence de non-violence [المسيحية والإسلام في ضوء فريضة اللاعنف]، لو رولييه الجَيب Le Relié Poche، 2010. وهو عضو مؤسس في الحركة من أجل بديل لاعنفي (MAN) وحاصل على الجائزة الدولية للمؤسسة الهندية جَمــنَـــلال باجاج لتعزيز قيم غاندي. الموقع الإلكتروني: www.jean-marie-muller.fr.

النص الفرنسي الأصلي منشور أيضًا في: http://nonviolence.fr/spip.php?article940 و http://protestantsdanslaville.org/gilles-castelnau-libres-opinions/gl698.htm. (المترجم)

[1] مذبحة سان-بارتيليمي massacre de la Saint-Barthélemy: هي مذبحة حدثَـتْ في فرنسا بتاريخ 24 آب/أغسطس عام 1572 ذُبِــحَ خلالها ما يزيد عن ثلاثين ألف بروتستانتي فرنسي على يد السلطات الكاثوليكية بأبشع وسائل القتل. (المترجِــم)

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني