arabic

 

العلوم المضبوطة

تفاعلها مع العلوم الإنسانية ودوره في المجتمع·

 بسراب نيكوليسكو

بَسَراب نيكولسكو*

 

1. مقدمة: ثقافتا ما بعد الحداثة

أود، بادئ ذي بدء، أن أشكر السيد العميد جرجورة حردان على دعوته الودودة لي إلى هذا الحدث الهام: الاحتفال بالذكرى الـ25 لتأسيس كلِّية الآداب والعلوم الإنسانية. كما يطيب لي أن أتكلَّم من هذا المنبر العالي من منابر الثقافة في لبنان، حيث دافع صديقي، الشاعر العظيم أدونيس، عن أطروحة الدكتوراه في الآداب. ولقد اقترح عليَّ البروفيسور حردان أن أتكلَّم على التفاعل المعاصر بين العلوم المضبوطة والعلوم الإنسانية.

***

في مستهل التاريخ البشري كان العلمُ والثقافة إلفين مؤتلفين. كانت التساؤلات نفسها حول معنى الكون تحرِّكهما معًا.

ومع حلول النهضة، لم تكن الصلة قد انقطعت بعد؛ إذ كان يُفترَض في الكلِّية الجامعة Université الأولى، كما يشير اسمُها، أن تدرس الكلِّي l’universel. كان الكلِّي متجسدًا فيمن وَسَموا بِسِمَة عملهم تاريخَ المعرفة. كان كردان، مخترع الأعداد الخيالية ونظام التعليق الذي يحمل اسمه ("الكردان")، عالمًا رياضيًّا وطبيبًا ومنجِّمًا في آن واحد. وواضع الطالع الفلكي للمسيح كان، في الوقت نفسه، مؤلِّف أول عرض منهجي لحساب الاحتمالات. كبلر كان فلكيًّا ومنجِّمًا. ونيوتن كان، في آنٍ واحد، فيزيائيًّا ولاهوتيًّا وخيميائيًّا. ولقد شُغِفَ كذلك بالثالوث المقدس وبالهندسة، وصرف في مختبره الخيميائي مدة أطول مما صرف في وضع كتابه الفلسفة الطبيعية لمبادئ الرياضيات Philosophiæ Naturalis Principia Mathematica.

أجل، لقد كانت القطيعة بين العلم والمعنى، بين الذات والموضوع، حاضرة كبذرة في القرن السابع عشر، عندما صيغت طرائقية méthodologie العلم الحديث، لكنها لم تَصِرْ مرئية إلا في القرن التاسع عشر، عندما انطلق التفجُّر المناهجي الكبير.

هذا وإن القطيعة في أيامنا هذه باتت ناجزة. لم يَعُدْ بين العلم والثقافة من شيء مشترك؛ لذلك يجري الكلام على العلم وعلى الثقافة، على العلوم المضبوطة sciences exactes أو الصلبة (وكأن العلوم الإنسانية غير مضبوطة) وعلى العلوم الإنسانية sciences humaines أو الرخوة (وكأن العلوم المضبوطة غير إنسانية أو فوق إنسانية). ليس للعلم أن يرتقي إلى شرف الثقافة، وليس للثقافة منفذ إلى مكانة العلم.

وإننا لنفهم صرخة الاستنكار التي استفزَّها تصوُّر ثقافتين اثنتين – الثقافة العلمية والثقافة الأنَسِية humaniste – الذي أدخله منذ أربعة عقود ش. ب. سنو، الروائي ورجل العلم معًا. العلم جزء من الثقافة فعلاً، لكن هذه الثقافة العلمية منفصلة تمامًا عن الثقافة الأنَسِية. الثقافتان مدرَكتان بوصفهما متناوئتين؛ وكلٌّ من العالمين – العالم العلمي والعالم الأنَسِي – موصد على نفسه دون الآخر.

وفي الآونة الأخيرة، تتكاثر علامات التقارب بين الثقافتين، بين العلوم الإنسانية والعلوم المضبوطة، ولاسيما في مجال الحوار بين العلم والفن، المحور المؤسِّس للحوار بين الثقافة العلمية والثقافة الأنَسِية.

ولكنْ هل هذه المصالحة ممكنة؟

الوضع اليوم أعقد بكثير مما كان عليه في العام 1959، يوم صاغ سنو مفهومه عن الثقافتين. فالقِران بين العلم الأساسي وبين التكنولوجيا ناجز الآن؛ ولقد تمخض عن الثقافة التكنوعلمية techno-scientifique. وهذه الثقافة الجديدة هي منبع القوة اللاعقلانية للعولمة عديمة الوجه الإنساني، المتركِّزة على الاقتصاد، التي من شأنها أن تمحو كلَّ فارق بين الثقافات وبين الأديان. والثقافة الأنَسِية ابتلعتْها، في معظمها، الثقافةُ التكنوعلمية. وأمام هذه الثقافة الأحادية الجديدة ينتصب ما أسمِّيه الثقافة الروحية، التي هي، في الواقع، كوكبة شتى من الثقافات والأديان والأمم الروحية المتباينة. والثقافة الروحية، على طبيعتها المتناقضة، تتقاسم إيمانًا مشتركًا في الطبيعة المثنوية للكائن الإنساني: طبيعته الجسمانية والبيولوجية والنفسانية، من جانب، وطبيعته المتعالية، من جانب آخر.

ونحن، كعلماء، مشاركين فاعلين في الثقافة التكنوعلمية، تقع على عاتقنا مسؤولية عظيمة: تجنب تفكُّك الثقافة الروحية، الذي من عواقبه المحتملة انقراض نوعنا البشري من على وجه البسيطة! ثمة، إذن، ضرورة عاجلة لبناء الجسور بين الثقافة التكنوعلمية والثقافة الروحية. ولكنْ، هل بالإمكان تصوُّر جُسور كهذه، أم أن الأمر ليس إلا وهمًا يوطوبيًّا؟

إني، كممارس للفيزياء الكوانتية، أعلم حقَّ العلم أننا، إذا اقتصرنا على المظاهر التقنية للعلم، لن يكون بالإمكان عقد أية صلة. الطريق الأوحد هو طريق إعمال النظر في مسلَّمات العلم الأساسي وفي النتائج الأعم للعلم. لن يتسنَّى لنا أن نتحاور مع الثقافة الروحية إلا بالوقوف على تخوم العلم وفي مركزه. لن يُتاح لنا أن نقيم صِلاتٍ بين ثقافتَي ما بعد الحداثة إلا في الفضاء بين، عِبْر، وفيما يتخطَّى المناهج المعرفية، وذلك بأن نحقِّق التكامل بين العلم والحكمة.

في هذه المحاضرة، سوف نحلِّل كيف تقودنا العِبْرمناهجية transdisciplinarité إلى التأسيس الطرائقي للحوار بين ثقافتَيْ ما بعد الحداثة وبين العلوم الإنسانية والعلوم المضبوطة.

2. العائق الإبستمولوجي على طريق الحوار: مستوى واحد أو عدة مستويات للواقع؟

أمام النجاح المسلَّم به للعلم الحديث، اضطرت العلوم الإنسانية إلى تقليد العلوم المضبوطة. بذلك صار الحياد والموضوعية هما المعيارين للخاصية العلمية لما ندعوه العلوم الإنسانية. فالهدف المطلوب، المعترَف به أو غير المعترَف به، هو التصوير الرياضي formalisation mathématique. فالمقلَّد، بالفعل، هو الفيزياء الكلاسيكية، التي تمَّ اليوم تخطِّيها في أفقها الإبستمولوجي.

يُستحسن هاهنا أن نتساءل عن المقصود بـ"العلم الحديث".

ولد العلم الحديث من قطيعة فظة مع الرؤية القديمة للعالم. وهو يتأسَّس على فكرة، مفاجئة وثورية بالقياس إلى ذلك الوقت، تقضي بالانفصال الكلِّي بين الذات العارفة والواقع، الذي يُفترَض مستقلاً استقلالاً تامًّا عن الذات التي ترصده. لكن العلم الحديث كان، في الوقت نفسه، يجيز لنفسه ثلاث مصادرات أساسية، تمدِّد، بدرجة قصوى، على صعيد العقل، طَلَبَ القوانين والنظام:

1.    وجود قوانين شاملة، ذات طبيعة رياضية.

2.    اكتشاف هذه القوانين بالتجربة العلمية.

3.    القابلية الكاملة لإعادة إنتاج المعطيات الاختبارية.

وبذلك رفع غاليليه لغةً مصنوعةً، مختلفة عن لغة عامة القوم – الرياضيات – إلى منزلة اللغة المشتركة بين الله والبشر.

ولقد أيَّدتْ الفتوحاتُ المذهلة للفيزياء الكلاسيكية، من غاليليه وكبلر ونيوتن حتى أينشتاين، صوابَ هذه المصادرات الثلاث. وفي الوقت نفسه، أسهمت في ترسيخ أنموذج البساطة الذي أضحى متسيِّدًا على وصيد القرن التاسع عشر. لقد تمكَّنتْ الفيزياء الكلاسيكية، في غضون قرنين، من تشييد رؤية للعالم مطَمْئِنة ومتفائلة، مستعدة، على الصعيدين الفردي والاجتماعي، لاستقبال انبثاق فكرة التقدُّم.

تتأسَّس الفيزياء الكلاسيكية على فكرة الاتصالية continuité، بالتوافق مع البداهة التي تقدِّمها أعضاء الحواس: لا يمكن العبور من نقطة إلى أخرى في المكان والزمن بدون المرور بكافة النقاط المتوسِّطة بينهما.

فكرة الاتصالية وثيقة الصلة بتصور رائس في الفيزياء الكلاسيكية: السببية المحلِّية causalité locale. كان بالوسع فهم كلِّ ظاهرة فيزيائية بتسلسل متَّصل من الأسباب والنتائج: كلُّ سبب في نقطة معطاة تقابله نتيجةٌ في نقطة لامتناهية في القرب؛ وكلُّ نتيجة في نقطة معطاة يقابلها سببٌ في نقطة لامتناهية في القرب. فلا حاجة ثمة البتة إلى أيِّ فعل مباشر عن بُعد.

بذا أمكن لمفهوم الحتمية déterminisme أن يدخل مظفَّرًا تاريخ الأفكار. إن معادلات الفيزياء الكلاسيكية مبنية بحيث إنه إذا عُرِفَتْ مواقعُ الأجسام الفيزيائية وسرعاتُها في لحظة معطاة، أمكن التنبؤ بمواقعها وسرعاتها في أية لحظة أخرى من الزمن. قوانين الفيزياء الكلاسيكية قوانين حتمية. وبما أن الحالات الفيزيائية هي توابعُ مواقع وسرعات، ينتج عن ذلك أنه إذا تعيَّنتْ الشروط الابتدائية (الحالة الفيزيائية في لحظة زمنية معطاة) أمكن التنبؤ تنبؤًا تامًّا بالحالة الفيزيائية في لحظة زمنية معطاة أخرى، أية كانت.

من البيِّن جدًّا أن بساطة مثل هذه المفاهيم – الاتصالية، السببية المحلِّية، الحتمية – وجماليَّتها، بفعاليتها الكبيرة في الطبيعة، قد فَتَنَتْ أعظم العقول.

كانت ثمة خطوة باقية يجب القيام بها، لم تكن ذات طبيعة علمية، لكنْ ذات طبيعة فلسفية وإيديولوجية: تتويج الفيزياء ملكةً على العلوم؛ وبدقة أكبر، اختزال كلِّ شيء إلى الفيزياء، بحيث يبدو البيولوجي والنفسي مجرَّد مرحلتين تطوريتين للأساس الواحد نفسه ليس إلا. ولقد سهَّلتْ هذه الخطوة إنجازاتُ الفيزياء غير القابلة النقاش. هكذا وُلِدَتْ الإيديولوجيا العلموية، التي ظهرت كإيديولوجيا طليعية وعرفت انطلاقةً خارقة في القرن التاسع عشر.

على الصعيد الأكاديمي، كانت عواقب العلموية scientisme لا يُستهان بها هي الأخرى. فمعرفة حقيقة بهذا الاسم لا يمكن أن تكون إلا علمية، موضوعية؛ وكلُّ معرفة غير المعرفة العلمية تُنَحَّى إلى جحيم الذاتية subjectivité.

هذا وكانت للـموضوعية objectivité، وقد نُصِّبت معيارًا أعلى للحقيقة، عاقبة لا مفرَّ منها: تحويل الذات إلى موضوع. إن موت الإنسان، الذي يُنذِر بميتات أخرى كثيرة، هو الثمن الذي ينبغي دفعُه من أجل المعرفة "الموضوعية" المزعومة. وفي العمق، فيما يتعدَّى الأمل الهائل الذي استحثَّتْه، أورثتنا العلموية فكرةً لجوجة وعنيدة: فكرة وجود مستوى واحد للـواقع فحسب.

غير أن نظرة جديدة إلى العالم – النظرة الكوانتية – أتت لتقوِّض أسُس فكرة لا تني تنتهي، ولا تنتهي!

عند وصيد القرن العشرين بالضبط، واجهتْ ماكس بلانك مشكلةٌ فيزيائية، بريئة المظهر، ككلِّ مشكلات الفيزياء؛ لكنه، لكي يحلَّها، اقتيد إلى اكتشاف حرَّض في نفسه، بحسب شهادته نفسها، دراما داخلية حقيقية. ذلك أنه صار الشاهد على دخول اللااتصالية discontinuité في مجال الفيزياء. فللطاقة، بحسب اكتشاف بلانك، بنيان خفيٌّ، غير متصل. لقد قُيِّض لـ"كوانتوم" quantum بلانك، الذي أعطى اسمه للميكانيكا الكوانتية، أن يثوِّرَ الفيزياء كلَّها ويغيِّر عمقيًّا رؤيتنا للعالم.

أنَّى لنا أن نفهم اللااتصالية الحق، أي أن نتخيَّل أنه بين نقطتين لا يوجد شيء، لا أجسام، ولا ذرات، ولا جزيئات، ولا قُسَيْمات، لاشيء وحسب؟ وحتى كلمة "لاشيء" هي من قبيل الحشو!

إن التشكيك في الاتصالية يكافئ التشكيكَ في السببية المحلِّية، وتاليًا، فَتْحَ علبة باندورا مرعبة.

إن للكمية الفيزيائية، بحسب الميكانيكا الكوانتية، عدة قيم ممكنة، تتأثر باحتمالات معيَّنة تمامًا. لكنْ عند إجراء قياس اختباري يتم الحصول، بالطبع، على نتيجة واحدة من أجل الكمية الفيزيائية المعنيَّة. لقد كان هذا الإلغاء المفاجئ لتعددية القيم الممكنة لـ"مرصودة" فيزيائية، بفعل الرصد نفسه، مبهمَ الطبيعة، لكنه كان يشير إشارة واضحة إلى وجود نمط للسببية جديد.

بعد ولادة الميكانيكا الكوانتية بسبعة عقود، تمَّ توضيح طبيعة هذا النمط الجديد من السببية بفضل نتيجة نظرية صارمة – هي نظرية بِلْ – وتجارب ذات دقة كبيرة. وبذلك دخل مفهومٌ جديد في الفيزياء: اللاانفصالية non-séparabilité.

تُواصِل الكيانات الكوانتية تفاعلَها مهما كان مقدار تباعُدها. وبهذا فإن نمطًا جديدًا من السببية دخل تاريخ المعرفة – سببية شاملة causalité globale تخصُّ منظومة كلِّ الكيانات الفيزيائية، في جملتها.

وبذلك فإن ركنًا آخر من أركان الفكر الكلاسيكي – هو الحتمية – كان، بدوره، آيلاً إلى السقوط.

الكيانات الكوانتية – الكوانتونات quantons – هي، في آنٍ معًا، جسيمات وموجات أو، بدقة أكبر، ليست لا قُسَيْمات ولا موجات.

تبيِّن علاقات هايزنبرغ الشهيرة، بما لا لَبْس فيه، أن من المستحيل تعيين موقع كوانتون في نقطة محدَّدة من المكان وفي نقطة محدَّدة من الزمن. بعبارة أخرى، من المستحيل عَزْو مسار معيَّن تمامًا إلى قُسَيْم كوانتي. إن اللاتعيُّن indéterminisme السائد على السلَّم الكوانتي هو لاتعيُّن تكويني، أساسي، غير قابل للاختزال، لا يعني البتة المصادفة أو عدم الدقة.

إن الوَقْع الثقافي الأكبر للثورة الكوانتية يكمن بالتأكيد في التشكيك في العقيدة الفلسفية المعاصرة لوجود مستوى واحد للـواقع.

فلنعطِ كلمة "واقع" معناها البراغماتي والأونطولوجي في آنٍ معًا.

أقصد بـالواقع Réalité، أولاً، ما يقاوم تجاربنا وتمثيلاتنا وتوصيفاتنا وصورنا أو تصويراتنا الرياضية. لقد قادتْنا الفيزياء الكوانتية إلى اكتشاف أن التجريد ليس مجرَّد وسيط بيننا وبين الطبيعة، أداة لتوصيف الواقع، بل واحد من الأجزاء المكوِّنة للطبيعة نفسها.

ينبغي إضفاء بُعْدٍ أونطولوجي على مفهوم الواقع، بمقدار ما تشارك الطبيعة في كينونة العالم. فـالواقع ليس بناءً اجتماعيًّا وحسب، ليست إجماع جماعة، اتفاقًا بَـيْـنْـذاتيًّا intersubjectif. إذ إن له أيضًا بُعدًا عِبْرذاتيًّا trans-subjective، بمقدار ما تستطيع واقعةٌ اختبارية محض تقويضَ أجمل النظريات العلمية.

المقصود بـمستوى الواقع niveau de Réalité جملة ثابتة من المنظومات ينتظمها عددٌ من القوانين العامة: منها، على سبيل المثال، الكيانات الكوانتية الخاضعة للقوانين الكوانتية، المقطوعة جذريًّا عن قوانين العالم الماكروفيزيائي. أي أن مستويين للـواقع مختلفان إذا كان ثمة، مرورًا من أحدهما إلى الآخر، انقطاعٌ في القوانين وانقطاعٌ في المفاهيم الأساسية (كالسببية، على سبيل المثال). لم يفلح أحدٌ في العثور على صورية رياضية تسمح بالعبور الصارم من عالم إلى آخر.

وبالفعل، فإن فيرنر هايزنبرغ، في كتاباته الفلسفية، اقترب كثيرًا من مفهوم "مستوى الواقع". ففي مخطوطة 1942 الشهيرة (المنشورة بالألمانية في العام 1984 والمترجَمة إلى الفرنسية في العام 1998)، أدخل هايزنبرغ، الذي كان يعرف هُسِّرل جيدًا، فكرة ثلاث مناطق للواقع، بمقدورها أن تجيز لنا الدخول إلى مفهوم "الواقع" نفسه: المنطقة الأولى هي منطقة الفيزياء الكلاسيكية؛ المنطقة الثانية – منطقة الفيزياء الكوانتية والظواهر البيولوجية والنفسانية؛ والمنطقة الثالثة منطقة الخبرات الدينية والفلسفية والفنية. ولهذا التصنيف أساس لطيف: فهو يتأسَّس على التقارب المتزايد بين الذات والموضوع.

وإن انبثاق مستويات واقع مختلفة في دراسة المنظومات الطبيعية حَدَثٌ رائس في تاريخ المعرفة. إذ من شأنه أن يقودنا إلى إعادة النظر في الحوار بين العلوم الإنسانية والعلوم المضبوطة. والعِبْرمناهجية تبدو لي بوصفها الوسيط الذي لا بدَّ منه لهذا الحوار.

3. تعددية المناهج والبينمناهجية والعِبْرمناهجية

إن التنامي غير المسبوق للمعارف في عصرنا يمنح شرعية لمسألة تطويع العقليات لهذه المعارف. والعولمة، بخاصة، منبع بالقوة لانحطاط جديد. والخطران الأقصيان للعولمة هما المجانسة الثقافية والدينية والروحية، واستعار النزاعات القومية والدينية، كردَّة فعل للثقافات والحضارات ذودًا عن نفسها. وفي هذا السياق، يشكِّل كلٌّ من الفرانكوفونية (أو بالأحرى الفَرْنَسِية francité، على حدِّ اصطلاح صلاح ستيتيه الجميل)، واللاتينية، والحضارة المتوسطية، شبكة مقاومة لهذين الخطرين: خطر المجانسة وخطر المبايَنة الأقصيين.

إن التناغم بين العقليات وبين المعارف تفترض سلفًا أن تكون هذه المعارف معقولة، قابلة للفهم. ولكنْ، هل يمكن للفهم أن يوجد في عصر التفجُّر المناهجي والغلوِّ في الاختصاص؟

إن الحاجة الماسة إلى روابط بين المناهج المختلفة قد تُرجِمَتْ إلى ظهور تعددية المناهج pluridisciplinarité والبينمناهجية interdisciplinarité حوالى أواسط القرن العشرين.

تختص تعددية المناهج بدراسة عدة مناهج في آنٍ واحد لموضوع واحد تابع للمنهج الواحد نفسه. فالبحث المتعدِّد المناهج يقدم شيئًا أكثر للمنهج المعنيِّ، لكن هذا "الأكثر" يكون في خدمة هذا المنهج عينه حصرًا.

البينمناهجية تتعلَّق بنقل الطرائق من منهج إلى آخر. فعل سبيل المثال، أدى نقل طرائق الرياضيات إلى الظواهر الأرصادية الجوية أو ظواهر أسواق المال إلى توليد نظرية الشواش théorie du chaos. ومثلها كمثل تعددية المناهج، تتخطَّى البينمناهجية المناهج، لكن غائيَّتها تبقى هي الأخرى مندرجة في البحث المناهجي.

أما العِبْرمناهجية فهي تختص، كما تشير بادئة "عِبْر" trans- اللاتينية، إلى ما هو، في آن معًا، بين المناهج، عِبْر المناهج المختلفة، وفيما يتعدَّى كلَّ المناهج. وغائيَّتها هي فهم العالم الحاضر، الذي من مستلزماته وحدة المعرفة. ومصطلح "عِبْرمناهجية" من نحت جان بياجيه في العام 1970.

يتميَّز البحث العِبْرمناهجي تميزًا جذريًّا عن البحث المناهجي disciplinaire، فيما هو يكمِّله. البحث المناهجي يختص، على الأكثر، بالمستوى الواحد نفسه للـواقع؛ إنه، فضلاً عن ذلك، لا يختص، في أغلب الأحوال، إلا بقِطَعٍ من المستوى الواحد نفسه للـواقع. بالمقابل، فإن العِبْرمناهجية تهتم بالدينامية المتولِّدة بفعل عدة مستويات للـواقع في آنٍ معًا. ويمرُّ اكتشاف هذه الدينامية، بالضرورة، بالمعرفة المناهجية.

المناهجية وتعددية المناهج والبينمناهجية والعِبْرمناهجية هي السهام الأربعة للقوس الواحد نفسه: ألا وهو قوس المعرفة.

المعرفة التامة هي نمط جديد من المعرفة – المعرفة العِبْرمناهجية (م ع)، التي تقابل معرفة حية. وهذه المعرفة الجديدة تختص بالتقابُل بين العالم الخارجي للـموضوع والعالم الداخلي للـذات. المعرفة م ع هي حقًّا معرفة للثالث Tiers. المعرفة م ع، بالتعريف، تشتمل على منظومة قيمية (راجع الجدول).

ومن المهم أن ندرك أن المعرفة المناهجية (م م) والمعرفة العِبْرمناهجية ليستا متناوئتين، بل متكاملتان: كلا طرائقيَّتيهما يتأسَّس على الروح العلمية.

المعرفة م ع

المعرفة م م

حية

مخبرية

التقابُل بين العالم الخارجي (الموضوع)

والعالم الداخلي (الذات)

العالم الخارجي – الموضوع

الفهم

المعلومات

نمط جديد من الفطنة –

التوازن بين الذهن والمشاعر والجسم

الفطنة التحليلية

موجَّهة نحو الدهشة والمشاركة

موجَّهة نحو القدرة والتملُّك

منطق الثالث المشمول

المنطق الثنائي

شمول القيم (الخيار الأنَسِي)

استبعاد القيم (الحياد)

الجدول: مقارنة بين المعرفة المناهجية (م م) والمعرفة العِبْرمناهجية (م ع).

العِبْرمناهجية هي طريق للشهادة على حضورنا في العالم وعلى خبرتنا الحية عبر معارف عصرنا المذهلة. والنظرة العِبْرمناهجية – وهي نظرة عِبْرثقافية transculturelle وعِبْردينية trans-religieuse في آنٍ معًا – تقود، على الصعيد الاجتماعي، إلى تغيير جذري في المنظور والمواقف.

4. طرائقية العِبْرمناهجية

تقوم طرائقية العِبْرمناهجية على ثلاث مصادرات:

أ‌.       توجد في الطبيعة وفي معرفتنا للطبيعة مستويات مختلفة للـواقع.

ب‌.  العبور من أحد مستويات الواقع إلى مستوى واقع آخر يتم وفقًا لمنطق الثالث المشمول.

ت‌.  بنيان جملة مستويات الواقع بنيان معقَّد: كلُّ مستوى هو ما هو لأن كلَّ المستويات الأخرى موجودة في آنٍ معًا.

والمصادرتان الأولى والثانية تبرِّرهما تاريخيًّا الفيزياء الكوانتية، بينما لا تجد المصادرة الثالثة منبعها في الفيزياء الكوانتية وحسب، بل وفي العلوم المضبوطة الأخرى والعلوم الإنسانية.

ومن المهم أن نشدِّد على أن صحة مصادرات العِبْرمناهجية الثلاث يمكن أن تُفترَض بدون الإشارة إلى مصدرها التاريخي. بعبارة أخرى، فإن العِبْرمناهجية لا تنتج عن نَقْلٍ يجري اعتبارًا من العلم الحديث – وهو إجراء خاطئ على الصعيد الإبستمولوجي والفلسفي. فالعلم الحديث، بمظاهره الأعم، أجاز لنا أن نعيِّن مصادرات العِبْرمناهجية الثلاث؛ لكنها، ما أن تتم صياغتها، فإنها تتصف بصلاحية أوسع، وبصفة أخص في مجال التربية والثقافة.

لقد سبق لنا أن ناقشنا المصادرة الأولى. تتعلق المصادرة الثالثة بـالتعقيد complexité – وهو مفهوم بات موضع نقاش على نطاق واسع. ويحسُن بنا هاهنا أن نقول بضع كلمات في مدلول المصادرة الثانية.

يرتبط مستويان مختلفان للـواقع بمنطق الثالث المشمول logique du tiers inclus – وهو منطق جديد بالقياس إلى المنطلق الكلاسيكي.

يتأسَّس المنطق الكلاسيكي على ثلاث مسلَّمات:

1.    مسلَّمة الهوية axiome d’identité: أ هو أ.

2.    مسلَّمة عدم التناقض axiome de non-contradiction: أ ليس لا-أ.

3.    مسلَّمة الثالث المرفوع axiome du tiers exclu: لا يوجد حدٌّ ثالث ث (ث من "ثالث مرفوع") هو، في الوقت نفسه، أ و لا-أ.

على أننا إذا قبلنا بهذا المنطق الذي ساد، على كلِّ حال، إبان ألفيتين، ومازال يهيمن على فكر اليوم، نستخلص فورًا ما مفاده أن أزواج المتناقضات التي تبيِّنها الميكانيكا الكوانتية – الموجة و الجسيم، الاتصالية و اللااتصالية، الانفصالية و اللاانفصالية، السببية المحلية و السببية الشاملة، التناظر و كسر التناظر، عكوسية الزمن و لاعكوسيته، إلخ – يستبعد بعضها بعضًا؛ إذ لا يمكن، في الوقت نفسه، تأكيد صحة شيء وضدِّه: أ و لا-أ.

إن غالبية المناطق [جمع منطق] الكوانتية قد عدَّلت المسلَّمة الثانية للمنطق الكلاسيكي – مسلَّمة عدم التناقض – بإدخال عدم التناقض ذي قيم الحقيقة المتعددة بدلاً من عدم التناقض ذي الزوجين الثنائيين (أ، لا-أ). ويعود الفضل التاريخي إلى ستيفان لوباسكو (1900-1988) في بيان أن منطق الثالث المشمول منطق حقيقي، قابل للتصوير ومصوَّر، متعدِّد القيم (مثلَّث القيم: أ، لا-أ و ث) وغير متناقض.

إن فهم مسلَّمة الثالث المشمول – يوجد حدٌّ ثالث ث هو في الوقت نفسه أ و لا-أ – يتضح اتضاحًا كاملاً عندما يُدخَل مفهوم "مستويات الواقع".

للحصول على صورة واضحة لمعنى الثالث المشمول، فلنمثِّل للحدود الثلاثة للمنطق الجديد – أ، لا-أ و ث – وللديناميَّات المرافقة لها بمثلَّث يتوضع واحدٌ من رؤوسه على مستوى للـواقع، بينما يتوضع الرأسان الآخران على مستوى آخر للـواقع. فلو اكتفينا بمستوى واحد للـواقع، يظهر كلُّ تجلٍّ كصراع بين عنصرين متناقضين. تفعل الدينامية الثالثة – دينامية الحالة ث – على مستوى آخر للـواقع، حيث ما يبدو مفرَّقًا هو في الواقع موحَّد، وما يبدو متناقضًا يُدرَك كغير متناقض. إن خلع ث على مستوى الواقع الواحد نفسه هو الذي يُنتِج مظهر الأزواج المتناوئة، التي يستبعد واحدُها الآخر.

منطق الثالث المشمول قادر على وصف الاتساق بين كافة مستويات الواقع عبر سيرورة تكرارية. وهذه السيرورة مستمرة إلى ما لا نهاية، حتى استنفاد مستويات الواقع كافة، المعروفة أو القابلة للتصور، بدون أن يتمكَّن أبدًا من الإفضاء إلى نظرية موحَّدة تمامًا. وبهذا المعنى يمكننا الكلام على تطور في المعرفة، بدون القدرة على الإفضاء إلى عدم تناقض مطلق، ينسحب على مستويات الواقع كافة: فالمعرفة تظل أبدًا مفتوحة.

ثمة جزمًا اتساق coherence بين مختلف مستويات الواقع، في العالم الطبيعي على الأقل. ويبدو أن هناك، بالفعل، تماسكًا ذاتيًّا autoconsistance شاسعًا ينتظم تطور الكون، من اللامتناهي في الصغر إلى اللامتناهي في الكبر، ومن اللامتناهي في الإيجاز إلى اللامتناهي في الطول. إن دفقًا من المعلومات ينتقل انتقالاً متَّسقًا من مستوى للـواقع إلى مستوى آخر للـواقع من كوننا الفيزيائي. وهذا الاتساق موجَّه: إن سهمًا يلازم كلَّ نقل للمعلومة من مستوى لآخر. وبالتالي، فإن الاتِّساق، إذا اقتصر على مستويات الواقع وحدها، يتوقف عند المستوى "الأعلى" وعند المستوى "الأدنى". فحتى يستمر الاتِّساق فيما يتعدَّى هذين المستويين الحدِّيين، وحتى تكون هناك وحدة مفتوحة، يجب اعتبار أن جملة مستويات الواقع تستطيل في نطاق عدم مقاومة zone de non-résistance لتجاربنا وتمثيلاتنا وتوصيفاتنا وصورنا وتصويراتنا الرياضية. في هذا النطاق، لا يوجد أيُّ مستوًى للـواقع.

يعود عدمُ مقاومة نطاق الشفافية المطلقة هذا، بكلِّ بساطة، إلى محدودية جسمنا وأعضاء حواسنا، أيًّا كانت أدوات القياس التي تمدِّد أعضاء الحواس هذه. إن نطاق عدم المقاومة يقابل ما يستعصي على كلِّ عَقْلَنَة. ويحسُن بنا هاهنا أن نذكِّر بالتمييز الهام الذي يقيمه إدغار موران بين العقلاني rationnel والعَقْلَنَة rationalisation. فنطاق عدم المقاومة عقلاني، لكنه غير قابل للعَقْلَنَة. وهو يترجم تفاعلاً بين الذات والموضوع، غير قابل للاختزال إلى أيٍّ من الذات أو الموضوع. وهذا التفاعل، قبل كلِّ شيء، خبرة، تُترجَم بشعور عميق بما يربط الكائنات والأشياء بعضها إلى بعض، وبالتالي، يحرِّض في أغوار الكائن الإنساني الاحترام المطلق للذوات الأخرى التي توحِّد فيما بينها الحياةُ المشتركة على كوكب الأرض الواحد نفسه.

إن البنيان المفتوح لجملة مستويات الواقع منسجم مع واحدة من النتائج العلمية الأهم للقرن العشرين: نظرية غودِل الخاصة بالحساب. تقول لنا نظرية غودِل بأن منظومة من المسلَّمات، غنية بما يكفي، تقود حتمًا إلى نتائج إما غير قابلة للحسم، وإما متناقضة. وإن لمدى نظرية غودِل أهمية لا يُستهان بها لكلِّ نظرية حديثة في المعرفة، لأنها لا تخص مجال الحساب وحده، ولكنْ أيضًا كلَّ رياضيات تشمل الحساب. وإن البنيان الغودِلي لجملة مستويات الواقع، بالتلازم مع منطق الثالث المشمول، ينطوي على تعذُّر تشييد نظرية تامة لتوصيف العبور من مستوى إلى آخر، وبالأولى لتوصيف جملة مستويات الواقع. فالوحدة التي تربط كلَّ مستويات الواقع، إن وُجِدتْ، يجب بالضرورة أن تكون وحدة مفتوحة.

إن مبدأ نسبية Principe de Relativité جديد يبرز من التواجُد بين التعددية المعقدة والوحدة المفتوحة: ما من مستوى للـواقع هو المكان بامتياز الذي يمكن، اعتبارًا منه، فهمُ مستويات الواقع الأخرى. إن مستوى ما للـواقع هو ما هو لأن مستويات الواقع كلَّها موجودة في آنٍ معًا. ومبدأ النسبية هذا يؤسِّس لنظرة جديدة إلى الثقافة والدين والسياسة والفن والتربية والحياة الاجتماعية. وعندما تتغير نظرتنا إلى العالم يتغير العالم. "قول كلمة حق يكافئ تحويل العالم"، كما كتب المربِّي البرازيلي الكبير باولو فريري في كتابه تربية المقموعين.

وبحسب الرؤية العِبْرمناهجية، فإن المعرفة ليست خارجية ولا داخلية: إنها خارجية وداخلية في آن معًا. فدراسة الكون ودراسة الكائن الإنساني متكاملتان. والعِبْرمناهجية هي الثالث الذي يسمح بتفاعلهما.

نخلص إلى القول بأن العلوم المضبوطة والعلوم الإنسانية والعِبْرمناهجية تشكِّل ثُلاث المعرفة، بما يسمح بانبثاق شكل جديد من الأنَسِية humanisme يزوِّد كلَّ كائن إنساني بالقدرة القصوى على التفتح الثقافي والروحي. يتعلق الأمر بما هو بين، عِبْر، وفيما يتعدَّى الكائنات الإنسانية – الكائن الذي يمكن لنا أن نسميه كائن الكائنات.

*** *** ***

ترجمة: ديمتري أفييرينوس


· محاضرة أُلقِيَتْ في الملتقى حول "العلوم الإنسانية – تفاعلها مع العلوم المضبوطة ودوره في المجتمع"، جامعة القديس يوسف، بيروت، 13 كانون الأول 2002.

* فيزيائي نظري في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، جامعة باريس السادسة، عضو الأكاديمية الرومانية، رئيس المركز الدولي للبحوث والدراسات العِبْرمناهجية، وعضو هيئة معابر الاستشارية.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود