الصفحة التالية french arabic الصفحة السابقة

أن نكون في الخدمة

حوار مع سيزار تشافيز

 

في الثالثة عشرة من عمره، ساهم سيزار تشافيز في إضرابه الزراعي الأول على مقربة من El Centro في كاليفورنيا. والده لِبرادو هو مَن نظَّم الحركة، حاشدًا نحو مئة شخص. أما مطالبهم فكانت واضحة: أجرًا حدَّه الأدنى خمسون سنتًا في الساعة، التعويض عن الساعات الإضافية الفائضة عن الساعات الثماني المخصَّصة للعمل، حظر تشغيل الأطفال، وتخصيص بيوت خلاء للرجال وأخرى النساء. كانوا يريدون كذلك توفير الماء الصالح للشرب عند الطلب دون أن يكونوا مضطرين إلى دفع خمس سنتات كلَّ مرة يشربون فيها طاسة ماء في أثناء العمل في الحقول. أما المستثمر الزراعي الذي ذهب لِبرادو تشافيز لمقابلته كي يطرح عليه مطالبَهم فقد نعتَه بالـ"شيوعي" وهدَّده قائلاً: "تعلم أن لدى رجالي وسائلَهم لمواجهة مثيري الفتن."

كانت العناقيد المحمَّلة بحبَّات العنب مدلاة من الكروم؛ ولسوف تفسد على أمِّها إن لم يقطفها أحد. وقد كلَّف المضربون ناظرين منهم بالمرابطة عند المدخل الرئيس للمحلة. ومن الجانب الآخر، كانت قوَّات الشرطة والمالكون والوكلاء يجيلون الطَّرْف بين وقت وآخر قلقين إلى أسفل الطريق.

فجأةً، انحدرت من الكروم شاحناتٌ هادرة وسط عجيج الغبار، معلنةً وصول أكثر من مئة من العمال braceros، وهم الفلاحون المكسيكيون الآتون للعمل في الحقول. كان هؤلاء العمال الفقراء والمجوَّعون إلى حدِّ اليأس، مثلهم كمثل عائلاتهم التي تركوها وراءهم في المكسيك، مستعدين للقيام بأيِّ نوع من الأعمال طوال ساعات طويلة وبأجور غاية في الزهد. أهاب بهم لِبرادو تشافيز بالإسبانية ألا يجتازوا فِرَق المضربين. ولقد تفهَّم هؤلاء وضع قاطفي العنب، لكنهم أعطوا الأولوية لحاجاتهم الخاصة الملحَّة واخترقوا فريق المضربين.

في صبيحة اليوم التالي، كان الجوع من نصيب عائلات المضربين. فلقد رفض السادة تشغيل الذين شاركوا منهم في الإضراب، مما اضطر عائلة تشافيز أن تمضي لتبحث لنفسها عن عمل في مزرعة أخرى، في مدينة أخرى ربما، وعن كوخ آخر يكون لهم بيتًا في غضون موسم القطاف.

في ذلك الوقت، كان قلةٌ من العمال الزراعيين يستطيعون المشاركة في حركة إضراب. فقانون العمل الذي أقرَّه الكونغرس الأمريكي في العام 1935 يضمن حقَّ الانتظام في نقابات في جميع قطاعات العمل تقريبًا وينص أن على أرباب العمل أن يتفاوضوا والعمالَ النقابيين بـ"حسن نية". بيد أن الزراعة كانت مستثناة من ذلك: فالعمال الزراعيون ما كانوا يتمتَّعون آنذاك بأية حماية قانونية، وكان تشكيل نقابة أمرًا لا يُعقَل.

بعد سنوات من ذلك، وبعد كفاح طويل، أصبح سيزار تشافيز أول رجل في تاريخ الولايات المتحدة يؤلِّف نقابةً للعمال الزراعيين.

***

لم تكن عائلة تشافيز على الدوام من العمال المهاجرين. بل لقد كانت تملك في وقت ما مزرعةً مساحتها ثمانون هكتارًا في يوما، أريزونا، أهدتْها الحكومةُ لجدِّ سيزار. وقد ولد سيزار تشافيز في بيت الأسرة في 31 آذار 1927. أما والداه، لِبرادو وخوانا، اللذين أتت عائلتاهما من المكسيك، فكانا يزرعان الأرض ويبيعان الفاكهة والخضار ويقومان على متجر صغير بالقرب من المزرعة، وكان العنب أفضل محاصيلهما.

كان والد سيزار يشغِّل العمالَ المهاجرين على الدوام، وكان يقول لولده: "لبعضهم لون بشرة مختلف، وبعضهم الآخر يتكلم لغة أخرى، بعضهم الثالث مسنٌّ وغيرهم شبَّان. لكنهم يشتركون جميعًا في شيء واحد: الفقر."

كان عمر سيزار عشرة أعوام حين اضطر والدُه إلى بيع المزرعة بالمزاد العلني لعجزه آنذاك عن دفع الضرائب. كان أمرًا لا يصدَّق أن تجد عائلةُ تشافيز نفسها، بين ليلة وضحاها، على قارعة الطريق. حشر الوالدان نفسيهما، مع أبنائهما الخمسة، في سيارتهم الـStudebaker القديمة، وانطلقوا باحثين عن عمل موسميٍّ للمهاجرين في مزارع كاليفورنيا. وحين استرجع سيزار تشافيز مسرى حياته الغريب، بدءًا من لحظة تركهم المزرعة، قال لكاتب سيرته جاك ليفي: "لو أننا بقينا لأمسيت قطعًا منتجًا زراعيًّا. إن سُبُل الله عصية على أفهامنا حقًّا."

تكشَّفت الحياة على الطرقات عن معاناة شديدة. ففي سوق عمل يفوق الطلبُ فيه العرضَ تزدهر صناعاتُ الزراعة الغذائية، فيما تؤدي المنافسة بين العمال الزراعيين إلى بخس أجورهم. إن تشغيل الأطفال، على كونه مخالفًا للقانون، شائع بين أرباب العمل، إذ يكتريهم مجرد وسطاء كأيدٍ عاملة بأجور متدنِّية. ذكريات سيزار الأكثر وَسْمًا عن طفولته ليست عن أيام المدرسة، بل عن تلك النهارات الطويلة التي كان عليه فيها أن يحبو على أربع تحت العرائش المشتبكة، التي يخرج منها المرء بكثير من الخدوش في سبيل قطف عناقيد العنب الصعبة المنال، مختنقًا بسبب المواد الكيميائية التي تُرَشُّ بها الثمار ومستنشقًا غبار الحقول الساخن، في حين يسيل العرق في عينيه، وينكسر ظهرُه من جراء انحنائه طوال النهار تقريبًا.

تنقَّلت عائلة تشافيز من مكان لآخر في إثر المحاصيل، مارةً بذلك من الوادي الإمبراطوري في جنوب كاليفورنيا إلى وادي سان خواكين في الجزء الأوسط من الولاية. عاشوا معظم أوقاتهم في أكواخ من غرفة واحدة على أرض المزرعة، أو في سيارتهم. وفي لحظات اليأس التي قُيِّض لهم فيها ألا يجدوا ما يَطعَمونه، كان يظهر لطفُ أحد الغرباء، ممن يضارعونهم فقرًا في الغالب، لمساعدتهم على الخروج من مأزقهم. حتى إنه تسنت لهم أوقات هدنة خلال فصل الأمطار، إذ استأجرت عائلة تشافيز منزلاً صغيرًا في ديلانو، عرفت فيه ما يشبه الاستقرار بين كانون الأول وآذار. وفي ديلانو، التقى سيزار هِلِن فابيلا، التي أضحت زوجه فيما بعد.

مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، غادر العديد من العمال الزراعيين الحقولَ ليخدموا في القوات المسلحة أو ليعملوا في الصناعة الحربية، بحيث نجم عن ذلك إقلاعٌ في أجور العمال الزراعيين، فكان من نصيب سيزار تشافيز، ابن الخمسة عشر عامًا، دولار كامل عن كلِّ ساعة عمل. وفي العام 1945، بلغ سيزار الثامنة عشرة من عمره، فسيق إلى الخدمة العسكرية. كانت الحرب وضعت أوزارها، لكنه أمضى ثمانية عشر شهرًا يذرع المحيط الهادي قبل أن يُسرَّح. وفي العام 1948، عاد سيزار إلى الوطن وتزوَّج من هِلِن. أسَّسا أسرةً وارتزقا من جنى عملهما في الحقول، بعائدات شديدة التفاوت بحسب المواسم: فقد يصل كسبهما إلى مئة دولار في الأسبوع أحيانًا، كما يتفق لهما أن يبقيا دون عمل ودون أجر في أوقات أخرى.

في العام 1951، كان سيزار وزوجه قد رُزِقَا بأول ثلاثة أولاد من بين الثمانية الذين أنجباهم، وكانوا يعيشون حياة فقر ويحلمون بمستقبل أفضل لعائلتهم، حين دخل الإنكليزي فريد روس حياتهم. كان روس يعمل لصالح "منظمة الخدمات الاجتماعية"Community Services Organization، وقد وضع برامج دعم مخصصة للمكسيكيين–الأمريكيين الذين يعيشون في المدن. تناهى إلى روس أن سيزار قادر ربما على مساعدته في تنظيم العمال الزراعيين في إطار الـCSO. فقد كان فريد يعول على العثور على مَن يستطيع أن يقوم بدور الوسيط المحفِّز لمساعدة العمال على نيل شروط حياة وعمل أفضل، وكان يأمل أن يلتقي بواحد قادر على قيادة الآخرين. ومنذ لقائهما الأول، عرف روس أن سيزار هو الرجل المنشود. بعد ثلاث سنوات، التحقتْ بالفريق دولورِس هويرتا، الأم وربة البيت، وصارت واحدة من زعماء الحركة.

وافق تشافيز على العمل كمتطوِّع لصالح الـCSO ليلاً، متابعًا في الوقت نفسه عمله في الزراعة نهارًا. راقب روس، وسرعان ما أصبح منظِّمًا قديرًا. بعد ذلك بفترة قصيرة، إذ اقتنع الرجلان أنه يمكن للمكسيكيين-الأمريكيين أن يصبحوا فريقًا قويًّا من المواطنين إذا ما مارسوا حقَّهم الانتخابي، شرع تشافيز في تسجيل أفراد جماعة المكسيكيين-الأمريكيين في اللوائح الانتخابية. عند ذاك، إذ أدرك المسؤولون المحليون القوة السياسية التي تمثلها كتلة التشيكانو[1] chicano الانتخابية، لم يألوا جهدًا في عرقلة الأمر. بلا كلل، كان تشافيز يلقن الجماعة دروسًا، ويعلِّمهم القراءة والكتابة، ويدرِّسهم التعليم المدني، ويؤمِّن مناطق سكن رسمية في الولايات المتحدة لكلِّ مَن يتمتع منهم بحقِّ الانتخاب.

ومع أن تشافيز لم يتجاوز الشهادة الابتدائية، فقد باشر الدراسة في أوقات فراغه؛ فكان يقضي ساعات في المكتبات ملتهمًا الكتب، مثل عناقيد الغضب لجون شتاينبك، شعب الهاوية لجاك لندن، وقصائد وولت ويتمان. لكن الكتاب الأكثر إلهامًا له كان سيرة موهانداس ك. غاندي الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة[2]. لقد بدأ تشافيز يفهم نظريًّا قوة أهِمْسا[3] للوصول إلى غايات اجتماعية وسياسية. لم تكن قد أتيحت له بعدُ فرصةُ اختبار النظرية، لكن الأمر لم يَطُلْ به حتى فعل.

بعد عام من العمل التطوعي لصالح الـCSO، بات تشافيز مستخدَمًا بدوام كامل في المنظمة. وخلال السنوات التالية، جرى الانتفاع من صفاته القيادية: نظَّم اعتصامات وفِرَقَ إضراب في المزارع، يضمُّ كلٌّ منها مئات المتظاهرين، وتعلَّم تجنيد العمال من أجل "القضية" la causa: "بدءًا من اللحظة التي تساعد فيها الناس، تخلص لك غالبيتُهم. فالناس الذين ساعدونا حين كنَّا في حاجة إلى متطوِّعين أناسٌ سبق لنا أن ساعدناهم." تعلَّم تشافيز أيضًا بناء هرم من العمال: "الشوط الأول في تنظيم الناس أشبه ما يكون بفقرة لعبة الصحون والعصي في مسرح المنوعات. يجب تدوير صحن على رأس عصا، وهكذا دواليك مع بقية الصحون. ثم سرعان ما يجد الفنان نفسه أمام تسعة أو عشرة صحون عليه أن يدوِّرها على عدد مماثل من العصي. بيد أن هناك قانونًا للحدِّ من الكسر ما أمكن؛ فهو في لحظة محددة يبلغ أوجَه. وبخصوص التنظيم، فإنك تستعين بفنان آخر يساعدك قبل بلوغ أوجك."

في غضون السنوات الخمس التالية، أدرك تشافيز أن أهداف الـCSO لا تستطيع مساعدة العمال فيما يتعدى حدًّا معينًّا، وأن العمال إنما هم في أمسِّ الحاجة إلى نقابة تنتظمهم. طرح تشافيز رؤيته على إدارة الـCSO، مقترحًا تأسيس النقابة؛ بيد أن المسؤولين عارضوا ذلك معارضة تامة. فقد كان يريدون تكريس أنفسهم حصرًا لأعمال غير سياسية، فوصفوا مشاريع تشافيز بالنافلة. بعد 125 عامًا من المحاولات العقيمة، مازال العمال الزراعيون من غير نقابة. وهكذا قرَّر تشافيز المتأثِّر بهذا الموقف التخلِّي عن وظائفه. هو ذا في الخامسة والثلاثين من العمر قد وجد نفسه بلا دخْل، عالمًا أنه لن يستطيع الصمود طويلاً على المبلغ الضئيل الذي نجح في توفيره من الأربعة آلاف دولار التي كانت الـCSO تدفعها له سنويًّا. لديه زوج وثمانية أولاد، وهو يعدم أيَّ مصدر للتمويل، ويحدوه، مع ذلك، حلمٌ مستحيل.

دخل تشافيز إذ ذاك طورًا جديدًا من أطوار نضاله. لقد بات يفتقد عمله في الـCSO، فكان على عائلته أن تقدِّم تضحياتٍ ضخمة. لكنه، وإصرارُه لم يفتر، شرع يعقد حلقات شعبية صغيرة عِبْر كاليفورنيا كلِّها كي "يتحدَّث حقًّا مع الفقراء"، وقَبِلَ مساعداتٍ غذائية. بدأت جماعةٌ صلبةٌ تتشكل في بطء. وبمساعدة أخيه ريتشارد وزوجه هِلِن وابن عمِّه مانويل وصديقَي العمر المخلصين دولورِس هويرتا وفريد روس، شكَّل سيزار "الجمعية الوطنية للعمال الزراعيين" في 30 أيلول 1962. وبينما هِلِن تعمل في الأرض، كان سيزار يقوم بتجنيد الأعضاء للمنظمة الجديدة. وقد نجح، في غضون عام، في ضمِّ نحو مئة عائلة من عوائل العمال الزراعيين، يدفع كل منها اشتراكًا شهريًّا مقداره ثلاثة دولارات ونصف. وقد بدأ صيت الجمعية يشتهر، وباتت تتلقى دعمًا من جميع المدافعين عن "القضية". ابتهج تشافيز بذلك، لكنه ظل على رفضه للهِبات المالية، إذ "عاجلاً أو آجلاً يرغب الذين يهَبون المال في شيء مقابل: أصوات، وعد بالتأييد، أو حتى تغيير في التوجُّه ربما".

في العام 1964، قررت النقابة، في أثناء تصويت، أن يُجرى على تشافيز مرتَّب مقداره 35 دولارًا في الأسبوع. فشرع في الحال في نشر صحيفة أسبوعية. بعد ذلك، ومع ازدياد عدد الأعضاء وذيوع صيت النقابة، بدءوا يسجلون بعض الانتصارات الصغيرة. غير أن أرباب الصناعات الزراعية واصلوا كسب الحرب. وفي شهر أيلول من العام 1965، حان وقت أول إضراب كبير: فقد بدأ قاطفو العنب الفيليپينيون، المشتكون من أتعابهم غير المنصفة، إضرابًا في الكروم، وانضمت الجمعية الوطنية للعمال الزراعيين إلى الحركة. استمر الإضراب، وتصاعَد التوتر، وبُدئ باستعمال العنف: تم التحرش ببعض العمال، فيما قُتِلَ آخرون، كما جرى إزعاج آخرين وترويعهم. وقد لحظ تشافيز أن سيارة شرطة تتبعه في تنقلاته كلِّها، وأن حياته باتت مهددة على الدوام.

تشافيز يشارك في مسيرة إضراب لـ"مقاطعة العنب"

استغرق الانتظار ثلاث سنوات حتى بدأت الرياح تجري كما يشتهي العمال. كانت مقاطعة العنب التاريخية مستمرة منذ العام 1965، لكن معنويات العمال الزراعيين كانت في الحضيض بعد هذا النضال الطويل ضد المنتجين. وإذ رأى تشافيز أن بعضهم بدأ يتحدث عن اللجوء إلى العنف، قرر الصيام كي يذكِّر العمال بالتزامهم باللاعنف، فصام 25 يومًا، ملتقيًا بمجموعات من العمال الزراعيين من الولاية كلِّها بمعدل اثنتي عشرة ساعة كلَّ يوم. وحين صار أضعف من أن ينتصب واقفًا، ظل، من على سريره الميداني، يكرر ثلاثين أو أربعين مرةً في اليوم الرسالةَ نفسها: "اثبتوا على إخلاصكم للوسائل اللاعنفية، ولسوف ننتصر." وحين اشتدَّ به المرض والضعف، أنهى تشافيز صيامه في العاشر من آذار 1968، وهو محاطٌ بزوجه هِلِن وبصديقه السيناتور روبرت كيندي، مؤكدًا: "إنما اللاعنف عمل. إن كنتم تريدون حقًّا شيئًا، عليكم أن تكونوا مستعدين للموت في سبيل الحصول عليه." ولقد أعطى هذا الصيام الحركةَ عزيمةً ومفخرة.

صورة تشافيز على غلاف عدد من مجلة Time الأمريكية، مع تعليق: "عناقيد الغضب، 1969"

في العام 1970، أضحت القضية شأنًا وطنيًّا: فللمرة الأولى في تاريخ أمريكا، فهم المستهلِكون صعوباتِ العمال الزراعيين، فكفَّ 17 مليونًا منهم عن شراء العنب. وهكذا اعترف المنتجون أن المزارعين انتصروا، فاضطروا إلى التفاوض معهم على عقود تضمن لهم أجورًا أفضل وتحسينًا في شروط العمل واعترافًا بنقابتهم. وهكذا أصبحت النقابة عندئذٍ "اتحاد العمال الزراعيين" United Farm Workers.

صورة لتشافيز في السبعينيات

لم تكن مقاطعة العنب، بطريقة من الطرق، غير بداية في الكفاح من أجل حقوق العمال الزراعيين. فخلال السنوات العشر التالية، هاجم سائقو الشاحنات النقابيون، ومعهم الحكومة والمنتجون، العمالَ لأتفه الذرائع. أما تشافيز فكان في القلب من الأحداث كلِّها. لقد صام، وبقي مخلصًا للاستراتيجيات اللاعنفية، ولم يتراجع. وخلال ولاية حاكم كاليفورنيا جيري براون، أحرز العمال الزراعيون انتصاراتٍ مؤزرة، منها على الخصوص تأليف "مجلس زراعي" مهمته الرقابة على انتهاكات عقود العمل بين العمال والمنتجين. أما جورج دوكمجيان، الحاكم التالي الذي خلف براون، مؤيَّدًا بدعم الصناعة الزراعية الكاليفورنية، فلم يعيِّن في هذا المجلس غير أعضاء يدافعون عن المنتجين، ولقد عارض "القضية" على الدوام.

كانت المسألة الأخطر في مقاطعة العنب تتعلق بموضوع استخدام المبيدات في المحاصيل. فبحسب العمال الزراعيين، يُرَشُّ 400 طنٍّ منها على الكروم كلَّ عام، وتبقى السموم عالقةً على الأوراق وتُمتَصُّ عِبْر الجلد. وبعض المنتجات من السمِّية إلى حدِّ أنها تؤدي إلى إصابة العمال بعد أسابيع حتى من رشِّها. والعمال الزراعيون يسجِّلون أعلى نسبة في الإصابات المرتبطة بالعمل في البلاد. وفي العام 1985، عارض الحاكم دكمجيان قانونًا يقترح نشر تحذير من استخدام المبيدات في الاستثمارات الزراعية.

من جهة أخرى، فإن خمسة عشر ألف طنٍّ من المبيدات تُرَشُّ كلَّ عام على المزروعات في كاليفورنيا؛ ومعظم رواسبها لا تزول كلها عند الغسل. والرش الجوي للمحاصيل لا يوصِلُ غير نسبة صغيرة من السموم إلى أهدافها، أي المحاصيل الزراعية؛ أما الباقي فينتشر في الجو وفي ينابيع المياه أو في المياه الجوفية. لذا طالبت المقاطعةُ الجارية بحظر استخدام خمسة مبيدات تُصنَّف من بين الأكثر خطورة.

في تموز من العام 1988، بدأ تشافيز صيامًا جديدًا، هو أطول صيام قام به – 36 يومًا – من أجل تنبيه الرأي العام إلى استخدام المبيدات. هذا الصيام كان بنظر تشافيز أيضًا كفارة "عن الذين يشغلون مواقع سلطة معنوية وعن جميع المناضلين، رجالاً ونساء، الذين يعلمون ما هو حق، ويعلمون أنهم يستطيعون ويجب أن يقوموا بما هو أكثر، لكنهم تحوَّلوا إلى مشاهدين، وبالتالي، إلى مشاركين في صناعة لا تأخذ عمَّالها بالحسبان".

لقد قال أحد الصحافيين يومًا إن تشافيز يشبه المتعصبين. وتشافيز يجيب: "إني لكذلك. فالمتعصبون وحدهم يتمكنون من تحريك الأمور."

"تعصبه" يفسِّر استعداده للموت من أجل "القضية". أول انطباع تشكَّل عندي لدى رؤيتي سيزار تشافيز هو أنه قد بذل الكثير من ذاته. يرى المرء أن جسمه كابد وصام وعانى طوال سنين طويلة وأن جزءًا كبيرًا من قواه قد نفد. إن محيَّاه لواحدٌ من ألطف الوجوه التي تسنى لي أن أراها، عيناه ذاتا لون بنيٍّ غامق، تعلوه ابتسامةٌ رائعة. ولقد بدا للحال دافئًا جدًّا، مسترخيًا وذرب اللسان، من دون أدنى شك نتيجة حياة كاملة مكرَّسة للقاء آلاف الأشخاص.

تشافيز: عامل لا يكلُّ

انطلقتُ من سان فرانسيسكو ذاهبةً لرؤية تشافيز في مقرِّه العام الواقع في السييرا شرق بيكرزفيلد، في لاباث بالدقة، قريبًا من كيني (بلدة تضم مخزنًا ومكتب بريد، بحسب ما تسنى لي أن أرى منها). وصلت في الصباح الباكر، كما اتفقنا. كان تشافيز قد نهض منذ بعض الوقت، واهتم لبعض الأعمال، وعليه أن يسافر إلى كندا بُعيد مقابلتنا. تحدثنا مدة ساعة في مكتبه الصغير البسيط للغاية، حيث يبدو كل شيء قديمًا جدًّا: المكتب، جهاز الهاتف، بضعة آلاف الكتب التي تعلو الرفوف. وفي وقت ما، ذهبنا إلى مكتب آخر لجلب شريط فيديو أراد أن يهديني إياه عنوانه غضب الكروم. وقد رأيت، وأنا أرقبه يمشي، إلى أي حدٍّ كان قد ضَعُف. يعاني تشافيز من مشكلات خطيرة في الظهر منذ سنوات. قلت في سرِّي: "إنه لشهيدٌ حقيقي!" ولاحت لي إذ ذاك رؤيا أولئك الآلاف من العمال الزراعيين الكاليفورنيين الذين ما انفكوا منذ سنوات يعملون في الهجير. وقد لفت تشافيز نظري مرارًا في أثناء الحديث إلى أنهم "شهداء أيضًا يموتون على الجبهة، ذلك أنهم الأشد تعرُّضًا للسموم التي تحتويها المبيدات التي تُرَشُّ على نصف المحاصيل الغذائية في البلاد".

في أثناء عودتي، أخذت الطريق السريع رقم خمسة الذي يجتاز الوادي الأوسط في كاليفورنيا، حيث الحقول الخصبة من جهة والتلال الجدباء من الجهة الأخرى، ورأيت مرات عديدة، في قلق، طائراتٍ صغيرةً تظهر في السماء وتغطي السهول الخضراء بسحابة غير مرئية. كانت تلك حقولٌ من الرز والكرفس والفريز والبصل.

كاثرين إنغرام

***

 

مقابلة سيزار تشافيز

كيني، كاليفورنيا، 22 نيسان 1989

 

كاثرين إنغرام: هل ترى تماثُلات بين النضال من أجل الحقوق المدنية في الهند وبين كفاح العمال الزراعيين؟ غاندي ناضل، على سبيل المثال، من أجل إسقاط نظام الطوائف؛ وهنا أيضًا يوجد، بطريقة ما، نظام طوائف حديث مناوئ للأقليات الفقيرة.

سيزار تشافيز: أجل، ثمة الكثير من المقايَسات. كان غاندي يدافع عن الضعفاء والفقراء وضحايا التمييز – وهذه هي الحال عندنا اليوم: فقراء وقومٌ يخضعون للتمييز. لدينا طبقية ولدينا عنصرية. كان غاندي يناضل ضد هيمنة خارجية أيضًا، وإنها لحالةٌ مشابهةٌ تمامًا لما نعيشه هنا، من حيث كون الصناعة الزراعية تشبه كثيرًا هيمنة خارجية. فهم لا يعيشون هنا.

كاثرين: حقًّا؟

سيزار: المزيد فالمزيد من الشركات المتعددة الجنسيات يديرها أجانب، يابانيون، ألمان. لا يعرف الناس ما يملكه اليابانيون هنا: إن لهم في كلِّ مكان في كاليفورنيا شركاتٍ صغيرةً ضمن شركات أكبر، كما أنهم يملكون جزءًا كبيرًا من الكروم.

وثمة شبهٌ آخر: فالناس الذين من أجلهم ناضل غاندي كانوا على الأكثر متديِّنين، والناس الذين نناضل من أجلهم هنا هم كذلك أيضًا.

كاثرين: ما هي أوجُه الكاثوليكية الأكثر إلهامًا لك في عملك أو التي ألهمت الناسَ الذين تعمل معهم؟ هل ثمة تعاليم مفاتيح؟

سيزار: طيب، إنها تعاليم المسيح. العظة على الجبل هي الأكثر إلهامًا، وقد كانت الأثيرة إلى قلب غاندي. رسالة المسيح لا تتحدث سوى عن المحبة، لا عن محبة الله فقط، بل عن محبة بعضنا بعضًا. أعتقد بأن هذا أساسي...

كاثرين: تعليم المحبة...

سيزار: أجل، وإنْ كنَّا يجب أن نعرف ما المقصود بالمحبة. المحبة في عملنا، كما تعلمين، تضحية حقًّا. إنها ليست مجرد كلمات. حتى لو كنا نستطيع الكلام عنها، لا بدَّ من ممارستها أولاً. إنك تحتاجين إلى الاثنين.

أعتقد أن عظمة غاندي ناتجة جزئيًّا عن كونه لم يشأ أن يكون خادمًا، بل في الخدمة. من السهولة بمكان أن يكون المرء خادمًا، بيد أنه من الأصعب بكثير أن يكون في الخدمة. حين تكونين في الخدمة، فأنتِ فيها، سواء راقَ لكِ الأمر أم لا، سواء كان اليوم يوم أحد أو اثنين أو يوم عطلة. أنتِ هنا في أيِّ وقت يحتاج فيه الناسُ إليك.

كاثرين: أعلم أنك كرَّست جزءًا كبيرًا من وقتك لتوعية الناس بمخاطر استخدام المنتجات الكيميائية والمبيدات في الغذاء. ما حقيقة الأمر بالنسبة للعمال المعرَّضين لهذه المنتجات وللناس الذين يتناولون هذه الأغذية المعالَجة؟

سيزار: تعود معركتنا ضد المبيدات إلى أكثر من ثلاثين عامًا. لقد أثرنا المسألة منذ وقت طويل جدًّا، ذلك أننا كنَّا أوائل ضحاياها. فقد تسمَّمت أنا نفسي بسبب المبيدات بُعيد الحرب العالمية الثانية مباشرةً. آنذاك لم أكن أعرف الكثير عن الموضوع، واحتجت إلى سنوات لكي أتعلَّم شيئًا بحق. ولكن منذ اللحظة التي بدأتْ فيها غالبيةٌ من الناس تقلق من سماكة قشور البيض، تحدثنا عن البشر والعمال والمستهلِكين. لقد ظل الناس طوال سنوات يسخرون منَّا، وكانوا يتجاهلوننا وينظرون إلينا كما لو كنَّا مجانين! لكن الناس كلَّهم مطَّلعون اليوم على موضوع المبيدات. في الواقع، لقد أفلحنا منذ تسعة عشر عامًا في منع استخدام الـDDT. لقد جعلناه يُمنَع عن العنب؛ لكنهم عادوا بسموم جديدة – السموم التي تتحدث عنها ريتشل كارسون Rachel Carson في كتابها الربيع الصامت Silent Spring، على سبيل المثال.

إما أن نمنع هذه السموم ونجعلها تختفي وإما، كما تعلمين، أن تجعلنا هي نختفي. إنها لَقتَّالة. هناك المركبات الفوسفاتية العضوية أو الغازات الشالَّة للأعصاب neuroplégiques. إنهم بهذه الطريقة يقتلون الحشرات، بشلِّ منظومتها العصبية؛ الأمر الذي يؤثر، بدوره، على منظومتنا العصبية أيضًا. لقد قتلت المبيداتُ الكثيرَ من العمال، كما جعلت عددًا كبيرًا مماثلاً منهم عاجزين؛ لقد دمَّرت صحةَ العمال وصحة عائلاتهم وأطفالهم. وهذه المبيدات موجودةٌ الآن في كلِّ مكان: في الماء، في التربة، في الجو – في كلِّ مكان. كذلك فقد اكتُشِفَ أن لوزن الجسم مفعولاً واقيًا: فكلما كان المرء بدينًا كانت فرص إصابته أقل، وكلما كان نحيفًا كان أكثر عرضة للخطر. من هنا فإن الأطفال هم الأكثر إصابةً بالسرطانات وبالتشوهات الولادية. إن عدد حالات الإجهاض لَمرتفعٌ جدًّا بين النساء العاملات في الكروم. وهناك حاليًّا عددٌ كبيرٌ من السرطانات والتشوُّهات الخَلْقية، حالاتٌ مريعةٌ حقًّا، أطفالٌ بلا أذرع أو بلا سيقان.[4] إنه لأمرٌ فظيع! لقد أنتجنا شريط فيديو عن الموضوع بعنوان غضب العناقيد.[5] إن ما يجري بكلِّ بساطة مروِّع. لقد كان من حُسن بلائنا في حملتنا للتوعية أن عمالنا باتوا على بيِّنة مما يجري الآن وأننا لعبنا قطعًا دورًا هامًّا في التوعية بهذه المشكلة، في أمريكا وفي العالم أجمع.

كاثرين: لقد أسهم صيامك في العام الماضي بالتأكيد في هذه التوعية.[6]

سيزار: بلا شك. فالصيام أداةٌ جيدة للتواصل. ونحن، على غرار غاندي، إذ نعدم القوة الاقتصادية والقوة السياسية، علينا أن نستنهض القوة الأخلاقية؛ والمقاطعة إذ ذاك هي الوسيلة الفضلى. لقد قال غاندي إن المقاطعة هي الأداة المثلى للوصول إلى التغيير الاجتماعي.

كاثرين: لقد اكتشفتَ غاندي في كتب الجيب!

سيزار: لقد رفع من شأن القوة الأخلاقية. وقد توصل إلى ذلك من أجلنا، لأن القوة الأخلاقية هي التي تجبر الناس وتُترجَم بعد ذلك إلى ضغط اقتصادي. ينطلق ذلك من قيمة أخلاقية، بيد أنه يستغرق وقتًا.

كاثرين: أين تجد القوة الداخلية على الصيام؟

سيزار: هذا سؤالٌ جيد. لا أعرف حقًّا! أحيانًا لا أصوم غير يوم أو يومين، وأجد صعوبة في الأمر. حاولت أن أصوم منذ يومين، لكني لم أفلح. أحاول من جديد اليوم، وأجد ذلك في غاية الصعوبة. في أحيان أخرى يجري الأمر من تلقاء ذاته.

كاثرين: هل تعتقد أن الأمر يتعلق بسبب صيامك أو بالدعم الذي تلقاه من حولك؟

سيزار: لا أعلم. لم أستطع أن أعرف يومًا كيف، لولا أن غاندي تكلم على الباب، على النافذة، أو على النور. إنني لأجد حقًّا مشقةً في الكلام على الأمر. أستطيع أن أقول فحسب إن الأمر يكون أيسر أحيانًا. ثمة قوة؛ لكنني لا أقدر أن أخبرك بماهيتها.

كاثرين: إبان وقت طويل، كان على عائلتك أن تضحِّي معك من أجل "القضية". لقد رأوك تصوم وتذهب إلى السجن. مرَّت أوقاتٌ بلغتَ فيها من الفقر حدًّا تعذَّر فيه عليك أن تشتري لهم قوتًا. وحين بدأ أطفالك يشبُّون، اتفق لك أن تضطر إلى تركهم في أوقات حساسة. قرأت في كتابك القضية بأنك اضطررت، يوم زفاف ابنتك، أن تذهب في عزِّ الاحتفال للتفاوض على عقد. هكذا كانت الحال مع غاندي أيضًا: كانت الأولوية لأمور أخرى على عائلته.

سيزار: أجل، ولا بدَّ أن التعايش معه لم يكن بالأمر السهل. شخصيًّا، كان من حسن حظِّي أني استطعت متابعة الاهتمام بعائلتي. حين تكونين ملتزمة مع عائلتك بالكفاح نفسه فإنك لن تكوني مضطرةً أن تكوني حاضرة وأن تمضي وقتًا مع العائلة، ذلك أنكم معًا حين تكونون منخرطين في المشروع ذاته. أعتقد أن مصدر قوة عائلتنا أنها كانت على الدوام موجَّهةً خارج ذواتنا.

لقد نقل لنا أبي وأمي في طفولتي مفهومًا قويًّا جدًّا عن الواجب حيال الآخرين. ولقد كانا يكرزان بذلك ويعيشانه – وعلى هذا النحو تربَّينا. والمرء يدرك الفوائد الجمَّة التي ينطوي عليها العملُ في سبيل الآخرين: يشعر المرء بالارتياح حين يستطيع مساعدة الآخرين – ذاك أمرٌ فهمته منذ نعومة الأظفار. لا أعتقد أنني فعلت أشياء تُعادِل ما فعلتْه والدتي، أو أنني كرزت بقدر ما كرزتْ. لكنني أحسب أني اتخذت الاتجاه نفسه، وكذلك فعل أولادي. وغالبيتهم استمدت شيئًا من ذلك: فكرة مساعدة الآخرين وتفضيلهم على نفسك. إن ما تقوم به في سبيل غيرك، إنما تقوم به في الواقع من أجلك أنت. لا يمكن شرح الأمر، ولا بدَّ من أن يُعاشَ كي يُفهَم. وما إن يُختَبَر الأمرُ حتى يصبح أسهل. أعتقد أن هذا ما جرى في عائلتي.

كان ذلك مع والدتي شيئًا منظَّمًا. كنَّا، على سبيل المثال، فقراء جدًّا في طفولتنا، لكننا، ونحن ما نزال صغارًا، كانت والدتي ترسلنا، أخي وأنا، للبحث عن مشرَّدين أو عن جياع كي نصطحبهم إلى البيت ونقاسمهم مائدتنا، حتى لو كان ما عندنا يكاد لا يكفي إطعام العائلة. لقد ترك ذلك انطباعاتٍ قويةً جدًّا – وتلك أشياء تبقى. ولطالما فكَّرت أن الفضل في اكتشافي غاندي وفي اهتمامي بأفكاره إنَّما يعود إلى والدتي؛ فتربيتي أعدَّتني مسبقًا لذلك. في كلِّ الأحوال، أخذ أولادي جميعًا تقريبًا شيئًا من ذلك: بعضهم يعمل معنا هنا، لكن الآخرين أيضًا يشاركوننا مثال خدمة الآخرين ومساعدتهم نفسه.

كاثرين: هي قيمة تناقلتموها في عائلتكم...

سيزار: أجل، انتقلت حتى إلى الأحفاد. وبالفعل، هذا ما يرونه في البيت. وهذا يصح على الأمور الأخرى أيضًا: إذا رأوا المخدرات أو الكحول في البيت فسيسلكون على الغرار نفسه؛ إذا كان الوالدان لا يهتمان إلا لكسب المال، فسيصيرون مثلهما.

كاثرين: ما هي التغييرات التي طرأت على العمال الزراعيين إبان السنوات الأخيرة؟

سيزار [ضاحكًا]: الأمر أشبه بأن تمشي خطوتين إلى الأمام وخطوة وتسعة أعشار الخطوة إلى الوراء! لقد أحرزنا بعض النجاح في حدود توعية المجتمع: لقد بات وضع العمال الزراعيين معروفًا في أنحاء أمريكا الشمالية كلِّها؛ أسهمنا في التعريف بهذه المشكلة وفي تطوير شبكة دعم؛ 80% من الناس باتوا مطَّلعين على نشاطاتنا، بحسب استطلاعات الرأي – وهذا أفضل ما عملناه. ومن ثم فإن أعدادًا من العمال أفادوا من النجاحات التي أحرزتْها النقابة (أجور أفضل، إلخ)، ولكن ليس جميعهم. إننا نواصل النضال كلَّ يوم.

لقد احتاجت معظم النقابات إلى ما بين الثلاثين والخمسين عامًا لتنال الاعتراف بها. إننا لَرواد في هذا المجال؛ وسيلزمنا المزيد من الوقت لكي ننال الاعتراف حقًّا. وأعتقد أن كلَّ شيء سيجري بسرعة كبيرة عندما يُكسَرُ هذا الحاجز. غير أن هناك تقدمًا وتقهقُرًا، مرتفَعاتٍ ومنخفَضات – إنها لَمعركةٌ طويلة. لقد خبرتُ الكثير من الشدائد، وكثيرًا ما كانت العدالة تلاحقني، كما أشرتِ.

كاثرين: نعم، كانت هناك القضية المرفوعة ضدك في العام 1987، حين طالَبَك أحد منتجي الخضار بـ1.7 مليون دولار لأن أحد إضرابات العمال الزراعيين تسبب في خسارته محصولَه. أنا لا أفهم كيف أمكنتْ إحالتُك إلى القضاء من أجل هذا الأمر. ألا يمثِّل كلُّ إضراب خسارةً محتمَلة؟

سيزار: بلى، إن كلَّ دعوى ضدنا هي دعوى غير شرعية. القانون غير دستوري. وعلينا أن نواصل النضال للدفاع عن لامقبولية مثل هذه الشكاوى. كان هذا هو سبب ثاني أكبر صوم صُمتُه في العام 1972؛ كان صومًا استمر 25 يومًا وتبيَّن لي أنه صعب جدًّا. وفي نهاية هذا الصوم، وَجَبَ نقلي إلى المستشفى لأني كنتُ واهنًا جدًّا، كنت في حالة مزرية. خمسة وعشرون يومًا فقط، لكنه كان قاسيًا جدًّا. لم نستطع في الواقع أن نكسب تلك القضية الأخرى. وفي الحالة الأقرب إلينا، أرسلت المحكمةُ العليا القضيةَ إلى القضاء الفدرالي للاستئناس برأيه. ولسوء حظِّنا، جاء الحُكم في غير صالحنا، وحُكِم علينا بدفع مبلغ 5.6 مليون دولار. بالطبع لم نكن نملك هذا المبلغ، وكان لا بدَّ من دفع كفالة عنه عيَّنها الحكمُ من أجل القيام باستئناف. والحال، فقد تمسكنا بالعدالة وانتهينا إلى العثور على قاضٍ في يوما، أريزونا، أفلح في تخفيض الغرامة إلى 250000 دولار. بيد أن المنتجين استأنفوا من جديد. إنهم، برفعهم الأمر إلى القضاء، يتركونك على الحصير!

كاثرين: بعبارة أخرى، مع علم المنتجين بأنهم سيخسرون، فإن في إمكانهم أن يُضنوك في أثناء ذلك بلجوئهم إلى تكتيكات قضائية مكلفة إلى أقصى الحدود.

سيزار: أجل. ليس نظامنا من الديموقراطية بالقدر الذي نظن؛ وهو ليس بالقدر نفسه من الحرية أيضًا. إننا سرعان ما نميل إلى الحكم على الدول الأخرى، لكننا لسنا بأفضل من الآخرين! لقد أنهكَنا المحققون الفدراليون خلال السنوات الثماني من ولاية ريغن – حتى إنه كان علينا أن نضع غرفةً تحت تصرفهم! والواقع أنهم آخر مرة أتَوا فيها إلى هنا أخبرونا أنهم دققوا في السجلات كلِّها ثلاث مرات وأنهم ما وجدوا أيَّ شيء، وبعد ذلك انصرفوا!

تعلمين أنه لو تبيَّن لهم أني تقاضيت سنتًا واحد وحسب، لكان من الممكن عزلي من النقابة. فهذا ما فعلوه مع العديد من زعماء النقابات. إنهم لا يصدقون حين أخبرهم بأني لا أتقاضى أجرًا عما أفعل، أو بأنه ليس لديَّ حساب نفقات. عليَّ أن أشرح لهم كيف أعيش. حين أذهب إلى مكان ما لا أنزل في فندق ولا أشتري طعامًا؛ الناس يقدِّمون لي المأوى والطعام. على هذا النحو أشتغل، ولا حاجة لي إلى المال. لم يشأ المحقِّقون في البداية أن يصدقوني، لكني انتهيت إلى إقناعهم. لقد أنهكتْنا السلطاتُ حقًّا!

طابع أمريكي عليه صورة سيزار تشافيز، وفي الخلفية تُشاهَد كروم العنب

قوتنا مستمَدة من الناس – أناس من كلِّ صنف، من كلِّ لون، ذوي إمكانات متفاوتة، ومن كلِّ دين. ثمة حتى بعض اليمينيين يدعمون حركتنا، وهناك مَن هم ضد النقابة. كلٌّ يؤوِّل حركتنا تأويلاً مختلفًا: بعضهم يعتبرنا نقابةً، وبعضهم الآخر يرى فينا مجاهدين يناضلون من أجل قضية عرقية أو من أجل السلام، وبعضهم الثالث يرانا كحركة دينية. ولهذه الأسباب مجتمعة، نحن قادرون على التوجُّه إلى قاعدة عريضة جدًّا، مؤلَّفة من شتى أنواع الفئات الاجتماعية.

كاثرين: ما هو نمط التنظيم اللاعنفي الذي وضعتَه من أجل الكفاح ضدَّ المبيدات؟ إنه عدوٌّ غير منظور. يخيَّل إليَّ أنك تستطيع القول إن التأثيرات مرئية، لكن المادة الحقيقية تبقى غير مرئية.

سيزار: إنه لَغير مرئي آنيًّا، بيد أن آثاره تظهر على المدى الطويل. إنه لمن الصعب بمكان توعية الناس بهذه المشكلة. فبنظر المستهلِك، إذا أكلتِ من هذا العنب فإن ذلك لن يؤذيكِ على الفور، بل بعد عشر سنوات أو ربما خمس عشرة سنة. لكنكِ إذا أخذتِ هذا العنب نفسه الذي سيصير مؤذيًا خلال خمس أو عشر سنوات أو خمس عشرة سنة، فسيتبيِّن لكِ أيضًا أن للمبيدات أثرًا ضارًّا آنيًّا على العمال وأطفالهم. يمكن لكِ أن تمرِّري الرسالة بأن تشيري إلى الأضرار التي تقع على مَن هم في الصفوف الأولى.

كاثرين: العمال هم، بالفعل، الأكثر عرضةً لتأثير المبيدات؛ وهذا التأثير إنَّما يمثِّل مصيرَ المستهلِكين في نهاية المطاف.

سيزار: تمامًا. فالعمال يصابون على الفور؛ أما المستهلِك فلا يتأثر إلا لاحقًا، لأن لهذا أثرًا تراكميًّا. إن العامة واعون الآن، لكننا ظللنا سنوات طويلة محلَّ سخرية الناس كلَّما تحدَّثنا عن الأمر، أو كنَّا نسمع أقوالاً من قبيل: "من غير المبيدات كنَّا سنموت جوعًا." لكن واقع الحال أنه لم تكن هناك مبيداتٌ في الماضي، وإذا كان الناس يموتون جوعًا فذلك لأسباب أخرى. منذ عشرين عامًا، كان يضيع 20% من المحاصيل في العالم بسبب الحشرات؛ أما اليوم فإن النسبة تبلغ 37%، على الرغم من أطنان المبيدات الإضافية المستخدَمة.

كاثرين: لقد طوَّرت الحشراتُ مناعةً أكبر.[7]

سيزار: نعم، ولهذا السبب يتطلَّب الأمرُ المزيد من السمِّ لقتلها. خذي، على سبيل المثال، غازًا شالاً للأعصاب مميتًا، كالپاراثيون parathion: منذ عشرين عامًا، كان كل 40 آرًا يحتاج إلى كيلوغرام واحد من هذا الغاز؛ أما اليوم فإن المساحة نفسها تحتاج إلى ثلاثة كيلوغرامات.

كاثرين: عندي انطباع بأنه سيكون هناك المزيد فالمزيد من مشكلات نقص المناعة في المستقبل، ذلك أننا بتنا مشبعين بهذه السموم. ما هي حال التربة بعد كلِّ هذه المعالجات التي يُخضِعونها لها؟

سيزار: لم تعد التربة غير قطعة من البلاستيك. تضعين غراسًا في الأرض، وتجعلينها تنمو نموًّا اصطناعيًّا.

كاثرين: ما هو برأيك ألد أعداء العمال الزراعيين؟

سيزار: ألدُّ أعدائنا هو النظام. لقد تغيَّرت الزراعة كثيرًا منذ الوقت الذي خطَّ فيه أجدادُنا المؤسِّسون أساساتِ بلادنا. بيد أن إحساسنا بالأرض وبأولئك الذين يملكونها لم يتغير. ثمة أمرٌ غريب في العالم أجمع فيما يتعلق بملكية الأراضي. الأرض تمنح المرء سلطانًا يتعدى كثيرًا قيمتَها المادية، يتعدى ريعها العائد إليك. للأرض تأثير عظيم السطوة على الناس. إنكِ تتعاملين مع ملاَّك أراضٍ يملكون تمامًا المكان الذي فيه تعيشين وتمشين وتتنفسين – وهذا السلطان مهول! وبما أن السلطة مُفسِدة فإن النظام فاسد.

لقد نَمَت صناعة الزراعات الغذائية الكاليفورنية بفضل سوق عَمالة رخيصة. لم يكن ذلك من قبيل المصادفة، بل كان منظَّمًا تمامًا. ولكي يحافظ المنتجون على الأيدي العاملة الرخيصة، فقد ركَّزوا على نظام مريع يقوم على الاحتفاظ بفائض من الأيدي العاملة. إنهم لخبراء في هذا الميدان! إن الصناعة الزراعية تتحكَّم في سياسة الهجرة، وهذه هي الحال منذ سنوات. وحتى وقت غير بعيد، كانت الإدارات الأمريكية للهجرة والتجنيس جزءًا من وزارة الزراعة. هؤلاء هم مَن يتحكمون بالوضع برمَّته.

كاثرين: هل يغضُّون النظر، تاركين الناس يدخلون دخولاً غير شرعي؟

سيزار: نعم، يفعلون ذلك أيضًا. إنهم يحددون سياسة الهجرة ويتحكمون بالطريقة التي تُطبَّق بها وتُفسَّر وفقًا لها. إن لهم نفوذًا عظيمًا. ولسوف أعطيك مثالاً.

تعود بدايات الصناعة الزراعية، بالشكل الذي نعرفه اليوم، إلى أواخر القرن التاسع عشر. ومن العَجَب، على عكس غالبية الأنظمة الأخرى، أن العمال كانوا موجودين هنا قبل أن يوجد العمل. فكما تعلمين، بُنِيَتْ جميعُ الخطوط الحديدية – ومنها الخط الذي يمرُّ قريبًا جدًّا من هنا – على أكتاف الصينيين. وبعد بناء الخطوط الحديدية، وجد آلاف الصينيين أنفسهم بطَّالين. وقد وعى أوائل "المتعهدين" – وهذا ما كانوا عليه في قطاع الزراعة – وجودَ احتياطيٍّ هائل من اليد العاملة التي يستطيعون أن يستخدموها، فطوَّروا في كاليفورنيا زراعاتٍ تتطلَّب الكثير من اليد العاملة، وذلك على عكس ما جرى في الغرب الأوسط أو غيره من مناطق الولايات المتحدة – ذلك أن اليد العاملة كانت متوفرة. في مناطق أخرى توفَّر المناخ والماء، أما هنا فقد كان لديهم احتياطيٌّ كبير من اليد العاملة. فعلى هذا النحو بدأ كلُّ شيء وترسَّخ النظام. وكما في الأنظمة كلِّها، فقد حسَّنوه، والآن...

كاثرين: ... أضحى مجال أعمال ضخم. لم أدرك أبدًا أن كاليفورنيا تنتج هذا القدر من المنتجات الغذائية للبلاد بفضل فائض من اليد العاملة، وليس بفضل خصوبة الأرض أو المناخ أو الماء.

سيزار: هو ذاك بالفعل. هناك أماكن أخرى من العالم يتماثل فيها المناخُ مع مناخنا، بل يفوقه – هذا مع أن كاليفورنيا تتألف من أربع عشرة منطقة مناخية مختلفة.

يرتبط كل شيء، من جديد، بالصناعة الزراعية. ولهذا السبب فإن التصدي للمنتجين يعني، في الآن نفسه، التصدي لشركات التأمين الكبرى التي تملك في الواقع، في أغلب الحالات، الأراضي؛ وكذلك للمصارف الكبرى، للخطوط الحديدية، ولمصنِّعي المبيدات والأسمدة. ثمة قوى ضخمة ضدك، ولا شيء يمكن عمله على الصعيد التشريعيِّ أو السياسي. لقد أوصدوا الأبواب كلَّها. هذا ما أدركه غاندي، وهذا ما قاده إلى اللجوء للمقاطعة.

كاثرين: كيف تصرَّفت الصناعة الزراعية للتلاعب بسياسة الهجرة وإيجاد احتياطيٍّ من اليد العاملة الفائضة؟

سيزار: طيب، إن الصناعة الزراعية غالبًا ما تتحرك خارج أيِّ إطار قانوني. لنقل إنهم بدءوا التجنيد في الصين، ثم أرسلوا فِرَق تجنيد إلى اليابان. لم يبق اليابانيون طويلاً لأن أفكارهم كانت مختلفة ولأنهم أتوا مع عائلاتهم؛ وباستثناء اليابانيين، فإن المكسيكيين وحدهم أتَوا مع عائلاتهم. بعد ذلك قاموا بتجنيد عمال من الهند، ثم حاولوا كذلك في الفيليپين. بعد الثورة المكسيكية بدأ الناس بالمجيء. ثم إبان "صحراء الغبار" Dust Bowl، ذهبوا للتجنيد في المكسيك، وبعد ذلك كان هناك برنامج "العمال" Braceros إبان الحرب العالمية الثانية.[8] أما اليوم، فهم يجنِّدون الناس في المكسيك وآسيا وأفريقيا والهندوراس ونيكاراغوا والسلفادور وغواتيمالا – وهذا كله من أجل الصناعة الزراعية. هكذا هم يتصرفون.

كاثرين: إنهم يأتون بكلِّ هؤلاء الأجانب، ومن الملائم لهم أن يبقَوا غير شرعيين.

سيزار: بالطبع، لأنهم يستغلونهم. وبما أنهم غير نظاميين، ليس بوسعهم أن يعملوا أيَّ شيء. إنهم مرغَمون على قبول ما يُعطى لهم. إن هذا لَشنيع!

كاثرين: في حياتك، في عملك، وفي كلِّ المعارك التي خضتَها، ما الذي لديك لتقوله بشأن الحياة؟

سيزار: لا شيء جدير بالذكر. الحياة متعددة الوجوه. بيد أننا نعيد النظر كلَّ ليلة لكي نعرف إن كنَّا في النهار قد قمنا بما وَجَبَ علينا القيامُ به. إن رسالة المسيح وغاندي وسائر الرجال الطيبين كانت واضحةً: لقد قالوا لنا جميعًا ما يجب القيام به. ولهذا فإن عليكِ أن تسألي نفسك كلَّ ليلة: "ما الذي عملتُه اليوم؟"

لوحة شعبية تمثل سيزار تشافيز بريشة أوكتافيو أوكامپو

الحياة معقدة جدًّا. لكننا نحاول أن نجعلها بسيطة بأن نعمل ما يجب علينا عمله. إننا، قبل كلِّ شيء، مجاهدون. إن لنا وصايانا ومبادئنا، التي منها ننطلق إلى العمل. لم أشأ قط أن أكتب عن اللاعنف. فما الذي سأقوله بعد؟ لقد قيل كلُّ شيء. بدايةً، كان الانطباع السائد أحيانًا أن اللاعنف هو ضربٌ من القداسة، كما تعلمين، شيء أشبه ما يكون بهؤلاء القديسين الذين يمشون في خفَّة كما لو كانوا يمشون على بيض! لكنْ تبيَّن لنا، بمرور السنين، أن اللاعنف ليس كذلك؛ ليس لهذا علاقةٌ بذاك.

 

غلاف كتاب كلمات سيزار تشافيز[9]

غلاف كتاب بلاغة سيزار تشافيز في سيرته[10]

لهذا السبب لا نكتب عن اللاعنف، ولا نبشِّر به. لا نتحدث أبدًا عن اللاعنف مع العمال، إلا بقدر ما يكون ذلك ضروريًّا فعلاً. بعبارة أخرى، إذا كنَّا نتفاوض على عقد، فإنني لن أتحدث عن اللاعنف؛ أما إذا كنَّا مضربين فإنني سأفعل. لأننا كلما أكثرنا في الحديث عن الأمر، صار...

كاثرين: ... أقل مصداقية؟

سيزار: أجل، بالضبط. ولقد أقلقنا هذا كثيرًا. يوجد هنا اليوم الكثير من العمال اللاعنفيين. أما في البداية، فقد كان الأمر بالغ الصعوبة. بات الناس الآن يعرفون كيف يتصرفون وما الذي يجب عمله، وذلك لأننا أخبرناهم عن ذلك. لم نخصِّص ساعةً واحدة للدروس، بل لقد لُقِّنَ كلُّ شيء بالقدوة الحسنة. نريد أن نكون رجالاً ونساءً من العالم، نريد أن نعمل؛ لكننا نريد فحسب أن نتصرف دون عنف.

كاثرين: كيف اتفق لك أول مرة أن تطَّلع على أفكار غاندي؟

سيزار: آه، إن هذا لعجيب جدًّا! إذ لم تخنِّي الذاكرة، كان عمري وقتذاك أحد عشر أو اثنا عشر عامًا، ولقد ذهبت إلى السينما. في ذلك الوقت، كانوا يعرضون أخبار الساعة بين فيلمين؛ وهكذا شاهدت تقريرًا عن غاندي. قالوا إن هذا الرجل نصف العاري والأعزل هزم سطوة الإمبراطورية البريطانية، أو شيئًا من هذا القبيل. لقد أثَّر بي ذلك فعلاً، لأنني سألت نفسي كيف استطاع أن يتدبر أمره من دون سلاح! لم أكن قد سمعت باسم غاندي من قبل، لكني في اليوم التالي، ذهبت لرؤية معلمتي في المدرسة لأسألها إن كانت تعرف المزيد عنه. أجابتني بالنفي، لكنها قالت إنها تعرف صديقًا ربما أمكنَه أن يخبرني بالمزيد. أعطتني اسم صديقها، وكان عامل بناء مهتمًّا بغاندي؛ وهذا أهداني كتابًا صغيرًا عنه. توفرتُ بعد ذلك على اكتشافه، وإنني لَعازم خلال حياتي أن أقرأ أكثر ما يمكن لي من الكتب عن غاندي وعن رسالته.

كاثرين: ما هي الأوجُه من حياة غاندي ومن رسالته التي كان لها عليك أبلغ الأثر؟

سيزار: نشاطه. لقد كان قديسًا نشيطًا في العالم؛ لقد قام بأشياء، أنجز أشياء. تعلمين أنه يمكن للعديد منَّا أن يكونوا شديدي القداسة، لكننا، ماعدا تلبية حاجاتنا الشخصية، غالبًا ما لا نقوم بأيِّ شيء ذي بال. أما غاندي، فقد عمل من أجل العالم أجمع: لم يكتفِ بالكلام على اللاعنف، بل أظهر أيضًا أن اللاعنف قادرٌ أن يخدم العدالة والتحرير.

كاثرين: في حياتك وعملك، هل ترى سُبُلاً أخرى لاستعمال استراتيجيات اللاعنف؟

سيزار: لا. فالمسيح وغاندي والقديس فرانسيس الأسيزي ومارتن لوثر كنغ فعلوا كلَّ شيء، قاموا بكلِّ شيء. لسنا مضطرين إلى ابتكار أفكار جديدة، بل علينا بكلِّ بساطة أن نضع موضع الممارسة ما سبق أن قالوه، أن نقوم بالعمل. لقد أعطانا غاندي في رسالته كلَّ شيء.

إن ما أثمِّنه لدى غاندي، كما سبق وقلت، هو نشاطه. لقد كان يعمل. كانت لديه أفكارٌ وأعمال. لقد قام أيضًا بأشياء كثيرة لم يُعترَف بها، لكنها كانت عظيمة الأهمية. تعلمين أنه شكَّل نقابات، – لكنْ قلما يؤتى على ذكرها، – وهذه النقابات ما تزال قائمة إلى اليوم. إن خيبتي الكبرى لدى مشاهدتي فيلم غاندي كانت في عدم ذكره أبدًا للنقابات التي أوجدها. وكما تعلمين، قام بتنظيم عمال النسيج في أحمد آباد؛ ولقد واتاني الحظ أن ألتقي بأحد أعضاء هذه النقابة.

كان غاندي موهوبًا جدًّا أيضًا في جمع الأموال. لقد جمَّع ملايين الروبيات، وكان يتصرف في شبكة واسعة من الخدمات الاجتماعية. قطعًا كان يُطبَع من الجرائد التي يُصدرها أكبر عدد من النسخ في العالم؛ الطبعات الأصلية لم تكن تتعدى الألف نسخة أو الألفين ربما، لكنْ كانت تعاد طباعتُها في كلِّ مكان. إن رسالته بنظري هي رسالة اللاعنف، وهي أيضًا في كونه رجل عمل: لقد حرَّك الأمور.

كاثرين: هل كان لنجاحه أثرٌ عليك؟ إن العديد من الأشخاص يشرعون في أعمال مماثلة، لكنهم، لأسباب مختلفة، – اللحظة التاريخية أو ظروف لا يتحكمون فيها، - يخفقون في محاولاتهم.

سيزار: لا، ليس ما ألهمني هو نجاحهم أو عدمه، بل كونهم لا يتخاذلون. إنني أفقد إيماني في شخص لا يمضي في مشروعه حتى النهاية، شخص يبدأ شيئًا ما ويتنازل عنه فيما بعد. إن العالم لمليءٌ بأمثال هؤلاء. فحتى لو لم يتوصل غاندي إلى تحرير الهند، لبقي أمينًا لمشروعه مدى حياته – وهذا ما يجذبني فيه أكثر ما يجذبني. لم يتخلَّ غاندي أبدًا عن جهاده.

*** *** ***

ترجمة: أديب الخوري


 

horizontal rule

[1] هم المهاجرون من المكسيك، ويطلق الأمريكيون عليهم هذه التسمية تحقيرًا لهم. (المترجم)

[2] الطبعة العربية، بترجمة منير البعلبكي الممتازة، صادرة عن دار العلم للملايين، بيروت. (المحرِّر)

[3] تعني كلمة أهِمْسا السنسكريتية حرفيًّا: "كف الأذى".

[4] في ماكفارلاند، على سبيل المثال، الواقعة في الوادي الأوسط لكاليفورنيا (وهي منطقة تُعالَج فيها الزراعاتُ المكثفة بالمبيدات معالجةً منتظمة)، يبلغ معدَّل إصابات الأطفال بالسرطان ثمانية أضعاف المعدل العادي. وبحسب د. ماريون موزس، التي تقود حاليًّا عملاً بحثيًّا بين العمال الزراعيين، فإن حالات السرطان جزء من "المعطيات الأقسى"، حيث تتعلق "المعطيات الأقل قسوة" بالمواليد الموتى وبالإجهاضات. ومع ذلك، توصي د. موزس بشيء من الحذر تجاه تحديد الأسباب التي تنجم عنها هذه الظاهرة، فتقترح تعميق الدراسات الجارية. وهي تشير تحديدًا إلى أن شحوم الجسم تستبقي المنتجات الكيميائية أفضل من النسج الرقيقة، وإلى أن كلَّ فقدان في الوزن أو في الطاقة يشكِّل خطرًا حيال المنتجات الكيميائية المرشوشة.

[5] إن 50% من عنب المائدة الذي اختبرتْه الدولة يحتوي، بحسب نقابة العمال الزراعيين، على رواسب المبيدات؛ ومع هذا، فإن الحكومة لم تختبر بعدُ 40% من السموم المستخدَمة على العنب!

[6] في العام 1987، صام سيزار تشافيز مدة 36 يومًا، لم يشرب خلالها غير الماء و"تماهى مع العديد من عائلات العمال الزراعيين الذين يعانون من التسمم الناجم عن المبيدات".

[7] ارتفع عدد أنواع الحشرات المقاوِمة للمبيدات، بحسب الأستاذ جورج جورجيو من كلِّية علم الحشرات في جامعة كاليفورنيا، من 244 نوعًا في العام 1970 إلى 447 نوعًا في العام 1984.

[8] نُفِّذَ هذا البرنامج لتشغيل العمال الزراعيين المكسيكيين الذين كانوا يَفِدون في الصباح إلى حقول كاليفورنيا ويعودون في المساء إلى بلادهم بعد نهار من العمل.

[9] John C. Hammerback & Richard J. Jensen, The Words of César Chávez.

[10] John C. Hammerback & Richard J. Jensen, The Rhetorical Career of César Chávez.

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود