السياسة الجنسِّية*

 

كيت ميليت

 

السياسة الجنسِّية

هل يمكننا مقاربة العلاقة بين الجنسين من منظور سياسي؟ هذا يتوقف على التعريف الشخصي لكلمة "سياسة". وأنا هنا لا أختصر المجال السياسي إلى ذلك القطاع الضيق والحصري والمؤسساتي، أو إلى السياسة الرسمية التي ينتهجها كل من الديمقراطيين أو الجمهوريين ممن تعبنا ومللنا منهم. لكن ما أعنيه بالسياسة هو العلاقات المبنية على أساس السلطة، تلك المنظومة القائمة على حكم مجموعة لمجموعة أخرى، أي أنَّ هناك مجموعة مسيطرة وأخرى تابعة.

ربما حان الوقت المناسب لتطوير علم نفس وفلسفة أكثر اقناعًا، ندرس من خلالهما العلاقات السلطوية وفق طريقة جديدة لم تقاربها السياسة المؤسساتية أبدًا. وهو الوقت الملائم أيضًا لتقديم نظرية في السياسة يتم فيها معالجة العلاقات السلطوية على أسس أقل رسمية في مقاربة العلاقات الشخصية بين أفراد مجموعات معلومة ومتجانسة في العرق والطبقة والجنس. فالنظم السياسية الرسمية لا تملك أي تصور عن مدى شمولية واستمرارية حالة الاضطهاد التي تعيشها المجموعات.

حتى عهد قريب كنا مجبرين على الاقرار بأن العلاقة بين الأعراق في الولايات المتحدة هي علاقة سياسية بحق، وتقبع تحت سيطرة هذه الجماعة أو تلك، ويصونها حق الولادة. ولكن الجماعات الحاكمة بحق الولادة في الغرب تتراجع بسرعة وينتظر الفوقية البيضاء مصير الأرستقراطية وطبقات عليا أخرى انقرضت. وما تبقى لدينا من هذه المنظومة العالمية القديمة التي مارست الاستغلال السياسي المصان بحق الولادة قضية الجنس.

أكدت الدراسات حول العنصرية على وجود علاقة سياسية تربط الأعراق ببعض، وأنَّ هناك شرطًا قمعيًا يحرم الجماعة الخاضعة من أي تمثيلٍ عادلٍ في النظم السياسية الرسمية. وهذا بدوره قد يدفع هذه الجماعة للانخراط في صفوف الصراع والمعارضة السياسية التقليدية. ولهذا فإن أي تمحيص ذكي وموضوعي لمنظومة السياسة الجنسِّية، أو هيكلية الدور الجنسي سيثبت أن العلاقة بين الجنسين، الآن وعلى مدار التاريخ، وكما دعاها ماكس ويبر، علاقة سيطرة وخضوع. ويعني هذا الحق المصان بالولادة الذي يسمح بسيطرة مجموعة على أخرى، أن يَحكم الذكر وتُحكم الأنثى.

وضعت النساء دومًا في مرتبة الأقليات عبر التاريخ وحتى بداية هذا القرن، وبالرغم حصولهن على بعض الحقوق المدنية القليلة والحق بالاقتراع. ولكن من الغباء الاعتقاد بأن النساء، البيض والسود على حدٍ سواء، يملكن أي تمثيل حقيقي بمجرد قدرتهن على التصويت الآن. والتاريخ يقدم صورة واضحة للأمر؛ فامتلاك السود حق التصويت منذ أكثر من مئة عام لم يأتِ بنفع كبير.

إذًا، لماذا لم تخضع منظومة سيطرة الذكر وحكمه لمجتمعنا لأي اعتراف بوجودها أو مناقشة؟ أعتقد أن الأمر يعود جزئيًا إلى اعتبار أية مناقشة أمرًا خطيرًا جدًا، فأية ثقافة لن تناقش أبسط افتراضاتها وأقدس معتقداتها. ولماذا لا يشير أحد إلى حقيقة أن الجيش والصناعة والجامعات والعلوم والمكاتب السياسية والموارد المالية (بغض النظر عن الاعتراضات القائمة على فكرة امتلاك امرأة ما لسهم في البورصة)، وكل سلك سياسي في ثقافتنا بما في ذلك قوى الشرطة القمعية، كلها بيد الذكر؟ المال، السلاح والسلطة كلها ممتلكات الذكر، والرب أيضًا ذكر، بل ذكر أبيض.

وأسباب هذا الوهم العظيم والمسؤول عن وضعنا كثيرة ولا تخفى على أحد، بل ومضحكة إلى حدٍ ما. ونجد أنَّ إحدى وسائل دفاع الثقافة الذكورية في مواجهة أي تعدٍ أو فضحٍ لسيطرتها، هي التصرف بشكل ساخر وبدينامية بدائية من الضحك والنكران. الجنس أمر مثير للضحك وقذر. أمر تملكه النساء فقط، فالرجال ليسوا كائنات جنسية، بل هم بشر، هم البشرية. بالتالي، أي نقاش عقلاني حول حقائق الحياة الجنسِّية سينحدر إلى الحضيض بالسرعة التي سينخرط فيها الرجال في نوبات الضحك. فالنساء اللواتي يحاولن الدخول في حوار ناضج يُكرهن على العودة إلى "مكانهن". وهذه صيغة كلاسيكية قديمة ذات قيمة شعائرية.

على المستوى العام يصبح الجنس أو أية قضية حساسة تتطرق للعلاقة بين الجنسين، موضوعًا سريًا لمن يرغب بدراسته، ومتاحًا علنًا فقط للتهكم والسخرية.

ونجد الوهم الثاني الذي تقوم عليه ثقافتنا في الأسطورة الشعبية. فالجنس بالنسبة لشخصية كداغوود (شخصية كرتونية كلاسيكية تمثل الذكر الكسول والمتزوج من امرأة شقراء) أو لبروفسور في الجامعة تمامًا كما تقدمه الأسطورة الشعبية حيث الذكر "ضحية" مؤامرة عالمية. وانطلاقًا من الشخصيات الشعبية كجيغز وبانش، وحتى أحدث الدراسات حول الضرر التي تلحقه الأمهات بأبنائهن الذكور لاحقنا دومًا شبح المرأة المتغطرسة، المرأة المريعة والشريرة بطبيعتها. وهذا الخوف هو من بقايا ذلك الخوف البدائي من المجهول، المجهول بالنسبة للذكر على الأقل، ولا ننس بأن الذكر في ثقافتنا من يصنع الواقع. فالرجل بريء ومخدوع ومهدد بفقدان عرشه. وداغوود الشخصية النمطية للزوج الذي تسيطر عليه زوجته، شخصية شعبية مضحكة فقط لأن الثقافة تفترض أن الرجل سيحكم زوجته وإن لم يفعل فهو ليس كذلك. فهو أشبه بصاحب المزرعة الغبي الذي يتحكم به مدير مزرعته أو خادمه الذكي. وداغوود عضو في الطبقة الحاكمة التي تزدردي بشفقة أي حالة إنسانية أو عجز عن السيطرة، ولكن رغم هذا تحاول أن تبدو متعاطفة. فكل عضو من هذه المجموعة المتفوقة يعلم جيدًا كم هو صعب الحفاظ على الواجهة الوهمية لتفوقهم على من يعتبرونهم نظرائهم الطبيعيين.

ووهم الذكر أنَّه ضحية ليست خرافة فحسب بل خرافة ذات نفع سياسي، تم اختراعها وتناقلها لخدمة غاية سياسية ألا وهي تبرير أو شبه نكران امتلاك السلطة. منذ فجر التاريخ والعلاقة الحقيقية بين الجنسين في ثقافتنا نقيض تام لثقافة "الوطء بالأقدام" الرسمية. ومع ذلك فثقافتنا تنفي على أي مستوى جدلي وجود تعبئة قمعية واضحة، بينما مجرد نظرة موضوعية لبنية العلاقة بين الجنسين ستوضح لنا أنَّ المجتمع الذكري يملك تكتيكًا باهرًا في استجرار التعاطف معه. ومؤخرًا أصبح يصرخ بالفم الملآن ويحتج لكونه ضحية ممارسة غير طبيعية ولكونه أصبح "مخصيًا"، بما فيهم ألبرت شانكر الذي اكتشف أن سلطة مجتمع السود والمحافظ ومجلس التعليم مارسوا هذه الفظاعة بحق شخصه. ولكل من يخاف من كلمة "إخصاء" إليكم التالي: وردت آخر ممارسة خصاء لرجل أبيض في الثقافة الغربية في نهاية القرن الثامن عشر، وقتئذٍ فقد الرجل المخصي، على يد ذكر آخر، جزءًا حيويًا من عضوه من أجل متطلبات مهنة فنية. فالإخصاء عملية وحشية قديمة يمارسها الذكور بحق بعضهم. في الجنوب الأمريكي كان الإخصاء وسيلة لإذلال الضحايا السود من قبل جماعة الكلان (جماعة من المتشددين البيض تشكلت كمجموعة سرية أثناء الحرب الأهلية الأمريكية، وتراجع نشاطها حتى حركة الحقوق المدنية في الستينات حيث استهدفت السود والعاملين في حركة الحقوق المدنية). وفي الشرق كان الإخصاء عقوبة وحشية للمجرمين. أمَّا في محاكم ايطاليا عصر النهضة كان الإخصاء وسيلة ملتوية لاختيار المنشدين من أصحاب طبقة السوبرانو في الكورس البابوي. فالنساء، بسبب دنسهن، لا يستطعن الغناء في المحافل الدينية ولتلبية الحاجات الصوتية التي يقدمها الصوت الأنثوي في الكورس كانوا يلجؤون إلى إخصاء المغنيين الشباب.

ولأن عملية الإخصاء حُظرت فإن الاستخدام الحالي لهذه الكلمة مجازي أكثر منه حرفي. وإن فهمنا حقًا القلق العظيم الذي يشغل الذوات الذكورية المعاصرة في وسائل الإعلام وفي الثقافة، الرفيعة منها والوضيعة، سنفهم اليوم لما الذكور يرون عملية "ختان الإناث" المريعة تعنيهم، وأوهامهم المشككة تحولت إلى حقيقة اجتماعية. ولأن الفرق بين أعضاءه وسلطته التبس عليه، فالذكر المعاصر يلتاع عاليًا بألم وهيستريا حقيقية في كل مرة يتعرض امتيازه الاجتماعي والسياسي للتهديد. وإن كان معنى الإخصاء خسارة شيء ما من خلال فرض تشارك سلطة مع جماعة مضطهدة محرومة من السلطة أو حتى من وضع إنساني لائق، عندها سيكون هناك الكثير من الرجال البيض الأمريكيين ممن سيخضعون لعملية إخصاء نفسية، وهذا سيكون كاستئصال الورم من قلب وعقل المريض. فأية امرأة تطالب بمكانة إنسانية كاملة ستوصف "بالعاهرة المخصية" وتلاحقها تهمة "حسد القضيب" (مصطلح لن يخترعه إلا رجل شوفيني بحق). وسيغدو جدلنا حول هذا الحق بلا جدوى، وأشبه بقولنا أن السود المحرومون من الحقوق لا يريدون أن يصبحوا رجالاً بيضًا فقط ولكن أن يمتلكوا حصة عادلة مما يملكه البيض.

وفي الوقت الذي أعي فيه أن الحقوق المتساوية تعني مسؤولية متساوية، هناك بعض الأمور التي يقوم بها الرجل الأبيض أنا، شخصيًا، لا أرغب القيام بها، كإحراق القرى والأطفال في فيتنام. وليس لدي أي اهتمام في العنف والحرب (إلا في حالة الدفاع عن النفس وهي حالة لن تمر بها أمريكا أبدًا) والعنصرية الاستعمارية للرجل الأبيض والاغتصاب والاستغلال الرأسمالي لفقر وجهل الشعوب.

في الوقت الذي يُعتَّم فيه على الجرائم الحقيقية التي يمارسها الرجال بحق النساء، لا يكف المرء عن سماع هراء "الإخصاء"، ذلك الغطاء الذي يحمي الدعاية الذكورية. فليس من اللائق الإشارة إلى آلاف حالات الاغتصاب أو الجرائم التي تنال من النساء في مدينة نيويورك كل سنة، أنا أتكلم هنا عن تلك الحالات المسجلة، والتي قد تكون جزءًا يسيرًا من النسبة الحقيقية. وإن كانت جريمة ريتشارد سبيك تعني شيئًا فهي تعكس بكل وضوح ذلك الخيال الذكوري السادي والإباحي. أما الرجل اللعوب، كما تصوره مجلة بلاي، فهو لا يحلم بشيء سوى انتهاك تلك المرأة المتنكرة بزي لعبة طيِّعة.

وما يدعو إلى الدهشة دومًا حجم وعمق الكره والعدائية الذكورية للنساء. والحقيقية هي أن تاريخ النساء مليء بالأصفاد والأغلال والسياط. فأقدام النساء في الصين شوِّهت عن قصد حتى تتمكن المرأة من العمل ولا تقدر على الفرار، أما الحجاب في الإسلام، أو ذلك الوجود المختزل للروح الإنسانية، فُرض على المرأة ارتداءه نصف حياتها. نرى أنَّ كل هذه الوسائل التي استخدمت لاعتقال وسجن النساء في المنزل جزء من تاريخ الاغتصاب والاسترقاق والدعارة العالمية. أجل، نحن النساء لدينا قائمة ملفتة من الطغاة. وما تزال النساء تُباع وتُشترى في السعودية، وفي سويسرا ما يزلن محرومات من حقوقهن المدنية. وفي كل مكان على هذه الأرض تعيش النساء وفق نظام المقايضة، مقايضة الجنس من أجل الطعام أو من أجل الجنس. وككل نظام قمعي يرتكز التفوق الذكري على العنف والقوة الجسدية والاغتصاب والاعتداء والتهديد. وعندما تفشل كل هذه الوسائل يلجأ الذكر في النهاية إلى الهجوم. ويبقى ذلك الخوف من استخدام القوة عائقًا أمام كل امرأة.

وككل مجتمع يعيش حالة حرب، لا يتحقق فرض السيطرة الذكرية، أو ما يدعى "حرب الجنسين"، بدون الأكاذيب المعتادة التي تطلق بين المتحاربين؛ كالقول بأن العدو شرير أو أنه فاقد لأية قيمة إنسانية. ويبدو أن إيمان الرجال بالشر الكامن في النساء لا يهتزّ. وما تزال دراسات المجتمعات البدائية والنصوص الدينية تؤكد على عدد لا يحصى من التابوهات المفروضة على النساء. فاليهود يعتبرون المرأة الحائض "غير نظيفة"، تابو، نجسة. ويحظر عليها لمس الأسلحة أو أي أدوات مقدسة لأنها قد تلقي بلعنة عليها وبالتالي سيموت مالكوها "الذكور". فكل شيء له علاقة بتكونيها الفيزيولوجي مقرف ومهلك. إذًا، فلتبقى في خيمة لوحدها بدون طعام ولتُحرم من دخول المعبد طوال فترة الطمث ولأيامٍ معدودة بعدها كما يخبرنا الإنجيل. وحتى المرأة التي أعطت الحياة لمنقذ العالم ستبقى امرأة دنسة وغامضة. ومن الغريب بمكان أنهم لم يعتبروا القذف خلال الاحتلام الليلي قذرًا أو غامضًا لأن القضيب لم يُعتبر يومًا دنسًا بل عضوًا ملوكيًا، يشبه في شكله الصولجان والقذائف والأسلحة والطائرات!

تاريخيًا، كان هناك الكثير ممن "عبدوا" القضيب، كما كان هناك الكثير ممن عبدوا الرحم أو قوة الخصب الأنثوية. ويبدو أنَّ خوف الذكر من قوة الخصب الأنثوية كان أحد الأسباب التي أسست حالة الاضطهاد والحقد على النساء العالمية، والذي بدوره غيَّر منظومة القمع العالمية، أو ما نسميه اليوم "الاستيلاء الأبوي على السلطة". قبل أن يخترع الذكر لعبة الحرب ويؤسس المدن المليئة بالأقنان ممن يبنون له الصروح، ويدرك دوره الحيوي في الخلق ربما نظر بحسد إلى المرأة وإلى قدرتها العجائبية على إخراج حياة بشرية أخرى من بطنها. ثم ربط هذا بدورات القمر والطبيعة، عندئذٍ شعر بالخوف والرعب ثم بالكره. وقرر أن يسقط هذه الوظيفة، بالتواطؤ، حسب اعتقادي، مع القوى الماورائية وقوى الطبيعة المروعة، ووضعها في مصاف الحيواني والمميت والفاحش، وبالتالي ارتبط الطوطم القذر، الذي اخترعه الذكر، بالأنثى بأشكالٍ كثيرةٍ.

وبعد أن أبطل الذكر من قوى الأنثى قام على الفور بتضخم قواه. ثمَّ احتكر كل ما هو ماورائي، واخترع إلهًا ذكريًا جديدًا (أخاه أو والده حسب الظروف)، ثم أكمل ما بدأه بإعلان ارتباطه بالألوهية من خلال سلسلة طويلة من الأجداد والرسل والكهنة والأباطرة. وبما أن الذكر أعلن ارتباطه بالله فقد نصَّب نفسه إلهًا على الأنثى. ويصف الشاعر جون ميلتون هذه العبارة في احدى قصائده:

هو لأنه وحده الرب وهي لأن الرب فيه.

في بعض الثقافات سُمح للإناث بالمشاركة، ولكن بشكل محدود وكشخصية تمثل الأنثى البشرية، تساعدهم في دعم وتمكين سلطتهم. وتمكنوا من اعتبار أنفسهم شرفاء من خلال سلسلة الاعتداءات التي مارسها جوبيتر بحق أوربا وليدا، كما تظهرها سيناريوهات الإغواء الإلهي بحق العديد من الرَّبات اللواتي كنَّ نسخًا وضيعة عن ربَّات فترة الحكم الأمومي أو تجسيدًا للآلهة جونو (زوجة الإله جوبيتر) أول امرأة وزوجة متمردة في التاريخ.

لكن في مجتمعات أبوية أكثر تشددًا كالمجتمعات اليهودية والمسيحية، لم يكن هناك أي مزاح عندما تعلق الأمر بالرَّبات. فالمسيحية لم تعلي من شأن مريم العذراء إلى مرتبة الآلهة حتى القرن الثاني عشر، ولكن بعد أربعة قرون سحبوا هذه المكانة منها. والطريقة التي جعلوا منها أمًا وعذراء في آنٍ واحد تستوجب الإعجاب على الدقة، ولكن الغرابة في تحقيق الأثر المطلوب؛ وها هي امرأة مقدسة أو شبه مقدسة متحررة تمامًا من الإغواء الجنسي الذي اتهمت به النساء دومًا.

وخلال العصور المسيحية لطالما ذُكرِّت النساء بالشر الكامن فيهن ودونيتهن من قبل مجموعة كبيرة من المتعالين الذكور. من بينهم البابا بول الذي رأى بأن ظهور شعر النساء في الكنيسة تحريض كبير على الأفعال الشيطانية، التي دارت في رأسه أكثر مما كانت في رؤوس الآخرين. وهناك أيضًا جيروم وأوغسطين واوغواينس ومجموعة كبيرة من النسَّاك والرهبان ممن يلقون مسؤولية عجزهم الجنسي على الأنثى. وكم هو قوي ذلك الافتراض المسيحي حول مسؤولية حواء عن "شرِّ" الجنس، وبأنه حتى في مجتمعنا المعاصر المرأة تفكر بالمرأة جنسيًا أو كغرض جنسي أو كرمز جنسي. وهذه حالة متناقضة بشكل غريب مع هذا المجتمع الذي يرفض بشدة المثلية بين النساء.

ولكن اليهودية أكثر تشددًا من المسيحية فيما يتعلق بمسألة التفوق الذكوري. فأول شيء يفعله الذكر اليهودي كل صباح هو شكر الرب لأنه لم يولد أنثى وبالتالي لم يولد وضيعًا. ولا أعلم ما يتوجب على النساء اليهوديات قوله، ربما يتمنين ألا يتعرضن أبدًا لمهانة حمل أم يهودية في أرحامهن أبدًا.

ولا يفاجئنا أن يلجأ الدين إلى تعزيز فوقية الذكر كجزء من وظيفته في أي نظام أبوي. وأيضًا نرى هذا في كل أشكال السلطة التقليدية والمعاصرة، ورغم ما قدمه عصر الأنوار فلا يزال العلم أيضًا يساهم بحصته من الاعتقادات المحابية، كما هو واضح، للحفاظ على السياسة الجنسِّية التقليدية على أسس خادعة بل ومضحكة بشكل ما.

هناك طريقة أخرى تواجه بواسطتها الثقافة الذكورية قضية السياسة الجنسِّية وذلك من خلال اختزال الجماعات الذكرية والأنثوية إلى عدد لا يحصى من "الحالات الشخصية" جدًا، وكل حالة لها خصوصية وأسلوب مقاربة خاص بل ومختلف عن حالة أخرى. وأصبحت هذه الطريقة طريقتنا المفضلة في النظر إلى العلاقة بين الجنسين منذ طور فرويد ذلك العلم الخاص المدعو بالتحليل النفسي. ربما يعود السبب إلى الراحة التي يقدمها بحمايتنا من الحقيقة المقلقة للعلاقات الجنسِّية التي يجب أن نبدأ في دراستها على أسس طبقية كما فعلنا مع قضية العنصرية. فنحن الآن نرى أن العنصرية ليست فقط علاقة الرئيس مع مرؤوسه ولا الخادمة مع صاحب العمل بل ترتبط أكثر بسيطرة عرق ما على بقية الأعراق.

أمَّا "الحالة الشخصية" فهي بقايا خرافة الأنثى الخطرة القديمة، تظهر الآن في حلة جديدة وتحت كليشيه مستهلكة لشخصية "العاهرة"، التي تعتبر الشخصية الأبرز في إعلامنا المعاصر. ومن اللافت الإشارة إلى أن القول بأن المرأة عاهرة يعني القول بأن النساء كلهن عاهرات. ومن المحير حقًا كيف أن تُظلم وتُتهم المرأة، هذا الكائن الأقلوي والمحروم تمامًا من المشاركة في منظومة السلطة الذكرية، بأنها المسؤولة عن كل عيب في الحياة الأمريكية المعاصرة، وتحولت بالتالي إلى رمز حقيقي لمؤسسة الحاقدين. والجماعة الذكرية تسمح للمرأة أن تكون ملكة جمال أو تتنكر بزي شخصية جالبة للحظ أو مشجعة ولكن أن تشارك في العرض الذي يسيطر عليه الذكور فالطريق إلى هذه الغاية طويل. قد يُسمح لها أن تشارك كزوجة أو صديقة لبعض الوقت ولكنها عرضة للاستبدال السريع. بإمكانها أن تكون مع آلاف الأشخاص ولكن لا يسمح لها أبدًا أن التفكير بأن هذا المجد خاصتها.

ولأغراض الدعاية الذكورية فإن التأثير الأهم لخرافة "الحالة الفردية" تحويل أي مقاومة للوضع السياسي الحالي فيما يتعلق بالعلاقات بين الجنسين، إلى مطالبة ملحة بالتأكد من سلامة العقل والطهارة. وعندما حل علم النفس مكان الدين في تنظيم السلوك الاجتماعي وصمَ من فوره أي نشاط غريب يتعارض مع القوى الحاكمة (وهو يعتبر "نشاطًا سويًا" على أية حال) على أنه سلوك منحل ومثير للشفقة وخطير. ووفق هذا المبدأ تغدو "السويَّة" الحالية في أمريكا عبارة عن عنصرية ووحشية واستغلال اقتصادي قاسٍ.

هذا ما يحدث، وإن أخذنا، ككل الأطباء النفسيين، الحياة الاجتماعية في القرن التاسع عشر كنموذج لطبيعة وصحة أي مجتمع، فأي امرأة تفشل في أن تكون أمًّا وزوجة، وتفشل في الانحناء باحترام أمام السلطة الذكرية وتقبل الآراء الذكرية في كل المسائل ستكون من كل بد مجنونة. هذا ما قاله الرجال.

وإحدى وسائل حماية السياسة الجنسِّية التقليدية الحالية الادعاء أن الوضع مستقر منذ زمن طويل. "فنحن أعطيناكم أصواتنا"، هذا ما سيقوله أي سلطوي بكل عجرفة. "ذهبنا إلى صناديق الاقتراع وانتخبناكم لأنكن احتججتن في يوم من الأيام وقمنا من فورنا بتصحيح هذا الأمر السخيف".

ولكن ما يحصل حقًا هو تشويه للتاريخ ونكران للواقع. فالنساء حاربن بقوة وبدون أو يكون لديهن أي أمل، وشاركن في مظاهرات كبيرة شكلت فيما بعد نموذجًا احتذته الحركات العمالية وحركات السود. حاربت النساء في الصراع المرير على السلطة وحاربن الاضطهاد الذي طاردهن على مدى أكثر من مئة وخمسين عامًا للحصول على هذا الحق الهزيل. حصلنا عليه في النهاية وأصبحت نساء الولايات المتحدة مواطنات أخيرًا ولكن كفاحنا كان الأصعب.

وعندما حصلنا على هذا الحق أدركنا حجم الخداع الذي تعرضنا له. صارعنا وكافحنا وحاربنا اليأس كثيرًا حتى تعبنا، وطالبنا أن نحظى بذلك الحق وسنتكفل بالباقي لوحدنا. ولم ندرك أننا تعرضنا للخداع، ربما لم يدرك السود ذلك حتى حركة الحقوق المدنية. وأنَّ حق الاقتراع ليس اعترافًا حقيقيًا بالمواطنة في أمريكا، وإن لم تكن ممثلاً في ديمقراطية نيابية فكل هذا لا يعني شيئًا. ونحن الآن ممثلون بالتساوي مع السود، كل منا يمثله سيناتور واحد. ومقارنة ببقية البلدان هناك عدد أقل من النساء في المكاتب الحكومية، والنساء الأمريكيات هنَّ الأكثر اقصاءً عن الحياة السياسية، رغم أننا نشكل ثلاثة وخمسين بالمئة من التعداد السكاني. ويعلن المرشحون السياسيون نيتهم بمساعدة الأطفال المرضى والمعاقين من كل الأعمار إن انتخبوا، ولكن بدون كلمة واحدة عن النساء، نصف عدد السكان وأكبر أقلية في التاريخ.

إنه الوقت المناسب لفضح هذه المغالطات في الغرب عمومًا وأمريكا خصوصًا، والوقت المناسب للتأكيد على تساوي الجنسين اجتماعيًا وسياسيًا. فأي محاولة اليوم للمطالبة بالمساواة تواجه بالقول أن النساء حصلن على الكثير من السلطة وبأنهن يحكم العالم. ولأن هناك رجال بذواتٍ وضيعة ممن يعتقدون بأن النساء أو السود يتحكمون بالمكان الذي يعتبرونه موطنهم والمكان الذي يعبر عن هويتهم البيضاء، فقط لأن امرأة أو شخصًا أسود من بين الملايين يملك أكثر منه. يا له من كابوس!

والوقائع الحقيقية حول وضع النساء في الولايات المتحدة دليل كافٍ على أن السود والنساء في أدنى مستوى ما لم يقمن علاقات مع أصحاب المراتب العليا. فهن لا شيء إن كنَّ لوحدهنَّ، ويتم تلقينهن هذا يوميًا ويعلَّمن أن يزرعن هذه الفكرة في عقول الأخريات. ولا تخفي احصاءات وزارة العمل حقيقة أنه عالم يحكمه الرجل الأبيض، الذي يصل مدخوله السنوي إلى سبعة آلاف دولار سنويًا بينما مدخول الرجل الأسود يبلغ أربعة آلاف ونصف. ويبلغ مدخول المرأة البيضاء قرابة أربعة آلاف دولار بينما لا يكاد يبلغ مدخول المرأة السوداء ثلاثة آلاف دولار سنويًا. وأنتن كطالبات تعشن حالة مثالية، فتمتعن بها لأنها المرحلة الوحيدة في حياتكن التي ستعاملن فيها بمساواة، وعندما تتزوجن أو تحصلن على عمل ستدركن حقًا من بيده السلطة ولكن سيكون قد تأخر الوقت، لذلك عليكن أن تنظمن أنفسكن الآن. انظرن إلى الكتب المدرسية والقوانين المنزلية كم تظلمكن ومن هنا نقطة انطلاقكن.

ولكن اضطهاد النساء ليس اضطهاد اقتصادي فقط رغم أنه كذلك بشكل جزئي. اضطهاد النساء شامل وقابع في العقل، إنه اضطهاد نفسي ويعمل كالسحر، ولنرى كيف يعمل هذا الاضطهاد. فمنذ طفولتها الباكرة تتعلم كل طفلة بأنها عاجزة مدى الحياة عن القيام بأي نشاط إنساني مهم وبالتالي عليها أن تحول نفسها إلى غرض جنسي. عليها أن تكون جميلة وبمساعدة الجميع يتم وزن وقياس والحكم على مظهرها فقط. إن كانت جميلة فستتزوج، وتركز بالتالي طاقاتها على الحمل والحفاضات. هذه هي الحياة، هذه هي حياة الأنثى. هذا هو الأسلوب الذي يتم وفقه اختزال طاقات نصف الجنس البشري إلى حدود السلوك الحيواني.

وقد حان الوقت الذي نفهم فيه أن منظومة الشخصية الذكرية والأنثوية تأسست بفعل الشرط الاجتماعي. هذا الشرط الذي أخذ كل الصفات الشخصية الممكنة وقام بتوزيعها في فئتين: العدائية ذكرية والسلبية أنثوية، العنف ذكر والرقة أنثى، الذكاء ذكر والعاطفة أنثى... إلخ. وبعد أن تم تصنيف هذه الصفات إلى فئتين تم تلقينها للأطفال من خلال الألعاب والدعاية على التلفاز ومؤسسة التعليم التي تكفلت بتنشئة قدوات ذكرية وأنثوية. وما علينا القيام به الآن هو إعادة قراءة لهذه المنظومة الغبية والعنصرية، ثم ننشغل بعد ذلك بتخليصها من أية فكرة لاإنسانية والقضاء على أفكارٍ معينة كفكرة المحاربين والقتلة والمجرمين كأبطال والعدائيين والضحايا.

علينا أن ندرك بل نجبر أنفسنا على رؤية الذكاء والاحترام كصفات إنسانية لازمة في الحياة. فقد حان الوقت لندرك علاقة الجنس بالشخصية، ونعترف بحقيقة أن الوضع الحالي القائم على ربط السمات الشخصية بالجنس متخلف ومحدود وخطير. ولذلك يجب إعادة تعريف الرجولة. فهذا الجيل الأمريكي سأم من نموذج الرجل العسكري. وهناك عدد كبير من النساء أفقن من نوم طويل، وبدأن بالتعاضد سويًا وانتظمن في المنظمة الوطنية للنساء. وهناك عدد كبير من النساء اللواتي انتفضن في العديد من المدن والبلدان، وفي مجموعات التحرر النسائية وفي مجموعات أخرى. هاهن يجتمعن سويًا لإطلاق حركة نسائية جديدة وكبيرة في أمريكا والعالم. وهنَّ بذلك يؤسسن للمساواة الحقيقية بين الجنسين الهادفة إلى تغيير دينامية السياسة الجنسِّية القديمة وإبدالها بأخرى أكثر إنسانية وتحضرًا، وأخيرًا وضع حد لمنظومة القمع الحالية التي تطال الرجال والنساء على حدٍ سواء.

هناك قوى أخرى تعمل على تغيير وجه أمريكا بالكامل، فحركة السود تهدف إلى إنهاء العنصرية، والحركة الطلابية بعدتها وعتادها تسعى إلى نشر فكرة مجتمع جديد مبني على أسسٍ ديمقراطية ومتحرر من تبعات الحروب والاستغلال الاقتصادي والعرقي. فنحن، السود والطلاب والنساء، نشكل سبعين بالمئة من السكان وربما أكثر، وهذا يكفي لإحداث تغيير في حركة وشكل المجتمع، ويكفي حقًا لتحقيق ثورة اجتماعية جذرية. وهذه ستكون أول ثورة لا تسفك فيها الدماء ولن تقود إلى ثورة مضادة لأنها لا تهدف إلى تغيير الرؤوس بل تسعى إلى تغيير جذري.

نحن كتلة كبيرة وكافية لتحقيق التغيير في مجرى التاريخ البشري من خلال تغيير القيم الأساسية، وتغيير الوعي. ولا يمكننا تحقيق هذا التغيير في الوعي بدون إعادة بناء القيم، ولن يتحقق هذا بدون "إعادة هيكلة الشخصية". ولا يمكننا وضع حد للجرائم العرقية والاقتصادية ما لم ننهي حالة القمع وفكرة العنف والسيطرة، وما لم ندرك أن ثورة في السياسة الجنسِّية أساسية في تغيير ما نطمح اليه على صعيد نوعية الحياة. فالثورة الاجتماعية والثقافية في أمريكا والعالم تعتمد بشكل عميق على تغيير في الوعي الخاص بالعلاقة بين الجنسين، وعلى تعريف جديد للإنسانية والشخصية الإنسانية.

وبينما نصحو ونبدأ العمل سيكون هناك عدد كافٍ منا ممن يملكون الهدف والغاية، وهذا سيكون الشرط البشري الحقيقي والأول من نوعه، وسينتج عنه مجتمع إنساني حقيقي. فلنبدأ الثورة ولنبدأ بكل حب، كلنا، سودًا وبيضًا، رجالاً ونساءً. ولنسعى لإقامة عالمٍ نستطيع العيش فنحن في النهاية من يرسم مصيره.

ترجمة: عزَّة حسّون

*** *** ***


 

horizontal rule

*  نُشرت هذه المقالة في1968 قبل نشرها في كتاب ميليت السياسة الجنسِّية، وهو أحد كلاسيكيات الكتابات النسوية.

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني