english

الوعي المستيقظ

 

غ.إ. غورجييف

 

قام المعلِّم اليوناني–الأرمني الأصل غيورغي إيفانوفتش غورجييف (المولود في العام 1872 والمتوفى في 29 تشرين الأول 1949)، بعد رحلات طويلة في الشرق بحثًا عن المعرفة الباطنية الحق، بتأسيس حركة قائمة على الاستنارة الداخلية عِبْر التأمل وتذكُّر الذات المشدَّد، فاجتذب إليه العديد من المثقفين المرموقين في أوروبا والولايات المتحدة.

أنشأ في غابة فونتينيبلو (فرنسا) "معهدَ[ه] للتنمية المتناغمة للإنسان"، واستقر فيه اعتبارًا من العام 1922 مع عشرات من المريدين. كتب ثلاثية "في الكلِّ وكلِّ شيء" التي تشتمل على رسائل بعلزبول إلى حفيده، لقاءات مع أناس مرموقين (سيرة ذاتية، نَقَلَها المخرجُ الكبير بيتر بروك إلى الشاشة الفضية)، والحياة حقيقية فقط حين "أكون"، بالإضافة إلى كتيِّب صغير بعنوان بشير الخير الآتي.

من بين مريديه نذكر: المعماري الكبير فرانك لويد رايت وزوجته، الرسامة جورجيا أوكيفري، الكاتبة كاثرين مانسفيلد، والصحافي ب.د. أوسبينسكي، الذي ساعدت مؤلَّفاتُه الدقيقة على انتشار تعاليم غورجييف في العالم قاطبة.

النص التالي مدخل أوليٌّ إلى مقاربته للعمل الداخلي، وفاتحة لسلسة نصوص لاحقة، له وعنه، تعتزم معابر من خلالها تعريفَ قرائها بتعاليمه.

د.أ.

***

 

حتى نفهم ماهية الفارق بين حالات الوعي، فلنمعن النظر في حالة النوم. هذه حالة وعي ذاتية بالكلِّية. فالمرء مستغرق في أحلامه؛ ولا يهم إنْ كان يتذكَّرها أو لا. وحتى إذا بَلَغَه بعضُ الانطباعات الحقيقية، من نحو النأمات، الأصوات، الدفء، البرودة، إلخ، فإنها تثير فيه صورًا ذاتية ليس غير.

ثم يستيقظ المرء. للوهلة الأولى، تبدو هذه حالةَ وعي جديدة ومختلفة بالكامل. إنه يستطيع أن يتحرك، أن يتكلَّم مع غيره من الناس، يستطيع أن يقوم بحسابات مستقبلية، يستطيع أن يبصر الخطر ويتجنَّبه، وهكذا دواليك. لذا يبدو من المعقول أنه الآن في موقع أفضل منه حين كان نائمًا. لكننا، إذا توغَّلنا أعمق قليلاً في الأشياء، إذا ألقينا نظرةً على عالمه الداخلي، على خواطره، على مسبِّبات أفعاله، سوف نرى أنه يكاد أن يكون في الحالة نفسها التي يكون عليها وهو نائم. لا بل إنها أسوأ، لأنه في المنام يكون منفعلاً، في حين أنه في حالة اليقظة يستطيع أن يفعل شيئًا، ونتائجُ أعماله سوف تنعكس عليه وعلى أولئك المحيطين به. وهو، مع ذلك، لا يتذكر نفسه. إنه آلة: كلُّ شيء معه يحدث. إنه لا يستطيع أن يوقف دَفَقَ خواطره، لا يستطيع أن يصوِّب دَفَقَ خواطره، لا يستطيع أن يسيطر على مخيِّلته، على مشاعره، على انتباهه. إنه يعيش في عالم ذاتي قوامه "أحب"، "لا أحب"، "أستحب"، "لا أستحب"، "أريد"، "لا أريد"، أي ما يظن أنه يستحب، وما يظن أنه لا يستحب، ما يظن أنه يريد، وما يظن أنه لا يريد. إنه لا يرى العالم الحقيقي. العالم الحقيقي مستتر عنه بجدار سميك من الخيال الجامح. إنه يعيش في يقظة نائمة. إنه نائم. وما يسمَّى "وعي الصحو" هو في الواقع نوم؛ لا بل هو نوم أخطر بكثير من النوم في الفراش ليلاً.

فلنأخذ حَدَثًا ما في حياة البشرية. على سبيل المثال، الحرب. فماذا تعني الحرب؟ إنها تعني أن عدة ملايين من الناس النائمين يدمِّرون عدة ملايين من أناس نائمين آخرين. وهُم، بالطبع، ما كانوا ليفعلوا هذا لو قُيِّضَ لهم أن يستيقظوا. فكلُّ ما يحدث مردُّه إلى هذا النوم.

إن كلا حالتي الوعي، – النوم وحالة اليقظة (الكاذبة)، – بالتالي، ذاتيتان على حدٍّ سواء. يستيقظ المرء حقًّا فقط حين يبدأ في تذكُّر ذاته. وعندئذٍ تكتسب الحياةُ المحيطةُ برمَّتها في نظره مظهرًا مختلفًا ومعنًى مختلفًا. إنه يرى بأنها حياة أناس نائمين، حياة في النوم. كلُّ ما يقوله البشر ويفعلونه، يقولونه ويفعلونه في المنام؛ وهذا كلُّه لا يمكن أن تكون له أية قيمة على الإطلاق. وحدها اليقظة وما يقود إليها ذو قيمة في الواقع.

كم مرة سُئِلتُ إنْ كان في الإمكان وَقْفُ الحروب؟ قطعًا هذا ممكن. ولوَقْفِها لا حاجة إلا إلى استيقاظ الناس. يبدو هذا أمرًا تافهًا؛ غير أنه أصعب شيء من الممكن أن يوجد لأن هذا النوم تحرِّضه تربيتُنا المزعومة، ويحرص على استمراره المجتمعُ المحيطُ برمَّته.

فكيف يمكن للمرء أن يستيقظ؟ كيف يمكن للمرء أن ينجو من هذا النوم؟

هذه المسائل هي المسائل الأهم، والأكثر حيوية، التي يمكن لها أن تواجه المرءَ في حياته. ولكنْ قبل هذا، من الضروري للمرء أن يقتنع بواقع النوم عينه. وليس من الممكن للمرء أن يقتنع بهذا إلا عبر محاولته الاستيقاظ. فحين يفهم المرءُ أنه لا يتذكر ذاته، وأن تذكُّر ذاته يعني الاستيقاظ إلى حدٍّ ما، وحين يرى في الوقت نفسه، بالخبرة، مبلغ صعوبة أن يتذكر ذاته، فسوف يفهم أنه لا يستطيع أن يستيقظ بمجرَّد أن يرغب في الاستيقاظ. وفي الوسع القول، بدقة أكبر، بأن المرء لا يقدر أن يستيقظ من تلقاء ذاته – اللهم إلا في حالات استثنائية الندرة؛ ونحن هنا لا نتكلَّم على تلك الحالات.

ولكن إذا تعاهَد، لنَقُلْ، عشرون شخصًا على أن أيَّ واحد منهم يستيقظ أولاً سوف يوقظ البقية، فلديهم حينئذٍ بعض الأمل. غير أنه حتى هذا ليس بكافٍ، لأن العشرين جميعًا يمكن لهم أن يخلدوا إلى النوم في الوقت نفسه ويحلموا أنهم يستيقظون. لذا فإن المزيد ضروري. يجب أن يتعهَّدهم بالرعاية امرؤٌ لم يعد نائمًا، أو لا يغفو بمثل السهولة التي يغفون بها. على الأشخاص العشرين أن يجدوا مثل هذا الشخص ويستعينوا به على إيقاظهم وعدم السماح لهم بالإغفاء من جديد. فمن دون هذا، يتعذر الاستيقاظ. هذا ما ينبغي أن يُفهَم حقَّ فهمه.

من الممكن الاستمرارُ في التفكير ألف عام، من الممكن كتابةُ مكتبات كاملة من الكتب، وابتكار نظريات بالملايين – لكن هذا كلَّه يجري في أثناء النوم، من دون أية إمكانية للاستيقاظ. فعلى العكس، هذه الكتب وهاتيك النظريات، المكتوبة والمبتكَرة في أثناء النوم، سوف تقود أناسًا آخرين إلى النوم ليس إلا؛ وهكذا دواليك.

ليس هناك من جديد في فكرة النوم. فقد قيل للناس، منذ خَلْقِ العالم إلا قليلاً، إنهم نيام وإنهم يجب أن يستيقظوا. حتى تلاميذ المسيح ناموا بينما كان يصلِّي في بستان جَتْسَمانِيَّة ["معصرة الزيتون"] للمرة الأخيرة. الأمر كلُّه مذكور هناك [إنجيل متى 26: 36-46]. ولكن هل يفهم الناس ذلك؟ القوم يأخذون الأمر في بساطة على سبيل المجاز، كشكل من أشكال التعبير، كاستعارة بيانية. لكنهم أعجز تمامًا من أن يفهموا أن الأمر يجب أن يؤخذ على محمل الحرف. وهاهنا أيضًا من السهل أن نفهم لماذا. فمن أجل أن يفهم المرء هذه الفكرة فهمًا حرفيًّا، من الضروري له أن يستيقظ قليلاً، أو على الأقل، أن يحاول أن يستيقظ. لقد سُئِلتُ مرارًا لماذا لم يَرِدْ شيءٌ عن هذا النوع من النوم في الأناجيل. لكن الأمر واردٌ فيها، تكاد أن تنطق به كلُّ صفحة من صفحاتها. وهذا يبيِّن في بساطة أن الناس يقرؤون الإنجيل وهم نيام.

فما هو الشيء الضروري، في صورة عامة، لإيقاظ أحدهم؟ الشيء الضروري هو صدمة قوية. ولكن حين يكون امرؤ مستغرقًا في النوم، لا تكفي صدمة واحدة لإيقاظه؛ إذ لا بدَّ من فترة طويلة من الصدمات المتلاحقة. لذلك لا مناص من وجود امرئ لإيقاع هذه الصدمات. لقد سَبَقَ لي أن قلت إن امرأ ما، إذا شاء أن يستيقظ، يجب عليه أن يستعين بأحدهم ليستمر في هزِّه لفترة طويلة. ولكن بِمَنْ يقدر أن يستعين إذا كان الجميع نيامًا؟ سوف يستعين المرءُ بأحدهم ليوقظه، لكن هذا الآخر سوف يغفو هو الآخر. فما النفع من امرئ كهذا؟ وأغلب الظن أن المرء الذي يقدر أن يبقى مستيقظًا حقًّا سوف يرغب عن إضاعة وقته في إيقاظ الآخرين؛ إذ لعل لديه عملَه الشخصيَّ الأهم بكثير ليقوم به.

هناك أيضًا إمكانية الاستيقاظ بوسائل ميكانيكية. فالمرء يمكن له أن يستيقظ على صوت ساعة منبِّهة. لكن المشكلة هي في أن المرء يتعوَّد على صوت الساعة المنبِّهة في سرعة خارقة، فيكف عن سماعه. لذا فإن العديد من الساعات المنبِّهة، الجديدة دومًا، ضروري؛ وإلا فإن على المرء أن يحوِّط نفسه بساعات منبِّهة تحول بينه وبين النوم. ولكنْ، هاهنا أيضًا، ثمة صعوبات معيَّنة: لا بدَّ من تعبئة الساعات المنبِّهة على الدوام. فحتى يعبِّئها المرءُ يجب عليه أن يتذكر أمرَها. وحتى يتذكر المرءُ أمرَها يجب عليه أن يستيقظ مرارًا. لكن الأسوأ هو أن المرء يتعوَّد على هذه الساعات المنبِّهة كلِّها، وبعد فترة من الزمن، يتحسَّن نومُه في وجودها. لذا لا بدَّ من تبديل الساعات المنبِّهة على الدوام؛ لا بدَّ من ابتكار ساعات منبِّهة جديدة ابتكارًا مستمرًّا. وفي مآل الأمر، قد يساعد هذا المرءَ على الاستيقاظ. لكن حظَّ المرء في القيام بعمل تعبئة الساعات كلِّه، وبابتكار الساعات وتبديلها بمفرده، بلا مساعدة خارجية، ضئيل جدًّا. فالأغلب كثيرًا أنه سوف يبدأ عمله وأنه سوف ينزلق لاحقًا في النوم من حيث لا ينتبه؛ وفي أثناء نومه سوف يحلم بأنه يبتكر ساعات منبِّهة، يعبِّئها ويبدِّلها، ثم في بساطة يستغرق استغراقًا أعمق في النوم من جراء ذلك.

لذلك، حتى يستيقظ المرء، لا بدَّ من بذل جملة من الجهود. لا بدَّ لأحدهم من أن يوقظ المرء. ولا بدَّ من وجود شخص يعتني بالمرء الذي يوقظ المرءَ الأول. ولا بدَّ من التزوُّد بساعات منبِّهة، كما لا بدَّ أيضًا من ابتكار ساعات منبِّهة جديدة على الدوام.

لكنْ من أجل إنجاز هذا كلِّه والحصول على نتائج، يجب على عدد معيَّن من الناس أن يعملوا متعاونين.

إن امرأ واحدًا بمفرده لا يستطيع أن يفعل شيئًا.

قبل أيِّ شيء آخر، يحتاج ذلك المرء إلى المساعدة. لكن المساعدة لا يمكن لها أن تأتي إلى امرئ واحد وحده. فأولئك القادرون على المساعدة شديدو الحرص على وقتهم؛ وهُمْ، بالطبع، يفضلون أن يساعدوا، لنَقُلْ، عشرين أو ثلاثين شخصًا يريدون أن يستيقظوا بدلاً من شخص واحد فقط. علاوة على ذلك، يمكن لامرئ واحد أن يخدع نفسه حول استيقاظه في سهولة، فيجعل من اليقظة مجرَّد حلم جديد. أما إذا قرَّر أناسٌ عدة أن يناضلوا سوية ضد النوم فإنهم سوف يوقظون بعضهم بعضًا.

لذا فإن على المرء الذي يريد أن يستيقظ أن يفتش عن أناس يريدون كذلك أن يستيقظوا ويعمل معهم. غير أن هذا أسهل قولاً منه فعلاً، لأن البدء في مثل هذا العمل وتنظيمه يتطلب معرفةً لا يمكن لامرئ نائم أن يمتلكها. على العمل أن ينظَّم ويقوده قائدٌ مستيقظ. عندئذٍ فقط يمكن له أن يثمر عن النتائج المتوقَّعة منه. فمن دون هذه الشروط لا يمكن لأية جهود أن تثمر عن أيِّ شيء على الإطلاق. قد يعذِّب القومُ أنفسهم، لكن ذلك التعذيب لن يجعل منهم أيقاظًا – وهذا أعسر الأمور فهمًا على بعض الناس. قد يكونون قادرين، بأنفسهم وبمبادرة منهم، على بذل جهود هائلة وتضحيات عظيمة. إنما لأن أول جهودهم وأولى تضحياتهم ينبغي أن تكون الطاعة، فما من شيء على وجه الأرض يمكن له أن يحرِّضهم على طاعة سواهم. إنهم لا يريدون أن يُملي عليهم أحدٌ ماذا يفعلون. وهم لا يريدون أن يوطِّنوا أنفسهم على فكرة أن هذا الرفض يجعل جهودَهم كلَّها وتضحياتِهم كلَّها غير ذات جدوى.

على العمل أن ينظَّم. ولا يمكن أن ينظِّمه غير امرئ يعرف مشكلاته ومقاصده، يعرف مناهجه؛ امرؤ سَبَقَ له في أوانه أن اختبر مثل هذا العمل المنظَّم بنفسه.

*** *** ***

ترجمة: ديمتري أفييرينوس

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود