frencharabic 

ثقافة اللاَّعنف

مصطلح culture [ثقافة] بالفرنسية كلمة مشتقة من فعل colere اللاتيني الذي يعني، في الآن نفسه، "زرع" و"كرَّم". المعنى الأول لكلمة "ثقافة" culture هو "زراعة" agri-culture: والمقصود هو زرعُ الأرض لإنتاج نباتات نستطيع أن نقتات بها؛ والمعنى الثاني لفعل colere نجده في كلمة culte [عبادة]: التعبد لشخص أو لشيء يعني تكريمه وإجلاله والإعجاب به[1].

ولندقق، بالمِثْل، أن زراعة الأرض تتطلب مهارةً تنتقل من جيل إلى جيل، حيث يرفد كل جيل الجيلَ الذي يليه باختباراته واكتشافاته الخاصة. ولنقُلْ أيضًا إن الزراعة تتطلب فنونًا وآلاتٍ وأدوات.

ولقد أخذتْ كلمةُ "ثقافة" culture معنًى أوسع: هو تنمية هذه الملَكة أو تلك في طبيعة nature الإنسان عِبْرَ تمارين ملائمة.

"الثقافة" culture هي دومًا زراعةُ الطبيعة culture de la nature. لا يجوز قطعًا وضع "الطبيعة" على الضد من "الزراعة" [الثقافة]، لأننا لا نستطيع زراعة سوى ما تقدِّره لنا الطبيعة أو تمنحنا إياه، سوى ما هو كامن أصلاً في الطبيعة كمون البذرة. الطبيعة البشرية ليست مُعطًى، بل تقدير: الطبيعة بالتقدير والثقافة [الزراعة] بالتدبير.

العنف من الحضور في قلب حياة البشر بحيث إنه يُثقِلُ على تاريخهم كأنه قضاءٌ محتم على الطبيعة البشرية. لكنْ هناك، في هذه الطبيعة نفسها، إمكانيةً أخرى غير العنف. فالإنسان، إذ يعي لاإنسانيةَ العنف ولامعقوليتَه وعبثيتَه، يمكن له عندئذٍ اكتشاف التوق إلى اللاعنف الذي يعتمل في نفسه والذي يؤسِّس لإنسانيته ويشكِّل بِنيتَها. تتأسس ثقافةُ اللاعنف على فلسفة تؤكد أن فريضة اللاعنف هي التعبير الذي لا ريب فيه عن إنسانية الإنسان. فاللاعنف شرطٌ لإمكان اللقاء الأخوي مع الإنسان الآخر.

قولُنا بأن الإنسان كائن عاقل يعني بالدقة قولَنا بأنه لا يتصرف عفويًّا بحسب مقتضيات العقل. لهذا يمكن له ويجب عليه أن يتعقل. الإنسان بالفطرة ليس عنيفًا وليس غير عنيف، لكنه قابل في آنٍ معًا لأن يكون عنفيًّا ولاعنفيًّا. فمادام الإنسان، بطبيعته، ينزع إلى العنف ولديه، في الوقت نفسه، استعداد للاَّعنف، فإن المسألة هي معرفة أي جزء من نفسه يقرر أن يثقِّف [يزرع]، سواء على الصعيد الفردي أم الجماعي. لا مناص لنا، والحالةُ هذه، من ملاحظة أن مجتمعاتِنا تسيطر عليها ثقافةٌ عنفية. وقد قامت التربيةُ نفسُها طويلاً على مناهجَ تنطوي على أفعال عنفية – خاصةً على شكل عقوبات بدنية – يرتكبها الأهلُ والمدرِّسون بحق صغار الإنسان. مازال العنف إلى اليوم يُعتبَر، في أغلب الأحيان، منهجًا تربويًّا وتعليميًّا ضروريًّا ومشروعًا. في الواقع، من المحتمل جدًّا أن يؤدي هذا العنفُ الذي يكابده الأطفالُ إلى جعلهم عنيفين عندما تُتاح لهم بدورهم إمكانيةُ ذلك.

في الوقت نفسه، فإن المحيط الاجتماعي الذي يترعرع فيه الطفلُ يعلِّمه أنه، لكي يأخذَ مكانَه في الحياة، يجب ألا "يذعن"، بل أن يجيد "القتال"، مما يعني "رد الصاع بالصاع"، بل عدم التردد أحيانًا في توجيه الضربة الأولى حتى. وهكذا سرعان ما يتشرب صغيرُ الإنسان فكرةَ أن العنفَ سلاحُ الأقوياء وأن إرادة ترك العنف قد تكون اعترافًا بالضعف وبالجبن. بذا تُستنسَخ من جيل إلى جيل ثقافةُ العنف السائدة.

تتجلَّى هذه الثقافةُ وتعبِّر عن نفسها خصوصًا في الموروث العسكري للمجتمعات. فتاريخُ الشعوب يقدَّم على أنه تاريخُ حروبهم في المقام الأول. فذكرى هذا الاقتتال بين الأشقاء ترهق ذاكرةَ الشعوب، ومن شأنها أن تؤجِّج أحقادًا قديمة تولِّد يومًا ما عداواتٍ جديدة. ولبسط ثقافة سلام، ينبغي على كلِّ شعب ألا يألو جهدًا في تجريد تاريخه من السلاح بغية نزع فتيل النزاعات التي مازال يخفيها هذا التاريخُ في ثناياه.

لقد ثقَّفت [زرعت] المجتمعاتُ العنفَ وكرَّمتْه كوسيلة ضرورية ومشروعة وشريفة للدفاع عن هوية الأمة أو الشعب أو الطائفة، عِبْرَ النزاعات المحتومة التي تظهر في تاريخ البشر. إن ما يغذي ثقافةَ العنف ليس العنف نفسه بقدر ما هو إضفاء صفة الشرعية عليه. وهكذا تقدِّم هذه الثقافةُ العنفية للفرد عددًا من البُنى الإيديولوجية لتتيح له تبريرَ عنفه.

تصنع الثقافةُ لباسًا وأفكارًا جاهزة وظيفتُها ليست تحديدَ العنف بل تمويهه. إنها تنقل صورًا عن العنف ليست سوى "مونتاجات"، الغرض والأثر المرغوب منها إخفاءُ حقيقة العنف. تريد هذه الصورُ أن تُظهِرَ لنا أن عمل العنف هو إحقاق العدل وليس الموت. ويهدف التمثيلُ الثقافي للعنف دائمًا إلى تمجيد العنف وإلى التمويه عن كلِّ ما هو خسيس فيه؛ يريد أنسنةَ العنف من خلال سَتْرِ لاإنسانيته.

الفعل الأول لثقافة اللاعنف هو هتك ستر العنف ونزع الشرعية عنه وتفكيكُ الإيديولوجيا التي تبرِّر العنفَ كحقٍّ للإنسان وتمجِّده كشيمة من شيم الإنسان القوي. زرعُ الأرض ليس زرع نباتات مفيدة وحسب، بل اقتلاعُ الأعشاب الضارة أيضًا. وقبل عملية البَذْر، يجب تهيئة الأرض مسبقًا بحراثة استصلاحية. كذلك التثقُّف ليس تعلُّم أفكار صحيحة وحسب، بل نسيانُ الكثير من الأفكار الباطلة التي تنقلها الإيديولوجيا السائدة.

تنطوي ثقافةُ اللاعنف على بذل جهد على النفس، جهدٍ طويل ومنهجيٍّ وعقلاني. والقصد هو تنمية الملَكات النفسانية والروحية والفكرية التي تتيح للفرد تبنِّيَ موقف لاعنفي، في حياته الشخصية وفي علاقاته البينشخصية، كما في الحياة الاجتماعية والسياسية. يجب على ثقافة اللاعنف ألا تهدف إلى نشر "قيم" تؤسِّس لاحترام حقوق الكائن الإنساني فقط، بل وإلى تجسيدها أيضًا في مؤسَّسات تضمن هذا الاحترام. إن تنمية ثقافة لاعنفية يعني البحث عن سُبُل تطبيق لاعنفي لنفوذ السلطة autorité في جميع مواقف المَقْدرة pouvoir. وبهذا فإن ثقافة اللاعنف تكف عن الفصل بين الحياة الخاصة والحياة السياسية، لا بل تتيح الجمع بينهما أخيرًا في مناقبية واحدة.

لكي ينمو اللاعنف ويكون له تأثير حقيقي على مجرى الحدث، يحتاج إلى وسط إنساني يوجِد جوًّا فكريًّا وروحيًّا ملائمًا لثقافته [لزراعته]. مذ ذاك، تكون المهمة الألح هي إيجادُ مثل هذا الوسط الإنساني الذي يشجع ثقافةَ اللاعنف – والمساهمة في إيجاد هذا الوسط من مسؤولية الجميع.

·   التربية

·   الطفولة

·        الفلسفة

ترجمة: محمد علي عبد الجليل

مراجعة: ديمتري أفييرينوس  

return to the index

horizontal rule

[1] أصل معنى كلمة "ثقافة" بالعربية هو: "تقويم اعوجاج الرمح ليستوي ويعتدل وذلك باستخدام أداة من خشب أو حديد" (أي أن هناك مادة طبيعية موجودة مسبقًا، والثقافةُ تطويع لها ليكون في الإمكان استخدامها الاستخدامَ الأمثل). يقال: "ثَقَّفَ الرمحَ" أي "قوَّمه وسوَّاه"؛ ولهذا سمَّى الشعراءُ الرمحَ بـ"المثقف". وقياسًا على ذلك، يقال: "ثقَّفَ الولدَ" أي "هذَّبه وعلَّمه". ثم استُخدِمَتْ كلمةُ "ثقافة" لتدل على الحِذْق والفطنة والمهارة. وتوسَّع معنى "الثقافة" من الحِذْق والفطنة والمهارة ليشملَ العلومَ والمعارفَ والفنونَ والآدابَ وشؤونَ الحياة التي يُطلَب الحِذْقُ فيها. (المترجم)

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني