الصفحة التالية                  الصفحة السابقة

استعدادات وتحديدات قاطعة: تأمل حول الفراغ*

 

ميشيل بيتبول

 

لا يمكن أن يكون ثمَّ إدراك، بنتيجة تجربة، يثبت مباشرة أو عن طريق وساطة ما (أيًّا كان التحايل المنطقي الذي يمكن أن نقوم به) غيابًا كاملاً لأي واقع في الظاهرة؛ أي أننا لا نستطيع أبدًا أن نستخلص من التجربة البرهان على وجود مكان فارغ أو على وجود زمن فارغ.

إ. كانط، نقد العقل الخالص

 

لما كان الفصل السابق قد قادنا إلى إعادة النظر بشكل جدي بالنظام الأساسي للتمثيل التأليفي الذي يحفظه المذهب الذري في الخطاب الحامل للفيزياء المعاصرة، فإنه من المهم تقييم تمثيلات أخرى وأنطولوجيات أخرى. تمثيلات وأنطولوجيات هي، حتى اللحظة، متشابكة على نحو لا ينفصم مع أنماط تعبير ذرية، إنما قابلة لأن تشاد كبدائل حقيقية. وأحد هذه التمثيلات يجذب انتباهنا بشكل خاص في هذه الأيام: ألا وهو تمثيل لخلفية وحيدة من الكمونات، خزان من التموجات الطاقية والمادية يسمى "الفراغ الكمومي". إن مفهوم "الفراغ الكمومي" هذا سيشكل بالتالي الموضوع الرئيسي لهذا الفصل. مع ذلك، لا غنى عن تمهيد يشتمل على تحليل لمفهومي الـ "الاستعداد disposition" والـ "الانبثاق propension" اللذين يعطيانه أساسًا فلسفيًا، من خلال معارضتهما له مع مفهوم "التحديدية القاطعة".

6. 1 القطعية[1] والحالية

إن نسب تحديد قطعي لشيء ما، وفقًا للمعنى الأول للفظة اليونانية κατηϒορία، هو بمثابة القيام بتوجيه تهمة. وهذه التهمة تضع وجهًا لوجه متَّهِمًا، هو العارِف، ومتَّهَمًا هو الموضوع المعروف. وهي تشتمل على اتهام الموضوع بأن يكون "A" بدلاً بالأحرى من أن يكون "لا A"، وبأنه يوضِّح بالفعل والعمل المؤثر الإشارات التي لا تُدحض. إن التعيين القاطع يولِّف من هذا الأمر لحظتين: تأكيد حالية actualité، وموضعة هذه الحالية على سلم ثنائي من خلال المبادئ المنطقية لعدم التناقض وللثالث المرفوع.

فعبر هذا التعيين القاطع ترتسم في الواقع صورة مختلفة تمامًا عن صورة الـ "وجهًا لوجه" الإحصائية للذات والموضوع. وتمثِّل لحظته الثانية، التي تشتمل على موضعة الحالية على سلَّم من التعارضات، المرحلة الابتدائية لسيرورة الموضعة؛ وهي مرحلة مندرجة في البنية التنبؤية للغة حيث لا تقوم النظرية الثنوية للمعرفة سوى بتحويلها من حقيقة مجردة إلى حقيقة وجودية. إن العلوم تهدف، بشكل لا يقبل الجدل، إلى تجاوز هذه المرحلة الابتدائية لديناميكية الموضعة، وذلك عن طريق تعميقها وتعزيزها وتقويتها؛ لكنها تظل أيضًا تعتمد عليها من خلال الافتراضات المسبقة البراغماتية التي لا غنى عنها بالنسبة للخطاب الاستطرادي وللنشاط التجريبي للباحث في مختبره.

لنحاول إذن كبداية أن نفهم بماذا يؤدي الاستخدام المنهجي للتحديدات القاطعة إلى إطلاق صيرورة تشكيل الموضوعية.

إن إعلان الحالية، إذا بقي معزولاً، سيكون مرتبطًا بالوضعية الخاصة للـ هنا والآن، للـ أنا، وللـ هذا. وسوف يتعلق بتظاهرة بحتة، وبمظهر غرابة بحت، مظهر لا يمكنه بالمعنى الدقيق للكلمة التعبير إلا من خلال إقحام تعجبي أو عبر وضعية جسمانية. وبالدرجة الأولى كما كتب بلاكبرن، "إن القطعية ترافق [...] وجهة النظر الذاتية؛ فليس ثم ما هو استعدادي dispositionnel، بالنسبة للذات، في ظهور ألم أو برق في حقل الرؤية البصرية"[2]. غير أن التواصل، والمشاركة بجزء من التجربة، يتطلبان المحافظة على مسافة معينة اتجاه الحالية؛ وهما يتطلبان أن نموضع الحالية ضمن مخطط مشترك عالميًا، وأن نُحِلَّ في الخطاب هذا الموقف المجرد محل الحالية المحسوسة والمحدَّدة. إن استخدام التعيينات القاطعة يحقق هذا الشرط بالاعتماد على المخطط العالمي الأبسط، أي التفرع الثنائي، وعلى طريقة التوزيع الأشدِّ تباينًا، أي النفي. وفي الدرجة الثانية، يتوصل التعيين القاطع على هذا النحو إلى تجاوز الفورية الحالية، بفضل منهج يشتمل على أن نفصل عن الحالية علامة شكلية ثنائية التفرع، ثم أن ننسبها إلى جسم ما.

6- 2 القطعية في النظريات الكلاسيكية والكمومية

تميل العلوم، والفيزياء بشكل خاص، إلى توسعة وتشذيب صيرورة المواضعة من خلال انفصال للعلامات الصورية التي تصبح أكثر فأكثر تجريدًا وأكثر فأكثر ابتعادًا عن الآنية. وفي الوقت نفسه، فإن مشروعها، وهو تشكيل معرفة تجريبية، يفرض عليها أن تحفظ بشكل دائم صلة مع الآنية نفسها، وذلك عن طريق تعبيرها المُمَوضَع من الدرجة الأولى، أي التعيين القاطع. ولكن أي نوع من العلاقة تقيمها النظريات الفيزيائية في الواقع مع عملية نسب التعيينات القاطعة؟ لن يكون من الحكمة محاولة تقديم إجابة عامة على هذا السؤال، لأنه بصدده إنما يظهر فارق حاسم بين مجمل النظريات الكلاسيكية (بما فيها النظريتين النسبيتين) والنظريات الكمومية.

إن النظريات الكلاسيكية، أكانت تحديدية أو غير تحديدية (عشوائية stochastiques)، تحفظ نوعين اثنين من العلاقات مع التحديدات القاطعة. فهي تسمح من جهة بالوصول إلى تنبؤات حول بعض التحديدات القاطعة لأجهزة القياس، وذلك إثر تفاعل هذه الأجهزة مع الأجسام التي يتم عليها القياس. ومن جهة ثانية، فإن عمل صوريتها يتوافق مع فكرة أنها تصف تطور تحديدات قاطعة خاصة بالأجسام، يقوم القياس بكشفها. إن النظريات الكلاسيكية التحديدية تعمل بواسطة متغير الحالة يُفسَّر كتعيين قاطع جوهري للجسم، وابتداء منه تكون كافة تحديداته القاطعة الأخرى قابلة للحساب. وتستخدم النظريات الكلاسيكية غير التحديدية العشوائية بنية احتمالية استدراكية يمكن أن تتوافق دون صعوبة تذكر مع التفسير اللابلاسي للاحتمالات كتعبير عن جهل فيما يتعلق بالتحديدات القاطعة للموضوع. يختلف الأمر بالنسبة للنظريات الكمومية بشكلها المعياري. فالنظريات الكمومية المعيارية تسمح فعلاً، مثل النظريات الكلاسيكية، بوضع تنبؤات (احتمالية) تتعلق بتحديدات قاطعة معينة لأجهزة القياس، وذلك بعد سلسلة معطاة من العمليات التجريبية. وهنا تكمن صلة دنيا لا غنى عنها بين النظرية والبقايا المموضَعة للآنية التي يمثلها التحديد القاطع. غير أن البنية الاحتمالية غير الاستدراكية للنظريات الكمومية (وهو ما يتجلى من خلال ظهور "حدود تداخل")، تجعل من تفسير الاحتمالات كترجمة وتعبير عن جهل في موضوع التعيينات القاطعة الخاصة بجسم ما هو التفسير الأقل إشكالية. إن الحساب الكمومي للاحتمالات لا يُفهم بسهولة إلا إذا قبلنا أنه متكيف مع وضعية لا تنفصل فيها التحديدات عن الأطر والسياقات التجريبية، التي تكون غير متوافقة أحيانًا، والتي تظهر فيها هذه الاحتمالات. إن نمط عمل هذا الحساب الكمومي هو نمط عمل رمزية تنبؤية احتمالية فوق سياقية (ميتا سياقية)؛ رمزية تنبؤية تسمح بحساب احتمالات الظاهرات المتعلقة بهذا أو بذاك من السياقات الأداتية التي يمكن أن تطبَّق إثر تحضير معطى، وليس حساب احتمالات الأحداث الناجمة من ذاتها في الطبيعة[3].

إن إحدى نتائج هذا الوضع هو استبعاد، أو تهميش أو تغيير معنى، تعبير مثل "خاصية الأجسام". من الجميل أنه أعيد استخدام كلمة "خاصية" حديثًا في إطار تفسير المراحل المتسقة لغريفيث[4] Griffiths، بما هي ترجمة للمفهوم الصوري الكشاف لفضاء تحتي لهيلبرت Hilbert، غير أنه سرعان ما كان يجب الاعتراف بأنها كانت بعيدة عن حمل كافة دلالات مكافئها المألوف أو الكلاسيكي. فمن المستبعد أن تعبِّر القضايا التي تنسب هذه الخصائص للأجسام، وهي قضايا لا يمكن أن تعتبر بشكل عام صحيحة أو خاطئة، بل تعدُّ فقط كقضايا موثوقة أو غير موثوقة (راجع المقطع 2 - 2)، في إطار تحديدات غريفيث، في كافة الظروف كما لو كانت الأشياء تملك بذاتها تحديدات قطعية.

6- 3 نقد مفهوم "الحالة الكمومية"

إن نتيجة النقد التي أصبحت قديمة لمفهوم الخاصية في الفيزياء الكمومية (التي ربما يجب أن نستثني منها حالة المرصودات فائقة الانتقائية) كانت استبداله بشيء ما نسميه "الحالة". من جهة أخرى، وكما رأينا أعلاه، قادت خيبات الأمل الأحدث لمؤيدي تفسير غريفيث حول موضوع مفهوم الخاصية - الكشاف إلى تحديد هذا الأخير بدور محدود، وإلى معارضته هنا أيضًا بمفهوم "الحالة". لكن مفردات "الحالات" تولّد هي نفسها التشويشات. فـ "الحالة الكمومية" لا تسمح، على عكس قياس وسعة الحالة الكلاسيكية، باشتقاق مجمل القياسات المنسوبة بشكل قاطع إلى الجسم. فهي لا تقدم لنا سوى الوسيلة لحساب احتمالية كل قيمة لجملة من "المرصودات" المحدَّدة بالاستناد إلى إطار يسمح بقياسها.

على الرغم من ذلك، فإن ما سمح على ما يبدو بتبرير الاستخدام المتجدد منذ فون نيومان للفظة "حالة" كان نوعان من قياس الحالة الكلاسيكي.

هناك بالدرجة الأولى قياسٌ لفظي بشكل أساسي: حيث يتم التنبؤ بـ "الحالة الكمومية" لجسم أو لـ "منظومة"؛ يمثل "شعاع الحالة الموجّه" حالة المنظومة؛ وهو يُنسَب إلى المنظومة بالطريقة نفسها التي يُنسب بها قياس حالة الميكانيك الكلاسيكي إلى نقطة مادية أو إلى منظومة نقاط مادية. وهذه الطريقة، المقبولة تمامًا، يجب أن ترتكز مع ذلك، لكي تكون قابلة للتطبيق والاستمرار على المدى البعيد، على عملية مطابقة مستمرة ومستقرة للـ "منظومة" التي نُسبت حالة لها. غير أننا لا نملك مثل هذه الطريقة أو العملية في الحالة العامة، وينتج عن ذلك تنويع امتداد المنظومة المتأثرة بـ "حالة" وفقًا للظروف التجريبية المأخوذة بعين الاعتبار (راجع المقطع 2 - 1). ومذاك بات كل من ديفيد بوم D. Bohm وب. هيلي[5] B. Hiley يقدران وهما محقان أن هذه الأشكال القواعدية لا تسمح وحدها بعودة تؤدي إلى شكل من الخطاب القابل للتفسير أنطولوجيًا (الشيء وصفته [أو محموله] "الحالة")، لأنها لا تقوم سوى بأن تخفي بشكل مصطنع مخططًا لخطاب أنطولوجي حول ما كان بور ليسميه بطريقة أكثر حذرًا "رمزية تنبؤية" صالحة لظاهرات كلِّية تتضمن بطريقة لا فكاك منها إطار القياس. فإذا كان يجب أن يكون هناك عودة إلى خطاب قابل للتفسير أنطولوجيًا، كما يشير كل من بوم وهيلي، فلا بدَّ أن تمرَّ عبر الدرب الأكثر تعقيدًا بكثير للنظريات ذات المتحولات الخفية. وهي نظريات لم ننته بعد من تقييم سماتها وأهدافها وعيوبها، كما بينا ذلك في الفصول السابقة. ونبدأ منذ الآن بالاشتباه أن استخدام مخطط إسناد "حالة" إلى "منظومة" في الميكانيك الكمومي يرجع إلى أحداث تاريخية طبعت خطاب الفيزيائيين بطابعها، أكثر مما يرجع إلى شيء ما كان قد فُرض عبر عمل نظريتهم الجديدة نفسه.

وبالدرجة الثانية، توجد مماثلة صورية بين "الحالة الكمومية" وقياس الحالة الكلاسيكية. تشكل الحالتان برهانًا أو حجة بالنسبة لعامل تطور النظريات لدى كل منهما. إن قياس الحالة الكلاسيكية (المؤلف من زوج الإحداثيات المكانية ومركبات كمية الحركة) يتطور بشكل متوافق مع معادلات هاميلتون، بينما يكون تطور شعاع الحالة الكمومية محكومًا إما بمعادلة شرودنغر أو بمعادلة ديراك. فـ "الحالة" في هذا المنظور تكون ببساطة كينونة محكومة بقانون تطور النظرية المعتبَرَة. ولكن بدلاً بالأحرى من مثل شبه المماثلة هذه للمفهومين عن طريق الاستخدام غير المنتبه للفظة المشتركة "حالة"، فإن مثل هذه المماثلة الصورية يجب أن تقود إلى اعتماد قياس التغير الكبير الذي خضع له مفهوم القانون من نموذج نظري إلى آخر. كانت قوانين التطور في الفيزياء الكلاسيكية تتعلق بقياسات حالة تُشتقُّ منها قياسات أخرى يمكن أن تصبح مخصصة بوظيفة وصفية بالنسبة للتحديدات القطعية للأجسام. وعلى العكس، فإن قانون (أو قوانين) تطور الميكانيك الكمومي يتعلق (أو تتعلق) بشعاع موجِّه من فضاء هيلبرت، وهو رمز ذو تابع وصفي؛ رمزٌ لا يقدِّم من جهة أخرى احتمالات إلا عندما يُواجَه بلائحة الأشعة الموجهة الخاصة بعملية رصد (أي مرة أخرى إضافية بشكل يتعلق بإطار أداتي محدد تمامًا).

في النهاية، فإن المماثلتين المذكورتين أعلاه من أجل اعتماد الأسس الموضوعية للموقف التنبؤي الذي نقرنه عادة بشعاع الحالة الموجِّه للميكانيك الكمومي تظهران كمماثلتين سطحيتين نوعًا ما. فهما لا تكفيان وحدهما لمنعنا من التساؤل حول استيعاب "شعاع الحالة الموجِّه" للميكانيك الكمومي لـ "حالة منظومة" حقيقية، ولا حتى لكي نضع موضع التشكيك ديمومة تسمية "شعاع الحالة الموجِّه"، الذي يستدعي بشكل قوي نظامًا أساسيًا غير واضح بذاته.

إن الضغط الذي يمارسه نمط عمل النظريات الكمومية على المخطط الإسنادي لـ "حالة" في "منظومة" ما لم يكف عن التوسع خلال تاريخ هذه النظريات. فإذا كان قد أمكن الحفاظ عليه حتى الوقت الحاضر، فذلك على حساب انحراف مستمر للحدِّ بين "المنظومة" و"الحالة"؛ وهو انحراف جعل تعريف "المنظومة" يتراجع لصالح توسُّع لا ينفك يزداد لاختصاص مفهوم "الحالة". في الميكانيك الكمومي في بداياته بين عامي 1925 و1926، الذي أتمه ديراك وفون نيومان، كان يُقبل أن بعض أشعة المتجهات في أحد فضاءات هيلبرت تصف "حالة" منظومة من الجسيمات. تنشأ عدة تعارضات وتشويشات والحق يقال من هذه الطريقة في التعبير وانزلاقات المعنى التي تؤدي إليها. فعلى سبيل المثال: كيف يمكن لـ "حالة" منظومة أن "تتقلص" فجأة عند إجراء قياس، في حين أنها تتغير باستمرار، بما يتوافق مع معادلة شرودنغر ومن خلال "التشابك" Entanglement، أثناء تفاعل ما؛ أليس القياس تفاعلاً بين تفاعلات أخرى[6]؟ وأيضًا هذا المثال: هل نستطيع القول إن قطة شرودنغر هي في حالة محددة تمامًا (ضمنيًا بالمعنى الشائع لكلمة "حالة") إذا كانت "حالتها الكمومية" مختلطة مع حالة جسم مجهري، وإذا كانت "الحالة الكمومية" الشاملة للمنظومة [قطة + جسم] تشتمل على تراتب خطي لـ "حالات" خاصة بإمكانية رصد؟ وكما عرض شرودنغر نفسه المسألة في حوار مليء بالفكاهة:

- إن الجملة في حالة محددة، لكنها ليست حال كل من مكونيها إذا أخذناهما كلاً على حدة.

- وكيف ذلك؟ فلا بدَّ لمنظومة أن تكون في حالة ما. [...]. ولدي الحق في هذه الحالة أن أفكر كما يلي: المنظومة التحتية هي فعلاً في حالة معينة (فهناك ثمة حقًا تابع Ψ)، غير أنني لا أعرفه فقط.

- اسمح لي أن أعترضك هنا. للأسف، لا. لا يمكننا القول "لا أعرفه فقط"، طالما أن حالة المعارف هي في وضعها الأقصى بالنسبة للمنظومة الشاملة[7].

ولكن بالإجمال، (على الرغم من هذه التعارضات التي تظهر على هامش الانعكاس التفسيري)، فإن المقاربة المتضمنة من خلال مفهوم "الحالة الكمومية لمنظومة جسيمات" كانت تظل غير قابلة للاستخدام عمليًا عندما كان يتم معالجتها وفق قواعد مقوننة جيدًا. كان يتم من حين إلى آخر، في أحسن الأحوال، اقتراح تقييد دائرة "منظومة الجسيمات" قليلاً من أجل مدٍّ لدائرة "الحالة الكمومية" بنسبة مقابلة. وهكذا، نرى وفق نظرية تعود إلى هايزنبرغ من بداية ثلاثينيات القرن الماضي، أن البروتون والنوترون، وكانا يعدان "جسيمين" في البداية، كان يتم تصورهما كـ "حالات إيزو سبين" (أي كحالات سبين نظير أو لف ذاتي نظير) لجسيم أكثر أساسية منهما هو النوكليون.

وسَّع التكميم الثاني، ثم النظرية الكمومية للحقول هذا الميل إلى تراجع المنظومة لحساب الحالة، إلى حدِّ السحب الكامل للدور الداعم للـ "حالة الكمومية" لمنظومات الجسيمات. وكما ذكرنا في الفصل الخامس، هناك في النظرية الكمومية للحقول جسيمات عددها N لا تعتبر هي نفسها إلا كمعبِّرة أو كمترجمة لـ حالة حُرِّضت عددًا N من المرات، أو حالة ذات N كمَّة من تحريضات أنماط عادية من النوسان. إن "خلق" و"إفناء" الجسيمات تعيدنا عندها إلى تحريض وإلى إبطال تحريض هذه الأنماط. علينا أن نحدد أيضًا، وفقًا لـ "قواعد" (بالمعنى الويتغنشتايني) عبارتي "نمط النوسان" و"الحالة"، ما هو موضوع النوسان، أو أيضًا ما الذي تم تحريضه ويوجد في حالة معينة مكافئة لجمهرة من الجسيمات. إن الجواب المعتاد هو التالي: إن ما يتميز بأنماط عادية من النوسان، وما هو قابل لأن يكون حالة ذات N كمَّة من التحريض لمثل هذا النمط أو ذاك، ليس سوى حقل؛ حقل فرميوني (نسبة إلى جسيم الفرميون) أو حقل بوزوني (نسبة إلى البوزونات) وفق نمط الجسيمات (أو بالأحرى كمّات التحريض) المعتبرة.

6- 4 الفراغ، والحقل و"الحالة الكمومية"

إن الطريقة السابقة في تصوُّر أو بالأحرى في قول الأشياء لا تصحُّ مع الأسف دون وجود عيوب خطيرة. ويرجع ذلك لسببين يتعلقان بالعنصرين المشكِّلين للقضية التنبؤية. سببان يشكِّك كل بدوره بالموضوع المشكَّك به وبالنقد أو الشك الموجَّه له، وذلك في إطار عملية نسب مماثلة لتحديد قاطع (الحالة) إلى مماثلة للجسم (الحقل).

(1) ليس للحامل المزعوم للحالة، الحقل الكمومي، سوى صلات بعيدة مع التسمية المماثلة له الكلاسيكية التي لم يكن ثمة شيء يمنعها صراحة من تمثيل نفسها ككينونة مستمرة ممتدة في المكان. وإذا استخدمنا عبارات تيلر[8] P. Teller، فهو ليس سوى تقليد خادع (the mock-up) لحقل كلاسيكي. فالمكافئ الكمومي من جهة لكثافة الحقل الكلاسيكي هو عدد من الكمات، أي شيء ما يتعلق بـ حالة التحريض وليس بما يفترض أن يكون محرَّضًا. ومن جهة أخرى، فإن الكينونة الرياضية التي تمثل الحقل في النظرية الكمومية ليست تابعًا ذا قيم محلية بل عاملاً محليًا، أو "ما يمكن رصده" محليًا، حيث تتوافق قائمة قيمه الخاصة مع قائمة النتائج الممكنة لقياس ما. ومن بين العوامل التي يمكن اشتقاقها من العامل المحلي السابق، ثمة حالة خاصة هامة هي حالة العامل العدد الذي تمثل قيمه الخاصة أعداد كمَّات التحريض التي سيكون من الممكن تقديرها (مع درجة معينة من الاحتمالية) إذا ما تم إجراء قياس مناسب ما. وكما نرى، فإن المفهوم المعياري للحقل الكمومي لا يمكن أن يؤخذ في أي حال من الحالات السابقة كرأي مخالف لكينونة سابقة الوجود، محدَّدة بشكل مستقل عن الإطار التجريبي لقياسها، وممتدة في المكان، والتي يمكن استخدامها كحامل جوهري لحالة محددة من التحريض.

يكمن جوهر الصعوبة ربما في الاستثمار المفرط لقوى صورة ما. إن التماثل المعتاد الذي يوافق مع الحقل مجموعة من النواسات المتجانسة المزدوجة، ومع عدد كمَّات تحريضها طاقة اهتزاز منظومة النواسات المتجانسة، هو تماثل مضلِّل إذا نسينا أن الأمر يتعلق بالضبط بما هو أقل بكثير من مماثلة. وفي الواقع، ليس ثمة هناك مماثل كمومي حقيقي لمنظومة النواسات المتناغمة؛ فليس ثمة سوى بنية جبرية كمومية مشتقة من البنية الجبرية للنموذج الكلاسيكي لمنظومة النواسات المتناغمة عبر عملية "التكميم"، التي تعود إلى استبدال متحولات بعوامل وفرض علاقة تواصل بين هذه العوامل. وبالطريقة نفسها، ليس ثمة مماثل كمومي حقيقي للحقل الكلاسيكي؛ ليس ثمة سوى بنية جبرية كمومية مشتقَّة من البنية الجبرية لنظرية الحقول الكلاسيكية باستبدال توابع للنقطة بعوامل محلية وبفرض علاقة اتصال (أو مضادة للاتصال) بين العوامل. إن اعتبار هذا "الحقل الكمومي" للمرصودات المحلية بالنسبة للحامل الجوهري لحالة ما أيا كانت يبدو من الآن فصاعدًا كترجمة لفظية لاستعارة غير مضبوطة جيدًا.

(2) يظل مفهوم "الحالة الكمومية" أيضًا غير قابل للتمثُّل إلا بدرجة قليلة مع مفهوم الحالة بالمعنى الشائع للكلمة في النظرية الكمومية للحقول كما وفي الميكانيك الكمومي المعياري. ولكي ندرك ذلك، لنتذكر مثالاً ساحرًا. ألا وهو مثال الحالة الخاصة بالمرصود "عدد" المقترن بالقيمة صفر لعدد التحريض الكمي؛ بعبارة أخرى، نشير هنا إلى الفراغ. في مثل هذه الحالة، وفق التفسير الذي يقدمه المؤلفون الذين تأملوا في مسائل تفسير النظرية الكمومية للحقول[9]، فإننا نتوقع بالتأكيد عدم القدرة على الكشف عن أي جسيم في أي ظرف كان. غير أن الحال ليس على هذا النحو. فالكاشف المُسرَّع في "الفراغ" بالمعنى الذي عرَّفناه أعلاه لديه إجابات مكافئة لإجابات الكواشف التي ستكون إجاباتها هي نفسها لو كانت مغمورة في حمام حراري من الجسيمات. إن ما يُكتشف على هذا النحو بواسطة جهاز مسرَّع يسمى "كمات (أو جسيمات) ريندلر Rindler". لا التصور المعتاد للـ "فراغ" كغياب كامل للجسيمات، ولا التصور الوصفي للحقل في "حالة" (بالمعنى التقليدي للكلمة) تحريض معدوم، ولا المفهوم الأنطولوجي المضمون لجسيم كـ "شيء ما هو موجود هنا (في الملء) أو ليس موجودا هنا (في الفراغ)" بشكل مستقل عن تقلبات ما يُستخدم في الكشف عنه، كلها لا تسمح بفهم سبب ما يجري في هذه الحالة.

مع ذلك، كانت المبادئ العامة لعمل الصوريات الكمومية تجعله قادرًا على التنبؤ بشكل كامل. ففي الفراغ كما تم تحديده، تكون قيمة المرصود عدد محددة بالضبط طالما أنها تساوي الصفر؛ ولكن فجأة، نرى أن القيمة التي تسجَّل أو تؤخذ، أثناء قياس ما، بواسطة أشياء أخرى مرصودة "متممة" للأولى (أي أنها مرتبطة بالأولى بعلاقة اتصال أو بعلاقة هايزنبرغ في عدم التعيين)، لا تعود محدَّدة بدقة أبدًا. غير أن اكتشاف كمَّة / كمات بواسطة كاشف مُسَرَّع يكشف بالضبط عن مراقَب / مرصود متمِّم للمراقَب عدد[10]. وبشكل أعم، في الحالة الخاصة بالمراقَب عدد، المقترن بالقيمة الخاصة صفر، فإن كمية من مرصودات أخرى (كما على سبيل المثال مربع المؤثر "حقل") تكون لها قيمها الوسطية غير المعدومة. يجعلنا ذلك نتوقع ظهور ظاهرات تجريبية كثيرة ومتنوعة في "حالة كمومية" تعرِّف مع ذلك "الفراغ". إن نموذج مثل هذه الظاهرات هو "أثر كازيمير effet Casimir" الذي يوصف غالبًا بطريقة تصويرية كنتيجة لـ "استقطاب للفراغ" ينجم عن إعادة توزيع غير متجانس لـ "جسيمات افتراضية" تحمل شحنات متعاكسة.

6- 5 الفراغ كواقع وجودي والانبثاقات

تمثَّلت الإجابة الأكثر تواترًا على هذه الصعوبة المزدوجة، صعوبة التملُّص من حامل "الحالة الكمومية"، وصعوبة الطبيعة غير القطعية لهذه "الحالة الكمومية" نفسها، باستراتيجية مزدوجة في الانتقال.

من جهة، بسبب نقص الحوامل، فإن "الفراغ الكمومي" نفسه هو الذي كان يجد نفسه منظورًا إليه كواقع، وذلك إلى ما وراء تعريفه الشكلي كحالة خاصة أساسية تتوافق مع قيمة خاصة صفر للمراقَب العدد. وكما كتب ساندرز S. Saunders:

الفراغ الذي ينبثق غني: فهو بالتناوب مغنطيس، وعازل، وناقل فائق، ومرحلة حرارية / ترموديناميكية. وهكذا يذكرنا هذا الفراغ بشكل أكثر فأكثر وضوحًا بالأثير (كهرمغنطيسية القرن التاسع عشر)[11].

من جهة أخرى، فقد تم الأخذ بـ "الحالة الكمومية" من أجل التعبير ليس عن مكافئ بعيد ما لتحديد قطعي، بل عن كمون، عن تحديد استعدادي، أو بالأحرى عن تحديد انبثاقي إذا كان صحيحًا أن الاستعداد يقود إلى ظاهرة مشاركة (وحيدة المعنى) عندما تجتمع شروط التفعيل، في حين أن الانبثاق لا يثبِّت سوى الاحتمال. والباحثان الرئيسيان اللذان قدما هذا التفسير للـ "حالة الكمومية" هما (إنما ليس دون وجود مواضيع اختلاف متبادل كبرى بينهما) هايزنبرغ W. Heisenberg وبوبر[12] K. Popper. وقد كتب هايزنبرغ بدون مواربة: "يمكننا [...] استبدال مصطلح «حالة» بمصطلح «كمون»"[13].

إن الطريقة الأبسط لمواجهة العلاقة بين الانتقال الأول والثاني هي اعتبار أن "حالة كمومية" تعبر عن انبثاق نوع جديد من "الأثير" لإظهار هذه الظاهرة أو تلك ضمن بعض شروط التفعيل التجريبية. ويشبَّه هذا الشيء الأثيري غالبًا بفراغ كمومي منظورًا إليه كواقع، كما أشرنا إلى ذلك أعلاه. مع ذلك، فإن المفهوم التقليدي إلى حد ما للفراغ المشروط أيضًا بتعريفه البدئي كحالة خاصة للمراقَب العدد، بل والقابل ليكون هو نفسه في "حالة" (حالةُ حالةٍ بشكل من الأشكال)، أثار تحفظات عند بعض الباحثين. يفضل ر. هيلي R. Healey بالتالي الإشارة إلى الشيء الأثيري كخلفية استعدادية للـ "عالم"، بحيث لا يكون الفراغ نفسه سوى حالة صفر N=0 من هذا "العالم"[14]. وأخيرًا، يستند كثيرون مثيل ب. هيلي B. Hiley بشكل واسع على "سيرورات فيزيائية أكثر عمقًا"[15]. يبدو هكذا أن المخطط - النموذج للفكرة الأساسية وللتحديد مصون، وذلك على حساب القبول بأساس إيجازي وبابتعاد متنام بين التحديدات الاستعدادية فقط والحالية التي كانت الاستعدادية لا تزال ترتبط بها بشكل مباشر.

ما هي نظرتنا إلى مثل هذه الاستراتيجية؟ في أصولها، يمكننا الكشف عن عدد لا يستهان به من المطابقات مع مقدمات النموذج الجديد. وسوف أعدد هنا أربعًا من هذه المطابقات. فبالدرجة الأولى، إن المسافة المتزايدة بين التحديد الانبثاقي الذي يُفترض أن النظرية العلمية تعالجه والحالية، لا تعمل إلا على إتمام ميل سبق أن تم الشروع به عبر استخدام تحديدات استعدادية. وفي حين أن التحديد الاستعدادي كان يجمع بين تصنيف فاصل ثنائي التفرع مع إسناد مباشر إلى الحالية، فإن التحديدية الانبثاقية تستخدم أيضًا تصنيفًا فاصلاً (أن تكون في "حالة كمومية" معينة واقعة في فضاء هلبرت أو في حالة معينة أخرى)، لكنها تعلِّق أو تربط علاقتها مع حالية ظاهرة ما بوجود إطار أداتي مناسب. إن العلم يتطابق أكثر من أي وقت مضى مع نشر للممكن وأقل من أي وقت مضى مع مصادرة مباشرة للحقيقي والفعلي. وهو ينظِّم ويمنهج عملية دشَّنتها اللغة وتحديداتها التصنيفية: وهي العملية التي تشتمل على وضع فضاء من الممكنات تظهر الحالية مقابله مثل وضعية خاصة بين وضعيات أخرى بالأحرى من كونها تعشية أو إظلامًا لا يمكن تجاوزه. وبالدرجة الثانية، تقترن التحديدات والاستعدادات مع فكرة توجيه للخطاب العلمي باتجاه الحدث المستقبلي للظاهرات التي يبقى أن تُحدَّد شروطها، بدلاً من اقترانها باستنتاج يرتكز على آثار حالية سبق تأكيدها في الماضي. إن الترتيبات، مثل الاستقراء، وفق ما كتب غودمان N. Goodman، تطرح قبل أي شيء آخر مسألة الإسقاط[16] على المستقبل. أما فيما يتعلق بالانبثاقات، فإنها تترجم كما يشير كارل بوبر K. Popper، وضعية يكون فيها "المستقبل المفتوح موجودًا الآن هنا بطريقة ما، مع كموناته العديدة المتنافسة والمتزاحمة، بما يشبه إلى حد ما وعدًا أو محاولة أو جذبًا"[17]. إن مماثلة "حالة" ما بانبثاق ما، فهذا يعني أن نأخذ علمًا بالحالة التنبؤية بشكل أساسي لرموز الميكانيك الكمومي مع عدم التخلي بشكل رسمي عن طموح إعطائه مضمونًا وصفيًا: فما "يصفه" الميكانيك الكمومي وفق التوجه الانبثاقي، هو تطور مضمون تنبؤي بحت. وبالدرجة الثالثة، وكما يشير بوبر، فإن مفهوم الانبثاق يسمح بعدم البقاء أسرى لفكرة التغير المتوارثة منذ الثورة العلمية في القرن السابع عشر؛ وهي فكرة تقييدية تطورت على حساب أفكار أخرى كثيرة لا تقلّ أهمية عنها، وكان أول من عددها أرسطو. وفقًا للتصور الغاليلي - الديكارتي للتغير، فإن كل تغيير نوعي هو أثر ثانوي لتغييرات كمية من التكوينات المكانية - الحركية المعتبرة كتكوينات أولية. وعلى العكس، فإن المذهب الانبثاقي يعيد الاعتبار لفكرة تغير نوعي بحت عبر المرور من القدرة إلى الفعل، ولا يفرض بالتالي اللجوء إلى خلفية من الصور والحركات خلف واقع كل تغير مفعَّل. إن هذا الاقتصاد في مفهوم من نوعيات / صفات "أولية" مكانية وحركية ليس مهملاً في الشروط الإبستمولوجية التي أنشأتها الفيزياء الكمومية. لأنه، كما يشير هايزنبرغ[18]، فإن الأمر يتعلق هنا بشروط حيث حتى متحولات الموضع والحركة يجب أن تعتبر كمتحولات "ثانوية"، أي نسبية بالنسبة لشروط التظاهر الأداتية. وبالدرجة الرابعة، فإن حلول الانبثاقات محل التحديدات الاستعدادية يندرج تمامًا ضمن إطار فلسفي عام حيث يُستبدل موضوع "قوانين الطبيعة" القديم (التي يفترض أنها تحكم تطور التحديدات الاستعدادية للأجسام المشكلة لهذه الطبيعة) تدريجيًا بالاهتمام بالتناظرات[19] أو بالقدرات الطبيعية[20].

غير أن مخطط أو نظام تعيين التحديدات الانبثاقية يرتكز على أساس يشتمل أيضًا على صعوبات. فكما سبق واقترحنا، فإن الطرح الاستعدادي يهدف إلى تحرير تفسير الميكانيك الكمومي من تصور علائقي بحت للعمليات التي يعالجها. لأنه، حتى إذا كان تظاهر استعداد ما يفترض علاقة مع "جهاز تفعيل" ما، فإن الاستعداد نفسه مجرد من العلاقة ويُعزى إلى جسم ما. عندما نسَبَ مفسرو النظرية الكمومية للحقول الاستعدادات أو الانبثاقات إلى شيء ما تستكشفه أجهزة القياس (الأساس من "الفراغ الوجودي"، "العالم"، أو "العمليات الفيزيائية العميقة")، فقد تركوا لنا علاوة على ذلك أن نفهم أنه ههنا تمامًا إنما يكمن الخيار الذي اختاروه: وهو خيار التحديدات الانبثاقية التي تنتمي بشكل صحيح إلى جسم واسع أثيري غير محدد تمامًا إنما بشكل تقريبي، بحيث يمكننا على الأقل من خلال الفكر أن نتأمله بطريقة انفصالية، وحيث يُعتبر جهاز التفعيل بالنسبة لهذه الطريقة جهازًا خارجيًا. فالمسألة هي أنه لكي نعتمد فكرة مواجهة حاسمة بين الجسم وجهاز مفعِّل، يجب على الأقل القبول بأن الاستعدادات لكل منهما هي استعدادات منفصلة بشكل صارم، وبعبارة أخرى أنها بشكل خاص مستقلة عن بعضها بعضًا. والحال أن مفهوم الفصل الحاسم لاستعدادات كثرة من الكينونات المنفصلة هو بالضبط مفهوم غير منسجم مع التنبؤات المعزِّزة والمثبِّتة للنظرية الكمومية بقدر ما هو غير منسجم مع مفهوم الفصل الحاسم للتحديدات القاطعة لهذه الكينونات. وانطلاقًا من هنا، فإننا نفهم أن بوبر كان قد تجنب اعتبار هذه الانبثاقات كانبثاقات مستقلة بذاتها ومستقلة فيما بينها، كما كان سيكون الحال فيما لو نسبها بشكل خاص إلى أجسام معتبرة بالنسبة لأدوات التفعيل. تشتمل الانبثاقات البوبرية، في تعريفها، على وضعية المجموعة[21]؛ فهي عبارة عن انبثاقات وضعية علاقة بدلاً بالأحرى منها كينونات تنشأ فيما بينها العلاقة؛ فهي لا تكتسب كامل معناها إلا عندما ننظر لها من داخل هذه العلاقة. وفي حدودها القصوى، يمكننا إذا ما رغبنا بذلك أن ننظر لها كاستعدادات للكون بمجمله، لكن مثل هذه الاستعدادات الكليانية يجب أن تعتَبَر على أنها ذاتية التفعيل وذلك فيما يتعلق بشرخ شبه اتفاقي داخلي خاص بالكون، بدلاً من اعتبارها كمغايرة للتفعيلات عبر تدخل جهاز سيكون غريبًا عنها. وحتى إذا لم يكن هذا الجانب، العلائقي بشكل كامل بالنسبة للانبثاقات، يشتمل على ارتباطها اتجاه موضوع إنساني (من حيث أن العلاقات لا تنتج دائمًا من نشاطات وأعمال ترتيب لموضوع ما، وأن وضعية المجموعة المستدعاة لا يجب أن تشبَّه بالضرورة بوضعية تجريبية)، لكن يبقى أن عقبة مبدئية تعترض أن ننسبها لأي شيء كان بمعزل عن الشروط حيث بإمكانها أن تتفعَّل. تفلت الانبثاقات على هذا النحو من الذاتية، التي كان بوبر يستنكر إدخالها من قبل أنصار "تفسير كوبنهاغن"؛ ولكن على الرغم مما يمكن لمفردة "موضوعي" البوبرية أن توحي به، فإن الانبثاقات ليست بالرغم من ذلك "قابلة للموضعة" بالمعنى الإبستمولوجي للـ قابلة للإسقاط أمامًا أو للـ قابلة للفصل.

6- 6 تناقض الاستعدادات والتحديدات القطعية

تنجم صعوبة أخرى، تصادفها محاولة إيلاء انبثاقات لأساس شامل ما، من طموحها الأنطولوجي الكامن. يتعلق الأمر في النهاية بتأكيد أن الخصائص القصوى للعالَم هي من رتبة انبثاقية بالأحرى من كونها من رتبة تصنيفية. ويتعلق الأمر أيضًا بأن نقرن بهذا التأكيد تأكيد أن "قوانين الطبيعة" هي قوانين غير تحديدية بشكل أساسي وليست قوانينًا تحديدية (انظر الفصل الثامن). غير أنه ليس من الصعب جدًا إدراك أن هذين التأكيدين يسقطان كلاهما تحت ضربة نقدية من النمط الكانطي في نقده للعقل؛ لأن كلاً من التأكيدين يعودان إلى محاولة مدِّ مفاهيم الفهم والإدراك إلى ما وراء حدود التجربة التي تكمن وظيفتها في تنظيم هذه الحدود. إن جزاء مثل هذا التجاوز هو ظهور تناقضات، أي مواجهات وصراعات بين تأكيدات عقائدية متناقضة.

كان هارتونغ H. Harthong يشير إلى ظهور "صراع خامس للأفكار التجاوزية" بين الأطروحة التي وفقها:

القانون النهائي للعالم هو قانون تحديدي بالكامل وكل ظاهرة عشوائية يمكن أن نلحظها في العالم هي من أثر الشواش التحديدي،

وبين الأطروحة المضادة التي وفقها:

القانون النهائي للعالم هو الصدفة وأية تحديدية جزئية يمكن أن نجدها فيه هي أثر لقانون الأرقام الكبيرة[22].

لا بد لنا أن نضيف إلى ذلك حاليًا صراع سادس للأفكار التجاوزية (هو أصلاً صراع مرتبط جوهريًا مع الخامس)، بين الأطروحة التالية التي وفقها:

إن التحديدات النهائية للعالم هي تحديدات قطعية، وكل تحديد استعدادي أو انبثاقي ننسبه إلى أجسام ما يعكس تحليلاً غير كامل للصيرورات القطعية التحتية،

والأطروحة المضادة التي وفقها:

إن التحديدات النهائية للعالم هي تحديدات استعدادية أو انبثاقية، وكافة التحديدات القطعية التي يمكننا التنبؤ بها هي انعكاس مرورٍ إلى الضمني للعلاقة بين الخلفية الاستعدادية وأدوات التفعيل.

لقد أصبح من المرجح أكثر فأكثر أن التجربة لا تستطيع الحسم بين الأطروحة والأطروحة المضادة، وذلك من خلال التواجد المشترك، في نظر النظريات الكمومية، للتفسيرات ذات المتغيرات الخفية القطعية (غير المحلية والسياقية) والتفسيرات الانبثاقية. يبقى أن نتفحَّص الحجج العقلانية البحتة التي تُعرض حينًا ضد الأطروحة، وحينا ضد الأطروحة المضادة، والتي هي قابلة لأن تجعل منهما تناقضًا حقيقيًا بالمعنى الكانطي.

والحجة المقدمة ضد الأطروحة معروفة جيدًا. فكل تحديد قطعي، بقدر ما يهدف لأن يتم إيصاله أو إبلاغه، وحيث يكون علينا لتحقيق ذلك اللجوء إلى عملية الفصل عن مخطط ثنائي التفرع ابتداء من تفعيل أصيل، يَفترضُ استعدادًا للشيء بالسماح بإعادة تفعيل. وكما كتب بلاكبرن، فإن "الصلابة تتوافق مع المقاومة (وهي استعدادية بامتياز)، بينما الكتلة تكون قابلة للمعرفة فقط من خلال آثارها الديناميكية"[23]. ومن هنا، فإن الفكرة التي ترسخت عبر نجاحات النموذج الذري في مطلع القرن العشرين، بأننا سنستطيع دائمًا تحديد أساس قطعي لاستعدادات اللحظة، لا تصمد أمام هذه الحجة، أو على الأقل تكون محكومة بالانحدار إلى اللانهاية. فهناك استعدادات تجد نفسها وقد وصلت إلى تحديدات قطعية تفترض هي نفسها استعدادات لإعادة التفعيل، وهكذا دواليك. "فكما أن النظرية الجزيئية للغازات تعطينا فقط أشياء مزودة باستعدادات، فإن تطور العلوم لن يعطينا شيئًا آخر سوى مخطط أفضل من الاستعدادات والقدرات. فعلى هذا النحو إنما تمضي الفيزياء"[24]. إن الأساس القطعي النهائي المفترض، الإسقاط المجسّد للتصنيفات الموضوعية، يتقلص إلى "[...] ما لا نعرفه والمعرَّف فقط بواسطة القدرات والاستعدادات التي يحملها"[25].

أما الحجة الرئيسية ضد الأطروحة المضادة فقد عرضها كوين Quine:

إذا لم يكن ثمة إمكانية للتمييز بين استعدادات شيء ما في التصرف وفق شكل معيَّن ضمن ظروف معينة، والواقع البسيط بأنه يتصرف على هذا النحو ضمن هذه الظروف، عندها فإن كل ما يفعله الشيء يمكن أن ينسب لاستعداد ما[26].

ووفق كوين، فإن مفهوم الاستعداد يكون محرومًا بالتالي من معنى مستقل بذاته. وهو بالنسبة له ليس سوى وسيلة للإسناد بشكل غير مباشر إلى ترتيب من التحديدات القطعية التي لا نفهمها بعد. "إن العبارة العامة للفظة [استعداد] هي لفظة برنامجية، وهي تعلب دورًا ناظمًا بالأحرى منه دورًا مشكِّلاً"[27]. وهي تشكل وعدًا في سبيل وصف نهائي بمصطلحات ميكانيكية - آلية وتصنيفية بدلاً بالأحرى من وصف بديل.

يمكننا سبر جذور هذا الصراع الفكري إذا جمعنا التحليل العام لكانط حول الأطروحة المضادة للمنطق[28] مع بعض الملاحظات وثيقة الصلة بالموضوع لكوين حول الاستعدادات[29]. فنصير الأطروحة ونصير الأطروحة المضادة تقودهما ببساطة قيم أو اهتمامات مختلفة، وهما يحاولان إسقاط هذه الاهتمامات على العالم. إن نصير الأطروحة (وبالتالي ناقد الأطروحة المضادة) محكوم باهتمام نظري، بل وتخميني: فهو يريد إدراج عمله في المنظور الناظم لوصف شامل لكيف هو العالم. وهو يسقط مثاله الناظم في "آليات" تتضمن تحديدات قطعية. أما نصير الأطروحة المضادة (وبالتالي ناقد الأطروحة)، فهو محكوم باهتمام عملي: ألا وهو عدم إغفال تضمين مناهج عملياتية ضمن إجراءات التفعيل وإعادة التفعيل التي يرتكز عليها في نهاية المطاف كل إسناد من التحديدات. غير أنه هو أيضًا يسقط شيئًا ما على العالم. فهو يسقط عليه حدود التجربة نفسها. وهو بذلك إنما ينتهك أيضًا هذه الحدود على طريقته، طالما أن البرهان على أن هذه الحدود غير قابلة للتجاوز وأنها "أساسية" لا يمكن أن يُقدَّم ربما إلا بالنظر من الجهة الأخرى وبإظهار العائق الذي يقاوم تجاوزها. وبقيامه بذلك، فإن نصير الأطروحة المضادة يجازف بأن يصبح مذنبًا بالعقائدية بمقدار ذنب خصمه نصير الأطروحة.

6- 7 عناصر لتفكيكية أنطولوجية

ما هي النتيجة التي نصل إليها بعد أن نقبل بالاستنتاج السابق بوجود التناقض؟ نترك لفرعي الكماشة النقدية أن يعملا بملء طاقتهما، ونضع محصلة ما يبقى في نهاية عملها في التسوية والتشذيب.

خصوم الأطروحة المضادة محقون في الإشارة إلى أن الاستعدادات ليس لها أية استقلالية اتجاه الظروف التي تفعِّلها، وإلى أنها تستطيع لهذا السبب أن تزعم بصعوبة أنها تشكل نوعًا من الخزان للكمونات الموجودة بشكل جوهري، من حيث ينثبق من وقت لآخر، إثر تفاعلها مع جهاز ما، تفعيل كبير وظاهر. يكمن رد الفعل الأولي بمواجهة هذه الصعوبة، كما سبق وذكرنا، في اعتماد وضع كلياني تمامًا: الاستعدادات هي استعدادات الكون بكامله، وهي تعبر عن نفسها بحسب كل من انشراخاتها الداخلية. ولكن في هذه الحالة، قد يكون علينا أن نأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن كافة تقسيمات الكون إلى أجزاء تحتية، وهو أمر لا غنى عنه منهجيًا لإعداد العلم نفسه الذي قاد إلى الفكرة الكليانية، هي تقسيمات محكومة بالاهتمام الخاص الوحيد (أو على الأقل بالحالة الطارئة) لدى الذين يستخدمونها. يمكن لهذا الظرف أن يبدو كشكل من النقد الذاتي للكليانية بواسطة نتائجها الخاصة. وهناك رد فعل آخر مختلف جدًا على الصعوبة نفسها يمكن أن يتبدى بعكس ترتيب الأولويات، على طريقة ويتغنشتاين في تحقيقاته الفلسفية[30] investigations philosophiques، أي أن نضع التفعيل قبل الاستعداد. فبدلاً بالأحرى من تخيُّل أن التفعيل ينبثق من خلفية استعدادية، لنحاول أن نحيط علمًا بمشاركة الفيزيائي بلعبة تكون لسانية حينًا وشكلية حينًا آخر وفيها يتلاعب بكينونات ذات شكل انبثاقي (متجهات الحالة) لوقت طويل قدر ما يسمح له ذلك بتوقع الانبثاقات الإحصائية للظاهرات المفعَّلة بطريقة كافية.

أما خصوم الأطروحة، فهم محقون من جهتهم بالإشارة إلى أننا عندما نطبق تحديدات قطعية، فإننا نكون قد أتممنا جزءًا كبيرًا من الابتعاد عن التفعيل الذي ينتَقَد في الانبثاقية. إن التحديد القطعي يحفظ ببساطة وهم تواطئه الجذري مع التفعيل، لأنه يرتبط مثل الاستعدادات الكلاسيكية التي يقول عنها بلاكبرن إنها حالة، بلعبة لغوية ذات قواعد استباقية أكثر صلابة بكثير (ولنقل تحديدية) من القواعد التي تخضع لها لعبة الانبثاقات.

وبالتالي، فإن حقل التفكيكية الأنطولوجية هو حقل مفتوح بشكل رحب. وقد ولجه العديد من الكتاب حتى الآن، أحيانًا بحذر مفرط، لكن أحيانًا بطريقة أكثر اندفاعًا وقوة.

لنبدأ بالطريقة الحذرة. فمع الارتكاز على مفهوم الانبثاق، يمتنع كل من بوبر K. Popper وتيللر P. Teller في غالب الأحيان من إعطاء تفاصيل دقيقة حول أساس محتمل. ويعارض تيللر على سبيل المثال بشكل واضح جدًا عملية نسب تحديدات إلى أشياء وبين عملية تطبيق مفهوم الانبثاق الذي يترك مسألة الأساس مفتوحة. إن "الحالة الكمومية" تعبِّر وفقًا لتيللر عن "[...] انبثاقات بالنسبة لظهورٍ وفق احتمالية معينة تحت شروط تفعيل مختلفة"[31]. نلاحظ هنا الاستخدام المضبوط للعبارة الواسعة والمطاطة "انبثاقات بالنسبة لما سوف يظهر"، وليس للعبارة الشائعة أكثر "انبثاق شيء ما للظهور بطريقة ما" والتي تتضمن الإسناد إلى أساس ما. وهو يُبَرِّر هذا الخيار من جهة أخرى بعد عدة صفحات على النحو التالي:

سيكون علينا أن نفهم «الحالة الكمومية» بما هي تحدد الانبثاقات من أجل ظهور الخصائص، لكن يمكننا أن ننفي بطريقة متسقة أنه يجب أن يوجد شيء ما فيها يدفع الحالة[32].

فبعد أن وجد هذا الأساسُ نفسَه وقد وُضع بين هلالين، فها هو يجد نفسه مهددًا من قبل تيللر بالإنكار الصريح. أما بوبر، فلا يتردد من جهته في استخدام نموذج متوالية زمنية لا تُدخِل سوى الانبثاقات، دون أي ذكر أو إشارة إلى حامل أو أساس. وغالبًا ما نجد لديه عبارات حيث تُطرح مسألة حالة تتأتى من انبثاقات ماضية، حيث تشتمل هذه الحالة بدورها على انبثاقات مستقبلية[33]. وهكذا فقد وضع بوبر رابط تتابع مضبوط بين الحالات وحدها والانبثاقات، أو بين الحالات الانبثاقية، المعلقة في "فراغ" لا يعمل كأساس بديل بل كوضع بين قوسين لوظيفة الأساس نفسها.

كان دافيس P. Davies هو الذي وضع الطريقة الأكثر فظاظة في تفكيك الأنطولوجيا[34]، وذلك كردٍّ على ظاهرة "جسيمات ريندلر Rindler". ووفقه، فإن هذا الوضع الغريب، حيث نكشف عن جسيمات بواسطة كاشف مسَرَّع ضمن ما هو معرَّف مع ذلك كـ "فراغ"، يجبر على القبول بأن مفهوم الجسيم (وليس فقط مفهوم تحديد وتعريف جسيم ما) لا يمكن أن يجد نفسه مخصصًا ومعينًا بمعنى غير ملتبس إلا بالنسبة لإطار تجريبي محدد تمامًا. ولكن ما أن يتحرر هذا المفهوم من روابطه التاريخية، فإن الملاحظة العامة للأسلوب البوري (نسبة إلى بور)، ووفقه لا نستطيع إقامة فصل واضح بين شكل التحديدات التجريبية والمحتوى الدلالي للنتائج[35]، تجازف بأن يكون لها نتائج تفكيكية إلى ما وراء النقد الموجه لأساس "منظومة جسيمات". ألا ينطبق ذلك بعد إجراء التعديلات اللازمة mutatis mutandis على الكثير من المرشحين من الركائز الأخرى: مثل الحقول الخاصة، والحقل الموحَّد المحتمَل، بل والفراغ المُفَعّل؟

في أحسن الأحوال، علينا أن نحاول على هذا النحو تخيُّل انبثاقات "معلّقة"، محرومة من الركيزة والأساس. وفي أسوأ الأحوال، كما اقترحنا ذلك أعلاه، سيكون من اللازم ربما أن نبتعد لمسافة معينة فيما يتعلق بالرواسب الأنطولوجية التي ينقلها مفهوم الانبثاق، والبقاء على التخوم المباشرة بين "لعبة البحث" من جهة، المؤلفة من تلاعبات تجريبية وتشكيلات تنبؤية واستخدام للغة، ومن جهة أخرى، التفعيلات الفردية العشوائية. غير أن هذا الخيار الأخير يقودنا كما يبدو إلى التخلي عن كل ما كان يشكل المعنى والدافع العميق للمشروع العلمي. كنا نعد أنفسنا بأن العلم لن يبعدنا أكثر فأكثر عن "الحالية" من خلال تشييداته العقلية إلا لكي يقودنا باتجاه مستقبل مشرق لواقعية أكثر واقعية وحقيقية من حالية الظاهرة: ألا وهي الواقعية التي سوف تدركها وتلتقطها كياناته النظرية بشكل تدريجي ومتلاق. وانطلاقًا من هنا، كنا سنضيف أننا سوف نصل إلى إغلاق دائرة المحصلات العلمية للعالَم في نقطتين. في الدرجة الأولى، كنا سوف نتوصَّل إلى أن نأخذ الحالية نفسها بعين الاعتبار كظاهرة موسعة للحقائق الأعمق المكتشفة بواسطة العلم. وبالدرجة الثانية، سوف نصبح قادرين استدلاليًا على تفسير ملاءمة النظريات العلمية في مجال صحَّتها وذلك باستحضار تماثلها الجزئي مع "واقع" تتم مقاربته بشكل مقارب. فهل يمكننا أن نترك مثل هذا المثال يضيع، باعترافنا بغموض الحالية بمواجهة محاولات اختزالها، وبترك جهود التنظير تُنبَذ تحت ناظرينا في لعبة لسانية - شكلانية لا تتوصل نجاحاتها العملية بشكل جيد لإخفاء طابعها الذي لا أساس له؟ فلكي يكون ثمة خسارة حقيقية، يجب أن يكون ثمة شيء هام لفقده وخسارته ولا شيء نربحه بالمقابل. غير أننا في الحالة الراهنة نجازف فقط بخسارة الوهم، ويمكننا أن نربح طريقة جديدة في فهم وتبرير بنية صورياتنا النظرية.

أ) الوهم، هو وهم التفسير الرجعي للحالية من خلال نتاج الإعداد النظري. لنعد إلى المقطع B135 لديمقريطس الذي أشار منذ ذلك الوقت أنه إذا كان يمكن بواسطة العقل اعتبار أن الذرات والفراغ هما الحقيقة الوحيدة، محيلين المحسوس إلى مجرَّد اتفاق، فإن المحسوس سوف يبقى مع ذلك الطريق الوحيد لاختبار البناء العقلي. لنمر أيضًا على "الأزمة" Krisis التي طرحها هسّيرل Husserl، والذي أشار إلى أسبقية واقع وقانون "عالم الحياة" Lebenswelt وتساءل عن أية "بنية تحتية" شكلية تزعم أنها تبرره بالمقابل. ولنطرح نسخة من هذه الملاحظة أكثر خصوصية في الفيزياء المعاصرة. أحد الأسئلة الذي غالبًا ما يُطرح هو التالي: كيف نأخذ بعين الاعتبار بأثر رجعي عبر النظرية الكمومية للمدى الذي لدى المجرب لاستخدامه في التحديدات القطعية على المستوى الجهاري (لنقل تحديدات أجهزته) إذا لم نعد نأخذ على محمل الجدِّ أبدًا زعم عناصر الصورية الكمومية بوصف "حالات" لـ شيء ما، على المستوى المجهري / الصغائري لمكونات هذه الأجهزة نفسها؟ إحدى الطرق المتبعة لتحييد هذا السؤال هي الإشارة إلى أن استخدام التحديدات القطعية في بيئة المجرِّب ووسطه يمثل شرط إمكانية الإثبات ما بين الذاتي، أي المشترك، لأية صورية تنبؤية مهما كانت: فالتنبؤ يركز على هذا وليس بالأحرى على ذاك، أي على تحديدية قطعية تقع في قلب سويته ثنائية التفرع. غير أن المشروع الذي يرتكز على إرادة أخذنا بعين الاعتبار لشروط إمكانية معرفة ما من خلال محتوى المعرفة التي أصبحت ممكنة يحمل هنا كما وفي أي مجال آخر شيئًا من الوهم. أضف إلى ذلك، أننا نتوصل (وهذا غير مهمل على المستوى المنهجي) إلى البرهان بأن محتوى المعرفة والتنبؤات التي تسمح بالقيام بها لا تدخل في تناقض شروطها المسبقة التي لا غنى عنها. وهنا يكمن الدور المحدود الذي أنسبه إلى نظريات فك الترابط في الميكانيك الكمومي وإلى تعزيزها التجريبي الحديث من قبل فريق هاروش[36] S. Haroche.

ب) الطريقة الجديدة في تبرير بنية الصوريات النظرية هي المنهج البراغماتي - التجاوزي. وهي تشتمل على تبرير بنية صورية الميكانيك الكمومي، ليس من خلال تسجيلها في خطوط قوى واقع مستقل مسبق البنيان (كان مشكلاً من تحديدات بحتة)، بل من خلال قدرتها على أن يجمع في صوريته معايير النشاطات التجريبية للتنبؤ (الاحتمالي) بنتائجها[37]. وهكذا يتم تجنب الصعوبات المرتبطة بـ "التفسير" الواقعي لنجاح النظريات الفيزيائية (الذي تنحو وفقه النظريات إلى عكس بنية العالم بشكل مستقل عن أية صلة معنا) دون الحاجة مع ذلك إلى التعليق التجريبي للحكم. "التفسير" البديل هو أن النظريات تترجم على مستويات مختلفة الشروط الصريحة للفعل الأكثر حيوية للكائن - في - علاقته - مع - الكون: توقُّع ما ستحصِّل هذه العلاقة من نتائج لنفسها.

ووفق هذه المقاربة، لا يجب أن يبقى سوى عنصر واحد غير قابل للإدراك بشكل كامل من خلال الصورية النظرية، وبالتالي من خلال الطريقة البراغماتية - التجاوزية للتبرير: ألا وهو واقع الحصول على هذه النتيجة بدلاً بالأحرى من نتيجة أخرى من بين كافة النتائج الممكنة، وذلك خلال حدوث مفرد للتجربة المنفَّذة. بعبارة أخرى، شيء ما يقتضي حالية بحتة.

6- 8 خاتمة: "الخلاء" كعلاج

إن الخلاصات التي يمكننا استخلاصها من هذه التأملات بسيطة جدًا وتتوافق مع الفكر الويتغنشتايني. فهي تعود على المستوى الفلسفي إلى حلٍّ للمسائل، وعلى مستوى الحياة إلى مؤشر علاجي.

الخلاصة الأولى هي أنه من التهوُّر جدًا اعتبار نجاح تنبؤي، متعلق بنشاط تجريبي مضبوط، كبرهان على أننا توصلنا إلى حقيقة مطلقة. وهو أمر نموذجي بالنسبة لعبادة حديثة وغربية للفعالية، كما أنه يشتمل على اعتبار القدرة على الفعل كعلامة ثابتة على معرفة أصيلة، وبالعكس على اعتبار أن محكَّ قيمة المعرفة هو مقدرتها على خدمة قدرة الفعل.

أما الخلاصة الثانية، فهي أن صيرورة اتخاذ مسافة اتجاه الحالية، التي بدأت مع اللغة وتوسعت من خلال العلوم، لا تزال بعيدة جدًا عن الإيفاء بوعدها الضمني، الذي كان استعادة هذه الحالية بإدرجها في منظومة فهم كامل "للأشياء منذ خلق العالم". فعلى هذا النحو إنما نستطيع أن نفهم دون شك الملاحظة التالية لويتغنشتاين: "[...] في الوقت نفسه الذي تكون قد حُلّت فيه كافة المسائل العلمية الممكنة، فإننا لا نكون قد عرضنا بعد لمشكلتنا"[38]. هل يجب أن يكون ثمة فشل ما في ذلك؟ إنها بالأحرى تحريض على القيام بأبحاث عن / في الحالية، كتتمة لا غنى عنها للبرنامج العلمي في الاضطلاع الخارجي بالمخلفات المحققة للحالية.

الخلاصة الثالثة هي أننا طالما صغنا على التتالي مفهومًا للفراغ كمنطقة من الفضاء محرومة من المادة، ثم كحالة أساس لخزان من الكمونات، فقد ارتكزنا على نسبية تعريف التحديدات، والحالات، والانبثاقات، كما وأسسها المفترضة (منظومات الجسيمات، الحقول، بل والفراغ الوجودي)، وذلك بمواجهة شروط ومعايير التجريب[39]. فمن مسألة أنطولوجية الفراغ، انحرفنا نحو مسألة العلاقة، التي كان قد أبرزها كانط في العبارة التي افتتحنا بها هذا الفصل، وذلك بين التأكيدات القطعية أو الاستعدادية التي تتعلق بالفراغ ووسائل إثباتها. وهكذا فقد توصلنا عن غير قصد تقريبًا إلى مفهوم ثالث للفراغ (ليس له صلات أخرى مع المفهومين السابقين سوى المحتوى العام لمغزى "غياب الشيء"، إنما الذي فرض نفسه مع محصلة تحليلهما). وهذا المفهوم الثالث هو مفهوم "الخواء" (سونياتا Sunyata) في بوذية "الدرب الوسط"، والتي تقود إلى الانبثاق المشترك المتعلق بكل ما هو ظاهر. "إن ما يظهر بطريقة مرتبطة أو تابعة، كما يكتب ناغارجونا[40]، هو ما نسمعه بواسطة الخلاء [...]. فشيء ما لم ينبثق بطريقة مرتبطة أو متعلقة لا يوجد. وبالنتيجة، فإن شيئًا ما ليس فارغًا لا يوجد"[41]. وعلى عكس المفهومين السابقين للفراغ، فإن هذا المعنى الثالث للـ "فراغ" نادرًا ما ولَّد محاولة تجسيد له. وفي كل الأحوال، فإن الذين خضعوا لإغراء المحاولة لم يكن لديهم أي عذر، لأنه كان قد تم التأكيد لهم منذ البداية أن الفراغ موضوع البحث لم يكن مناسبًا. ويفسر غارفيلد J. Garfield أن

الخلاء نفسه في «درب الوسط» هو فراغ. فالخلاء ليس فراغًا موجودًا بذاته خلف حجاب من الوهم المطابَق مع الواقع الاتفاقي (للظهورات)؛ بل هو سمة مميزة لهذا الواقع الاتفاقي[42].

إنه طريقة للتعبير عن تعارض كل تأكيد يرتكز على الفكر القائل بوجود جواهر أساسية؛ فهو يشير إلى غياب "الطبيعة الخاصة" وإلى إمكانيات التمييزات الجوهرية أيًا كان الشيء.

ليس ثمة بالتالي لهذا الفراغ أي قصد لأساس أنطولوجي. بل هو يهدف على العكس تمامًا إلى تلبية وظيفة علاجية بمواجهة التصلبات الوجودية التي تميل إلى الاستقرار في مخر التحجرات الأنطولوجية.

ترجمة: موسى الخوري

*** *** ***


 

horizontal rule

* ظهرت نسخة سابقة من هذا الفصل في E. Gunzig & S. Diner, Le vide quantique, Editions de l'université de Bruxelles, 1998. [الفصل السادس من كتاب القرب المُعْمي من الواقع، ميشيل بيتبول، ترجمة موسى الخوري، معابر للنشر، دمشق، 2014]

[1] القطعيةcatégoricité  هي سمة نظرية منطقية لا تشتمل على علاقة لا صحيحة ولا خاطئة، وهي خاصية نظرية رياضية كافة النماذج فيها إيزومورفية (متماثلة) (وهذا يعني أننا نستطيع أن نبني بين عوالم نموذجين لا على التعيين من هذه النظرية تماثلاً يحفظ العمليات والعلاقات). (المترجم)

[2] S. Blackburn, Essays in quasi-realism, Oxford University Press, 1993, p. 257.

[3] M. Bitbol, Mécanique quantique, une introduction philosophique, Champs-Flammarion, 1997.

[4] راجع R. Omnès, The interpretation of quantum mechanics, Princeton University Press, 1994، وراجع أيضًا:

B . d'Espagnat, "Consistent histories and the measurement problem", Phys. lett., A124, p. 204-206, 1987.

[5] D. Bohm & B. Hiley, The undivided universe, Routledge, 1993, p. 17.

[6] لا هذا "التعارض" ولا التعارض الذي يليه لا يطرحان أية صعوبة إذا قبلنا أن "موجّه الحالة" لا يعبّر عن حالة منظومة بل عن المضمون التنبؤي لتحضير تجريبي. راجع المقاطع 2-4-3، 2-4-4، 5-3-1 في: M. Bitbol, Mécanique quantique, une introduction philosophique, op. cit..

[7] E. Schrodinger, "La situation actuelle en mécanique quantique" (1935), in E. Schrodinger, Physique quantique et représentation du monde, Seuil, 1992, p. 119.

[8] P. Teller, "Vacuum concepts, potentia and the quantum field theoretic vacuum explained for all", in E. Gunzig & S. Diner, Le vide quantique, op. cit.

[9] R. Healey, "The metaphysics of emptyness", P. Teller, "Vacuum concepts, potentia and the quantum field theoretic vacuum explained for all", in E. Gunzig & S. Diner, Le vide quantique, op. cit.

[10] P. Teller, An interpretive introduction to quantum field theory, op. cit., p. 110-113.

[11] S. Saunders & H. Brown (eds.), The philosophy of vacuum, Oxford University Press, 1991, p. 7.

[12] W. Heisenberg, Physique et philosophie, Albin Michel, 1971: K. Popper, La théorie quantique et le schisme en physique, Hermann, 1996.

[13] W. Heisenberg, Physique et philosophie, op. cit., p. 247.

[14] R. Healey, "The metaphysics of emptyness", In E. Gunzig & S. Diner, Le vide quantique, op. cit.

[15] B. Hiley, "Vacuum or holomovement", in S. Saunders & H. Brown (eds.), The philosophy of vacuum, op. cit., p. 223.

[16] N. Goodman, Faits, fictions et prédictions, Minuit, 1985.

[17] K. Popper, Un univers de propensions, Editions de l'Eclat, 1992, p. 42.

[18] W. Heisenberg, Philosophical problems of quantum physics, Ox Bow Press, 1979, p. 38.

[19] B. Van Fraassen, Lois et symétrie, Vrin, 1994.

[20] N. Cartwright, Nature's capacities and their measurement, Oxford University Press, 1989؛

M. Bitbol "Les lois de la nature: contingence ou nécessité", Cahiers de philosophie ancienne et du langage, 1998.

[21] K. Popper, La théorie quantique et le schisme en physique, op. cit., p. 127.

[22] J. Harthong, cité par A. Dahan-Dalmedico, in A. Dahan-Dalmedico, J.-L. Chabert et K. Chemla, Chaos et déterminisme, Seuil, 1992 (هنا، عكسنا عن قصد الأطروحة والأطروحة المضادة)؛

انظر أيضًا: J. Bouveresse, L'homme probable, Editions de l'Eclat, 1993; J. Harthong, Probabilités et statistiques, Frontières-Diderot, 1996.

[23] S. Blackburn, Essays in quasi-realism, Oxford University Press, 1993, p. 255.

[24] المرجع السابق، ص. 256.

[25] المرجع السابق.

[26] W. V. Quine, The roots of reference, Open Court, 1990, p. 5.

[27] المرجع السابق، ص 11.

[28] E. Kant, Critique de la raison pure, P.U.F., 1984, p. 360.

[29] W. V. Quine, The roots of reference, op. cit., p. 14.

[30] انظر تعليقًا يوضح المسألة حول مفهوم "القاعدة" في:

S. Kripke, Wittgenstein on rules and private language, Basil Blackwell, 1982, p. 97-98

[31] P. Teller, An interpretive introduction to quantum field theory, op. cit., p. 105.

[32] المرجع السابق، ص 109.

[33] K. Popper, La théorie quantique et le schisme en physique, op. cit.

[34] P.C.W. Davies, "Particles do not exist", in S.M. Christensen, (ed.), Quantum theory of gravity, Adam Hilger, 1984.

[35] B. Hiley, "Vacuum or holomovement", in op. cit.

[36] M. Bitbol, Mécanique quantique, une introduction philosophique, op. citP M. Bitbol, Schrodinger's philosophy of quantum mechanics, Boston studies in the philosophy of science, Kluwer, 1996.

[37] M. Bitbol, Mécanique quantique, une introduction philosophique, op. cit.؛ وانظر أيضًا المقطعين 1-7 و 3-6 من هذا الكتاب.

[38] L. Wittgenstein, Carnets 1914-1916, Gallimard, 1971, remarque du 25 mai 1915.

[39] من أجل تطوير لموضوع "النسبويات الوصفية"، راجع

M. Mugur-Schachter, "From quantum mechanics to universal structures of conceptualization and feedback on quantum mechanics", Foundations of physics, 23, p. 37-122, 1993.

[40] هو الفيلسوف البوذي الرئيسي في الطرح المعروف بـ "المركبة العظيمة"، وقد عاش في الهند في القرن الثاني للميلاد.

[41] Nagarjuna, Mulamadhyamakakarida XXIV, 18, in J. Garfield, The fundamental wisdom of the middle way, Oxford University Press, 1995, p. 304.

[42] J. Garfield, The fundamental wisdom of the middle way, op. cit., p. 91.

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني