الصفحة التالية french arabic الصفحة السابقة

 سوف أكتب أغنية

 

مقابلة مع جوان بايث

 

تعود أول حركة لجوان بايث في العصيان المدني إلى العهد الذي كانت ما تزال فيه مراهقةً في مدرسة بالو آلتو الثانوية. كانت المدرسة قد برمجت تمرينًا على غارةٍ جوية، وكان على الطلاب، حال سماعهم الإنذار، أن يعودوا إلى منازلهم وأن ينتظروا في أقبيتها ساعة الانفجار النووي.

أما جوان، التي كان والدها فيزيائيًّا والتي كانت تهتم بتعاليم المهاتما غاندي، فقد رأت أن تمرين الغارة الجوية كان "مسخرة"؛ إذ بمراجعة كتب والدها، تبيَّن لها أن الصاروخ يحتاج للوصول من موسكو إلى مدرستها وقتًا أقل من الوقت الذي تحتاج إليه لتبلغ منزلها وتلجأ إلى قبوه. والأنكى من ذلك هو أن فكرة الانتصار في حرب نووية كانت تتعارض مع كلِّ معتقداتها. لذا قاطعت التمرين، وبقيت جالسةً على مقعدها في المدرسة، بينما عاد الآخرون جميعًا إلى منازلهم. وفي اليوم التالي، ظهرت اسمُها على الصفحة الأولى في الصحيفة المحلِّية. وقد تلقَّى رئيس التحرير رسائل من قراء يُبدون تخوفهم من تسرُّبات شيوعية إلى تلك المدرسة.

مضى ثلاثون عامًا على هذه الحادثة. أما مؤخَّرًا فقد قرأتُ خبرًا صغيرًا في صحيفة San Francisco Chronicle تحت عنوان: "جوان بايث تخرق القانون". إذ يبدو أن السيدة بايث قد دعت، في أثناء حفل أقيم في تشيكوسلوفاكيا في شهر حزيران من العام 1989، المغنِّي المحظور إيفان هوفمان إلى مشاركتها على المسرح وأنها، في الأمسية ذاتها، أهدت أغانيَ للمساجين التشيك وللعديد من المجموعات السياسية. وفي ردِّ فعل على ذلك قطعت السلطات التشيكية مكبِّرات صوت مهرجان الفولك حيث أتت جوان لتغنِّي؛ أما منظِّمو الحفل فقد اتَّهموها بعدم احترام التدابير المعمول بها في عقدها.

***

وُلِدَتْ جوان خاندوس بايث في 9 كانون الأول 1941 في Staten Island في نيويورك. أمضت معظم طفولتها المبكرة تقريبًا في الجزء الشمالي من ولاية نيويورك، حيث كان والدها يعمل كفيزيائي في جامعة كورنيل. كانت والدة جوان تذهب إلى اجتماعات الكويكرز، وكانت تصطحب كلَّ أيام الآحاد بناتها الثلاث وزوجها إلى فريق اللقاء المحلِّي. كانت جوان الصغيرة تشعر أن لقاءات الكويكرز "مريعة! صالةٌ مليئةٌ بالبالغين الكامدين، الجامدين، مغمضي الأعين، كقطع من خشب".

دفع هذا التَّماسُ مع الكويكرز الدكتور ألبرت بايث، والد جوان، أن يصبح من دُعاة السلام. وبدلاً من أن يحاول جمع ثروة من صناعة السلاح، اختار الطريق الجامعيَّ، فدرَّس، وتعاون مع اليونسكو، وساهم في بناء مختبر للفيزياء في جامعة بغداد في العراق. وإبان ذلك العام الذي قضتْه في بغداد، شعرت جوان، للمرَّة الأولى، بـ"ولعها بالعدالة الاجتماعية". وقد كتبت فيما بعد في سيرتها الذاتية وصوت أغنِّي به: "في بغداد رأيت حيواناتٍ تُضرَبُ حتى الموت، بشرًا ينقِّبون عن الطعام في مزابلنا، وأطفالاً فقدوا سيقانهم يغطِّيهم الذباب، يجرُّون أنفسهم جرًّا فوق قطع من الكرتون في الشوارع وهم يشحذون." كما كانت كتبت في مذكَّراتها عندما كانت صغيرة: "عندما أفكِّر في الله، أرى الأرض كشيء صغير جدًّا. ثمَّ أرى نفسي كنقطة في غاية الضآلة، وأحدِّث نفسي بأنه من العبث أن تقضي هذه النقطة الضئيلة سحابة حياتها الصغيرة في القيام بأشياء من أجل نفسها وحسب، وبأنَّها تستطيع بالأحرى أن تصرف وقتها القصير جدًّا بأن تحمل السعادة للنقاط الصغيرة الأخرى الأقل حظًّا منها."

خَبِرَتْ جوان بايث "يقظةً اجتماعيةً" أخرى عندما غادرت أسرتُها بغداد كي تستقرَّ في ولاية كاليفورنيا الجنوبية. فلقد تردَّدت هناك على كلِّية تضمُّ عددًا كبيرًا من المهاجرين المكسيكيين والأجانب غير النظاميين. ومع كونها نصف مكسيكية، فقد شعرت بتجنُّب المكسيكيين لها كونها لا تتكلَّم الإسبانية، وبتجنُّب البيض لها لأن لها سحنة مكسيكية. بيد أن اكتشاف مواهبها الغنائية غيَّر جذريًّا من منزلتها في عيون الطلاب. في ذلك الوقت كانت تحمل غيتارها الهاوايي إلى المدرسة، منتظرةً فترة استراحة الظهر، حتى يُطلَبَ منها أن تغنِّي. وسرعان ما أصبحت مصدر التسلية العام للكلِّية، الأمر الذي وضع نهايةً لنبذ زملائها لها.

 

وَسَمَ دخولُها المدرسة الثانوية طورًا جديدًا في وعيها الاجتماعي. كانت أسرتُها قد انتقلت مجددًا إلى منزل جديد، في بالو آلتو في كاليفورنيا هذه المرة. وحضرت جوان آنذاك مؤتمرًا من ثلاثة أيام حول مشكلات العالم. وقد موَّل ذلك التجمُّع مكتبُ المعونة الاجتماعية للكويكرز، لجنة خدمة الأصدقاء الأمريكيين. أما المُحاضِر الرئيسي في المؤتمر فكان واعظًا عجوزًا أسود من آلاباما هو مارتن لوثر كنغ الأب. "كان كلُّ من في القاعة مأخوذًا كليًّا"، كما كتبت جوان في مذكَّراتها. "لقد كلَّمنا عن الظلم وعن العذاب، عن الكفاح المسلَّح بالمحبة... وعن تنظيم ثورة لاعنفية." بعد خطبته انهارت جوان باكية.

في العام التالي، في أثناء اجتماع للكويكرز، التقت جوان بـإيرا ساندبيرل، الذي صار "مرشدها الروحي والسياسي إبان العقود التالية". كان إيرا، وهو الاختصاصي في غاندي، يقترح أن يُجعَل اللاعنف المنظَّم الأداةَ الرئيسية للقرن الحادي والعشرين. كان التزامُه سريع العدوى؛ وقد انحازت جوان في صلابة إلى اللاعنف، الذي بدا لها أنه "لا يقل براغماتيةً عنه أخلاقيةً". وقد ألهم ذلك حياتها كلَّها.

بعد المدرسة الثانوية انتقلت جوان مع عائلتها إلى بوسطن حيث التحقت بمدرسة المسرح الجامعي، وهو الفرع الوحيد الذي قَبِلَها. وإذ أصبحت من روَّاد بارات ساحة هارفارد في كمبريدج، عُرِضَ عليها في أحد الأيام أن تغنِّي في أحد الأندية، حيث سرعان ما اكتسبت سمعة مغنية فولك. ولدى تركها للجامعة نهائيًّا أضحت في زمرة المشاهير. في العام الحادي والعشرين من عمرها، ظهرت على غلاف مجلَّة تايم وتردَّدت على أشخاص من أمثال بوب ديلان (وكان ما يزال مغمورًا) ثم البيتلز بعيدئذٍ. وقد فضَّلت جوان، من منطلق الإخلاص الثابت لقيمها، أن توقِّع عقدًا مع شركة Vanguard Records للاسطوانات، وهي شركةٌ جيدة لكنها غير معروفة نسبيًّا، وذلك دون شركة Columbia اللاشخصية، إنما الواسعة الشهرة وذات السجل الحافل بالاسطوانات الذهبية.

انخرطت جوان بايث انخراطًا طبيعيًّا في بداية الستينات في الحركة المطالِبة بالحقوق المدنية. وقد اشتركت في المسير الذي نظَّمه مارتن لوثر كنغ في غرانادا، ميسيسيبي، وعاشت عامًا من أحلى أيام حياتها، يوم غنَّتْ أمام مائتي وخمسين ألف مستمعٍ في واشنطن "سوف نظفر"، وذلك في العام 1963، حين نطق مارتن لوثر كنغ بخطبته الشهيرة "أنا عندي حلم". بعد بضع سنوات على ذلك زار مارتن لوثر كنغ جوان بايث وإيرا ساندبيرل، اللذين سُجِنا لدعمهما حركة المتمرِّدين ضدَّ التجنيد الإلزامي. بعد ذلك بعام واحد اغتيل مارتن لوثر كنغ. وفي وقت لاحقٍ كتبت جوان بايث في سيرتها الذاتية هذه الكلمات في ذكره: "أنت، أكثر من أيِّ شخص آخر أثَّر في حياتي، أملي وإلهامي."

 

من أجل الاحتجاج على حرب فييتنام، رفضت جوان بايث دفع ستين في المئة من ضرائبها السنوية، وهي النسبة المخصَّصة للتسليح. لقد كلَّفها قرارُها ذاك، الذي شرحتْه بوضوح في رسالة موجَّهة إلى مصلحة المالية، وفي الوقت نفسه إلى الصحافة، في العام 1964، ملاحقةَ مصلحة الضرائب إبان فترة الحرب كلِّها. وهكذا رُهِنَ بيتُها وسيارتُها وأملاكُها، حتى إن الجُباة كانوا يأتون ليأخذوا ما يشاؤون من الصندوق في أمسيات حفلاتها، حتى قبل أن يستطيع منظِّمو هذه الحفلات مسَّ عمولاتهم. وقد انتهت الحكومة إلى استعادة ما تستوجبه مع الفوائد المترتِّبة، لكن جوان بايث ظلَّت ترفض دفع الضرائب من تلقاء نفسها، عالمةً أن التحصيل بالقوة يكلِّف الحكومة مالاً هو الآخر.

في العام 1965 أنشأت جوان بايث وإيرا ساندبرل "مركز دراسة اللاعنف" في الكرمل، كاليفورنيا، حيث بقيت جوان مدة أربع سنوات "الأستاذة المساعدة" لإيرا. كانت مقرَّراتُها تهتم بدراسة "اللاعنف من كلِّ وجوهه، بدءًا من تطبيقه في العلاقات الشخصية، وصولاً إلى مناهج النضال ضدَّ القمع المنظَّم على المستوى الدولي". إبان تلك الفترة كانت جوان تقيم حوالى العشرين حفلة كلَّ عام. وكانت تخصِّص معظم دخلها من أجورها ومن بيع حقوق التداول والنشر لقضايا لاعنفية.

في العام 1967، وفي أثناء نضالها ضدَّ الخدمة العسكرية الإلزامية، التقت جوان بايث بدافيد هاريس، الملتزم هو الآخر بالنضال من أجل رافضي الخدمة بدافع الضمير. والحال فقد تحابَّا، فتزوَّجا، وأنجبا ولدًا سمَّياه غيبرييل. بعد ذلك أمضى هاريس عشرة شهور في السجن بسبب مقاومته للجيش، ثم انفصل الزوجان بُعَيْد خروجه من السجن. بعد ذلك عاشت جوان، عمليًّا، وحدها على الدوام. ولقد تصالحت مع الوحدة، وكتبت في سيرتها الذاتية لاحقًا: "لقد وُلِدتُ كي أعيش وحدي."

في العام 1972 زارت جوان بايث هانوي بناءً على دعوة من الفييتناميين الشماليين. وهناك أمضت ثلاثة عشر يومًا لا تُنسى من حياتها، في أثناء القصف الشهير في عيد الميلاد. لقد أمضت لياليها ملتجئةً في أحد الملاجئ، بينما كانت طائرات B-52 تقصف المدينة. إن المرأة التي غنَّت في عزِّ الليل في Woodstock أمام جمهور من خمسمائة ألف شخص، وجدت نفسها تغنِّي في قلب الليل أمام أشخاص يملؤهم الرعب، باحثةً عن ملجئ في مدينة هانوي الغريبة التي يقصفها مواطنوها. لكن المجموعة التي خرجت بها من هذه التجربة، "أين أنت الآن يا ولدي؟"، أ

شهدت نجاحًا كبيرًا في العام 1973، وكانت بلا شك جزءًا من أكثر التسجيلات التي تعتزُّ بها جوان بايث. لقد أثَّرت فيها هذه التجربة في منطقة الحرب، ولا تزال أصوات أزيز الطائرات تجعلها تستيقظ من نومها حتى اليوم في بعض الأحيان.

 

بعد سبع سنوات من تلك الإقامة في شمال فييتنام، نشرت جوان بايث "رسالة مفتوحة إلى جمهورية فييتنام الاشتراكية"، تستنكر فيها انتهاكاتِ حقوق الإنسان التي يرتكبها مضيفوها السابقون وعدم احترامهم "مبادئ الكرامة الإنسانية والحرية وتقرير المصير التي دفعت الكثير من الأمريكيين إلى الوقوف ضدَّ حكومة فييتنام الجنوبية". وقد حرَّضت هذه الرسالة انتقاداتٍ شديدة من أهل اليسار الأمريكيين؛ لكن جوان، على غرار غاندي، كانت تحارب من أجل الحقيقة، لا من أجل الإيديولوجيا.

في العام 1972 نفسه، بدأت جوان بايث تهتم بنشاطات "العفو الدولية" Amnesty International، وهي منظَّمة تدافع عن حقوق الإنسان في العالم. وقد أخذت على عاتقها تأسيس مكاتب هذه المنظَّمة على شاطئ أمريكا الغربي، وتابعت، على مدى أعوام، إحياء سهرات وحفلات ومظاهرات من أجل هذه المنظَّمة، سواء من أجل أمَّهات المفقودين في الأرجنتين أو من أجل المنشقِّين في العالم أجمع. ففي أحد الأيام فاجأتْ جوان أندريه ديمتريفتش ساخاروف وإيلينا بونر[1] وهي تغنِّي لهما "سوف نظفر" على الهاتف!

في العام 1979 أسَّست جوان بايث منظَّمتَها الخاصَّة، "الإنسانية الدولية" Humanitas International في Menlo Park في كاليفورنيا. كان غرضها من Humanitas هو: الاهتمام بالقضايا التي لا تستطيع المنظَّمات الأخرى الاضطلاع بها. أما وسائلها فهي: رؤية العالم "بعينين اثنتين" والوقوف في وجه "القمع في كلِّ مكان من العالم، أيًّا كانت الإيديولوجيات، يمينية أو يسارية". وقد قدَّمت Humanitas، بإدارة جوان بايث، دعمَها لـديزموند توتو Desmond Tutu الذي كان يقود حركة لاعنفية من أجل الحرية في جنوب أفريقيا، كما لـليخ فاليسا Lech Walesa ولحركة "التضامن" Solidarnosc في بولونيا، وللحملة من أجل حظر التسلُّح النووي، وللمقاتلين من أجل الحرية في أفغانستان، ولعدد كبير من القضايا الأخرى التي تنتمي إلى هذا الطرف أو ذاك من الطيف السياسي. وقد عارضت Humanitas أيضًا التدخل الأمريكي في أمريكا الوسطى، وكشفت النقاب عن انتهاكات حقوق الإنسان في هذه المنطقة المليئة بالاضطرابات. ففي العام 1981 انطلقت جوان بايث محقِّقةً إلى جبهة أمريكا اللاتينية، حيث قابلت مناضلين وضحايا تعذيب وأهالي "مختفين". وقد سجَّل فيلم وثائقي PBS بعنوان "هناك إلا من أجل الحظ: جوان بايث في أمريكا" قصة هذه الرحلة.

وإذ أضحت جوان بايث ناطقةً باسم اللاعنف، تعرَّضت في بعض الأحيان للتعنيف. كانت آخر مرة في شهر أيار من العام 1988، حيث هاجمها إسرائيليون متطرِّفون، رموها بالبيض في أثناء تجمُّع في قاعدة عسكرية على مقربة من تل أبيب. كانت بايث قد أتت لتقدِّم دعمها للجنود الإسرائيليين الذين كانوا يرفضون الخدمة في الأراضي المحتلة في الضفَّة الغربية وفي قطاع غزة.

وبعد انقطاع دام ثماني سنوات، إذ لم تشأ أية شركة أمريكية للاسطوانات أن تراهن على إنتاج مجموعة أغنيات جديدة، عادت جوان بايث إلى طريق الاستوديوهات والجولات. ومازالت أسطواناتها الجديدة: "مؤخرًا"، و"ماسات وصدأ في حلبة الثيران" (التي سُجِّلتْ على الهواء في إسبانيا) و"كلام على الأحلام" (التي تحيي الذكرى الثلاثين لاحترافها الموسيقى)، تعكس التزامها بقضايا المجتمع.

 

كنت قد التقيت جوان بايث في مناسبات عدة قبل الآن؛ لكنْ في اليوم الذي حددناه للِّقاء كانت مريضة، فاضررنا إلى الحديث على الهاتف. ومنذ بضعة شهور كنَّا قضينا بعد ظهر يوم أحد كامل عندها في Woodside في كاليفورنيا. إنَّها تعيش حياة بسيطة في بيت ريفيٍّ يضم غرفًا زجاجيةً تحيط بها الورود وسط حديقة. كانت جوان قد أعدَّت لنا شايًا، واتخذنا مكانًا قرب الموقد في المطبخ لكي نتحدَّث في مواضيع من كلِّ وادٍ عصا: عن الحبِّ، عن حال العالم، وعن أمور أخرى شتى... إنها تبتسم بسهولة، عيناها جميلتان حزينتان، وتبدو أحيانًا كما لو كانت ساهمة في عالم داخليٍّ مصنوع من الذكريات ومن الخواطر.

لقد صيغَتْ حياتُها صياغة كاملة بما تسمِّيه "موهبتها الأغلى"، أي صوتها. إن هذه العطية ليست مجرَّد بركة في حدِّ ذاتها؛ فلقد أتاحت لها أيضًا أن تعبِّر بأشكال عديدة عن حمل همِّ الآخرين وعن التزامها من أجل اللاعنف. وسواء كان في الغناء أمام جمهور من آلاف الأشخاص، أو في تبادل الرأي مع الرئيس الفرنسي حول المهاتما غاندي، أو في تشجيع امرأة فييتنامية يرقد ابنها تحت أنقاض خلَّفها القصف، فإن صوت جوان بايث هو موهبة بحق.

كاثرين إنغرام

***

 

مقابلة جوان بايث

وودسايد، كاليفورنيا، 8 أيلول 1988

 

كاثرين إنغرام: لقد ناضلتِ بنشاط، لزمن طويل، ضمن منظَّمات من نحو Humanitas و"العفو الدولية". لماذا كان لحقوق الإنسان هذا المقدار من الأهمية في نظرك؟

جوان بايث: إن كلَّ ما فعلتُه حتى الوقت الراهن، وما كان يحتلُّ، على الدوام تقريبًا، موقع الأولوية في حياتي، يرتبط باللاعنف. بيد أني لا أعتقد بأنني سأرى، خلال حياتي، نتيجة كلِّ المعارك التي خضناها، نهاية الدولة–الأمَّة – لقد أضحكنا هذا جميعًا! – جيوشًا لاعنفية محلَّ الجيوش الحالية، إلخ. أشياء معقولة تمامًا، لكنْ لا خطر من حدوثها في القريب العاجل! بيد أنها لا بدَّ أن تأتي يومًا إنْ كان الجنس البشري لا يريد أن ينقرض!

الرائع في ميدان حقوق الإنسان هو وجود نتائج ملموسة. يلتقي المرء من وقت لآخر بأحد السجناء – كانت تجربة قوية جدًّا في حياتي. لقد تعلَّمت الكثير، سواء ممَّن كانوا معارضين روس أو سجناء تشيليين. إن أكثر من أثَّر بي من الشخصيات هو بلا شكٍّ ماريو سيرونداس في البرازيل. كنت أعرف ما قد عاشه...

كاثرين: فيما يخصُّ التعذيب...

جوان: نعم، وقد قابلتُه. إنه يمثِّل في نظري كلَّ ما يجب أن يكون عليه المرء – حتَّى إنِّي لست أفهم كيف أمكن أن يُصنَع كلُّ هذا به. فهو لم يكن لا إيديولوجيًّا ولا خطيبًا بليغًا.

لقد قابلت رجلاً رائعًا آخر في شريط غزة، نافذ العسيلي[2] الذي كان يعمل في مركز الدراسات الفلسطينية للاعنف. وبعد عشرين دقيقة من الحديث عرفت أنه كان على خطى غاندي. كانت الشرطة قد عاملتْه بفظاظة ونكَّلتْ به؛ وقد سألته عن كيفية ردِّ فعله. أجابني: "لقد أحببتهم... لقد قمت بالأمر الوحيد الذي لم يعرفوا كيف يواجهونه. لقد أحببت القوم الذين كانوا ينكِّلون بي وقد قلت لهم ذلك. كنت أسامحهم في كلِّ مرة وكانوا يصابون بالجنون. فما عادوا يعرفون ماذا يفعلون بي."

إن الحركات التي تقودها "العفو الدولية" متاحة تمامًا للشباب. إن هذا ليمنحهم الشعور بأنهم قادرون بالفعل أن "يفعلوا شيئًا ما". ترين شبانًا في الثالثة عشرة يوزِّعون منشورًا في حفلة لـU2،[3] سعيًا لإخراج ثلاثة عشر غواتيمالي من السجن. هذا أمرٌ ملموس.

أعتقد أن اللاعنف كان مسألة مركزية في حياتي على الدوام وأن كلَّ شيء آخر كان مرتبطًا به. ما كان بإمكاني، على سبيل المثال، أن أعمل مع "العفو الدولية" لو لم تكن لديهم بنود حول اللاعنف، لأن هذا المبدأ هو أساس كلِّ نضالي أصلاً.

كاثرين: ما هي برأيك نقاط قوة اللاعنف؟ أعلم أنك تدرسين الموضوع منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا. ما الذي يجعل اللاعنف معقولاً؟

جوان: أعتقد أنه في الأساس – ولسوف أستشهد بالتأكيد بإيرا ساندبيرل – لا أحد يملك الحق في قتل سواه بسبب فكرته عن الحقيقة. فنحن، باسم أشياء رائعة، كالحقيقة، إنما ارتكبنا أعمال العنف.

ما كنت لأدافع بهذه الحميَّة عن اللاعنف، ربَّما، لو لم يكن هناك غاندي؛ إذ إن الأمر قبله لم يكن سوى حلم وكلمات. كان إيرا، الذي كان يحب المرح، مرارًا ما يروي قصَّة أول إنسان من عصر الكهوف رَفَضَ حمل الهراوة. كلُّ الناس قالوا عنه "إنه لمخبولٌ هذا." ولقد كان يمكن لهم أن يقولوا أشياء أخرى بالطبع – "شيوعي" مثلاً – لكن بما أن الشيوعية لم تكن معروفة بعد، فما كانوا ليجدوا شيئًا أفضل! ما كان غاندي يقوله هو: "لنأخذ هذه الفكرة الخارقة ولننظِّمها." لنضعها موضع التطبيق على مستوى كبير. لقد برهن لنا أن حجَّةً أخلاقية تكفي وتزيد، وأن ما يلزم هو أن يكون الناس مشبعين أخلاقيًّا باللاعنف – عندما يكون ما يؤمنون به عادلاً وعندما يقومون به حتَّى نهاية أجَلهم – حتى يستطيع اللاعنف أن يفعل فعله. فلسوف يُستهلَك اللاعنف حين لا يكون أكثر من تكتيك لأن القاعدة الأخلاقية والروحية تنقصه. ولسوف يغدو اللاعنف مبتذلاً إن جعلت منه شيئًا استعراضيًّا أو سياسيًّا.

كاثرين: وماذا تقولين في المواقف التي تتعيَّن فيها مقاومة شخص كهتلر أو كبول بوت؟

جوان: أتعلمين ما هو الأمر الفظيع؟ هو أننا نملك ما يكفي من المخيِّلة لقول أشياء من نحو: "إما أنه كان يجب أن ندع هتلر يبيد ستة ملايين من اليهود – من بين ثلاثة عشر مليونًا من البشر هم ربما كلُّ اليهود الموجودين – وإما كان يجب قتله." وهذا الأمر يذهب بنا إلى أبعد مما نظن. ما همُّنا أنه ما كان ليستطيع أن يفعل ما فعل لو لم يتبعه الناس ويهلِّلوا له...

إن ما قلته مؤخرًا بخصوص موضوع الناخبين الأمريكيين والمرشَّحين المعتوهين الذين يتقدَّمون للانتخابات لا يتعلَّق بالمرشَّحين، بل بالأحرى بما يريده الناس أو بما هم مستعدون لتركه يحدث، كونهم لا يشعرون بأنهم معنيُّون. من الأكيد جزمًا أن هذا ما جرى مع هتلر. فلقد استطاع، لكلِّ أنواع الأسباب الممكنة، أن يستلم مقاليد السلطة، في حين كان يجدر أن يُحبَس في زنزانة معزولة الجدران أو أن يُحجَر عليه في مستشفى...

كاثرين: ... حيث كان يمكن أن يتلقى "علاجًا بالحب"، في جملة علاجات أخرى! هل ثمة استثناءات للطريق اللاعنفي؟ يبدو أنكِ تقولين لا، هذا هو الـطريق.

جوان: عندما تقولين إن هذا هو الـطريق، فأنتِ مجبرة على طرح السؤال حول البدائل الممكنة. عندما نقول لمُسالِم ما، على سبيل المثال: "ماذا كنتَ لتفعل إبان الحرب العالمية الثانية؟" أو عندما سُئِل غاندي: "هل كان اللاعنف ليكفي ضدَّ هتلر؟" أجاب غاندي: "بكلِّ تأكيد. لكن خسائر فادحة كانت ستقع." وعلى كلِّ حال فقد وقعت هذه الخسائر. لكن ذلك لا يعني مشكلة عند الناس؛ إذ إنها الحرب. أفكِّر دومًا في هذا المثال: في أمريكا اللاتينية أضحى العديد من الكهنة ثوَّارًا، حتى إن بعضهم حَمَلَ السلاح. لقد انخرطوا في الكفاح المسلَّح، والمعارك تستمرُّ، وهناك قتلى الآن – كما لو أن هذا يشكِّل جزءًا من البرنامج. تقتلين أشخاصًا وآخرون يموتون أيضًا – كما لو أن هذا طبيعيٌّ جدًّا. ولكن لو أن الكهنة قرَّروا ألا يلجؤوا إلى السلاح، وأن ينظِّموا أنفسهم بطريقة لاعنفية، فما أن يقع قتيل حتَّى يقول الناس: "آخ، آخ، لقد سبق أن قلنا لكم إن اللاعنف لن ينفع."

عندما ذهبت إلى غرانادا، ميسيسيبي، رأيت في إحدى الكنائس قائمة صغيرة بأسماء الذين قضوا نحبهم في الدفاع عن الحقوق المدنية. كان النزاع ما يزال مستمرًا منذ أربع سنين أو خمس، ولم يكن هناك غير أربعة أو خمسة أسماء – بالطبع مقابل ثلاثة آلاف أو خمسين ألفًا من الخسائر في الأرواح في حال وقعت ثورة عنفية. إن تاريخ الجهاد اللاعنفي يذهب في منحى الخسائر الدنيا، على الرغم من كلِّ ما يصرُّ الناس على اعتقاده.

كاثرين: تعلمين مقدار الشجاعة اللازمة كي يبقى المرء لاعنفيًّا في مواجهة مَن يريدون الإساءة له. إنه لأمر نادر – ذلك أن الغريزة الحيوانية فينا تنزع إلى الردِّ كي تقوم بهجوم معاكس.

جوان: الصورة التي تخطر ببالي هي صورة بطل فيلم بلاتون[4] المرتعد رعبًا في الأدغال، ووجهه مغطًّى بالبعوض. كان لا بدَّ من أن يكون مشروطًا ليفعل ما كان يفعل. قال غاندي إن التأمل للجندي اللاعنفي مهم بقدر أهمية التمرين للجنديِّ التقليديِّ. فاللاعنف لا يأتي من تلقاء ذاته: ليس يكفي أن يجد المرء نفسه وسط ساحِ النزاع لكي يعرف كيف يتصرَّف.

لقد تبيَّن لي أن الناس الذين أثَّروا بي أكثر ما أثَّروا، بمواقفهم اللاعنفية في مواقف عنيفة، هم أولئك الملتزمون بنشاط منذ وقت طويل في هذه الاستراتيجيات اللاعنفية. إنه ليس أمرًا نستطيع تعلُّمه بالاشتراك في ورشة في عطلة نهاية الأسبوع.

أعتقد أن اللاعنف أصعب؛ ولهذا فهو يتطلَّب زمنًا طويلاً كي يوضَع موضع التطبيق. ولهذا السبب أيضًا ينسى الناس غاندي ومارتن لوثر كنغ ويزدرون مبدأ اللاعنف. وبما أننا قد تأهَّلنا على العنف المنظَّم منذ آلاف السنين، فإننا نظن أنه الشيء الوحيد الفعَّال. يقول الناس: "إما أن تقاتل، وإما أن تكون سلبيًّا." بيد أن علينا أن نقبل اللاعنف كنوع من أنواع الكفاح؛ وهذا هو ما يصعب على الناس فهمُه. إن الرحمة والفرح يمكن أن يكونا مُعْدِيَيْن بمقدار حُمَّى الحرب.

كاثرين: أين موقعك اليوم من ممارسة رياضة روحية؟

جوان: إذا كانت رياضتي الروحية متينة التماسُك، عندما أصرف، على سبيل المثال، عشرة أيام في دير تاساجارا البوذي أو في مكان آخر أستطيع فيه أن أنعم حقًّا بالسكينة، وعندما أذهب على نحو منتظم إلى اجتماعات الكويكرز أو أكون في جولة ما، فإنَّني أستطيع تبيُّن الفرق، فأتبيَّن عندما تكون أفكاري جلية. من الصعوبة بمكان القيام بذلك إبان جولة، بيد أنِّي تحقَّقت من حاجتي إلى لحظات من السكون. لقد كان الصمت على الدوام مهمًّا جدًّا بنظري؛ وهذا يمنعني من القيام بالكثير من الجولات. إنه، بطريقة ما، ينحو إلى تهدئة الأمور. أفترض أن الجواب على سؤالكِ مرتبط بالصمت وبتنشئتي في كنف الكويكرز. أحبُّ كذلك ممارسة التأمل والاستبطان ضمن مجموعة، غالبًا مع الكويكرز، لأنهم خبراء في ذلك. من المهم ألا أكون قرب أحد ما يبدأ بتقليب صفحات مجلة لأنه غير معتاد على الصمت.

كاثرين: أليس أمرًا لا يُصدَّق؟ إن الصمت ليشبه مغطسًا روحيًّا نحتاج إليه جميعًا عمليًّا.

جوان: هذا صحيح. بيد أن هناك أشخاصًا لا يطيقونه. إنَّهم يفرقعون أصابعهم، أو يقولون: "هل تعلم، لقد لبثتُ صامتًا وأنا في طريقي إلى العمل."

كاثرين: لقد قرأت في مكان ما أنكِ قلقةٌ من تَصاعُد انتهاكات حقوق الإنسان في العالم. إلامَ تعزين هذه الظاهرة؟ هل تعتقدين أن هذه هي الحال حقًّا، أم أن معلوماتنا عن الموضوع صارت أوفر؟

جوان: أقول إن ذلك مرتبطٌ مباشرةً، على نحوٍ ما، بقبول العنف في العالم. هناك عنفٌ هائل. وثمة متفائلون جدًّا اليوم حيال موضوع التغيُّرات الجارية، وإنِّي لموافقة على ذلك بعض الشيء. بعض التغيُّرات مثير جدًّا.

كاثرين: كالتغيُّرات التي تحدث في الاتحاد السوفييتي أو في النزاع العراقي–الإيراني (جرى الحوار في العام 1988)...

جوان: أجل، وفي كون منظَّمة الأمم المتَّحدة خرجت من العتمة. لكأن القوى العظمى قرَّرت أن تلعب الشطرنج بعد أن لعبت لسنوات طويلة لعبة التفجير المتبادل. أعتقد أنه أمرٌ حسنٌ جدًّا. وفي الوقت نفسه فإنها حمقاء تلك الحروب التحتية الصغيرة التي يتراشق فيها الناس بالغاز ويحزُّون حلاقيم بعضهم بعضًا. لقد نشبت سبعٌ وعشرون ومئة حرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، على اعتبار أن الحرب نزاعٌ يُسفِر على الأقل عن ألف ضحية. نتحدث إذًا عن "نزاعات نشطة"؛ وهذه الحروب التي يقتل فيها الناسُ بعضهم بعضًا هي حروبٌ حقيقية. وهذا يسهم إسهامًا كبيرًا في انتهاك حقوق الإنسان. عندما بدأت العمل مع "العفو" كنَّا كثيرًا ما نلحُّ على أن في العالم من التعذيب اليوم ما يزيد عمَّا كان فيه منذ العصور الوسطى.

كاثرين: كنسبة مئوية؟

جوان: نعم، أظن ذلك. لكن ثمة أملاً حاليًّا، يتمثل في أن غالبية الحكومات الآن باتت تستجيب للضغط لكيلا يُفتضَح أمرُها في وضح النهار. لقد قُيِّض للـ"عفو الدولية" أن تكشف النقاب عن سيئاتها، بما يجعل احترام حقوق الإنسان إلزاميًّا من الآن فصاعدًا. إن قضية حقوق الإنسان توضع اليوم على جداول أعمال كلِّ القمم التي تجمع القوى العظمى؛ وليس بالإمكان تجاهلُها أو جعلها موضع نقاش منفصل.

كاثرين: هذا بالتأكيد اختراقٌ تاريخي؟

جوان: نعم، بلا أدنى ريب.

كاثرين: يعتمد "العالم الأول"، كما تعلمين، على طاقة العالم الثالث والعالم الرابع[5] ومواردهما إلى حدٍّ كبير، الأمر الذي يولِّد عنفًا هائلاً. وهو ما يفسِّر قطعًا الوجه الديكتاتوري والقمعي للسياسة الأمريكية، في أمريكا الوسطى على سبيل المثال. إننا نعيش في مثل هذا النعيم هنا – كما لو كنا، نحن الأمريكيين، نعيش في البلاطات، في قصور العالم. إنه لمن الصعب جدًّا، في سياقنا الثقافي، أن نعيش ببساطة، أن نكون زاهدين فعلاً. ما هو رأيك في هذا الموضوع؟ ما قولك في المسؤولية الفردية؟

جوان: إنه لسؤالٌ أطرحه على نفسي أيضًا. غير أنه يبدو لي أن الأشخاص الذين يحيون على أفضل نحوٍ ممكن مع ذواتهم ومع الآخرين هم أولئك الذين قاربوا قضيَّة اللامساواة وتَقاسُم الثروات. ثمة أشخاص يعيشون من مواردهم الخاصة، يزرعون قُوْتهم بأيديهم، وهم واعون تمامًا للقضايا الإيكولوجية. يعيش والدي في منطقة مستنقعات قرب محمية إيكولوجية. منذ مدة قال لي شيئًا مؤثِّرًا جدًّا: على الرغم من كلِّ السنوات التي قضاها بين الكويكرز، كان لديه على الدوام شعورٌ بأن لبني الإنسان الأولوية على غيرهم من الأنواع الحيوانية. لكنَّه، بتعميق المسألة، تبيَّن له أن عصافير المستنقع، مثلها كمثل جميع الحيوانات المهدَّدة بالانقراض، إنما تشكِّل جزءًا من الكلِّ، ولا يمكن فصلها عن البقية بهذه السهولة. لست المؤهَّلة الأفضل للحديث عن هذا الموضوع؛ إذ إنني أذرع العالم على طائرات تنفث غازات وقودها. أعيش في عالمين مختلفين: في البيت أحاول أن أقتصد في الغاز، أن أنتبه إلى كلِّ شيء، ثمَّ أستقل الطائرة؛ أو أواجه نزاعات من نحو: هل سأنام في مثل هذا الفندق الفخم الذي أعشقه...

كاثرين: أو في مكان أقل راحة على فراش من الدرجة الثانية، مجازِفةً بأن تستيقظي منهكةً في الصباح التالي!

جوان: بالضبط. وغالبًا ما أنتهي إلى تفضيل الرفاهية – وإن يكن ليس على نحوٍ مبذِّر؛ لكنني أحبُّ الإقامة في أماكن جميلة ومريحة ونظيفة. بعبارة أخرى، أنا أحسد غاندي على قوَّته، على قدرته على القيام بالقفزة الكبيرة باتِّجاه الفقر دون أدنى تردُّد.

كاثرين: هل هذه البساطة، هذا اللاتعلُّق بالرفاهية، هو قيمة تتمنَّين أن تنمِّيها في حياتك؟

جوان: كما قلت لتوِّي، هذه هي حالي جزئيًّا – ولو لم تكن كذلك لعشت في بفرلي هيلز. لكنَّني أعلم أن هذا لن يطيب لي أبدًا. أملك منزلاً مريحًا، حتى إذا كان الناس الذين يجيئون هنا للمرة الأولى يجدونه قرويًّا جدًّا. إن هذا لا يتلاءم أبدًا مع الصورة التي كوَّنوها عنِّي من قبل. هذه هي الرفاهية في نظري: لديَّ كلُّ ما أحتاج إليه. والآن لا أرى أن طريقة حياتي في المنزل هي بهذه الأهمية؛ فلنرَ بالأحرى أسلوب حياتي في العالم.

 

ثمة لحظات في الحياة ينبغي علينا فيها أن نكون مستعدين للزهد في أشياء معينة – ولقد فعلت ذلك. عندما تذهبين إلى إسرائيل، تعلمين أنك لن تجدي الرفاهية هناك. سيكون ذلك من أجل العمل، من أجل شيء أعشقه. لقد لبثتُ ثلاثة أشهر في الشرق الأوسط؛ وإذا كانت ثمة أماكن يطيب لي أن أعود إليها يومًا فهي تركيا وقطاع غزة. إن ذلك مرتبط بما كان يقوله غاندي: "لقد وجدت الله في عيون الفقراء." لقد كنت أحيانًا من التأثُّر في هذه الأماكن بحيث كاد الأمر أن يفوق الحد. وهذا قطعًا لا يمت إلى الرفاهية بِصِلة.

كاثرين: لقد زرتِ أيضًا مخيَّمات للاجئين على الحدود التايلاندية.

جوان: إنه الأمر نفسه. كلُّ شيء هناك مختزَل إلى الضروريات. لقد عملت والدتي في مخيَّمات للاجئين الصوماليين في إثيوبيا وفي مخيَّمات كمبودية في تايلاند. سألتُها في أيِّ مخيَّمات كانت تفضِّل أن تعمل، فأجابتني: المخيَّمات الصومالية لأنها أبسط.

كاثرين: إن معضلتنا هي التالية: نحن واعون لكوننا نشكِّل جزءًا من المشكلة، بيد أننا، في الوقت نفسه، نعجز عن إيجاد الحلول.

جوان: أعتقد أن من الضروري تحديد أولويات في كلِّ ما نعمله. لقد مررت أنا نفسي بمراحل من التهكُّم الأقصى. لسنوات عديدة شعرت بالذنب لعدم عيشي الفقر الاختياريَّ، في حين أن العديد من الناس من حولي كانوا قد شرعوا في ذلك، ولم أبدأ إلا في وقت متأخِّر ألحظ أنهم كانوا غالبًا سيئي الحال جدًّا وأن الشيء الوحيد الذي كانوا يفعلونه هو العيش فقراء. حينئذٍ فقط فهمت أن الفقر اللاإرادي للآخرين كان يهمُّني أكثر من فقري الاختياري الخاص.

إن اهتمامي الشخصيَّ بهذه القضية متقلِّب، نوعًا ما كالمدِّ والجزر. لقد قُيِّض لي، في العديد من المناسبات، أن أعطي كلَّ شيء، لكي أعاود شراء كلِّ شيء بعد ثلاثة أشهر.

كاثرين: كيف يكون ردُّ فعلك تجاه إسقاطات الآخرين حيالك؟ هل يزعجك في نشاطاتك كونك مشهورة ويمكن التعرُّف عليك بسهولة؟ هل يرى الناس الذين يقابلونك شخصية جوان بايث فحسب؟

جوان: أعتقد ذلك. لكنني أعشق تحطيم هذه الصور كلما قابلت شخصًا للمرة الأولى أو شوهدت في الشارع. لقد بدأ ذلك منذ سنوات. كنت في أحد الأيام مع ديلان، إذ واجَهَتْنا معجبتان متحمِّستان. كان ردُّ فعل بوب تقليديًّا جدًّا: "فلنفرَّ من هاهنا." أما أنا فقد قلت له: "لا تكن غبيًّا"، ومددت لهما يدي. لقد أفسدتْ هذه الحركة لعبتهما لأنهما كانتا متهالكتين، بينما اكتفيت ببساطة بأن أقول لهما مرحبًا. بعدئذٍ، حين انفقأ البالون، أعتقد أنَّهما ثمَّنتا الموقف لأننا استطعنا أن نثرثر ببساطة شديدة.

عندما تُبطِلين مفعول موقف من هذا النوع، يلاحظ كلُّ الناس أن ذلك أكثر ذكاءً؛ ويُفلِح ذلك في كلِّ مرة تقريبًا. وفي بعض الأحيان، حين يكون هناك الكثير من الناس، يكون المحرِّك قد أقلع ولا يمكن القيام بشيء. لكنَّ هذا يمكن أن ينتهي على نحو حسن أيضًا. في أحد الأيام أحييت حفلة في تركيا أمام ستٍّ وعشرين ألف شخص. وفي النهاية أراد الجميع الصعود على خشبة المسرح. لقد كانوا من التعطش إلى الامتنان إلى حدِّ أنَّني، حين بدأت بأداء أغنية تركية، نهضوا جميعًا ليهتفوا بالتركية: "حرية، سلام، حب". لم يكن بمستطاعنا إيقافُهم لهذا السبب، حتى ولو استعد كلُّ رجال الشرطة من أجل الحفلة. كانت تظاهرة جماهيرية حقيقية، لا يمكن احتواؤها. صعد أطفالٌ إلى خشبة المسرح؛ طوَّق أحدهم عنقي بشالٍ وقبَّلني، وأهداني آخر قبَّعة، وثالث زهرة. ثمَّ، في النهاية، وحين بدأ الجمهور كلُّه يصعد على الخشبة، خاطبتُهم قائلة: "إذا سمحتم، ابقوا، ابقوا حيث أنتم." لم تستطع الشرطة أن تفعل شيئًا. رجالها عادة لا يفعلون شيئًا، أو يعنِّفون كلَّ الناس؛ لذا طلبت منهم ألا يفعلوا أيَّ شيء. مثل هذه الجماهير تحدِّياتٌ رائعة. إنها أيضًا الخبرة: محاولة الإحساس بالجمهور، وإعطاء كلِّ هؤلاء الناس أكبر قدر ممكن من المجال؛ الاعتراف بهم. وعمومًا يسير هذا على ما يرام.

كاثرين: هذه شَجاعة.

جوان: كان ذلك مثيرًا أكثر من أيِّ شيء آخر. لقد بكيت كثيرًا أيضًا. إثر ذلك تلقَّيت رسالةً من المرأة التي كانت قد نظَّمتْ إقامتي هناك – إنها تركية شديدة الالتزام في اليسار وكاتبة شهيرة. لقد شرحت لي في رسالتها أنها نشرت بعد الحفلة مقالاً في الصحافة عنوانه "هل سمعتموها؟" وكان موجَّهًا بصفة خاصة إلى الطلبة المحبوسين في السجون التركية. وقد تلقَّتْ مئات الرسائل، تسعون في المائة منها من سجناء، كانت تقول جميعًا: "نعم، سمعناها". وهي تقدِّم حاليًّا برنامجًا خاصًّا في التلفزيون بعنوان: "نعم، سمعناها".

كاثرين: أنت محظوظةٌ بأن تتاح لكِ الفرصة والموهبة فتستطيعين، وَهْبَ ذاتكِ على هذا النحو.

جوان: إنها لعطيَّةٌ مُنِحتُها. في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، فقدَتْ واحدة من صديقاتي المقرَّبات كنَّتها التي أقدمت لتوِّها على الانتحار. قبلئذٍ بخمس وعشرين عامًا كانت هذه الصديقة قد فقدت ولدها في الظروف إيَّاها – وكنت حاضرةً وقتذاك. لقد تناولتُ الغيتار وبدأت أغنِّي. وما كان ذلك بهيِّن عليَّ؛ فلو أني استسلمت للمشاعر لما استطعت الغناء. بكى الجميع حين غنَّيت. كان ثمة سَواقٍ من الدموع وأكوامٌ من المناديل المبلَّلة. لكنَّني كنت أعلم أن طريقتهم في التجاوُب لم تكن تتعلَّق بي، بل بمقدرة الموهبة التي مُنِحتُها.

كاثرين: تجلب لك مثل هذه الموهبة فهمَ خوائك أنتِ، أعني اختبار نفسك كوعاء فارغ يُسلِس ذاته للتيار. أودُّ القول إن فهم خوائنا هو أنْفَس الهدايا.

هل يجب على المشاهير من الأشخاص، برأيك، أن يلتزموا أكثر، وهل ترين ميلاً في هذا الاتِّجاه؟ يبدو أن عددًا أكبر من نجوم السينما أو الشخصيات الكبيرة يدافع عن قضايا إنسانية.

جوان: بصراحة، أنا متهكِّمة تهكمًا مريعًا، بوجه عام. من الأكيد أن هذه القضايا يجب أن تكون موضع دفاع، لكن من غير المحتمل كثيرًا أن يكون لدى كلِّ هؤلاء الأشخاص ما يقولونه حقًّا؛ فثقافتهم وتربيتهم قد تكونَّت في سيارات الليموزين. بيد أن أشخاصًا من أمثال ستينغ وبيتر غيبرييل هم أهلٌ لما يقومون به. إن بيتر غيبرييل شخصٌ جادٌّ جدًّا. لقد قام بدعاية كبيرة للـ"عفو الدولية" في الفندق الذي نزلنا فيه في أتلانتا إبان جولتنا في الولايات المتحدة، إذ تحدَّث إلى جميع الصحافيين عن هذه المنظَّمة الإنسانية وجَمَعَ توقيعاتٍ من أجل إنقاذ حياة شابٍّ أسود متخلِّف عقليًّا حُكِمَ عليه بالإعدام.

لكني أشكِّك كثيرًا على وجه العموم، لأننا نعيش حاليًّا مرحلة من الفراغ. نعيش من الفراغ حدًّا يجعل كلَّ الناس، حين يقول شخصٌ ما شيئًا بطريقة مؤثِّرة قليلاً، يقولون: "واو، خارق، فظيع، هو ذا شخصٌ ملتزمٌ حقًّا!" من جهة، يجدر ألا نكون متهكِّمين لأن هذا لا يشجِّع الناس على التحرُّك؛ والكثير من السذاجة، من جهة أخرى، أمام مواقف لا يقوم بها الشخص إلا بالدفاع عن قضيَّته، هو على القدر نفسه من العبث.

كاثرين: جوان، منذ سنوات طويلة وأنتِ على خشبة المسرح. ما الذي حدث منذ سنوات الستِّينات؟ هل تستطيعين، وأنتِ التي تملكين، على نحوٍ ما، منظورًا تاريخيًّا للأشياء، أن تقولي لنا أين ذهب الأمل، وأين ذهبت المثالية والالتزام؟

جوان: طيب، أنا لم أدرس التاريخ قط؛ لكنني أتخيَّل أن الأمر يعود إلى أن كلَّ شيء يعمل وفق دورات. لديَّ انطباع أيضًا بأن أمريكا قد أقامت في قوقعة، جزئيًّا لكي تحمي نفسها من ردِّ فعلها الخاص، كما ومن ردِّ فعل العالم على حرب فييتنام. إننا لم نعرف أبدًا كيف نواجه ذلك حقَّ مواجهته. لقد وَجَبَ انتظارُ عشرين عامًا بعد وقف الاقتتال من أجل استقبال المحاربين القدماء في فييتنام في وطنهم أخيرًا.

وإنه ليخطئ بلدٌ، على ما أعتقد أيضًا، يرى نفسه "أعظم القوى العظمى في العالم" ولا يكفُّ عن تغذية هذه الصورة؛ فنحن على هذا النحو لن نصل إلى القدرة على الاعتراف بأننا على منحدر السوء.

عندما كنت في تركيا التقيت ببائع سجَّاد كان ظريفًا جدًّا. وفي لحظة ما قال لي: "ما هو الفرق بين الأمريكيين واللبن الرائب؟" ولما أجبته بأنَّني لا أعرف قال لي: "للَّبن الرائب زراعة [ثقافة]"[6]. ولم يكن هذا سرًّا خفيًّا، بل أمرٌ معروفٌ كشيء بديهي – يتهاوى هنا على المستويات الثقافية والتربوية والروحية، بدون أن أتكلَّم على...

كاثرين: ... المظهر الاقتصادي...

جوان: وهو ما يهمُّ عمومًا معظم الناس. يجري تخويفهم إلى الحدِّ الذي يفضِّلون عنده ألا يفكِّروا في الموضوع بكلِّ بساطة. لقد بُذِلَتْ جهودٌ كبيرة خلال حرب فييتنام من أجل حماية صورتنا؛ وإبان كلِّ هذه السنين فيما بعد، حيث كان من المستحيل الاعتراف بأن ذلك كان خطأً.

هناك من الثروات ما يولِّد الكسل بالضرورة – ولكن لأيِّ غرض؟ يُطرَح السؤال: لماذا لم تعد هناك أغنيات من مثل "سوف نظفر" أو "ليكنْ". والجواب هو أن هاتين الأغنيتين لم تأتيا من فراغ، بل من الكفاح، من الخوف ومن اليأس، وكذلك من الدافع إلى العمل معًا، وجَمْعًا. بنظري تشكِّل "سوف نظفر" جزءًا من أقوى الحركات في هذه البلاد، الحركة اللاعنفية الوحيدة.

كاثرين: لقد انتميتِ إلى هذه الحركة. ما هي الانطباعات التي تركها فيك مارتن لوثر كنغ؟

جوان: أتذكَّر بخاصة أنه كان ظريفًا. لقد رأيت الكثير جدًّا من الأفلام عنه، بيد أنَّنا لا نراه يهرِّج إلا في فيلم وثائقي واحد غير منتشر. لكنَّه بهذا نجا، وأقول نَجَوْا. لقد ساعدتْه الصلاةُ كثيرًا أيضًا؛ لكنَّ من المؤسف أن الناس قلما يعرفون صورته الهزلية. وفي الوقت نفسه أفهمه، لأنه في مهامه، كراعٍ وواعظ، ما كان ليسمح لنفسه أن يظهر من هذه الزاوية. كانت لديه رسالة يؤديها؛ وأظن أنه في المجتمع آنذاك لم يكن من المستحب أن يترك نفسه على سجيَّتها. أعلم أن هذا هو الشعور الذي كان يراودني إبان سنوات فيما يخصُّني. كنت أخاف ألا أؤخذ على محمل الجدِّ في نشاطاتي السياسية والإنسانية إذا شوهدتُ أهرِّج.

كاثرين: جزمًا كان حدسُك صائبًا. وإنه لمن المحزن أن تُترَك الدعابة جانبًا من أجل أن يُؤخَذَ المرء على محمل الجدِّ. ليتني كنت رأيت مارتن لوثر كنغ يلعب دور البهلول.

جوان: آه، نعم، لقد كان إنسانيًّا على نحوٍ كامل، محبَّبًا. شخصيًّا تطلَّب قبولُ أمر موته منِّي سنوات – ثماني سنوات. عند تأبينه قلت: "جنازة؟ أفٍّ! إنَّني لأمقت الجنازات. وسوف أكتب أغنية."

 

*** *** ***

ترجمة: أديب الخوري


horizontal rule

[1] أندريه ساخاروف عالم فيزياء سوفييتي رفيع المستوى. كان أول رئيس لأكاديمية العلوم السوفييتية، وساهم في صنع أول قنبلة نووية في بلاده. لكنه توجَّه بعد ذلك إلى الدعوة إلى حظر التجارب النووية، والحدِّ من انتشار هذه الأسلحة، والعمل في مجالات حقوق الإنسان والسلام، مع استمراره باحثًا فيزيائيًّا كبيرًا. نال جائزة نوبل للسلام في العام 1975 وتوفي في موسكو في العام 1989. أما إيلينا بونر فيبدو أنها زوجته. (المترجم)

[2] قابلتُ هذا الرجل مرةً في المغرب: شابٌّ بدين، مربوع القامة، يعكس شكلُه ووجهُه طيبةً كبيرة؛ ضاحكٌ بشوش على الدوام، يُشعِرُك، بكلِّ بساطة، أن جميع ما في العالم من مشكلات ليس أكثر من مجرَّد وهم! (المترجم)

[3] إحدى فرق موسيقى الروك التي اشتهرت في الثمانينات والتي أخذت اتِّجاه الاهتمام بقضايا إنسانية أو بيئية إلخ. (المترجم)

[4] من الأفلام الأمريكية القليلة عن حرب فييتنام، بعد فيلم القيامة الآن. (المحرِّر)

[5] يُقصَد بالعالم الثالث عمومًا الأمم الفقيرة النامية، مثل الهند وباكستان. أما العالم الرابع فالمقصود به الدول الأفقر التي لم تدخل طور التنمية الاقتصادية بعدُ، مثل إثيوبيا.

[6] تلاعُب بمعنيي لفظة culture الإنكليزية، التي تعني لفظًا "زراعة" ومجازًا "ثقافة". يريد بائع السجاد التركي أن يقول إن الأمريكيين ليست لديهم "ثقافة". (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود